وتجاذبنا الحديث طويلا، وكان مدحت محدثا ماهرا، يدير الحديث بطلاقة وروح مرحة، ويقهقه قهقهة أبينا العالية فيضاهيه في جلجلتها دون برودتها وقسوتها، فسرعان ما غبطته وأعجبت به وتمنيت لو كان لي بعض مرحه وطلاقته. وانساق الحديث إلى مستقبله، وكان حصل على شهادة الزراعة المتوسطة صيف ذاك العام، فقال: سافرت إلى عمي في الفيوم ليجد لي وظيفة بواسطة أحد معارفه الكثيرين، لكنه لم يوافق على توظيفي بالحكومة، وعرض علي أن أتمرن في عزبته بأجر عال، على أن يؤجر لي أرضا في القريب العاجل، ورأيت في عرضه فرصة تفتح لي أبواب الرزق العريض عن طريق الزراعة فقبلت.
ولكن أمي لم ترتح لهذا العرض وقالت معترضة: أليس الأكرم أن تتوظف في الحكومة؟
فضحك أخي طويلا ثم قال: إن دبلومي لا يؤهلني لوظيفة محترمة، أما عمي فيهيئ لي فرص العمل المثمن والثروة. - وتعيش في الفيوم حياتك؟!
فقال باستهانة: الفيوم من ضواحي القاهرة!
فقالت أمي بحزن: طالما منيت نفسي باليوم الذي تستقل فيه بحياتك لنعيش معا؟!
فقبل يدها برقة وقال مبتسما: سوف ترينني كثيرا حتى تمليني!
ثم ودعنا وانصرف. وتنهدت أمي من الأعماق وقالت بحزن: غاب عني نصف حياته في بيت المجنون، وسيغيب النصف الآخر في الفيوم!
وتفكرت قليلا ثم قالت وكأنها تحدث نفسها: إن عمه لم يعرض عليه ما عرض حبا في سواد عينيه، ولكنه ينوي بلا شك أن يزوجه إحدى بناته.
وسألتها ببساطة: وماذا عليه لو فعل؟!
فحدجتني بنظرة غريبة، وهمت بالكلام أكثر من مرة ثم تنثني عما همت به. وقد صدق ظنها؛ فجاءنا بعد ذلك بزمن غير طويل خطاب مدحت يخبرنا بخطبته لابنة عمه، ويسمي لنا يوم الزفاف ويدعونا لحضوره. ولم تخف أمي استياءها، وهالها أن يخطب بدون مشورتها أولا، وقالت لجدي بغضب: أرأيت إلى شقيق المجنون كيف خطف ابني؟!
Shafi da ba'a sani ba