كانت تلك هي بداية شراكة مميزة للغاية. وسرعان ما أخذت العنكبوتيات في الركوب على ظهور السمكيات السريعة؛ ومن ثم فقد استطاعت الوصول إلى مساحة أكبر من أراضي الصيد.
ومع مرور العصور، صاغ النوعان أحدهما الآخر ليشكلا اتحادا يتسم بتكامل جيد. راح الكائن العنكبوتي الصغير، والذي لم يكن حجمه يزيد عن قرد الشمبانزي، يركب في تجويف مريح خلف جمجمة الكائن السمكي الكبير، مما يجعل ظهره انسيابيا مع الخطوط المحددة لجسم الكائن الأكبر. كانت مجسات الكائن السمكي متخصصة في التناول الواسع النطاق، أما مجسات الكائن العنكبوتي، فقد كانت للأعمال الدقيقة. تطورت بينهما أيضا علاقة من الاعتماد المتبادل الكيميائي الحيوي؛ فمن خلال غشاء في جراب الكائن السمكي، كانت تحدث عملية من تبادل الإفرازات الصماوية. وقد أتاحت هذه العملية للكائن العنكبوتي أن يصبح مائيا بالكامل؛ فقد كان يستطيع البقاء تحت الماء لأي فترة من الوقت ويصل إلى أي عمق ما دام يحافظ على التواصل المتتابع مع مضيفه. إضافة إلى ذلك، فقد حدثت أيضا وسيلة تكيفية ذهنية مذهلة بين النوعين؛ أصبحت السمكيات في المجمل تميل إلى الانطوائية، وصارت العنكبوتيات تميل إلى الانبساطية.
حتى فترة البلوغ، كان الصغار من النوعين كائنات فردية حرة، لكن مع تطور الجهاز التكافلي لديها، يبحث كل منها عن شريك من النوع المقابل. وكان الاتحاد الذي يتبع ذلك يستمر على مدى الحياة لا يقطعه سوى فترات التزاوج الجنسي القصيرة. كان التكافل نفسه يشكل نوعا من النشاط الجنسي الطباقي، غير أنه كان ذهنيا خالصا؛ إذ كان على كل فرد أن يبحث عن شريك من نوعه بالطبع من أجل إتمام عملية التزاوج والتكاثر. بالرغم من ذلك، فقد وجدنا أنه حتى الشراكة التكافلية كانت تتكون دائما من ذكر من نوع وأنثى من النوع الآخر، وقد كان الذكر، أيا كان نوعه، يتصرف بتفان أبوي تجاه صغار شريكته التكافلية.
ليس لدي من المجال ما يكفي لوصف التبادل الذهني الاستثنائي بين هذه الأزواج الغريبة. لا يمكنني سوى القول إنه بالرغم من اختلاف النوعين في التركيب الحسي والطباع، وبالرغم من حدوث بعض النزاعات المأساوية في حالات استثنائية، فقد كانت الشراكة العادية أكثر حميمية من الزواج البشري وأكثر تمديدا للفرد من أي صداقة بين اثنين ينتميان إلى عرقين بشريين مختلفين. في مراحل معينة من نمو الحضارة، حاولت بعض العقول الخبيثة أن تثير نزاعا واسع الانتشار بين النوعين ولاقت نجاحا مؤقتا، غير أن المشاكل نادرا ما كانت تتعمق لكي تصل إلى ما وصلت إليه «حرب الجنسين» لدينا؛ فقد كان كل نوع ضروريا للغاية للنوع الآخر. لقد ساهم كل منهما في ثقافة عالمهما بقدر متساو، وإن لم يكن متساويا في جميع الأوقات. في العمل الإبداعي من جميع الأنواع، كان أحد الشريكين يقدم القدر الأكبر من الابتكار، بينما يقدم الآخر القدر الأكبر من النقد والرقابة. ونادرا ما يكون أحد الشريكين سلبيا تماما في أي عمل من الأعمال. الكتب، أو المخطوطات على وجه الدقة، والتي كانت تصنع من لب الأعشاب البحرية، تحمل توقيع الأزواج في جميع الأحوال تقريبا. وبصفة عامة، كان الشركاء من العنكبوتيات يتفوقون في المهارات اليدوية والعلوم التجريبية والفنون البلاستيكية والتنظيم الاجتماعي العملي. أما الشركاء من السمكيات، فقد كانوا يتفوقون في الأعمال النظرية والفنون الأدبية وموسيقى ذلك العالم تحت المائي والتي كانت متطورة على نحو مدهش وفي النوع الأكثر إلغازا من الدين. بالرغم من ذلك، فلا ينبغي الأخذ بصحة هذا التعميم على نحو صارم.
بدا أن هذه العلاقة التكافلية قد منحت السلالة المزدوجة درجة من المرونة الذهنية هي أعلى كثيرا مما كنا نتمتع به، وقابلية أسرع للرفقة. لقد مرت بمرحلة الحروب بين القبائل بسرعة، والتي كانت الأسراب المتجولة من الأزواج التكافليين خلالها يداهم كل منها الآخر كجماعات من فرسان العالم تحت المائي؛ إذ كانت العنكبوتيات، التي تركب على ظهور أزواجها من السمكيات، تهاجم العدو بالسيوف والرماح المصنوعة من العظام، بينما تصارع شريكاتها بالمجسات القوية. غير أن مرحلة الحرب بين القبائل كانت وجيزة للغاية. وحين تحقق نمطا مستقرا من الحياة مع الزراعة تحت المائية والمدن المبنية من الشعاب المرجانية، كان الصراع بين المدن هو الاستثناء لا القاعدة. وبمساعدة قدرتها الكبيرة على التنقل وسهولة التواصل بلا شك، سرعان ما تمكنت السلالة المزدوجة من بناء اتحاد عالمي غير مسلح من المدن. ومما أدهشنا أيضا أننا قد عرفنا أنه في أوج الحضارة السابقة على الحضارة الآلية في هذا الكوكب، حين كان الانقسام إلى أسياد وعبيد اقتصاديين سيصبح خطيرا في عوالمنا، كانت الروح التعاونية للمدينة تتغلب على جميع المساعي الفردية. وسرعان ما أصبح هذا العالم نسيجا متكافلا ومستقلا من البلديات المحلية.
