لم يشعر ذلك اليوم وهو ينتظرها بخداع ولا باستغفال ولا احتقار ، ولكنه شعر بخسارة وأسف، وانتظرها كما ينتظر الطبيب مريضا يلجأ إليه، واستقبلها عاطفا عليها متطلعا إلى ما وراء حديثها مستعدا للتسامح في الإصغاء إليها، فدخلت وهي تقول في غير احتجاز ولا امتناع: لا قبلات ولا تحيات حتى تعرف قصتي وأعرف رأيك. «اسمع يا فلان، إنني لا أؤمن بصداقة المرأة للمرأة ولا عزاء لي في معاشرة الصديقات المزعومات على الإطلاق، فإن لم يكن إلى جانبي رجل أهابه وأحبه وأعتمد على سنده فأنا في وحشة الهالكين، وأنا ضعيفة ضعيفة ضعيفة لا طاقة لي على دفع الغواية، وقد افترقنا يائسين ليس لك حق عندي وليس لي حق عندك، وأنا لا أحاسبك على شطحاتك في مصيفك إن كانت لك شطحات، ولكني أسمح لك أن تحاسبني على الصغيرة والكبيرة وأبوح لك بأنني زللت في المصيف وانغمست في صلة غرامية ليس فيها غرام في الحقيقة، ولم أحضر إليك اليوم، بل لم أرسل إليك الصور إلا وقد قطعت تلك الصلة وهيأت نفسي لاستئناف مودتنا القديمة، هأنذا الساعة بين يديك فماذا أنت قائل؟ هل تقبلني؟»
فاستزادها من خبر تلك الصلة التي لا غرام فيها كما تقول، واسترسلت هي في تفصيلات لم تستر فيها سرا ولم تصبغ فيها أمرا بغير لونه، ولم تقف دون معرة أو نقيصة كأنها تفرغ قلبها بين يدي الكاهن على حسب «إنذارها» في حديث التليفون.
قال بعد أن أصغى إليها في صمت وإبهام: إنني يا فلانة لا أملك أن أجيبك هذه الليلة، إن أنا قبلتك فلست آمن أن أندم، وإن أنا رفضتك فلست آمن كذلك أن أندم، ولكن دعيني بضعة أيام ريثما أروض سريرتي على عزم وثيق وأخبرك بما صحت نيتي عليه، غير خائف من عواقب العجلة.
وما انقضت تلك الأيام حتى استقبلها صافحا، وسألها أن تذكر أبدا أنه قد يفهم عذرها من الضعف، ولن يفهم لها عذرا من الختل والخداع، وحمد لها صراحتها، ولكنه في الواقع لم يسلم من الاحتراس والتوجس منذ تلك الساعة، ولم يزل على تفاهم دخيل بينه وبين طواياه أنه لا يأوي إلى حصن حصين، وأنه مع ذلك هو حصنه الذي لا بد أن يأوي إليه!
فلما ساورته شبهات الشك توالت أمامه الدلائل من فلتات اللسان وشوارد الخواطر وعلامات الزينة والحلي والملابس، وما إلى ذلك من علامات هي لمن يعهدها أثبت من البراهين وأصدق من الشهود، ورانت السآمة على كل لقاء، وتغلغلت اللواعج والأشجان في كل فراق، وغلبت الأكدار على كل صفاء وكل رجاء، ولم يبق إلا أن يقبلها على أن يستغرق هو في حبها، ويسمح لها هي أن تفرغ لغيره وهذا مستحيل، أو يقبلها على أن يلهو بها وتلهو به وهذا أيضا مستحيل، أو يسوم نفسه قطيعتها، وهذا ما قد عول عليه، وظن أنه استطاعه وقدر عليه خمسة أشهر.
وأنه لفي حسبانه هذا يوشك أن يودع القلق والأسر ويقبل على الطمأنينة والحرية، إذا به يهاجم في الصميم، وإذا بالظواهر والبواطن كلها تضمن له وهي تتدفق عليه أنه عائد لا محالة إلى ما ودع من شقاء وألم، وليس بين تلك الظواهر والبواطن كلها ما يضمن له أقل ضمان أن يعود إلى ما ودع من ثقة ونعيم، فماذا عساه أن يصنع؟ لا تسل فكره ولا تسل قلبه ولا تسل ضميره، بل سل كل وشيجة من وشائج لحمه ودمه وأعصابه التي عزمت عزمها بغير اكتراث لفكره أو لقلبه أو لضميره، واستقلت بإرادتها وهي لا تترجم عن تلك الإرادة إلا بالعمل الواقع دون التفكير ودون التعليل ودون التفسير، فطلبت النجاة بالبداهة المرتجلة وحملت الجسد الذي هي قوامه إلى خارج المنزل وهي لا تعي ولا تفقه إلى أين تسير، ولا لوم على من يطلب النجاة، فإنما هكذا تطلب النجاة!
علاج الشك
مواجهة الحقيقة من أصعب المصاعب في هذه الدنيا.
أولا:
لأننا في الغالب لا نعرف ما هي الحقيقة.
Shafi da ba'a sani ba