لاحظنا أن الأنظمة العالمية الجديدة كانت متنوعة للغاية. وقد كان ذلك متوقعا بالطبع إذ كانت هذه العوالم يختلف بعضها عن بعض اختلافا كبيرا من الناحية البيولوجية والنفسية والثقافية. لقد كان النظام العالمي المثالي لسلالة من الشوكيات سيختلف بالطبع عن ذلك الخاص بالسلالة التكافلية من السمكيات والعنكبوتيات، والذي كان سيختلف أيضا عن ذلك الخاص بسلالة النوتيات، وهكذا. غير أننا قد لاحظنا أيضا هوية مميزة في جميع هذه العوالم الظافرة. على سبيل المثال، كانت جميعها شيوعية بالمعنى الفضفاض للكلمة؛ إذ كانت سبل الإنتاج في جميعها ملكية مشتركة لجميع الأفراد، ولم يكن لأي من الأفراد أن يتحكم في عمل الآخرين لمنفعة خاصة. وقد كانت هذه الأنظمة العالمية كلها ديمقراطية من ناحية ما؛ إذ كانت الكلمة الأخيرة في التصديق على السياسات للرأي العالمي. بالرغم من ذلك، فلم تكن هناك آلية ديمقراطية في الكثير من الحالات، ولم تكن هناك قناة شرعية للتعبير عن الرأي العالمي. بدلا من ذلك، يمكن لبيروقراطية متخصصة للغاية، أو حتى لديكتاتور عالمي، أن يقوم بشئون تنظيم نشاط العالم بسلطة شرعية مطلقة، غير أن ذلك كان يجري تحت إشراف مستمر من الإرادة الشعبية التي يعبر عنها الراديو. لقد أصابنا الذهول حين اكتشفنا أنه في العوالم اليقظة، يمكن حتى للديكتاتورية العالمية أن تكون ديمقراطية في جوهرها. لقد شهدنا بذهول مواقف قد واجهت فيها الحكومة العالمية «المطلقة» أمرا ذا أهمية استثنائية ومشكل في السياسة، وقد وجهت نداءات عاجلة طالبت فيها بقرار ديمقراطي رسمي، فما تلقت إلا ردا واحدا من جميع المناطق وهو: «لا يمكننا الإدلاء بالمشورة. يجب أن تقرروا بما تمليه عليكم خبرتكم المهنية، وسوف نلتزم بقراركم.»
كان القانون في هذه العوالم يتأسس على نوع مميز للغاية من التطبيق لا يمكن أن نتخيل أنه ينجح على الأرض. لم نشهد أي محاول لإنفاذ القانون بالعنف قط، إلا في حالات المختلين الخطرين مثلما كان يحدث أحيانا من العودة إلى عصر سابق. وفي بعض العوالم، كانت هناك مجموعة «معقدة» من القوانين التي تنظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية للجماعات، وحتى الشئون الخاصة للأفراد. بدا لنا في بادئ الأمر أن الحرية قد اختفت من مثل هذه العوالم، لكننا اكتشفنا لاحقا أن ذلك النظام المعقد ككل ينظر إليه مثلما ننظر إلى قوانين لعبة ما أو مبادئ أحد الفنون أو ذلك العدد الضخم من العادات غير القانونية التي توجد في أي مجتمع قائم منذ فترة طويلة. في العموم، كان جميع الأفراد يلتزمون بالقانون إيمانا منهم بقيمته الاجتماعية بوصفه دليلا للسلوك. بالرغم من ذلك، إذا بدا للفرد في أي وقت من الأوقات أنه غير ملائم، فإنه يخالفه دون تردد. وقد يؤدي سلوكه إلى إهانة جيرانه أو إزعاجهم أو حتى يتسبب لهم في مشاكل خطيرة، وهم سيحتجون على ذلك بقوة على الأرجح. غير أن مسألة الإرغام لم تكن تطرأ على الإطلاق؛ فإذا فشل هؤلاء المعنيون بإقناع الشخص الذي تسبب سلوكه في أضرار اجتماعية، فيمكن أن تحكم في قضيته محكمة تحكيم تدعمها مكانة الحكومة العالمية. وإذا جاء القرار ضد المدعى عليه وأصر هو على الاستمرار في سلوكه غير القانوني، فلم يكن أحد يمنعه. غير أن سلطة الرقابة العامة والنبذ الاجتماعي كانت قوية للغاية، حتى إن تجاهل قرار المحكمة كان أمرا نادر الحدوث. لقد كان الشعور الرهيب بالانعزال يقع على المخالف للقانون موقع التعذيب بالنيران. إذا كان دافعه دنيئا في الأساس، فإنه سينهار عاجلا أم آجلا. أما إذا كانت القضية محض خطأ في التقدير أو إذا كان سلوكه قد نبع من حدس أرقى مما يستطيع أن يصل إليه رفاقه، فقد يثابر على مساره إلى أن ينتصر على الرأي العام.
