ولبثنا في عناقنا، والله أعلم بما لبثنا ثم تراجعنا متماسكين إلى الفراش، وصعدنا إليه وذراعاي لا تتخليان عنها. وأسندنا منكبينا إلى نمرقتين عاليتين، وحبيبتي وما عليها من روب على صدري وبين ذراعي، ومن عجب أن بصري لم يتطفل عليها فاتجه إلى السماء خلال النافذة. وامتلأت نفسي حياة لا عهد لي بها، أما جسمي فظل جامدا باردا لا ينبض ولا تدب به حياة، كأن نفسي استأثرت بكل قطرة من حياتي. أسكرتني نشوة روحية باهرة غناء طروب سامية، وظللت على حالي حتى مطلع الفجر، ولم أدر كيف استرق النوم خطاه إلى جفني!
41
استيقظت ونور الشمس يملأ نصف الحجرة تحت النافذة المفتوحة، فوقع بصري على المرآة، وعاودتني ذكريات الليلة الماضية في لمح البصر. ودارت عيناي في الحجرة فوجدتها خالية، وأدركت أن حبيبتي غادرتها وأنا أغط في نومي، فتندى قلبي حنانا وبعثت لها بتحية ودعاء، وقلت لنفسي: إن متاعب الخطبة والزواج والزفاف قد انتهت، ولن يضمر لي المستقبل إلا صفاء لا يكدره مكدر. وراجعت ذكريات الأمس فساحت نفسي في متاهة النشوة والسعادة. بيد أنه لم يغب عني أنني لم أبدأ بعد، وأنني لم أكتب حرفا واحدا في كتاب الزواج الضخم. وغادرت الفراش ونظرت في الساعة فوجدتها قد جاوزت العاشرة، فهالني تأخيري، وذكرت في التو أمي، وتساءلت عما تظن بهذا الاستيقاظ المتأخر؟! وشعرت بحياء أليم، زاد من ألمه أنه لم يحدث ما يستدعي التأخير قط، وأحسست بضيق نغص علي سعادتي، وكأنني أدرك لأول مرة أن الليلة الماضية لم تخل من فشل وإخفاق. على أنني قاومت هذا الإحساس الخائن، ورغبت عن الانفراد به فغادرت الحجرة. وقابلتني في الصالة الجارية صباح - التي انضمت إلى أسرتنا - فهنأتني «بالصباحية». وأخبرتني بأن العروس تنتظرني في حجرة السفرة فمضيت إليها، ووجدتها جالسة كالوردة اليانعة، فانشرح صدري بمنظرها وأقبلت نحوها متهللا وقبلت خدها. وتناولنا إفطارنا معا المكون من اللبن والشاي والبيض والجاتوه. وتبادلنا على المائدة حديثا عاديا، فسألتها: متى استيقظت؟ وأجابتني بأنها استيقظت في الثامنة، وبأنها تستيقظ في العادة مبكرة مهما تأخر بها وقت المنام. ثم جاءت أمي فهنأتنا معا، وجالستنا بعض الوقت. وانتقلنا إلى حجرتنا، وقضينا النهار في حديث عذب لا يمل. وذهبت عني الوحشة فآنست بها وقصصت عليها قصة حبي من البداية إلى النهاية، وكنا نفصل حديثنا بالقبل السعيدة المتبادلة. وسألتها متى أحست بوجودي في دنياها، فقالت إنها فطنت لحوماني حولها وتطلعي إلى الشرفة منذ عام أو أكثر قليلا، وإن أمها لاحظت ذلك في نفس الوقت تقريبا، ثم صرت بعد ذلك حديث البيت، فكانت الخادمة الصغيرة إذا لمحتني من النافذة آتيا من طريق المنيل قالت لهم ضاحكة : «عريس ست رباب!» وكانوا يزجرونها بشدة، ولما طال بي المطال دون أن أتقدم خطوة ظنوا بي الظنون، ونهتها أمها عن الظهور بالنافذة أو الشرفة في الأوقات التي أكون فيها بالمحطة. وسألتها بلهفة: ألم تشعري نحوي بعاطفة ما؟
فابتسمت ابتسامة رقيقة، فتحت فاها لتتكلم، ولكنها أطبقت شفتيها دون أن تنبس. وكان بي نهم شديد لسماع ما يبل جوانحي، فألححت عليها أن تتكلم، فقالت بصوت لا يكاد يسمع: لا أدري .. لا أدري متى أحببتك.
