وتلقيت التعازي كالمعتاد، وما لبثت دهشتي أن استحالت خوفا؛ لأن الموت يخيفني دائما، وغادرت الوزارة وانطلقت صوب المحطة. مات أبي إذن! هذه حقيقة لا شك فيها. وأخذت أفيق من وقع الدهشة، وأستشعر نسائم ارتياح عميق تهفو على نفسي! بيد أن صورته تمثلت لعيني في وضوح بصلعته المستديرة ونظرته الغائبة، وخيل إلي لحظة أني أستمع إلى صوته الأجش وضحكته الساخرة. ترى متى مات؟ وكيف مات؟ ألا ما أغرب الموت! إن الموت لا يتخلى عما له من خواص المأساة حتى في حال رجل كأبي عاش جل عمره عيشة الأموات بعيدا عن الدنيا والناس، فعيشة الأموات شيء، والموت نفسه شيء آخر. وطرحت على نفسي هذا السؤال: من عسى أن يحزن لموت أبي؟ .. مدحت؟ راضية؟ بدا لي أنه سيغادر الدنيا غير مودع بحزن أو أسى، وبدا لي ذاك مأساة أفظع من مأساة الموت نفسها. أليس مستنكرا أن يحيا إنسان في هذه الدنيا أكثر من سبعين عاما ثم لا يترك وراءه راثيا؟! وجدت عند ذاك عطفا وحزنا! وإنها لعاطفة غريبة لم تختلج له في صدري من قبل، ولعلها كانت وليدة الارتياح لا الأسى؛ لأنه في مثل حالتي قد تجود النفس بالحزن لتداري سرورها، أو لتعبر عن هذا السرور بطريق ملتو، ولعلها عاطفة صادقة أفصحت عن نفسها بعد أن ذهبت - بموته - العوائق التي كانت تعتاقها. مضيت إلى الحلمية، ولما أقبلت على البيت القديم رأيت نفرا من الأسرة يجلسون صفا على الكراسي الخيزران، يتوسطهم رجل وقعت عليه عيناي أول مرة وعلمت أنه عمي بعد ذلك، وكان مدحت يجلس إلى يمينه ويليه زوج أختي. وسلمت واجما مرتبكا حتى نهض شقيقي ومضى بي إلى الحديقة وقال لي: كان يوما شاقا مريرا، ولكن انتهى كل شيء!
فسألته: لماذا لم تستدعني قبل ذلك؟
فتنهد مدحت وقال: كنا في شغل شاغل، ولولا أن راضية ذهبت بنفسها إلى أمنا فجاءتا معا لما علمت حتى الآن بالخبر. ألا تدري ماذا حصل؟ لقد تلقيت برقية في الصباح الباكر من عم آدم يطلب إلي الحضور توا لأن والدي لم يعد إلى البيت منذ ليلة أمس، فحضرنا جميعا، وأخبرنا عم آدم بأن والدنا غادر البيت قبيل غروب الأمس وأنه لم يعد على خلاف عادته، وانتظره الرجل قلقا حتى قبيل الفجر، ثم أرسل لنا البرقية في الصباح الباكر، وأنا أعلم أن والدنا كان يحلو له الخروج من آن لآن عند الأصائل، وهو ثمل - كما تعلم - فيسير قليلا على قدميه ثم يستقل عربة تنطلق به حيثما اتفق ثم يعود إلى البيت بعد ساعة أو ساعتين، ولكنه لم يحدث أبدا أن قضى الليل خارج بيته، ولذلك أثار غيابه قلق الرجل وأوقعنا في حيرة شديدة. ولم نكن نعلم له من صديق أو جهة، ولكن وقع في ظننا أنه ربما يكون ذهب إلى راضية فمضينا إليها، ولكنها لم تكن رأته منذ مفارقتها البيت، ولم نشأ أن نضيع الوقت سدى فاتفقنا أن تذهب هي إلى أمنا من باب التقصي، وأن نستفسر - أنا وعمك - عنه في قسم الخليفة، وهناك أخبرنا الباشجويش أن حوذيا جاء إلى القسم أمس يحمل رجلا له أوصاف أبينا وقد فارق الحياة، وقال الحوذي إنه استقل عربته في ميدان باب الخلق وسار به كرغبته في اتجاه الإمام، ولما أراد أن يستفسر منه عن وجهته بالتحديد في أثناء الطريق وجده كالنائم، وناداه ليوقظه فلم يغن عنه النداء، فأوقف العربة وانتقل إليه وهزه برفق، ثم تبين له أنه فارق الحياة. فلم ير بدا من أن يحمله إلى القسم، وقد قبضوا على الحوذي على سبيل الاحتياط، وحمل أبي إلى القصر العيني حيث اتضح موته ميتة طبيعية بالسكتة القلبية، وانتقلنا إلى القصر العيني فأدخلونا إلى بهو الجثث المشرحة ...
