فابتسم قائلا: حسبته كذلك لأن أهل المهنة الواحدة كثيرا ما يرتبطون بالزواج فيما بينهم.
وأمنت على قوله، وسكت الرجل فلم أجد ما أقوله، وعدت إلى تذكر محفوظاتي فحضرتني الجملة الخطيرة التي يتوقف عليها حظي في الحياة، ولكن خانني لساني، فلذت بالصمت، وما لبث أن عاودني الاضطراب والهلع، والتهب رأسي حياء وارتباكا، وفي تلك اللحظة جاءت الخادم الصغيرة - التي تعرفني حق المعرفة - تحمل صينية الشاي، فوضعتها على منضدة مكفت سطحها بمرآة مصقولة، وتراجعت وهي تداري ابتسامة خفيفة! ورحبت بدخولها وبالشاي الذي حملته لأنهما استنقذاني من حرج الصمت الذي ثقلت وطأته علي. وملأ البك قدحين ودعاني للشراب، فتناولت قدحي شاكرا ورحت أرتشفه متمهلا وعقلي لا يني عن التفكير. وفرغت منه على رغمي، ووجدتني مرة أخرى حيال جبر بك وابتسامته اللطيفة الغامضة التي تستحثني في صمت على الكلام؛ لا بد مما ليس منه بد، وإلا انقلبت الجلسة إلى مهزلة تستثير السخرية. لأصطنعن شيئا من الرجولة أمام الرجل الذي أروم مصاهرته أن أصغر في عينيه. ولممت أطراف شجاعتي وقلت وإن تهدج صوتي وتخلخلت نبراته: سيدي، أردت .. أعني .. الحق أني أرجو التشرف بمصاهرتك!
ولم تكن الجملة التي كتبتها وحفظتها لتفترق عما قلت كثيرا، وقد اعتراني الاضطراب بعد أن فتحت في بالكلام، ولكن الله سلم وأفصحت عن رأيي بعبارة لا بأس بها، ونظرت إلى الرجل فوجدته ما يزال مبتسما، وتريث لحظات استغلظ وقعها في نفسي المروعة، ثم قال بأدب جم: أشكر لك حسن ظنك بنا!
وصمت لحظات أخرى متفكرا، ثم واصل حديثه قائلا: ولكني أرجو أن تمهلني أسبوعين لمشاورة أصحاب الشأن الآخرين.
فبادرته قائلا: طبعا .. طبعا .. ولا يسعني إلا شكرك على كرم أخلاقك وحسن ضيافتك.
ونهضت قائما مستأذنا في الانصراف، ولكنه دعاني للبقاء فترة أخرى، فاعتذرت شاكرا له جميل أدبه، وسلمت وذهبت. وتنهدت في الخارج من الأعماق، وشعرت كأن حملا ثقيلا رفع عن عاتقي. وبدا لي الأمر هينا لا يستدعي بعض ما عانيت من خوف وقلق وهلع، فابتسمت في ارتياح، ثم استرسلت ضاحكا!
37
تمليت نشوة الارتياح والظفر حتى المساء، ثم عاودني القلق؛ ذلك الرفيق القديم الذي لا يمل عشرتي .. أيرضى جبر بك بموظف صغير مثلي زوجا لابنته؟ .. ألا ترجح كفة محمد جودت رغم دخلي من الأوقاف؟ .. إنه مهندس كجبر بك، وجار وصديق، ولست من ذلك كله في شيء، ولكن رباب لا توده، ولو كان بها من رغبة فيه لما قابلتني وشجعتني على مقابلة أبيها. ورطب هذا الخاطر قلبي المحترق وردني إلى نشوتي، ولكنه لم يستطع أن يستأصل الشك والقلق من قرارة نفسي. وتتابعت أيام الانتظار وما أزداد إلا كآبة وتشاؤما، ولذلك أخفيت سري عن أمي حتى لا تعلم بإخفاقي إذا كان مقدورا، وكابدت الانتظار ومرارة الشك في وحدة مخيفة. ومن عجب أننا لم نعد إلى موضوع الزواج منذ ذاك المساء العنيف. وقد اعتور سلوكها شيء من التحفظ والتغير لم يخفيا عن إحساسي الدقيق، وبدت في أحايين كثيرة كالطفل الغاضب، وانطوت على نفسها. وكنت إذا أقبلت عليها محدثا تلقتني بريبة لا تزايلها حتى تطمئن إلى نوع الحديث. وأحنقني تغيرها؛ ولكني لزمت معها الأدب والتودد. وفي أثناء ذلك أسر إلي زميل من الموظفين بأن «بعضهم» يتحرى عني كما أخبره موظف بإدارة المستخدمين، وسرعان ما ذاع بين موظفي إدارة المخازن أني شارع في الزواج، وجعلوا يعرضون لي بما في أنفسهم مداعبين، فأزداد امتعاضا وحنقا، ولما انقضت فترة الانتظار مضيت إلى مقابلة جبر بك السيد، ولكني لم أذهب إلى بيته - حال دون ذلك خوفي من الخذلان - فقابلته في وزارة الأشغال، ورحب بي الرجل ترحيبا جميلا وأعلن لي موافقته! هكذا انتهى عذابي وردت إلي الروح. وفي تلك المقابلة اتفقنا على يوم الخطبة. وإذا كانت حياة الإنسان خليطا من الشقاء والسعادة فقد بدا لي أن أيام شقائي قد ولت، وأني سأجزى عن صبري وتعاستي ومخاوفي سعادة صافية فيما بقي لي من عمر. ورجعت إلى البيت ودعوت أمي وأخبرتها بما تم، وقد استمعت إلي في استسلام ودهشة، وقالت لي متسائلة: ولماذا أخفيت عني الأمر كله؟
فقلت متضاحكا في ارتباك: لم أكن أقدر أن ينتهي مسعاي إلى ما انتهى إليه ...
فقالت بحدة: يا ألله! أكنت تتصور أن يرفضوا يدك؟! يا لك من طفل غرير! ألا تعلم أن الفتيات لا حصر لهن، وخيرا من فتاتك ألف مرة، يرضين بك عن طيب خاطر!
Shafi da ba'a sani ba