قد تكون روايتي لذلك الجزء من مغامرتي والذي قادني إلى التواصل مع عوالم من النوع البشري إلى حد ما دقيقة نسبيا، أما ذلك الجزء الذي يتناول الأجسام السماوية الأكثر غرابة، فلا بد أنه بعيد عن الحقيقة. إنني ربما وصفت الأرض الأخرى بدرجة من الزيف تزيد قليلا عما يقترفه المؤرخون في روايتهم للعصور السابقة للجنس البشري. أما العوالم الأقل شبها بعوالم البشر، وأنواع الكائنات العديدة الرائعة التي صادفناها في أعلى المجرة وأسفلها وأرجاء الكون بأكمله وحتى فيما وراءه، فسوف أضطر إلى أن أذكر من الأمور ما سيعد زيفا مطلقا إذا أخذت بالمعنى الحرفي. ولا يسعني إلا أن أرجو أن يكون لديهم ذلك النوع من الحقيقة والذي نجده نحن أحيانا في الأساطير.
لما كنا قد تحررنا الآن من المكان، فقد رحنا نتجول بالقدر نفسه من السلاسة في أرجاء المسارات القريبة في هذه المجرة والبعيدة أيضا. أما عن كوننا لم نتواصل مع عقول في مجرات أخرى حتى وقت متأخر، فلم يكن ذلك بسبب أي قيود قد فرضها الفضاء، وإنما على ما يبدو بسبب محدودية تفكيرنا المتأصلة والمحدودية الغريبة لاهتمامنا، وهو ما جعلنا لفترة طويلة معادين لتأثير العوالم التي تقع وراء حدود درب التبانة. وسوف أذكر المزيد عن هذا القيد الغريب حين أصف كيف تمكنا في النهاية من التغلب عليه.
وإضافة إلى التحرر من المكان، تحررنا أيضا من الزمان. إن بعض العوالم التي استكشفناها في هذه المرحلة المبكرة من مغامرتنا، قد توقفت عن الوجود قبل أن يتشكل كوكبي الأصلي بفترة طويلة، وبعضها كان معاصرا له، والبعض الآخر لم يكن قد ولد إلى أن بلغت مجرتنا شيخوختها، حين كانت الأرض قد دمرت وانطفأ عدد كبير من النجوم بالفعل.
بينما رحنا نبحث في أرجاء الزمان والمكان، مكتشفين المزيد والمزيد من الحبات النادرة التي تدعى بالكواكب، وبينما رحنا نشاهد السلالة بعد السلالة تناضل للوصول إلى درجة معينة من الوعي الصافي لتذعن بعدها إلى حادثة خارجية ما، أو عيب في طبيعتها في أكثر الأحوال، طغى علينا الشعور بعبثية الكون والعشوائية فيه. بضعة عوالم قد بلغت مثل هذه الدرجة من اليقظة بالفعل حتى إنها قد تجاوزت نطاق معرفتنا. غير أن العديد من هذه العوالم الأكثر براعة قد وجدت في الحقبة المبكرة من حياة المجرات، وما من شيء كان يمكن أن نكتشفه فيما بعد في المراحل المتأخرة للكون قد أشار إلى أن أي مجرات، فضلا عن الكون بأكمله، قد بلغت من يقظة الروح ما بلغته تلك العوالم البارعة المبكرة، أو يمكن حتى أن تبلغها في نهاية المطاف. لم نتمكن من اكتشاف الذروة المجيدة، لكن الهزلية المبكية، والتي لم يكن هذا الانتشار الكبير للعوالم سوى مقدمة لها، إلا في مرحلة متأخرة للغاية من بحثنا.
