من العوالم «الشوكية» الأخرى الموجودة في مجرتنا، عالم كان يبشر بمستقبل واعد بأكثر من المستوى المتوسط، والذي سطع نجمه مبكرا غير أن قد تحطم بفعل اصطدام فلكي؛ فقد صادف نظامه الشمسي بأكمله قطعة سديم كثيفة، وانصهرت أسطح جميع الكواكب الموجودة فيه. وفي العديد من العوالم الأخرى التي تنتمي إلى هذا النوع، رأينا النضال الساعي إلى تحقيق درجة أكبر من اليقظة الذهنية يفشل فشلا ذريعا. فقد أفنت طوائف القطيع الانتقامية المؤمنة بالخرافات أفضل العقول في السلالة وخدرت البقية بعادات ومبادئ ذات أثر مدمر للغاية حتى إن المصادر الحيوية للرقة والقدرة على التكيف والتي تقوم عليها جميع مظاهر التقدم الذهني قد دمرت إلى الأبد.
آلاف عديدة من العوالم الأخرى الشبيهة بعوالم البشر، إلى جانب تلك العوالم «الشوكية» قد انتهت قبل الأوان أيضا. لقد سقط أحدها في كارثة غريبة وربما يستحق إشارة موجزة. هنا في هذا العالم وجدنا سلالة شديدة الشبه بالبشر، وحين وصلت حضارته إلى المرحلة والطابع الشديدي الشبه بما وصلت إليه حضارتنا، وهي تلك المرحلة التي لا تستقي فيها المثل التي تتبعها الجماهير أي إرشاد من التقاليد الراسخة ، والتي تسخر فيها العلوم الطبيعية للصناعة الفردانية، اكتشف فيها علماء الأحياء تقنية التلقيح الاصطناعي. الآن في هذا الوقت هناك، انتشر هوس واسع النطاق باللاعقلانية والغريزة والقسوة، و«الإنسان الشرس» البدائي «الإلهي». وقد كانت تلك الشخصية تحظى بالإعجاب الشديد خاصة حين جمعت بين القسوة وقوة التحكم في الجماهير. خضعت العديد من البلدان لطغاة من هذا النوع، وحتى في البلاد التي توصف بالديمقراطية، كان هذا النوع هو المفضل للذوق الشعبي.
وفي هذين النوعين من البلاد، كانت النساء يشتهين «الرجال الشرسين» عشاقا لهن وآباء لأطفالهن. ونظرا لأن النساء في البلاد «الديمقراطية» قد حظين بدرجة كبيرة من الاستقلال الاقتصادي، فقد أدى إقبالهن على الإخصاب من «الرجال الشرسين» إلى تحويل الأمر برمته إلى عمل تجاري؛ فقد كانت الوكالات توظف الذكور الذين ينتمون إلى النوع المفضل وترتبهم في خمس درجات من الجاذبية. وبتكلفة متوسطة تحدد وفقا لدرجة الأب، تتمكن أي امرأة من الحصول على الإخصاب من «رجل شرس». لقد كانت الدرجة الخامسة رخيصة للغاية حتى إن أشد النساء فقرا فقط هن اللاتي كن يحرمن منها. كانت تكلفة الجماع الفعلي حتى مع ذكر من أدنى الفئات أكبر كثيرا بالطبع؛ إذ إن العرض كان محدودا بمقتضى الحال.
في البلاد غير الديمقراطية اتخذت الأمور منحنى مختلفا. في كل من هذه البلاد، ظهر طاغية من النوع العصري وجمع حول شخصه افتتان الشعب بأكمله. كان البطل المرسل من عند الإله، بل كان هو نفسه ذا أصل إلهي. كل امرأة كانت تتوق بشغف لأن تناله إن لم يكن حبيبا لها، فأبا لأطفالها على الأقل. في بعض البلاد، لم يكن يسمح بالتلقيح الاصطناعي من «السيد» إلا كتمييز فائق للنساء من النوع المثالي. أما النساء العاديات من جميع الطبقات، فقد كان يحق لهن التلقيح من المزرعة الأرستقراطية المعتمدة ل «الرجال الشرسين». وفي بلاد أخرى، كان «السيد» نفسه يتنازل ويصبح أبا للجيل المستقبلي بأكمله.
تسببت هذه العادة الغريبة المتمثلة في الأبوة الاصطناعية من «الرجال الشرسين» والتي كانت تنفذ دون توقف في جميع البلاد على مدار جيل وعلى نحو أقل انتظاما على مدار فترة أطول كثيرا، في تغيير تركيب السلالة الشبيهة بالبشر بأكملها. فمن أجل الحفاظ على القدرة التكيفية في بيئة دائمة التغير، لا بد للسلالة أن تحافظ على وجود تلك المسحة الخفيفة لكن المؤثرة من سمتي الإحساس والأصالة فيها، مهما بلغت التكلفة. وفي هذا العالم، أصبح هذا العامل الثمين الآن مخففا للغاية حتى إنه لم يعد مؤثرا؛ ومن ثم، فقد كانت مشكلات العالم المعقدة للغاية يجري التعامل معها على نحو سيئ على الدوام؛ لذا تدهورت الحضارة. ودخلت السلالة في مرحلة يمكن أن نسميها بالهمجية الزائفة التحضر، والتي كانت في جوهرها أدنى من الحضارة البشرية وغير قادرة على التغيير. استمر هذا الوضع على مدار ملايين السنوات، إلى أن انتهت السلالة أخيرا بفعل حيوان صغير شبيه بالفأر لم تستطع أن تصمم أي وسيلة للحماية منه.
