قلنا: إن «خالدة هانم» برعت في جميع العلوم، إلا أن الهندسة كانت حجر عثرة في سبيل تقدمها، فأحضر لها والدها أستاذا خاصا من أساتذة الجامعة السلطانية ليلقنها في المنزل ما أشكل عليها فهمه من هذا العلم، فلم يلبث بعد زمن أن علق بها فخطبها من والدها، ثم اقترن بها عن رضاها وهي لا تعلم أن لزوجها امرأة وأولادا في باريس، على أنها لم تكن لتجد لها خلاصا من تلك الحالة، فاضطرت إلى ملازمة خدرها، فكانت تصرف الأيام والليالي في مطالعة ما حوته مكتبة زوجها من التآليف النفيسة، ولا سيما الفرنسية منها، فكان لما طالعته تأثير شديد في نفسها الكبيرة، فلم تزدها هذه المعيشة الهادئة إلا رغبة في العمل واتساعا في المطامع، ولم تلبث أن سنحت لها الفرصة المنشودة؛ إذ طلقها زوجها وأصبحت حرة في تكريس حياتها للجد والعمل، وكان ذلك قبل إعلان الدستور في تركيا.
فلما أعلن الدستور وأطلقت الحرية للأفكار والمطبوعات نشرت «خالدة هانم» قصيدة حماسية تخاطب فيها رجال الفرقة الرابعة (وهي التي تم على يدها قلب الحكومة الاستبدادية) بلسان مؤسس الدولة العثمانية.
فكان لقصيدتها وقع عظيم في النفوس فعرفها الناس وانتشر اسمها بين الجميع، ثم جعلت تنشر في الصحف روايات اجتماعية، كانت قد ألفتها في زمن تقييد المطبوعات، فصار الناس يطالعون كتاباتها بلهفة وشوق، ولكنها لم تقتصر على ذلك، بل جعلت تنشر في «طنين» مقالات اجتماعية سياسية فاشتهرت بسداد الرأي واعتدال الهمة.
وكانت «خالدة هانم» تجتمع دائما برجال تركيا الفتاة، ولا سيما أنور وطلعت وجمال، فتبدي لهم رأيها في شئون الدولة، وهم لا يستنكفون من الإصغاء إليها والعمل بآرائها. ولما قلب عبد الحميد الحكومة الدستورية سنة 1909 ورد اسمها في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام، فاضطرت إلى الفرار حرصا على حياتها، فشخصت إلى القطر المصري ومكثت فيه إلى أن استعاد الوطنيون سلطتهم.
وقد تغير مركز المرأة في تركيا بعد إعلان الدستور تغييرا عظيما. فأصبحت ترفع صوتها الضعيف على المنابر، وتسعى لرفع شأنها بإنشاء الأندية والجمعيات، إلى غير ذلك من دلائل النهوض، ومعظم الفضل فيما تم من هذا القبيل عائد إلى «خالدة هانم». وقد تدرجت المرأة التركية في سلم الرقي، حتى أصبحت تعنى بالشئون الوطنية، والمسائل السياسية، ولما نشبت الحرب البلقانية انخرطت كثيرات من النساء في سلك جمعية الهلال الأحمر، وجعلن يكتبن ويخطبن ويحرضن على الجهاد في سبيل الوطن. وقد احتشد منهن يوما عدد غفير يربو على خمسة آلاف في دار الجامعة السلطانية، فوقفت «خالدة هانم» تخطب فيهن بحماس عظيم، فكان لكلامها أشد وقع في نفوس السامعات. ولما فرغت من خطابها كان العرق يتصبب من جبينها من شدة التأثر والانفعال، فنزعت مصاغاتها الثمينة وألقت بها في صندوق أمامها لإعانة الوطن، فاقتدت بها سائر النساء وجعلن الواحدة بعد الأخرى يقدمن حليهن لهذه الغاية الشريفة.
Shafi da ba'a sani ba