مايو 1994م
على طاولتهما الأثيرة بالشرفة الخارجية لنادي المهندسين على كورنيش سابا باشا جلسا صامتين، يرتشفان كوبين من أسوأ نسكافيه يمكن تذوقه في الإسكندرية، بينما يحدقان في البحر الممتد الذي بدأ في الهدوء بعد هياج الشتاء الطويل. شاردا كان ياسين وصامتا، ولم يكن ذلك بغريب عليه أو بجديد، لكن شروده اليوم بدا كما لو كان نتيجة الاستغراق في التفكير في أمر جلل. سألته فريدة في اهتمام: ماذا بك؟
استدار ليواجهها وهو يبعد بيده كوب النسكافيه دون أن يكمل منه رشفتين، اكتسى وجهه بعلامات جدية واضحة وأجاب كأنما يزيح من فوق صدره حجرا: لقد تلقيت عرض عمل.
تهلل وجهها وأجابت في حماس: عظيم! هذا خبر ممتاز! أهو عرض جيد؟ هل سيدفعون راتبا يستحق أن تترك من أجله وظيفتك الحالية؟
أجاب بنفس النبرة وهو ينظر في عينيها ليتبين وقع كلماته عليها: من ناحية الراتب نعم، سيدفعون أكثر بكثير، سيدفعون ما يزيد عن ستة أضعاف ما أحصل عليه هنا، ستة أضعاف ما أحصل عليه في مصر.
تبدلت ملامحها بالكامل من الحماس البالغ في بداية الجملة إلى الصدمة والوجوم في مقطعها الأخير، فهمت ما يعنيه بتلك الجملة الأخيرة بسرعة فأجابت في هدوء: أين هو هذا العمل؟ في أي بلد؟
أجاب بشكل آلي كأنما كان ينتظر هذا السؤال: في جدة، السعودية.
ارتفع صوتها قليلا وهي تجيبه في حدة جعلت رءوس بعض الجالسين في المكان الهادئ تستدير إليهما في فضول: لكن هذا يغير خططنا بالكامل يا ياسين ! السفر إلى خارج البلاد لم يكن أبدا في خطتنا، لم يكن هذا ما اتفقن...
قاطعها قائلا بصوت منخفض أكثر من اللازم لينبهها بشكل غير مباشر إلى ارتفاع نبرة صوتها: لم يكن هذا ما اتفقنا عليه نعم أعرف، لكن ما الذي بيدي لأفعله؟ لم نتفق أيضا على أن أتقاضى تلك الملاليم الزهيدة أليس كذلك؟ لم نتفق على أن يموت أبي وأصبح بلا سند! لدي قسط الشقة الشهري الذي يجب أن أدفعه بانتظام، تعرفين أن هذا القسط يعادل ثلثي راتبي! ما الذي يمك...
خفضت صوتها هذه المرة مقاطعة في نبرة تفهم وتعاطف: يمكننا تدبر أمورنا هنا يا ياسين، يمكننا دائما أن نجد حلا ما؛ أنت تعرف أنني أعد الآن مشروع تخرجي، وسوف أتخرج بعد ثلاثة أشهر، يمكنني الحصول على عمل، لدي أكثر من عرض من أساتذتي في الكلية للعمل في مكتب أحدهم، ويمكنني البدء في العمل قبل ظهور النتيجة، يمكننا مساعدة بعضنا البعض فهي حياتنا ومستقبلنا نحن على أي حال، وسنصنعهما سويا كما اتفقنا، علينا أن نقاوم قليلا يا ياسين، لا يجب أن نهرب عند أول عقبة.
Shafi da ba'a sani ba