لن أتوقف كي أذكر المصائر الغريبة للكثير من العوالم الأخرى الشبيهة بعوالم البشر. وسوف أكتفي بذكر أن برعم التعافي قد نجا على نحو متزعزع في بعض هذه العوالم بالرغم من تدمير الحضارة إثر عدد متتابع من الحروب الوحشية. وفي أحدها، بدا أن التوازن المؤلم بين القديم والجديد يطول إلى الأبد. وفي عالم آخر، حيث كان العلم قد وصل إلى مرحلة متقدمة للغاية لا تتناسب مع أمان سلالة غير ناضج، فجر السكان كوكبهم وسلالتهم دون قصد. وفي العديد من هذه العوالم، اختصرت العملية الجدلية للتاريخ بفعل غزو سكان كوكب آخر للكوكب واحتلالهم له. هذه المصائب وغيرها مما سيلي ذكره في الوقت المناسب، قد بددت الشعوب التي تسكن عوالم المجرة.
واختصارا، سوف أذكر أنه في واحد أو اثنين من هذه العوالم الشبه البشرية، قد ظهرت خلال الأزمة العالمية المعهودة وبصورة طبيعية، سلالة بيولوجية جديدة وفائقة والتي استولت على السلطة بالذكاء والتعاطف فحسب، وتولت مسئولية الكوكب، وأقنعت السكان الأصليين بالتوقف عن التكاثر وملأت هي الكوكب بأكمله بنوعها الراقي، وشكلت سلالة بشرية تتمتع بالعقلية المشتركة، وتقدمت سريعا إلى خارج حدود استكشافنا وفهمنا المثقل بالأعباء. وقبل أن يفشل تواصلنا معها، أدهشنا ما لاحظناه، وهو أنه حينما خلفت السلالة الجديدة السلالة القديمة واستولت على النشاط السياسي والاقتصادي الشاسع في ذلك العالم، أدركت على نحو يبعث على الضحك ما يكمن في هذا العيش العشوائي المحموم من عبث. وأمام أعيننا، راح النظام القديم يتخلى عن مكانه لنظام جديد أبسط، يعيش فيه مجموعة سكانية «أرستقراطية» صغيرة تخدمها الآلات؛ مجموعة قد تحررت من الكدح والرفاهية على حد سواء، وتبغي استكشاف الكون والعقل.
وقد حدث هذا التغير إلى حياة أبسط في العديد من العوالم الأخرى، ولم يكن ذلك بفعل تدخل من نوع جديد، بل بانتصار العقلية الجديدة في معركتها ضد العقلية القديمة فحسب. (3) النوتيات
مع تقدم استكشافنا وجمعنا للمزيد والمزيد من المساعدين من العوالم العديدة التي دخلناها، ازدادت رؤيتنا الخيالية للأشكال الغريبة من الطبيعة. وبالرغم من أن بحثنا كان لا يزال منحصرا في السلالات التي تعاني من الأزمة الروحانية المألوفة لنا، فعلى نحو تدريجي، اكتسبنا القدرة على التواصل مع كائنات عقولها ذات نسيج يختلف كثيرا عن نسيج العقل البشري. ولا بد لي الآن أن أحاول تقديم وصف للأنواع الأساسية لهذه العوالم الذكية «غير البشرية». في بعض الحالات، كان الاختلاف عن السلالات البشرية صارخا من الناحية الجسدية، وملحوظا للغاية من الناحية الذهنية، غير أنه لم يكن كبيرا للغاية كما في الحالات التي سأصفها في الفصل التالي.
عادة ما تكون الهيئة الجسدية والذهنية للكائنات الواعية تعبيرا عن طبيعة الكوكب التي تعيش عليه؛ ففي بعض الكواكب المائية الكبيرة على سبيل المثال، وجدنا أن الحضارة قد قامت على يد كائنات بحرية. في هذه العوالم الضخمة، لم يكن لأي كائن من سكان اليابسة في ضخامة الإنسان أن يحيا ويزدهر؛ إذ كانت الجاذبية ستثبتهم إلى الأرض. أما في المياه، فلم يكن هناك مثل ذلك القيد على الضخامة. وقد كانت إحدى السمات المميزة لهذه العوالم الكبيرة هي غياب الارتفاعات الكبيرة والانخفاضات من سطحها إلا فيما ندر بسبب التأثير الساحق للجاذبية؛ ومن ثم فقد كانت تغطيها في معظم الأحوال محيطات سطحية تقطعها بين الحين والآخر أرخبيلات من جزر صغيرة منخفضة.
Shafi da ba'a sani ba