على أن خدمات الصحافة جليلات ولا غنى لأمة متمدنة عنها. ولصحافتنا العربية مزية خاصة في هذا العصر بكونها لسان حال الأدباء والعلماء والمفكرين والمتشرعين. كتب العلم والأدب قليلة عندنا؛ لأن علماءنا وأدباءنا قليلون. وقد ندر بينهم من استطاع تأليف كتاب والإجادة التي هي شرط الإفادة. أما معظم الكتب المتداولة بين أيدينا فمنقول عن اللغات الأجنبية، وإذا كان لنا منها فائدة فهي، على كل حال، لم تكتب لنا ولم تلاحظ أحوالنا ووراثتنا وأخلاقنا في تأليفها. ولا يستطيع الإتيان بذلك إلا كاتب منا؛ لأن الكاتب الأجنبي لا يفهم طبيعتنا الشرقية تماما مهما عاش بيننا، وهو ذو طبيعة متباينة؛ فلا بد من المقابلة بينه وبيننا في كل أمر. وهو لا ينظر إلينا إلا بعين الغرب للشرق؛ أي بعين الاستفهام الدائم، بعين الاستغراب والاستحسان اللذين يتجاذبانه أمام كل حركة من حركاتنا.
ويجيد كتابنا في بعض المقالات المنشورة في الصحف السيارة. يجيدون في تشخيص الداء وفي الإرشاد إلى الدواء، فنرى أحيانا بين التلغرافات والحوادث المحلية سطورا أدبية ملؤها الشعور الصادق والاختبار والمعرفة. وهذا فضل يضيفه الصحافيون إلى أفضالهم الكثيرة، فإن لم يكن الشعور ضروريا للقيام بواجباتهم، فهم يعرفون كيف يستعملونه ومتى يظهرونه.
أصبح الصحافيون زمرة قوية تخشاها الأرض ومن عليها، فهم ينتقدون القوانين، ويحاجون الحكومات، ويسنون أوامرهم للبشر، ويبسطون آراءهم لأولي الحل والعقد حتى إذا شعروا بأن الفكرة التي يبدونها بعيدة عن ذهن القارئ عمدوا إلى أسماء التحبب فدعوه تارة «القارئ اللبيب» وطورا «القارئ الكريم» وحينا «القارئ العزيز» إلى غير ذلك من النعوت الطيبة التي ترضي الجميع، فيقتنع القارئ بأنه لبيب وكريم وعزيز، فعلى كل لبيب كريم عزيز أن يفكر أن ما جاء في المقال هو الحقيقة بعينها.
أكتب هذا وأنا أعض على سبابتي ضاحكة. لا تغضبوا يا سادتي الصحافيون. كلنا معترف بالخير المتدفق من أقلامكم على من يقرأ ومن لا يقرأ جميعا؟ وأشهد باحترام أن وجودكم بيننا عنوان ارتقائنا، أليس كذلك؟ غير أني أريد أن أنصفكم فأقول: لئن كان كل منكم القدرة المجسمة، فإن هناك شخصا أقدر منكم لو اتحدتم جميعا. لا تظنون أن الله هو من أعني، بل هو بطل قلم الرقابة ... هو الرقيب.
موعظة شهر الورود
دنا المساء فهزني طرب الربيع ورغبت في الخروج والتجوال لأشارك الطبيعة في أفراحها. كأني حسبت جدران البيت تقطع الصلة بيني وبينها، وتشعرني بأني محرومة من مشاركة الموجودات الهاتفات بأريج أيار بين الغصون وبزينة الأرض العروس.
خرجت وليس لي وجهة معينة أطلب بداهة أحياء قلما اخترقتها، فسرت في شارع قصير على مقربة من شارعنا كأن نفسي المتيقظة لبت داعي الأخضرين المحيطين بهاتيك المنازل: أخضر يبسط على أرض الحديقة طنفسة مخملية، وأخضر يتعالى ظليلا فيعكس طيف أفنانه على وجه الجدران الشاهقات.
سرت متمهلة أنتقل من رصيف إلى رصيف، والشمس آخذة في التحدر وقد انكسرت حدتها ولطف نورها، حتى بدت الأشعة حزينة بما مازجها من معاني الفراق. وما كان أندر المركبات والسيارات في ذلك المنعرج، والمارون يتبادلون نظرة كأنهم لقلتهم يقولون «أرأيت؟ لا أحد إلا أنا!»
أتيت على آخر الشارع فنفذت إلى شارع رحب طويل هو شارع ماريت باشا المؤدي إلى دار الآثار المصرية، فخطوت مترددة بين العودة من حيث أتيت ومتابعة المسير إلى الأمام. وإذا بناقوس يدق على مقربة مني ولرنينه إزاء الغروب دوي متوسل حنان، فالتفت إلى جهته فوجدتني أمام كنيسة صغيرة رأيتها مرارا ولم أدخلها مرة.
وقفت أتأمل واجهة الكنيسة وأدير النظر في الحديقة التي تتقدمها وكانت تجتازها بعض السيدات، فلما توارين وراء باب الكنيسة تبادر إلي أنه يحتفل بصلاة الشهر المريمي في هذه الساعة من كل يوم على طول الشهر؛ لأن أيار (مايو) مكرس للعذراء، ولم يعد ينقصني إلا أن أرى فتاة تسير بخطوات عصفور في ثوب أزرق كزرقة الأحلام، وتتوارى هي أيضا وراء باب الكنيسة، لأجد مني شوقا إلى مشهد الهياكل وتوقا إلى رائحة البخور. اضحكوا ما شئتم، أنتم الزاعمون أن الثوب المليح دعاني، وأن زيه البسيط وتخريمه الدقيق كان له مع المرأة مني أحاديث.
Shafi da ba'a sani ba