فمالت صاحبتنا وهمست ساخرة ... أتقول خدعها؟ إنه كافأها أحسن مكافأة يستطيعها! •••
وهكذا كانت دار الصور المتحركة عندهما شيئا أكثر من ملهى الفراغ وموعد اللقاء، كانت محور حياتهما الغرامية، وهل كانت لهما من حياة في ذلك الحين غير الحياة الغرامية؟ وكانت ملتقى الذكريات ووسيلة التقارب والتفاهم فيما يشعران به وما يلاحظانه من أحوال المحبين والمحبات، وكانت ذخيرة من المناظر التي يقترن كل منظر منها بكلمة، أو بخاطرة، أو بمناقشة، أو بأمنية يملكان تحقيقها، أو بأمنية يكتفيان منها بالحلم والخيال.
فلما وقعت الجفوة بينهما وانقطع طريقهما إلى تلك الدار كانت كل خطوة في تلك الطريق كأنما تثقل النفس بآكام فوق آكام من الذكريات والآلام، وكانت كل زاوية من الزوايا كأنما تخفي فيها رصدا من الشياطين الثائرة والعقبان الكاسرة، وكان اجتناب تلك الطريق أسلم الأمور وأهون المحذورات.
ثم مضت الأشهر وخيل إلى صاحبنا أنه لم يعد يخشى أو يذكر، فاجترأ على العبور بالطريق مرة بعد مرة، وعبر بها ثلاث مرات أو أربعا على الأكثر، وكانت الرابعة هي التي فوجئ بها هذه المفاجأة التي لم تكن في الحسبان.
إنه لم ير صاحبته بعد اللقاء الأخير في أثناء تلك الأشهر الموحشة؛ لأنه اجتنب الأماكن التي عساه أن يراها فيها، ولزم بيته في معظم الأيام وقد علم أنه ما من مرتاد أو متنزه يقصد إليه إلا وهو خليق أن يعاوده ببعض الذكريات، إن لم يعاوده ببعض ما يسوءه أن يراه.
فلما عبر الشارع المهجور تلك الليلة مطرقا كعادته حين يسير على غير قصد إلى مكان معلوم، سمع من جانبه صوتا يناديه، صوتا يعرفه بين ألف صوت، بل بين جميع ما خلق الله من الأصوات والأصداء، صوتها هي بعينها يهتف به: أهو أنت؟
أهو أنت؟ سمع هاتين الكلمتين فأحس لهما صدى كانفغار الهاوية تحت السفينة في البحر اللجي من أثر عاصفة أو زلزال، وقبل أن يجيب على السؤال الذي لا يحتاج إلى جواب، وفي أقل من رجع الصدى، بل في أقل من اللمحة الخاطفة التي انقضت بين ارتفاع رأسه إليها والتقاء نظره بنظرها، هجم على نفسه طوفان من الدوافع والهواجس التي لا يوجد لها اسم في اللغات الإنسانية؛ لأن اللغات الإنسانية لا تستطيع أن تضع اسما لألوف من النقائض والمفاجآت التي يجتمع فيها الرعب والسرور والشوق والنفور والهيام والاشمئزاز، وتريد فيها النفس أن تقف، وتريد فيها القدم أن تسير، بل تريد فيها النفس أن تقف؛ لأنها لا تقوى على أن تريد.
ولو أنه رآها عند أول الطريق قبل أن يفاجئه من صوتها ذلك الهاتف الطارئ، لعله كان يعرف ما هو مقبل عليه ويستعيد في نفسه شيئا من ذلك العزم الذي أعانه على القطيعة، وأمده بدواعي الإصرار عليها، كلما جنح إلى اللين والإغضاء والمغالطة.
ولكنه أخذ على حين غرة.
فوقف هنيهة لا يدري ما يقول.
Shafi da ba'a sani ba