في المرحلة الأولى من مغامرتنا، حين، مثلما قلت، كانت قدراتنا على الاستكشاف التخاطري غير مكتملة بعد، اتضح أن جميع العوالم التي دخلناها كانت تعاني من تبعات الأزمة الروحانية نفسها التي عرفناها جيدا في كواكبنا الأصلية. وقد صرت أرى أن هذه الأزمة تتمثل في جانبين. لقد كانت جزءا من نضال الروح كي تصير قادرة على الاتحاد الحقيقي على نطاق عالمي، وهي في الوقت نفسه مرحلة في المهمة التي تطول على مدار العصور والتي تتمثل في امتلاك الموقف الروحاني الصحيح، والملائم في نهاية المطاف، تجاه الكون.
في كل عالم من هذه العوالم التي لا تزال تنمو في «الشرنقة»، كان الملايين من الأشخاص ينبثقون إلى الوجود واحدا تلو الآخر، لينجرفوا متلمسين الطريق لبضع لحظات من الزمن الكوني قبل أن يتلاشوا. وقد كان معظمهم قادرا، لدرجة متواضعة على الأقل، على النوع الحميمي من الاتحاد، وهو العاطفة الشخصية، غير أن جميعهم تقريبا كانوا يرون الغريب شيئا باعثا على الخوف والكراهية. وحتى حبهم الحميمي كان متقطعا ويفتقر إلى الرؤية. وفي جميع الأحوال تقريبا، لم يكونوا يبتغون لأنفسهم سوى الراحة من التعب أو الضجر، الخوف أو الجوع. ومثلما هي الحال مع سلالتي، فهم لا يستفيقون تماما من ذلك السبات البدائي الذي تشهده الكائنات الأدنى من الإنسان. القليل منهم فقط في مناطق متفرقة هم الذين كانوا يختبرون بين الحين والآخر لحظات من اليقظة الحقيقية التي تعزيهم أو تحركهم أو تعذبهم. وعدد أقل من هؤلاء هم الذين كانوا يحظون برؤية واضحة ومستمرة، حتى وإن كانت لجانب جزئي من الحقيقة، وقد كانوا في الغالبية العظمى من الأحيان يعدون أن أنصاف الحقائق التي توصلوا إليها هي حقائق مطلقة. ومع نشر حقائقهم الجزئية الصغيرة، يربكون رفاقهم الفانين ويضللونهم بقدر ما يساعدونهم.
كل روح فردية، في هذه العوالم جميعها تقريبا، قد بلغت في مرحلة ما من حياتها ذروة متواضعة من الوعي والاستقامة الروحانية لتسقط مرة أخرى بسرعة أو ببطء إلى اللاشيء أو العدم. أو هكذا بدا الأمر. ومثلما هي الحال في عالمي وفي هذه العوالم الأخرى كلها، كانت الحياة تقضى في السعي وراء غايات مبهمة تظل دوما على مقربة من التحقيق. وقد كانت هناك مساحات شاسعة من الضجر والإحباط، مع لحظات نادرة من البهجة هنا وهناك. كانت هناك نشوة الانتصارات الشخصية، والاتصال والحب المتبادلين، والرؤى الفكرية، والإبداع الجمالي. وكانت هناك أيضا النشوة الدينية، غير أن هذا النوع من النشوة، كان كغيره من الأشياء في هذه العوالم، قد أربكته التأويلات الخاطئة. وكانت هناك أيضا تلك النشوة المجنونة النابعة من الكراهية والقسوة التي توجه ضد الأفراد والمجموعات. في بعض الأحيان خلال المرحلة المبكرة من مغامرتنا، كنا نشعر بالتعاسة الشديدة بسبب ضخامة القسوة والمعاناة في أرجاء العوالم حتى إن شجاعتنا قد خارت واضطربت قدراتنا التخاطرية وانزلقنا نحو الجنون.
