بذلك كان يشبه حيرته وهو يحاول الاستمتاع بعاطفته التي هو مستغرق فيها، ويحاول في اللحظة بعينها أن يبترها وينساها ولا يعود إليها، ثم لا يدري في أي المحاولتين هو مصيب، ولا بد أن يدري، وهيهات لا سبيل إلى الدراية بحال!
وإذا كان بعض الشكوك في العشق من وساوس الأوهام، فمما لا نزاع فيه أن العاشق أصدق الناس في شكوكه حينما يبنيها على أسباب صحيحة وحقائق ملموسة؛ لأنه يعرف صاحبته معرفة لا يخفى معها عارض من عوارض التغير، ولا لمحة من لمحات العين، ولا همسة من همسات الضمير: يعرف نظراتها ويعرف كلماتها، ويعرف ما تقوله عن سجية وما تقوله بتكلف واصطناع، ويعرف أن بعض الخشونة أدل على الحب والإخلاص من بعض المجاملة، ويعرف نفسها وكيف تستتر فيها الخفايا، ويعرف جسدها وكيف تختلج فيه النوازع والشهوات.
وقد يسأله من يسأله كيف خامرتك الشكوك؟ فيضحك من نفسه أن يجيبه بما يلوح له أو يطلعه على بعض تلك الأسباب، وقد يؤثر في معظم الأحيان أن يكتمها ويموهها على أن يفضي بها إلى إنسان كائنا ما كان.
وبعد، فهل الغدر في الحب مستحيل؟
كلا، ليس هو بمستحيل ولا مما يقارب المستحيل، وليس صاحبنا بالذي يصدق ولا صاحبتنا بالتي تصدقه وتدعيه.
لقد اعترفت له بعلاقتين سابقتين: إحداهما متينة مستحكمة طويلة، والأخرى هوجاء حامية سريعة، وإحداهما مع كهل يقارب الأربعين، والأخرى مع فتى في نحو الخامسة والعشرين، وإحداهما صيدت فيها ولكن على غير كره منها، والأخرى كانت هي فيها الصائدة، وهي التي نصبت الشباك، فوقع الصيد على عجل وأسرع الحراس الحانقون فأطاروه!
اعترفت له بما كانت تحتال به من الحيل البارعة لتلقى عشيقها الأول، وبما كانت تعمي به على من حولها حتى لا يرتابوا في أمرها، وإذا استرابوا لم يجدوا عليها ما يثبت الريبة ويقطع اللسان.
واعترفت له بالردود المفحمة التي تدبرها لترغم المتهمين على السكوت.
واعترفت له بما تخجل منه المرأة المعتزة بجمالها ومكانتها، فقالت له إنها لم تكن على يقين من حب عاشقها الأول، ولم تكن تبالي أن يحبها اكتفاء بعلمها أنها هي تحبه، وذهبت في امتهان كرامتها - وهي مغرورة بفتنتها وامتيازها - إلى حد من الخضوع لا يحمد إلا في التدين والإيمان، فقالت إنها لمحت منه مرة أنه يطيل النظر في مجلسها إلى امرأة أخرى من صديقاتها ... فخطر لها أن تناجي نفسها سائلة: هل يجسر على أن يطلب منها الوساطة بينه وبين تلك المرأة في التقريب والتمهيد؟! ... قالت: «فراعني هذا السؤال، ولكني، عدت فشعرت أني سأفرح بأن أسره، وإن جاء سروره من هذا الطريق المهين!»
ثم انقطعت هذه العلاقة على الرغم منها وعلى الرغم منه، وتمادت بها الوحدة وهي في دهشة مخيفة، فجعلت تلتفت إلى شاب وسيم من الجيران، ثم تمعن في الالتفات إليه حتى أصبح انتظاره وهو عائد إلى منزله في الهزيع الأخير من الليل شغلا لها شاغلا في اليقظة والمنام، وأخذت تحاسبه في طويتها على هذه السهرات وتتخيل مع من تكون وكيف تكون ...! ويزيدها ذلك لجاجة في الولع ولجاجة في الانتظار، ولم يلبث هذا الالتفات منها أن أدى إلى الالتفات منه ثم إلى التحية ثم إلى لقاء جنوني في المنزل الذي يحيطها فيه الآل والأقربون، وكانت هذه المغامرة العجيبة هي العلاج الباتر لذلك الجنون العجيب!
Shafi da ba'a sani ba