كانا يتلاقيان - إذا لم يتلاقيا في المنزل - عند مفترق طريق في الضاحية ينشعب يمينا إلى ناحية الصحراء، ويسارا إلى ناحية الأندية ودور الصور المتحركة، وكانت تلمحه مقبلا فتسبقه خطوات إلى حيث تواعدا من قبل؛ فإما في الصحراء أو في بعض الأندية يدخلانها على انفراد.
وقد تواعدا - بعد أسبوع من تلك الغضبة الثائرة - على اللقاء عند ذلك المفترق من الطريق، ليعطيها أوراقها وصورها وذكرياتها ويسترد منها أوراقه وصوره وذكرياته، ثم يفترق كل منهما في طريقه إلى حيث يختفي من حياتها وتختفي من حياته.
وقبل الموعد بساعة أخذ في جمع تلك الأوراق ومراجعتها ليعلم منها ما هو مطلوب وذو بال وما هو مهمل ومطروح، فيا لله كم تبلغ الورقة الخفيفة من وقر وفداحة! وكم تختلف المعايير والأحجام في موازين الأكف والأذهان! لقد كانت الرسائل والصور والهدايا كلها لا تملأ حقيبة صغيرة تحملها اليد الواحدة، ولكنه كان يحمل الورقة منها وكأنما يزحزح جبلا راسخا يشل السواعد والأقدام دون صخرة واحدة من صخوره.
ومشى إلى الموعد مشية لا اختيار فيها ولا إكراه، مشية الرجل الذي يسعى بقدميه إلى غرفة الجراحة ليبتر عضوا من أعضائه غير آمن أن يكون في بتره الموت، أو مشية الأمهات اللواتي كن فيما مضى يحملن فلذات أكبادهن إلى مذبح الأرباب قربانا غير رخيص ولا مزهود فيه.
وسبقها إلى الموعد فانتظرها دقائق معدودات لاحت له كأنها آباد، ولكنه في الواقع كان يتمنى لها الفوات.
ثم أقبلت في ثوبها العنابي وطرتها المشتهاة! ونظرت إليه وهمت أن تنحرف إلى ناحية الصحراء ... ثم؟ إنهما اتفقا على اللقاء لحظة في مفترق الطريق يأخذ منها ويعطيها ولا حاجة بهما إلى مراجعة، وكانت الطريق في تلك الساعة خالية إلا من عابر بعيد أو عابرة بعيدة، ففيم انحرفت إلى ناحية الصحراء ولو شاء المراجعة هنالك لما أعانهما غبش المساء؟ إنه حكم العادة على ما يظهر. أما هو فكل ما ساوره في تلك اللحظة خشية الانفراد والأمن من الأنظار، وخشية ما يزجيه الموقف المنفرد من كلمة أو عبرة أو نظرة وجيعة، وخشية الوهن والتردد والإرجاء، وخشية العودة من البداية إلى التيه المفزع الذي أشرف في تلك اللحظة على النهاية، وتلك جرعات لا يطيب للفم أن يترشف منها كل يوم.
أخذ منها وأعطاها، وسلم ولم تجبه، أو سلمت ولم يجبها، أو نسيا السلام والوداع معا، لا يذكر، وافترقا في طريقين متدابرين.
لو كان همام في غير ذلك الموقف لتذكر وقال وتدبر؛ تذكر مفترق الطريق بالأمس وتذكر مفترق الطريق في هذا المساء، وقارن بين لقاء قلما يضن فيه بشيء ولقاء قلما يجاد فيه بسلام الوداع الأخير، ولكنه كان مغمور الفؤاد في جو من الغم واليأس كجو الضباب الكثيف، لا تسترسل فيه العين إلى مدى بعيد، ولا ترى ما حولها إلا في غلاف من نسيج الأطياف، وكل ما يذكره بعدما افترقا أن جسما غاب عن النظر ولم يشيعه وهو يغيب.
وسار في وجهة المنزل وكأنه يريد أن يبتعد منه لا أن يدنو إليه بخطاه، وفي يده حقيبة صغيرة لا يدري ماذا يصنع بها، ويزعم أنه يود لو ألقاها في عرض الصحراء لولا ما فيها من حديث يصونه عن الإفشاء ... يزعم ذلك ويفهم من حيث لا يشعر أن ساطيا لو سطا على الحقيبة في تلك اللحظة ليمزقها ويحرقها لذاده عنها كما يذود الشحيح عن بقية ما لديه من حطام.
ثم دخل المنزل وتهافت على أقرب كرسي في أقرب حجرة، فلو شهده شاهد يجهل ما كان فيه لخاله قادما من مسيرة أيام لا مسيرة لحظات ...
Shafi da ba'a sani ba