وأنا لا أذكر هذه الغرائب الاجتماعية إلا لكي أقدم صورة عن الاختلاف الشاسع بين الروح في هذه العوالم الطوباوية والروح التي يألفها قراء هذا الكتاب. وقد يكون من السهل على القارئ أن يتخيل أننا قد صادفنا في تجوالنا تنوعا مدهشا من العادات والمؤسسات، غير أنني لا ينبغي أن أتوقف لوصف أي منها حتى وإن كان بارزا للغاية، بل سأكتفي بالوصف العام للأنشطة في العوالم اليقظة النموذجية كي أتمكن من المواصلة في سرد قصة المجرة بأكملها لا قصة عوالم محددة فيها فحسب. حين كان أحد العوالم اليقظة يجتاز مرحلة إعادة البناء الاجتماعي الجذري ويكتسب توازنا جديدا، فإنه يدخل في مرحلة من التقدم الاقتصادي والثقافي المطرد. كانت الآلية المتبعة، التي تستبد قبل ذلك بالعقل والجسد لكنها أصبحت لهما الآن خادما مخلصا، تؤمن لكل فرد حياة مكتملة ومتنوعة بدرجة تتجاوز كل ما قد عرفناه على الأرض بمقدار شاسع. كانت الاتصالات اللاسلكية والسفر بالصواريخ يمد كل عقل بمعرفة حميمية بجميع الأشخاص. وكانت القدرة الآلية التي تقلل الحاجة إلى العمال تقلل من حجم العمل المطلوب للحفاظ على الحضارة؛ فتختفي جميع الأعمال الشاقة التي تعوق العقل، ويكرس كل فرد من مواطني العالم أفضل طاقاته لخدمة المجتمع التي كانت جديرة بكائن ذكي ناضج. وقد كانت «خدمة المجتمع» تقبل التأويل على نحو واسع؛ فقد بدا أنها تسمح بمنح حيوات عديدة بأكملها للتعبير الذاتي المتهور النزق. وقد كان المجتمع يستطيع أن يتحمل قدرا كبيرا من مثل هذه الخسائر في سبيل ذلك العدد الضئيل من جواهر الأصالة الثمينة، والتي كانت تظهر فيه بين الحين والآخر.
كانت هذه المرحلة المزدهرة والمستقرة في العوالم اليقظة والتي صرنا نسميها بالمرحلة الطوباوية؛ هي الأسعد على الأرجح من بين جميع العصور في الحياة بأي عالم من العوالم. كان لا يزال هناك نوع أو آخر من المآسي، غير أنها لم تكن قط محنا عقيمة وواسعة الانتشار. وقد لاحظنا إضافة إلى ذلك أن المآسي عادة ما كانت ترى في العصور السابقة في سياق الألم الجسدي والموت المبكر، أما الآن فقد صارت ترى أيضا على أنها نتاج الصراع بين الشخصيات المختلفة والتوق وعدم التوافق المتبادل بينها؛ فأصبح النوع الأبسط من المصائب نادر الحدوث للغاية، وفي المقابل صار التواصل بين الأفراد في منتهى الحساسية والرقة. أما المآسي المادية الواسعة الانتشار مثل معاناة شعوب بأكملها وهلاكها كما نشهده في حالتي الحرب والطاعون، فلم تكن معروفة تقريبا إلا في تلك الحالات النادرة التي تتعرض فيها سلالة بأكملها إلى الهلاك بفعل حادثة فلكية، سواء أكان ذلك بسبب فقدان الغلاف الجوي أو انفجار كوكبها أو غرق نظامها الشمسي في مسار من الغاز أو الغبار.
ومن ثم، ففي هذه المرحلة السعيدة والتي كان يمكن أن تمتد لبضعة قرون أو حتى عدة آلاف من السنوات، كانت طاقة العالم بأكملها تكرس لتحقيق مجتمع عالمي مثالي ورفع قدرات السلالة بالسبل الثقافية وسبل تحسين النسل.