وشعرت بتخدير عميق وددت لو أنام به دهرا. وجعلت وجهها بين راحتي متمليا شفتيها اللتين برزتا تحت ضغط يدي، ثم وضعت عليهما شفتي، وذبت في قبلة طويلة، وجدت حبيبتي فتنة؛ حديثها عذب، وبديهتها حاضرة، وذكاؤها باهر حتى بدا حديثي على ضوء حديثها فاترا باهتا. وبدت لي لطيفة خفيفة الروح، فلم يكن وقارها إلا تأدبا واحتشاما. ولا أدري لماذا كنت أتخيلها مثالا لضبط النفس، بل وللبرود أيضا؟ ولكني لمست في قبلاتها حرارة تذيب القلب، وفي نظرة عينيها عاطفة عميقة وإحساسا مرهفا. وانطلقت على سجيتها بأسرع مما توقعت، وربما شجعها على ذلك ما رأت من شدة حيائي.
ولما جاء الليل وأغلقت الباب وراءنا قلت لنفسي وبي رهبة زحفت علي مع الظلام: «الليلة يتم الأمر بإذن الله.» لم تكن لي تجارب على الإطلاق، ولم أعرف من الحياة الجنسية إلا العادة الجهنمية التي لم أكد أنجو منها، ولكني عرفت أمورا بالسماع عفوا - في الوزارة - لا أدري إن كانت تغني عني شيئا. ورأيت حبيبتي واقفة حيال المرآة تمشط شعرها، فراقني منظر قامتها الرشيقة الفارعة، وتدانيت منها، ولففت ذراعي حولها، فاستدارت حتى شعرت بمس صدرها على قلبي .. وضممتها إلى صدري في حنان وهيام .. إنه الحب، ولكنني أدركت بغريزتي أنه ينبغي أن أستنزله من السماء كثيرا كي أقوم بواجبي! .. ولكن كيف؟! إنها تسكن إلى صدري كأنها طيف من نسج السحاب الطاهر، وإني أبدو كروح خالصة لا يحيط بها جسد، فكيف أجد جسدي؟! وسرعان ما انسربت إلى نفسي مشاعر قلق وخوف وتوتر أذكتها جميعا تجربة الأمس الفاشلة. ولم تكن تراءت لي كتجربة فاشلة إلا في هذا الصباح، وكذبت رأيي أو كدت في أثناء النهار، ولكنني عدت إليه في تلك اللحظة بتسليم ويقين ويأس، ثم استحوذ علي الحياء القاتل فأثلج دمي وأوهن عزيمتي، وركبني خوف شديد من الفراش الذي لا أجد لنفسي عذرا عليه، بينا أجد شبه عذر بعيدا عنه.
