واستدارت الرءوس إلي حتى شعرت بأني أحترق تحت وقعها، واستحثني الأستاذ بإشارة من يده، فقلت على كره: لماذا؟
وضحك كثيرون من سؤالي، وقال الأستاذ بحدة: لماذا؟! لكي تخطب يا أخي كالآخرين!
وقلت بصوت منخفض لم يجاوز صفين من المدرج: لا أدري كيف أخطب!
وطبيعي أن صوتي لم يبلغ الأستاذ فتطوع طالب قريب بإبلاغ جملتي صائحا بلهجة ساخرة: يقول إنه لا يدري كيف يخطب!
فقال الأستاذ بلهجة تنم عن التشجيع: هذا درس تدريب، وأخلق أن ينتفع به من لا يجيد الخطابة، تعال! ولم أر مناصا من الذهاب، فحركت قدمي في جهد وعذاب كأني أساق إلى المشنقة، ثم ارتقيت المنصة في حالة ذهول، ووقفت محدقا في الأستاذ باستسلام واستعطاف موليا المدرج جانبي الأيسر. وأدرك الأستاذ ارتباكي فقال بلطف: انظر إلى زملائك، واملك جنانك، وتكلم كأنك وحدك. لا بد من اعتياد هذه المواقف لأن حياة الحقوقي لا تخلو ساعة منها وإلا كانت هراء لا معنى له. كيف تقف غدا في ساحة القضاء، سواء تحت ظل النيابة أم المحاماة؟! ادع شجاعتك واخطب هذا الجمع حاثا إياه على التبرع لإحدى الجمعيات الخيرية.
وتطلع إلي الجميع باهتمام شديد لم يحظ بمثله الخطباء المصاقع، فحملقت في الوجوه المتطلعة دون أن أرى شيئا، ولفني ذهول وخجل مميت، فكدت أقع مغشيا علي، وتولاني ذلك الإحساس الحاد بالقنوط الذي يمسك بخناقنا في الكابوس. ولم يخطر لي لحظة واحدة أن أفكر في الموضوع، ولعلي أنسيته، ولم يكن يدور بخلدي إلا هذا السؤال: متى تنكشف هذه الغمة؟! ومل الأستاذ الانتظار فقال: تكلم. لا تخش الخطأ. أفصح عما ببالك جميعا.
رباه متى ينقضي هذا العذاب؟ هيهات أن يرثي أحد لي، وها هم الطلبة يتغامزون ويتضاحكون، وقد قال أحدهم بلهجة من يحذر إخوانه من الاستهانة بي: هكذا بدأ سعد زغلول.
وقال آخر: وهكذا انتهى!
وصاح ثالث: أنصتوا إلى بلاغة الصمت.
وامتلأ المكان ضجة وضحكات، فدار رأسي وأخذت أتنفس بصعوبة، ثم صممت على إنهاء ذلك الموقف المحزن، فغادرت المنصة ومضيت صوب باب الخروج دون التفات إلى نداء الأستاذ، وضجة الشياطين تلاحقني وتصك أذني، وما زلت أخبط على وجهي محموما هاذيا حتى انتهيت إلى محطة الترام. ورحت أردد بتصميم وحنق: «لن أعود .. لن أعود!» وكان ذلك التصميم البلسم الشافي لجرح ذلك اليوم. أجل لن أعود، ولن تقع أعينهم علي مرة أخرى، ولن أعرض نفسي لبسمات الهزء والسخرية، وأية فائدة ترجى من العودة إلى الكلية، ما دامت حياة الحقوقي لا تخلو ساعة من هذه المواقف؟! الأفضل أن أسدل الستار على عهد الدراسة كله، وحسبي ما عانيت من عبودية العذاب. وتعزيت بهذا التصميم عن جميع ما لحقني من مهانة وإحراج، بل نسيت به ألمي وحنقي؛ فترطب صدري المحترق بنسمة ارتياح، وعدت إلى البيت وليس أمام عيني إلا ذاك التصميم .. وبعد الغداء قصصت على جدي وأمي ما لقيت في يومي من شدة ومكروه، واختنق صوتي بالبكاء وأنا أقول: هذه حياة لا تطاق، ولن أعود إلى الكلية أبدا.
Shafi da ba'a sani ba