CHECK [السماع لأبي عبدالرحمن السلمي]

السماع لأبي عبد الرحمن السلمي

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي رحمة الله عليه: بلغني أكرمكم الله بمرضاته، أن بعض أهل العلم بناحيتكم أنكر على أهل التحقيق في السماع وقال: إن أحسن ما فيه أن يعده الإنسان لهوا (1) ثم يتوب عنه، ولو راجع هذا القائل (2) عقله ونظر في سنن النبي وآثار الصحابة والأئمة بعدهم وسير الصالحين من الأئمة لعلم (3) خطأ ما أطلقه في هذا القول،

إذ السماع على ضروب، والمستمعون على مراتب،

فسماع العوام على جد (4) اللهو طرب ومتابعة هوى النفس وهو مذموم، وهو الذي تجب عنه التوبة، وسماع المريدين والتابعين والزاهدين موعظة واتعاظ بما يستمعون من السماع، وزجر وتنبيه وتصفية من الكدورات التي تعيت عليهم من بقايا المخالفات، فحملهم السماع على الخوف والرجاء والإشفاق والزهد والصبر والرضا، وليس لهم أن يذموا السماع وإنما لهم أن يسمعوا في الوقت إذا رأوا في قلوبهم

قسوة ومن أنفسهم فترة، فترق بذلك قلوبهم وتنشط به إلى الطاعة نفوسهم.

وسماع أهل الحقائق والمعارف هو استرواح لهم إذا اشتد عليهم أحوالهم وغلب عليهم أوقاتهم، وخافوا العجز عن حمل ما يرد عليهم استروحوا (5) إلى حال السماع فربما خفف عنهم ما هم فيه، وربما زادهم وجدا ووجودا، فإذا خفف عنهم استروحوا وسكنوا، وإذا زادهم وجدا صاحوا وانزعجوا، ولا يعرف ذلك إلا أهلها

ومن بلغه الله مبلغهم وأتاح له مقامهم ومرتبتهم، لأن الله تعالى يقول: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (6) وقال عز وجل: (قد علم كل أناس مشربهم) (7).

ولكل واحد من هذه المقامات شرح وبسط ذكرناه مشبعا في (مسألة السماع) وسنذكرها هنا ما لابد منه.

Shafi 2

واعلموا علمكم الله الخير أن الشيء الواحد قد يكون زيادة لقوم ونقصانا لآخرين، كما قال الله تعالى: (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا) (8)

والبرق واحد يطمع فيه قوم ويخاف منه قوم كما قيل في التفسير طمعا للمقيم وخوفا للمسافر، فالشيء الواحد أخبر الله تعالى عنه أنه يطمع (9) من وجه ويخيف من وجه.

كذلك السماع إلى صوت واحد ، يتلهى به قوم ويتعظ به قوم، وكذلك الشمس إذا طلعت على النبات أحرقت بعضه بحرها وزينت (10) بعضه (11) والشمس واحدة وحرها واحد، لكنها تؤثر في كل شيء على ما يليق بها من حالة وصفته، كذلك السماع إذا ورد على الأسرار ربما ترد (12) نفوسا إلى حظوظها من متابعة هواها، ورجوعها إلى ما يليق بطبائعها.

وربما تحمل نفوسا على الاتعاظ به ورؤية الزيادة فيه، وربما يغني نفوسا عن حظوظها ويردها إلى حظر (13) الحق فيها، لأن السماع شيء واحد، والتلوين في المستمعين.

كما سمعت محمد ابن الحسن المخرمي (14) يقول: "سمعت جعفرا الخلدي (15) يقول: سمعت الجنيد (16) يقول: السماع من حيث المستمع وذاك أن أجل ما سمع المستمع القرآن لأنه شفاء ورحمة وهدى وبيان، وأدون ما يسمعه الشعر، فقد يكون سماع القرآن عصي على مستمعيه وإن كان هو شفاء ورحمة ويكون الشعر حكمة في قلب مستمعيه وإن هو الغوي (17) في نفسه، ألا ترى الله تعالى: (والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمة" (19) فعلمت بهذا صحة ما قاله الجنيد.

Shafi 3

وإن المتحقق في السماع يسمع من الباطل حقا، وغير المتحقق فيه يسمع من الحق باطلا كما ذكر عن بعض السلف أنه سمع قائلا يقول: "يا سعترى البري" فغشي عليه فقيل له في ذلك فقال كنت حاضر القلب فسمعت كأنه يقول: "الساعة تري بري".

وإنما يطلق السماع أو يباح لأهله ولمن أدب ظاهره قبل ذلك بالرياضيات (20) والمجاهدات وباطنه بالمراعاة، وعمر أوقاته بالتأدب بآداب السنن، ولم يبق له في نفسه حظ ولا عليه مطالبة من الكون وما فيه

كما سمعت جدي أبا عمرو إسماعيل بن نجيد (21) رحمة الله عليه يقول: "إنما يحل السماع لمن كان قلبه حيا ونفسه ميتا (22) فأما من كان قلبه ميتا ونفسه حيا (24) فلا يحل له السماع".