وسكت مدحت وقد لاحت في عينيه آي الألم والتفجع، ثم استدرك في شبه ثورة مكتومة: يا له من منظر! .. لا أدري كيف عرفنا أبي! .. كان شيئا آخر!
واغرورقت عيناه بالدموع، ولم أكن رأيته إلا ضاحكا؛ فاشتد بي التأثر وطفرت الدموع إلى عيني.
ولزم الصمت حتى استعاد رباطة جأشه، ثم أخبرني بما تم الاتفاق عليه من تشييع الجنازة في الساعة الرابعة، ثم قال لي: إنه راقد الآن في مخدعه، فاذهب لتلقي عليه النظرة الأخيرة!
وخفق قلبي خفقة عنيفة، وتملكني خوف شديد، ولكني لم أستطع رفع بصري إليه، ولم أجد مناصا من التظاهر بالترحيب بفكرته، فاتجهت صوب الفراندا متعثرا في خوفي وارتباكي، وارتقيت السلم مزدردا ريقي، فلمحت شقيقتي ولمحتني في وقت واحد، والظاهر أنها أخبرت أمي بحضوري؛ فجاءت على عجل وقابلتني في الفراندا وسألتني في قلق عن وجهتي، فقلت: أريد أن أرى أبي!
فقالت برجاء وإشفاق: هلا عدلت عن هذا يا كامل؟ .. إن قلبك أضعف من أن يحتمل مشهد المنتقلين إلى رحمة الله!
وتنهدت في ارتياح، وارتفع عن عاتقي حمل ثقيل .. لم يكن ما بي شيء غير الخوف. وهل يستطيع أن يواجه الموت في أبشع حالاته وأفظعها قلب تتولاه الرجفة حيال فأر أو خنفساء؟! ورجعت إلى الخارج وجلست بين عمي وأخي صامتا، وقبل الموعد المحدد لسير الجنازة بنصف ساعة أخذ المشيعون يتوافدون علينا، فجاء بعض الجيران وموظفو إدارة المخازن بالحربية، ولما لم يكن لأبي معارف، ولم يكن لعمي أصدقاء في القاهرة، فلم يزد عدد المشيعين على عشرين. وقال عمي متأثرا إنه سيحيي ليلة المأتم في بيته بالفيوم. ثم أزفت اللحظة الأخيرة، وارتفع صوات أختي راضية يمزق الصمت الثقيل؛ فاهتز قلبي تأثرا ودمعت عيناي. ولم نلبث أن انتظمتنا الجنازة. وغشيتني بادئ الأمر كآبة ثقيلة استثارها في نفسي منظر النعش، وظل الموت، وما عاودني من ذكريات جدي ووفاته. ثم جعلت الغشاوة تنقشع والسكينة تعاودني، واسترقت النظر إلى من يحيطون بي، فرأيت وجوها هادئة، وأخرى باسمة لسبب أو لآخر، فسري عني وثابت إلي نفسي، وذكرت بغتة كيف كنت أسير في الصباح صوب الوزارة خالي الذهن مما يترصدني من أحداث اليوم، وكيف أسير الآن وراء النعش؟! فعجبت لحياتنا الغريبة، وخيل إلي في تلك اللحظة أن الحياة تبرز لسانها في شطارة وتهكم مغرقة في الضحك! ثم ساءلت نفسي عن أي الحالين أفضل؛ حال الصباح أم حال المساء؟! ولم أستطع مقاومة موجة رقيقة من الارتياح والسرور. على أن شعوري الديني العميق احتج احتجاجا صارخا وبث في حناياي الخوف والقلق، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، ورحت أتهرب من إحساس السرور والارتياح الذي يلاحقني، فقطبت متجهما وأنا لا أدري، ولكن دون جدوى، فسرعان ما هزأ عقلي بهذه المحاولات الصبيانية وانطلق يفكر في الثروة المنتظرة. وذكرت ما سبق أن حلمت به من بيع البيت، فتساءلت: ترى هل يتحقق الحلم؟ هل أصبح مالكا لألف من الجنيهات ونيف؟ ولكن هل تلكأ منافسي في اتخاذ الخطوة الحاسمة أم قضي الأمر وليس ثمة أمل! أتكون الثروة المنتظرة وسيلتي للسعادة المرموقة، أم تكون أداة جديدة من أدوات القدر التي يستعملها في السخرية من المخلوقات الضعيفة؟! لقد سخر من فقري وعجزي، وإنه لقادر على أن يسخر من ثرائي وقوتي، ليريني أني على الحالتين مقضي علي بالحسرة والتعاسة. وفتر حماسي وخمد، وعراني وجوم وقلق، ودعوت الله في رجاء وإشفاق أن يجعل فتاتي من قسمتي ونصيبي .. وانتبهت من أفكاري على توقف سير الجنازة أمام الجامع .. وأدخل النعش للصلاة عليه، على حين انفصل عنا المعزون مشكورين، ثم أودع النعش سيارة الموتى، وانطلقت بنا وبه إلى الإمام، وانتهى المطاف ...
واجتمعت الأسرة ليلا في الحجرة الكبيرة التي قابلت فيها أبي لآخر مرة، فجلست وعمي وشقيقي وزوج أختي في جانب منها، وجلست أمي وأختي وزوجتا عمي وأخي في الجانب الآخر. وكان عمي رجلا عمليا - وقد ذكرني مظهره بأبي - فتحدث عن الإجراءات الواجبة لإثبات الوراثة، واقترح أن يقدمنا إلى صديق له في وزارة الأوقاف لييسر لنا قبض مرتباتنا الشهرية. وتحدث أخي مدحت فقال إنه يرى أن نبيع البيت ما دام أحدنا لا يرغب في سكناه، ووقع رأيه من نفسي موقعا حسنا لم أحلم به، فوافقت عليه بحماس نسيت أن أداريه، ولم تمانع راضية، وقال عمي: إنه بيت قديم ضخم لا يغري إلا شاريا مثريا، يهده ويشيد مكانه عمارة كبيرة على طراز حديث، على أنه لا يمكن أن يباع بأقل من أربعة آلاف جنيه. أربعة آلاف .. آه لو يكون منافسي تأخر! وكبر علي أن أتصور أن يخيب الله رجائي بعد أن حقق أحلامي على هذه الصورة الباهرة. إن ثقتي بالله لا حد لها، وهو الخبير المطلع. ولاحت مني التفاتة نحو أمي فوجدتها صامتة غارقة في أفكارها وقد ارتفع حاجباها الخفيفان وانفرجت شفتاها عن أسنانها الصغيرة اللامعة، ترى فيم تحلم؟! وما حقيقة مشاعرها حيال المتوفى؟ .. هل أعادها هذا البيت القديم إلى عهود حياتها المنطوية؟! وشعرت نحوها بعطف وحب، ثم ذكرت الأفكار التي تتملكني فداخلني إحساس بالقلق والخوف!
Shafi da ba'a sani ba