76

فيوما على رمال الهرم؛ لأنها تريد أن توقظ الفراعنة!

ويوما على القناطر الخيرية؛ لأنها تريد أن تحاسب النيل العتيق على عرائسه الغريقات.

ويوما على زورق بين روض الفرج والروضة، ويوما في حلوان عند آثار صقارة، ويوما في صحراء ألماظة، ويوما في جوار عين شمس والمطرية، فإن لم تكن رياضة خلاء فعكوف في المنزل من الصباح إلى المساء، وذلك أمتع الأيام.

يخلو المنزل نهارها فلا طاهي فيه ولا خادم ولا نزيل غير سارة وهمام، وقد جعلا خدمة المنزل في ذلك اليوم شعائر مقدسة كالشعائر التي يتولاها الكهان، فهما يتبركان بها ولا يخجلان منها وهي في يدها المكنسة وهو في يده سكينة التخريط ... أو هي تمزج الحلوى وهو يقلب الآنية على النار ... أو هي تملأ الأطباق وهو ينقلها إلى المائدة، حتى إذا حان وقت الطعام مثلت إلى جانب المائدة في وقار وخشوع، وقالت: انتهى دور الخدمة، فتفضلوا أيها السادة.

وتتسرب إلى المنزل أنباء الأصيل بالاستقراء لا بالمشاهدة في معظم الأيام، فيقرآن أو يسمعان بعض الأغاني، أو يلعبان «الدومينة» قليلا، وهي لعبة تحذقها سارة ويعتقد همام أنها أصح الألعاب وأشدها مطابقة للحياة.

فالشطرنج والضامة يعولان على الحيلة، وكل شيء فيهما مكشوف بعد ذلك، والنرد يعول على المصادفة والذكاء، وكل شيء فيه مكشوف بعد ذلك، والورق إما مصادفة وإما صراع قلما يشبه صراع الحياة.

أما «الدومينة» ففيها حساب للمصادفة، وفيها حساب للتدبير، وفيها حساب لليقين، وفيها حساب للظنون، وفيها حساب للغيب الذي تجهله أنت وخصمك، وللغيب الذي تجهله أنت ويعرفه خصمك، أو يجهله هو وتعرفه أنت، وللعيان الذي يعرفه كل من يشاء، ولها قوانين تمنعك أن تتحرك على هواك، ولها حرية تمنحك الخيار بين ما في يديك.

قالت سارة يوما بعدما استعادته شرح «فلسفة الدومينة» للمرة الخامسة أو السادسة أو السابعة: أولا تستمتع بشيء إلا أن تكون له فلسفة؟

قال: لا، بل أستمتع بالشيء ثم أبحث عن فلسفته، وإنني لأبحث عن فلسفته كما يجيل الشارب الكأس في جميع جوانب فمه ولهواته، كي لا يبقى جانب من النفس لا يأخذ نصيبه من متاعه، فأحسه وأعمله وأذكره وأفكر فيه وأستقصي معناه.

وأمثال هذه الأسئلة كانت تصدر منها كما يسأل الصبي أباه الشيخ في دالة ومحبة، أو كما يفتش المالك منزلا دخله واستولى عليه فراح يسأل عن كل صغيرة وكبيرة فيه، فما كان في تلك الأسئلة فضول غريب ولا تهجم واغل، ولكن السائل والمسئول عنه هما جزء من مكان واحد تدور عليهما أسواره وتحتويهما جدرانه، ويتفقد فيه من يشاء ما يشاء، ولا فضول ولا اقتحام.

Shafi da ba'a sani ba