وسمعت أبا عثمان المغربي (25) يقول: "لا يحل السماع والخلوة إلا لعالم رباني".

وسألت الإمام أبا سهل محمد بن سليمان (26) رضي الله عنه عن السماع فقال: "يستحب ذلك لأهل الحقائق، ويباح ذلك لأهل الورع والنسك، ويكره ذلك لمن سمعه تطربا".

وأصل هذا كله قول الله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) (27)، فحقيقة القلب لمن لا نفس له، مخالفة له في أحواله، وحقيقة إلقاء السمع لمن أصم نفسه عن جميع المخالفات فاستمع (28) السماع سمع بحق عن حق كحال (29) الشاهد ممن سمع من الخائفين آية من كتاب الله أو بيت شعر فزعجه ولم يؤثر في غيره من الحاضرين والمستمعين.

والصوت واحد والقوم حضور ولكن إنما أزعجه زيادة حال كامن فيه فقده الآخرون

Shafi 4

كما قال الصديق الأكبر رضي الله عنه لوفد اليمن مما أخبرناه عبد الله بن محمد بن علي (30) قال: يا محمد بن إسحاق الثقفي (31)، قال محمد بن الحرب (32) قال: نا يقعوب بن إسحق الحضرمي (33) قال: (نا) شعبة (34)، قال جدي أبو عمرو (35): قال: قدم ناس من اليمن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: اقرؤوا عليهم القرآن، فجعلوا يقرؤون عليهم القرآن وهم يبكون، فقال أبو بكر: هكذا لنا حتى حيت القلوب،

ولم يكن ما أخبر الصديق عن نفسه قسوة قلبه، وإن كان أخرجه بلفظ القسوة موهنا لنفسه ومصغرا لحاله، وإنما ذلك حال تمكين واستقامة لأنه كان أعلى منهم حالا ووقتا، والقوم أثر فيهم السماع لضعف أحوالهم عن حمل موارد السماع فهم كانوا المريدين والصديق كان مرادا، وكل إنسان يؤثر فيه السماع

بقدر حاله ووقته ومعرفته ومحبته وشوقه، والسن

ألم تسمع ما قاله كثير عزة (36) في شعره:

لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لعزة ركعا وسجودا

فقال: "لو يسمعون (37) كما سمعت" أي لو كان لهم بها من الوجد مالي لسمعوا مثل سماعي ولوجدوا بها وجدي، ولو سمعوا كذلك خروا لعزة ركعا وسجودا. ولما اختص هو منها بحال اختص بسماع: كذلك من كان له مع الله حال يسمع من السماع خلاف ما يسمع الفارغ اللاهي.

والمستمعون على ضروب: مستمع يسمع بحظه وظنه (38) ومستمع يسمع بحاله ووقته،

ومستمع يسمع بوجده ووجوده وتواجده، ومستمع يسمع له ، ومستمع يسمع منه، على اختلاف الأحوال والفوايد والرواية. والله يختص برحمته من يشاء.

Shafi 5

ثم مع هذا محال أن يقال: أباح النبي صلى الله عليه وسلم اللهو والباطل بعد أن قال النبي صلى الله عليه وسلم "كل لهو الدنيا باطل إلا.." (39) الحديث، ومحال أن يقال إنه سمع لهوا أو أمر باتخاذ اللهو. وقد جاء في الأثر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إباحة سماع الشعر والغناء وليس ذلك عندي (40) والله أعلم، لأنه علم أن في أمته من يسمع منه حكمة ويكون له في ذلك السماع زيادة

برهان،

فمن ذلك ما حدثناه محمد بن يعقوب الأصم (41) قال: نا محمد بن عوف الطائي (42) قال، نا أبو المغيرة (43) عن الأوزاعي (44) عن الزهري (45) عن عروة (46) وأخبرنا أبو عمرو بن مطر (47) واللفظ له قال، نا الحباب بن محمد التستري (48) قال: نا أبو الأشعب (49) قال: نا محمد بن بكر البرساني (50) قال: نا شعبة (51) عن هشام بن عروة (52) عن أبيه عن عائشة أن أبا بكر الصديق

رضي الله عنه دخل عليها وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم فطر أو أضحى، وعندها قينتان تغنيان مما تقاذفت به الأنصار يوم بعاث فقال أبو بكر: مزمار الشيطان مرتين في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعنا يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وعيدنا هنا اليوم _53)

وهذا الحديث صحيح عن النبي ونهيه أبا بكر عن زجرهن دليل على إباحته ذلك.

Shafi 6