تجسم حزني وجثا عند أعتاب القلعة باكيا. ولست أدري أبكي هناك أسفا على أعجوبة الدهور أم اكتئابا لمشهد درجات أوجدتها هناك يد الغريب.
عند مدخل هذا الهيكل الذي ألقت أسسه شعوب شرقية جاء الأجنبي يضع درجات توصله إلى معابد الشرق القديم. مشهد أفعم نفسي غما كأن هذه الحجارة ثقلت علي لأنها دليل تدخل الغربي في قديمنا وجديدنا، وعنوان طمعه في الاستيلاء على بلادنا. وكان أحرى به أن يتركنا وتراب هياكلنا الغالي دون أن تأتي يده عاملة للترميم والإصلاح، ومدنسة ما قدسته دهور البلايا وعززته بلايا الدهور.
دخلت أمشي الهوينى بين أكوام الأخربة وبقايا الأبنية، بين الأعمدة المطروحة على الحضيض كالعمالقة ورءوس الأسود المتعانقة في تهشمها عناقا أبديا، بين آثار شعب لاحق تختلط بآثار شعب سابق، والتراب يتراكم في كل مكان مجتمعا في الأفاريز المرضضة والنقوش المحفرة. مشيت في عالم مشوه من البدائع الفنية دهشة كيف سطا الزمان عليها، كأنها غابة هاجمتها الزوابع فكسرت منها الأشجار، واقتلعت الأصول، وتركت الأغصان ملقاة على حضيض الهواء.
أين من هذه الضخامة والمتانة قصور عصرنا وصروحه؟! إنها لتخال ألاعيب صبيانية شيدت ساعة فراغ ولهو، فيها الحصى تقوم مقام الحجارة والأشبار منها توازي الأميال.
لقد تألبت الشعوب على هذا الهيكل فهاجمت جدران مجده وخربت بديع معالمه. وحول المسيحيون جانبا منه إلى كنيسة فشادوا المذابح على قوائم معابد الأصنام. ثم انقلبت الكنيسة وما يحيط بها قلعة إسلامية حتى فاجأتها الزلازل فتخلجت منها الأسس وانهارت الجدران، ودكت ذلك العز إغارات الطبيعة بعد أن طغت عليه يد الإنسان.
لكن آثار المجد في بعلبك ظاهرة باقية. والنفس العصرية تقف مترددة بين الهزوء والاحترام أمام معابد آلهة خرافية تضحكنا الآن أسماؤها، وتتعاقب عليها مشاعر جمة من خوف وشفقة وإعجاب وسخرية لتتغلب عليها عاطفة تضم في رحابها قوى النفس جميعا، وهي الشعور بعمق السر العظيم، سر البقاء رغم الفناء ...
وهناك على مرتفع هيكل الشمس تقف أعمدة ستة حاملة إفريزا كأنه تاج مكسر تنحني تحته رءوسها على وهدة عزها المتفتت. وما انحناء تلك الأعمدة إلا رثاء وتأبين، بل هو التأبين الوحيد اللائق بهيكل بعلبك ...
وثلوج لبنان التي تجهل أي خطب جرى تنظر من عل إلى حزن الجماد الدهري، وتود أن تفهم علة انهيار الجدران والأعمدة والأبراج، وأنى لها أن تفهم ... •••
ألا كسروا باليأس الأقلام، وأزيلوا المداد عن الطروس (الصحف)، وأسكتوا الشفاه المتكلمة، وألجموا الأيدي عن التحبير والكتابة.
رائحة الأكفان تفوح لدى هذا التهدم الشامل وتتكشف معاني القبور، وينتشر في الهواء عطر المجامر وتعقد غيوم البخور، وتعود الأيادي القديمة إلى نحر تلك الضحايا والقرابين على أنصاب لاشتها يد الدهور.
Shafi da ba'a sani ba