فطار نوفيكوف فرحا ودفع يده إلى سانين. ولكن وجه سانين تصلب وهو يرصد تأثير كلماته في نفس صديقه.
وبدا على نوفيكوف السرور الواضح والارتياح البين إلى كون المرأة التي يشتهيها نقية طاهرة ونطقت عيناه الحزينتان الصريحتان بالغيرة الحيوانية، فنهض سانين وقال بصوت مهدد: «أوهو. إذن فإني أقول لك: إن ليدا لم تجب سارودين فقط بل كانت لها به علاقات غير شرعية وهي الآن حبلى.»
فسكنت الغرفة سكون الموت وابتسم نوفيكوف ابتسامة مريضة غريبة وفرك كفيه وخرجت من شفتيه المرتجفتين صرخة ضعيفة. ودل تقبض ركني فمه على الغضب المكتوم فسأله سانين : «لماذا لا تتكلم؟»
فرفع نوفيكوف يمينه ولكنه جانب عين صاحبه وكان وجهه لا يزال تشوهه هذه الابتسامة. فقال سانين بصوت منخفض كمن يحدث نفسه: «لقد عانت ليدا تجربة هائلة. ولولا أني أدركتها مصادفة لما كانت الساعة حية. ولعادت الفتاة الجميلة القوية جثة ممسوخة غارقة بين أوحال النهر تأكل منها الحشرات. وليس المهم مسألة موتها فإننا جميعا سنموت يوما ما، ولكن ما أوجع أن يفكر المرء في الغبطة والوضاءة التي تمنحهما شخصيتها للغير يذهبان بذهابها. نعم إن ليدا ليست منقطعة النظير في الدنيا، ولكن ويحنا لو خلت الدنيا من مثل هذا الجمال لعادت مظلمة كالقبر. أما أنا فإني مستعد أن أرتكب جريمة القتل إذا رأيت فتاة مسكينة تتقوض حياتها بهذه الطريقة السخيفة. وليس يعنيني على الإطلاق أن تتزوج ليدا أو أن تذهب إلى الشيطان، ولكنه لا يسعني إلا أن أقول لك إنك مغفل أبله! ولو أنه كانت في رأسك فكرة صحيحة واحدة أكنت تعني نفسك وسواك من أجل أن امرأة حرة في الاختيار قد أحبت رجلا ليس بأهل لها وأطاعت غريزتها الجنسية واستوفت تمام نضوجها؟ ولست - فاعلم - بالأبله الوحيد. فإن في الدنيا ملايين مثلك يحيلون الحياة سجنا مزويا عن ضوء الشمس وحرارتها! وكم من مرة أطلقت فيها العنان لشهوتك برفقة مومس تشاطرك فسوقك؟ وأما ليدا فما دفعها إلا العاطفة وإلا شعور الشباب والقوة والجمال. فبأي حق تنفر منها أنت يا من تدعو نفسك رجلا رشيدا ذكيا؟ ما شأنك بماضيها؟ أهي أقل جمالا؟ أم أقل صلاحا لأن تحب وأن تحب؟ أم المسألة أنك كنت تريد أن تكون أول من ينالها؟ تكلم!»
فقال نوفيكوف وشفتاه ترتجفان: «إنك تعلم حق العلم أن هذا ليس كذلك.»
فصاح سانين: «نعم هو كذلك، وإلا فما السبب من فضلك؟»
فصمت نوفيكوف واسود كل شيء في نفسه، ولكن خاطر العفو والتضحية طاف برأسه كما يومض شعاع النور في الظلمة.
وكان سانين يرقبه وكأنما قرأ ما يدور في ذهنه فقال بصوت مضبوط متزن: «أراك تفكر في التضحية بنفسك من أجلها . وكأني أسمعك تقول لنفسك «سأهبط إلى دركها وأحميها من الرعاع.» هذا ما تقوله الآن لنفسك الفاضلة فيضخم شأنك في عينيك كما تضخم الدودة تغتذي بالجثة. ولكن هذا كله زور. وليس هو إلا أكذوبة؟ إنك لست مطيقا لتضحية الذات. ولو أن ليدا مثلا شوهها الجدري لكان من المحتمل أن تستطيع أن ترفع نفسك إلى مستوى هذه البطولة، ولكنك كنت خليقا بعد يومين اثنين أن تسقي حياتها العلقم وأن تنبذها أو تهملها أو تمطرها التأنيب كل ساعة. أما الآن فإنك تقف من نفسك موقف العبادة. نعم لقد استحال وجهك وصار من يراك خليقا أن يقول «انظروا! هذا قديس.» ولكنك لم تفقد شيئا كنت تبغيه. إن أعضاء ليدا ما زالت كما كانت ولم تزايلها قوة العاطفة ولا أصابها جزر في حيويتها البديعة. ولكن من المرغوب فيه جدا أن يروح المرء يستمتع ويقطف أزاهير اللذات، وهو يوهم نفسه أنه إنما يأتي عملا شريفا!!»
فلما سمع نوفيكوف هذا الكلام فارقه عطفه على نفسه واستولى على روحه شعور أنبل وأشرف فقال معاتبا: «إنك تجعلني أسوأ مما أنا في الواقع، ليس ينقصني الشعور كما تظن. وما أنكر أن لي آراء معينة وأن بي بعض التحرج، ولكني أحب ليدا بتروفنا، ولو أني على يقين من أنها تحبني أكنت تظن أن يطول بي التردد من أجل أن ...»
وخانه صوته. وهدأ سانين فجأة واجتاز الغرفة ووقف أمام النافذة المفتوحة غارقا في بحر من الفكر وقال: «إنها في هذه الساعة حزينة جدا لا يسعها أن تفكر في الحب. وكيف أعرف هل تحبك أم لا تحبك؟ ولكن يخيل لي أنك إذا ذهبت إليها وكنت بذهابك ثاني رجل لم يضطهدها من أجل حبها القصير ... على كل حال لا أستطيع أن أعلم ماذا عسى أن تقول!»
Shafi da ba'a sani ba