بالرغم من ذلك، فلم تكن غالبية هذه العوالم بأسوأ من عالمنا؛ فهي كعالمنا قد بلغت تلك المرحلة التي قد تعاني فيها الروح، التي استفاقت على نحو جزئي من البهيمية لكنها ما تزال بعيدة عن النضج، بيأس شديد وتتصرف بأقصى درجات القسوة. وكعالمنا أيضا، كانت هذه العوالم المأساوية بالرغم من حيويتها، والتي زرناها في مغامراتنا الأولى، تعاني من عدم قدرة العقول التي تسكنها على مجاراة الظروف المتغيرة. لقد كانوا متأخرين على الدوام يطبقون المفاهيم والمثل القديمة على الأوضاع الحديثة بما لا يتلاءم معها. ومثلنا أيضا، كانوا يعانون دوما من حاجتهم الملحة إلى درجة من الاتحاد تستلزمها أحوالهم، لكن أرواحهم الفقيرة الجبانة الأنانية لم تكن لتتمكن من نيلها بأي حال. العلاقات بين الأزواج والدوائر الصغيرة من الرفاق فقط هي التي كانوا يتمكنون فيها من تعزيز الاتحاد الحقيقي والرؤى المشتركة والاحترام والحب. أما في قبائلهم وأممهم، فقد كانوا يتوهمون الاتحاد المزيف للقطيع بكل سهولة، وينبحون معا بالخوف والكراهية.
كانت درجة التشابه بيننا وبين هذه السلالات تتجلى على نحو واضح في سمة معينة على وجه التحديد، وهو أن كلا منهم قد نشأ عبر خليط غريب من العنف واللين. إن دعاة العنف ودعاة اللين يهيمنون عليهم في هذا الاتجاه وذاك. في وقت زيارتنا، كان العديد من هذه العوالم تعاني من أزمة بشأن هذا الصراع. في الماضي القريب، كان هناك توجه إلى اللين والتسامح والحرية، غير أن السياسة قد فشلت لافتقارها إلى وجود غاية صادقة، إلى اقتناع بالروح، إلى وجود خبرة احترام حقيقية للطابع الفردي. ازدهرت جميع أنواع الأنانية وحب الانتقام سرا في البداية، ثم ازدهرت علنا بعد ذلك على أنها فردانية صارخة. وفي نهاية الأمر، تحولت الشعوب في غضب عن الفردانية وانغمست في اتباع القطيع. وفي الوقت نفسه، ومقتا لفشل اللين، بدأت الشعوب في تمجيد العنف وقسوة البطل المرسل من عند الإله والقبيلة المسلحة علنا. وهؤلاء الذين كانوا يظنون أنهم يؤمنون باللين صنعوا أسلحة لقبائلهم لمواجهة تلك القبائل الأجنبية التي كانوا يتهمونها بالإيمان بالعنف. وقد هدد أسلوب العنف فائق التطور بتدمير الحضارة، وعاما بعد عام، فقد اللين أي دعم. قلة فقط هم الذين استطاعوا إدراك أنه لا بد من إنقاذ عالمهم، لا بالعنف على المدى القصير، بل باللين على المدى الطويل. وعدد أقل من ذلك هم الذين استطاعوا إدراك أنه من أجل أن يكون اللين فعالا، فلا بد أن يكون دينا، وأنه لا يمكن للسلام الدائم أن يحل أبدا حتى يستفيق الكثيرون إلى حالة صفاء الوعي والتي لم يكن قد تمكن من الوصول إليها في كل هذه العوالم حتى الآن إلا قلة قليلة.
إذا أردت أن أصف جميع العوالم التي استكشفناها على نحو مفصل، فسوف يتحول هذا الكتاب إلى عالم من المكتبات. ولهذا لا يمكنني أن أخصص سوى بضع صفحات لأنواع العوالم الكثيرة التي مررنا بها في تلك المرحلة المبكرة من مغامرتنا في جميع أرجاء مجرتنا، وعلى مدار عمرها بأكمله. ومن الجلي أن بعض هذه الأنواع لم يظهر سوى عدد قليل جدا من المرات، وبعضها الآخر ظهر عشرات أو مئات المرات.
Shafi da ba'a sani ba