لن أذكر إلا القليل من المعلومات بشأن مشروع تحسين النسل في هذه العوالم؛ إذ إن القدر الكبير منها لن يكون مفهوما دون المعرفة الدقيقة للطبيعة الحيوية والكيميائية الحيوية لكل من هذه الجماعات السكانية غير البشرية. ويكفي القول إن المهمة الأولى لعلماء تحسين النسل قد تمثلت في منع استمرار الأمراض الوراثية والتشوهات الجسدية والعقلية. في الأيام التي سبقت التغير النفسي الكبير، غالبا ما كانت تتخلل جهودهم حتى المتواضعة منها حالات إساءة استخدام خطيرة. لقد كانت الحكومات تحاول اقتلاع بعض السمات التي كانت تمقتها، مثل الاستقلال العقلي. وكان المتحمسون الجاهلون يدافعون عن التدخل المتعسف المضلل في اختيار شركاء التزاوج. غير أن هذه العوالم قد أدركت تلك المخاطر وتجنبتها في العصور الأكثر استنارة. بالرغم من ذلك، فكثيرا ما كان مشروع تحسين النسل يؤدي إلى كوارث؛ فقد تعرضت إحدى السلالات الرائعة من الطيور الذكية إلى التراجع إلى المرتبة دون البشرية من خلال محاولة استئصال قابليتها للإصابة بأحد الأمراض العقلية الخبيثة. وقد تصادف أن العامل المسئول عن هذا المرض يرتبط ارتباطا جينيا غير مباشر بإمكانية النمو المعتاد للعقل في الجيل الخامس. أما مشروعات تحسين النسل الإيجابية، فلن أذكر منها إلا بعض التحسينات للنطاق الحسي ودقته لا سيما في البصر واللمس، واختراع حواس جديدة، وإجراء تحسينات على الذاكرة والذكاء العام وتمييز الوقت. صارت هذه السلالات قادرة على تمييز فترات أكثر دقة من الزمن، مع توسعة قبضتها الزمنية في الوقت ذاته من أجل استيعاب فترات زمنية أطول كثيرا مثل «الآن».
كانت العديد من العوالم قد كرست في البداية قدرا كبيرا من الطاقة للعمل في مشروع تحسين النسل هذا، لكنها قررت بعد ذلك أنه بالرغم مما قد يمنحه لها هذا المشروع من ثراء جدي في الخبرات، فإنه ينبغي تأجيله من أجل أمور أكثر أهمية. على سبيل المثال، مع زيادة التعقيد في الحياة، سرعان ما اتضحت الضرورة الشديدة لتأخير نضج العقل الفردي كي يتمكن من استيعاب خبراته المبكرة على نحو أكثر اكتمالا. لقد كان يقال: «قبل أن تبدأ الحياة، يجب أن توجد حياة من الطفولة.» وفي الوقت نفسه، بذلت جهود من أجل إطالة فترة النضوج بمقدار ثلاثة أو أربعة أضعاف طولها المعتاد، وكذلك تقليل الشيخوخة. وعاجلا أم آجلا كانت تظهر في جميع العوالم التي اكتسبت تلك القوة الكاملة في مجال تحسين النسل مناقشات عامة حادة بشأن الطول الأنسب لحياة الفرد. كان الجميع يتفقون على ضرورة إطالة الحياة، لكن كان فريق يرى بإطالتها بمقدار ثلاثة أضعاف أو أربعة فحسب، بينما أصر فريق آخر على أن أقل ما يمكن أن يوفر للسلالة ما كان يرغب فيه الجميع من عمق في الخبرة واستمرار لها هو مائة ضعف من فترة الحياة العادية. بل إن فريقا ثالثا كان ينادي بإلغاء الموت وإنتاج سلالة من الخالدين الذين لا يصيبهم الهرم. وقد قيل بأن ما يكمن في الجمود العقلي وتوقف التقدم بأكمله من خطر واضح يمكن تجنبه من خلال محاولة أن تكون الحالة الفيسيولوجية الثابتة لهؤلاء السكان الخالدين هي مرحلة النضوج المبكر للغاية.