في ذلك الوقت، بدا أن الصراع الاجتماعي قد اختفى إلى الأبد، غير أن الأزمة الأكثر خطورة على السلالة لم تكن قد أتت بعد.
لم تقدم البيئة تحت المائية فرصا كبيرة للسلالة التكافلية للتقدم؛ فجميع مصادر الثروة قد استثمرت ونظمت. وقد حافظوا أيضا على عدد السكان عند الحد المثالي الذي يضمن الرخاء في العالم. وكان النظام الاجتماعي مرضيا لجميع الطبقات، وبدا ثابتا على الأرجح. وكانت الحياة الفردية مكتملة ومتنوعة. والثقافة التي تأسست على تقليد عظيم، قد أصبحت الآن معنية بالكامل بالاستكشاف المفصل لمجالات التفكير العظيمة التي مهد الأسلاف المبجلون السبيل لها قبل عصور طويلة، وقيل إن ذلك كان بإلهام مباشر من الإله التكافلي. كان أصدقاؤنا في هذا العالم تحت المائي، وهم مضيفونا الذهنيون، ينظرون من عصرهم المضطرب إلى هذا العهد بحنين في بعض الأحيان، وبرعب في معظمها؛ إذ بدا ذلك لهم عند تأمل الماضي أنه يوضح العلامات الخافتة الأولى على تدهور جذري. لقد نجحت السلالة في التكيف مع بيئتها الثابتة على نحو مثالي؛ حتى إن الذكاء والفطنة ما عادا ثمينين وكان من الممكن أن يبدآ في الخفوت سريعا. بالرغم من ذلك، فقد بدا في الوقت الحاضر أن القدر قد قضى بشيء آخر.
في العالم تحت المائي، كان احتمال اقتناء القوة الميكانيكية بعيدا. بالرغم من ذلك، فسوف يذكر أن السلالة العنكبوتية كانت تستطيع العيش خارج الماء. ففي العصور السابقة على التكافل، كان أسلافهم يخرجون بين الحين والآخر إلى الجزر من أجل الغزل والأبوة وطلب الفرائس. ومنذ تلك العصور، تضاءلت قدرتهم على تنفس الهواء لكنها لم تختف تماما؛ فقد ظل أفراد السلالة العنكبوتية يخرجون من أجل التزاوج الجنسي، ومن أجل بعض التمرينات الرياضية الشعائرية. وفي ذلك السياق الأخير، توصلوا إلى الاكتشاف العظيم الذي غير مسار التاريخ؛ ففي إحدى المسابقات، أدى احتكاك بعض الأسلحة الحجرية التي اصطدمت بعضها ببعض إلى إصدار شرر ونيران بين الحشائش التي سفعتها الشمس.
وفي تتابع سريع للغاية، توصلوا إلى صهر المعادن، فالمحرك البخاري، فالتيار الكهربي. حصلوا على الطاقة في البداية من خلال احتراق نوع من الخث المتكون على السواحل من خلال النباتات البحرية المكتظة، ثم حصلوا عليها من الرياح العنيفة والدائمة بعد ذلك، ثم من المصائد الشمسية الكيميائية للضوء، والتي كانت تمتص الإشعاع الشمسي الغزير. وقد كانت هذه الاختراعات من صنع السلالة العنكبوتية بالطبع. وبالرغم من أن السلالة السمكية قد ظلت تؤدي دورا عظيما في منهجة المعرفة، فقد حرمت من المهام العملية العظيمة في العلوم التجريبية والاختراعات الآلية التي كانت تجري فوق البحار. وبعد وقت قصير، كانت السلالة العنكبوتية توصل كابلات كهربية من محطات الطاقة الموجودة على الجزر إلى المدن الموجودة تحت المياه. استطاعت السلالة السمكية أن تشارك في هذا العمل على الأقل، غير أن عملها كان ثانويا بالضرورة؛ إذ لم يكن شركاؤهم من السلالة العنكبوتية يتفوقون عليهم في الهندسة الكهربية فحسب، بل في قدراتهم العملية الأصلية أيضا.
على مدار قرنين من الزمان أو أكثر، استمر النوعان في التعاون، وإن حمل ذلك التعاون توترا متزايدا. فالإضاءة الصناعية والنقل الآلي للسلع على أرض المحيط، والتصنيع الواسع النطاق، كل ذلك قد أنتج زيادة هائلة في مرافق الحياة في المدن تحت المائية. واكتظت الجزر بالمباني المخصصة للعلم والصناعة، وتقدمت علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء تقدما كبيرا. وبدأ علماء الفلك في وضع خريطة للمجرة، واكتشفوا كوكبا مجاورا يوفر فرصا رائعة لاستقرار السلالة العنكبوتية فيه، والتي كانت تأمل في أن تتمكن من التكيف مع المناخ الغريب دون صعوبة كبيرة، وأن تنفصل عن شركائها التكافليين. أدت المحاولات الأولى من الرحلات الصاروخية إلى مزيج من المآسي والنجاحات. وطالبت إدارة الأنشطة الخارجة عن نطاق البحار بزيادة كبيرة للغاية في عدد أفراد السلالة العنكبوتية.
Shafi da ba'a sani ba