ومرت هذه الخواطر برأسي وحبيبتي ما تزال بين يدي، فانقلبت تمثالا جامدا من شر الفكر، وضاعت سعادة السعادة هباء .. وتنهدت، ولعلها ضاقت بالوقفة، فوخزتني بتنهدتها ولم أعد أطيق جمودي. ورفعتها بين يدي، وسرت بحملي المحبوب إلى الفراش، وأنمتها في رفق ثم اضطجعت إلى جانبها. ودفعني الشوق إلى تقبيل شفتيها وخديها وعنقها بسرعة وغزارة، فداخلتها رقة وأحاطت عنقي بذراعها البضة والتصقنا طويلا، وتناهى بها العطف والحنان، واصطرعت بقلبي أحاسيس الحب واليأس واللذة والخوف، فكأني في متاهة حمى يذهب بي هذيانها ويجيء بين أخيلة السرور وأشباح المخاوف. إني في حلم سعيد، ولكن الخوف لا يزايلني واليأس يثير في وجهي غبارا، وكيف لي بالنجاة وجسمي ميت لا حياة فيه؟! وأحرق جفاف الخوف حلقي، ووقفت حيال عجزي ويأسي حائرا أتساءل، ولكني لم أفكر لحظة واحدة في التقهقر، وأين المفر؟ .. بل دفعني اليأس إلى أن أنزع الروب عنها، فجرت يدي إلى عقدة زناره وحللتها، وشعرت بصدرها يرتجف تحت صدري، فأزحت جانبه عن صدرها فبدا جسمها الرشيق في قميص من الحرير الأبيض لا يكاد يستر شيئا، وبادرت ترجع طرف الروب تستتر، فأزحته مرة أخرى فانحسر عن القميص الشفاف، ورنوت إلى هيئة الجسم الفاتنة بعينين لم يترك لهما الاضطراب إلا قليلا من الإبصار. كان حالي مما يرثى له، ولم يكن عذاب محتضر يجاهد يائسا للاستمساك بحياة جسده بأسوأ من عذابي. ورغم هذا كله ثابرت على عنادي، واستمددت من يأسي وعذابي قوة وإن لم تكن تجدي. إن الخجول لا يفر إبان المعركة؛ لأن الفرار مخجل حيال الغريم .. أجل إنه يتحامى المعركة، ويفر منها بعيدا عن الأعين، فإذا ولج ميدانها وغدا محطا للأنظار بات الفرار - كالعراك سواء بسواء - فوق احتماله. لذلك أجلست حبيبتي ونزعت الروب من ذراعيها وتركتها قميصا شفافا وجسدا باديا .. وأدارت عني رأسها، وأخفته في الوسادة .. ولم تكن تعلم بأن نفسي تحترق يأسا، وبأن هذا المشهد ما هو إلا مهزلة؛ فتضاعف ألمي وخجلي. ومع ذلك مددت يدي مرة أخرى كأنني ما زلت أطمع في أمل لا أدريه .. مددتها وهي ترتجف من اليأس والبرودة، فند عن حبيبتي صوت يهمس: إني خائفة!
واخجلتاه! .. مم تخاف؟! .. لقد ألهبتني همستها كسوط حملت أطرافه بالرصاص، ومع ذلك لم أتوقف .. لم تثنني لا المقاومة ولا الصدود .. حتى بلغ النظر غايته! ماذا دهاني؟ .. ليس الموت فحسب ما بي .. إنه شيء جديد مفزع مزعج، ماذا دهاني؟! رباه حبيبتي جميلة لطيفة، ولكنه الجهل والخيال الأعمى! كنت غرا أعمى لم تر عيناي نور الحياة، فتخيلت عنه خيالات صبيانية، فلما أن رأت النور الحقيقي أنكرته! إنها مأساة. ولعله لولا موتي لما كانت مأساة على الإطلاق. وقد علمتني تلك التجربة القاسية أن الحب يخلق الجمال كما يخلق الجمال الحب .. ومهما يكن من أمر فقد ركبني الفزع فوق ما بي من يأس وخجل ولم يعد ثمة أمل. ولبثت جامدا وحبيبتي دافنة وجهها في الوسادة، مستسلمة تحت رحمة جلادها .. لبثت جامدا لا أدري ماذا أفعل ولا كيف أتراجع، ووجدت في لحظة رهيبة قوة عصبية متوترة تدفعني إلى الضحك، لولا أن تماسكت وشعرت في اللحظة الثانية برغبة في البكاء، ولولا أن البكاء مخجل لروحت بالدمع عن نفسي الملتاعة .. ثم استثقلت الجمود كما خفته، فضممتها إلى صدري وقبلتها ومشاعر العطف والحزن - علينا معا - تسيل من شفتي، كان رثاء بالقبل. ومر الوقت كأن دقائقه وثوانيه أسنان منشار يحز عنقي، ومرت دقائق وربما ساعات .. ثم انقلب الحال مملا مضنيا، وفي حركة لطيفة تخلصت من ذراعي .. وتغطت بثيابها، وبدا لي النوم نهاية مضحكة، ولكن ما حيلتي؟! رقدت حبيبتي دون أن تلتقي عينانا، فلم أدر متى رنق الكرى بجفنيها. ولبثت مسهدا متعبا لا أدري بأي وجه ألقاها في الصباح؟ أي شيطان أغراني بالزواج؟ .. ألم يكن عذاب الحسرة القديم خيرا من هذا العذاب؟ .. كيف خانني جسمي؟ أليس هو الجسم الذي يلتهم نارا في العادة الجهنمية؟! وإلام يدوم هذا اليأس؟! .. ظل رأسي كقطعة محماة من الحديد يتطاير عنها شرر الأفكار.