وجدت العوالم المختلفة حلولا مختلفة لهذه المشكلة. لقد عينت بعض السلالات للفرد مدة لا تزيد عن ثلاثمائة عام من أعوامنا، وسمح غيرها له بخمسين ألف عام. وقد اختارت إحدى سلالات الشوكيات الخلود، لكنها قد زودت نفسها بآلية نفسية مبتكرة يتمكن من خلالها الفرد العتيق من إدراك حقيقة أنه بدأ في فقدان الاتصال مع الظروف المتغيرة؛ ومن ثم فسوف يشتهي القتل الرحيم ويمارسه، متنازلا عن مكانه بكل سرور إلى خليفة من نوع أحدث.
شهدنا أيضا العديد من الانتصارات الأخرى في تجارب تحسين النسل في مناطق مختلفة من العوالم. كان المستوى العام لذكاء الفرد قد ارتفع كثيرا بالطبع عما هو عليه لدى الإنسان الأرضي. بالرغم من ذلك، فذلك الذكاء الفائق والذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال مجتمع موحد من الناحية المادية، قد تطور بدرجة كبيرة على المستوى الأكثر عملية، وهو ذلك الخاص بالفردانية الواعية لعالم بأكمله. ولم يكن ذلك ممكنا بالطبع إلا بعد أن أصبح التماسك الاجتماعي للأفراد داخل المجتمع العالمي على درجة عالية من الترابط الوثيق الذي نشهده في اتحاد عناصر الجهاز العصبي. وقد استلزم أيضا تقدما عظيما للتخاطر. وهو أيضا لم يصبح ممكنا إلا بعد أن بلغت الغالبية العظمى من الأفراد نطاقا واسعا من المعرفة لا يوجد على الأرض. كانت القدرة الأخيرة والأكثر صعوبة التي اكتسبتها تلك العوالم في طورها الطوباوي، هي التحرر المادي من الزمان والمكان، تلك القدرة المحدودة على الملاحظة بصورة مباشرة وحتى المشاركة في أحداث تقع على مسافة مكانية وزمانية بعيدة من الملاحظ. لقد انتابتنا حيرة عظيمة على مدار رحلتنا الاستكشافية من حقيقة أننا، نحن الكائنات التي ينتمي معظمها إلى رتبة متواضعة للغاية، قد تمكنا من تحقيق هذه الحرية، والتي اكتشفنا الآن أن هذه العوالم فائقة التقدم قد واجهت صعوبة كبيرة في إتقانها. وقد عرفنا الآن تفسير ذلك. إن تلك المغامرة التي قمنا بها لم تكن لتتحقق بأيدينا دون مساعدة. لقد كنا نخضع على مدار رحلتنا الاستكشافية من دون قصد إلى تأثير نظام من العوالم كان قد حظي بهذه القدرة بعد عصور طويلة من البحث. ولم يكن من الممكن أن نتقدم خطوة واحدة دون ذلك الدعم المستمر الذي كان يقدمه لنا هؤلاء البارعون من أفراد السلالة التكافلية من السمكيات والعنكبوتيات، والتي أدت دورا أساسيا في تاريخ مجرتنا. لقد كان أفراد هذه السلالة هم من تحكموا في مغامرتنا بأكملها بحيث يتسنى لنا ذكر خبراتنا في عوالمنا الأصلية البدائية.
كان التحرر من الزمان والمكان، والقدرة على الاستكشاف الكوني والتأثير من خلال وسائل التواصل التخاطري، هي أقوى ما حققته العوالم الطوباوية المكتملة اليقظة من مكاسب وأخطرها في الوقت ذاته. بسبب استخدام هاتين القدرتين بغير حكمة، حلت الكارثة بالعديد من السلالات المجيدة ذات العقل الواحد. في بعض الأحيان، كان العقل العالمي المغامر يعجز عن الحفاظ على تعقله في مواجهة الشقاء واليأس اللذين صارا يغمرانه الآن تخاطريا من جميع بقاع المجرة. وفي بعض الأحيان، كانت الصعوبة وحدها في استيعاب الأمور الباطنية التي تكشف له تلقي به في انهيار عقلي لا شفاء منه. وفي بعض الأحيان، كان يهيم للغاية في مغامراته التخاطرية إلى أن يفقد الاتصال بحياته الخاصة على كوكبه الأصلي؛ ومن ثم يحرم المجتمع العالمي من عقله المرشد المشترك ويهوي إلى الفوضى والاضمحلال، ويموت العقل المستكشف نفسه. (2) نظرة على صراع العوالم
Shafi da ba'a sani ba