42
حبيبتي عطف ورحمة. وقد طالعتني في الصباح بالابتسامة المشرقة، ووثبت هنا وهناك ببشر وسرور ومرح، فلم يداخلني شك في أنها عروس سعيدة. ولو بدا لي أنها تتظاهر بالبهجة لتخفف عني الحرج لما وسعتني الدنيا شقاء، ولكنها كانت تصدر في مرحها عن وحي فطرة بسيطة سليمة لا تعرف التصنع ولا التمثيل. وشعرت بصدق وحق بأن فتاتي تحبني، وبأنها قلب كبير مليء بالحنان والعطف والأنوثة؛ فعاودني الأمل، وقلت لنفسي: إننا ما زلنا في البداية، وإن مسرات لا حصر لها تنتظرنا إذا عبرنا الخطوة الأولى الشاقة. وقضينا النهار معا؛ بعضه في الحديث، وبعضه الآخر في مشاهدة الرسوم والألعاب التي مهرت في إبداعها لأطفال الروضة. وحين المساء زارتنا أسرتها، وجلسنا جميعا في حجرة الاستقبال ومعنا أمي أيضا. وتحدثنا طويلا، والتهمنا بلذة الشيكولاتة والملبس، وحاولوا أن يجروا أمي إلى الحديث، ولكنها - مثلي - لم تكن محدثة ماهرة، فبدت متحفظة، وخيل إلي أن محضرها لم يترك أثرا حسنا في نفوسهم، وأن رباب شاركتهم في نفس الشعور، وما لبثت أن سرت العدوى إلي، وكنت أجد نحوها إحساسين متناقضين؛ إحساسا بالرغبة في وجودها معي وهو ما ألفته وطبعت عليه، وآخر بالخجل الأليم لوجودها في بيت الزوجية. والحق أني ما كنت أذكرها حتى يتندى جبيني خجلا. ولما انفض السامر وأقبل الليل استقبلته بكآبة وخوف، وما كاد باب حجرتنا يغلق وراءنا حتى نضب معين السرور والبشر من قلبي، وغاض منه الأمل الذي ابتعثه مرح النهار، وبدا لي أن فتاتي تعاني بعض ما أعاني، وأنها تداري قلقا لم تنفع لباقتها في مداراته. تولت عني الثقة في أقل من ثانية، وتخايلت لعيني ذكريات الليلة الماضية، وتمنيت لو كان في الإمكان أن ننام دون أن نجرب محاولة جديدة، وأيقنت بالإخفاق قبل البدء. على أنني لم أجد بدا مما ليس منه بد .. وأعدت التجربة بحذافيرها من قبل وعناق وإخفاق! أجل إخفاق وإخفاق وإخفاق. مسكينة حبيبتي، لقد استسلمت بادئ الأمر فيما يشبه الخوف، ثم انتهت بأن لمت نفسها في حياء وارتباك. انتهينا في ساعة متأخرة كما انتهينا أمس، فنامت هي، وبقيت مسهدا متفكرا. ماذا بي؟! ... إني أحبها بكل قوة نفسي، بل إني أعبدها عبادة، ولئن يخلو بيتي منها بعد اليوم لأهلكن لا محالة، أتكمن المأساة فيما دهاني به النظر من انزعاج لم أتوقعه؟! ولكن هذا محض افتراء؛ لأن موتي سابق للنظر، فليس فيما رأيت دخل فيه، بل إني آلف الحقيقة التي غابت عني سريعا وتكاد تنهزم خيالات الوهم الصبيانية حيال الواقع الحقيقي، ولم يتغير مني شيء .. وقد أثر في حياؤها وارتباكها - وهي ترتدي ثيابها - تأثيرا عميقا، فأقسمت لا أقربن ثيابها حتى يغير الله ما بي!
Shafi da ba'a sani ba