ثم لم تزل السفينة ترتفع بنا وتنخفض ، وترتعش وتنتفض ، وقد بلغت النفوس الحلاقم ، وتجرعت من البحر العلاقم ، حتى شارفنا بقعة من الأرض ، حقيرة الطول والعرض ، فجنحنا إليها ، ونزلنا عليها ، وأرسينا بها ليلة ، وقد عادت الحال حويله ، ووددنا لو صار البحر دجيلة. فلما شعشع الصباح ، أهاب بالسفينة داعي الرياح ، فعلق الشراع ، وقد راع من فراق البقعة ما راع ثم غدونا نخوض تلك اللجج ، ونخاطر بالمهج ، حتى أشرفنا على بندر جازان (1)، فقصدنا النزول به فلم يوافق أهل السفينة لاغتنامهم موافقة الريح ، ويقال : إن بحر ساحله مغاص يخرج منه اللؤلؤ ، لكنه ليس بجيد ، وقد يقذف البحر إليه العنبر.
ومن الغريب ما استفاض خبره في زماننا هذا : إن البحر كان قد ألقى إلى ساحل البندر المذكور قطعة عظيمة من العنبر لم يهتد إلى معرفتها أحد ، وظنوها صخرة ، فكان الغسالون يغسلون عليها الثياب. ومضى على ذلك برهة من الزمان ، حتى جاء بعض تجار زماننا البندر ، وأسلم ثيابا له غسالا ليغسلها ، فذهب بها الغسال إلى تلك الصخرة فغسلها عليها ، وجاء بالثياب إلى التاجر ، فعرف منها رائحة العنبر ، وسأل الغسال هل طيب هذه الثياب؟ قال : لا ، قال : فأين غسلتها؟ قال : على صخرة على الساحل ، قال : فاذهب بي إليها ، فذهب به فلما رآها علم أنها غنيمة عظيمة ، فتركها ثم جاءها ليلا واقتلعها على حين غفلة ، فلما أصبح الغاسلون فقدوا الصخرة ، فأخبرهم الغسال بما كان من أمره مع التاجر ، فعلموا أن لها شأنا ، فذاع الخبر ونمي إلى الوالي فصادر التاجر حتى أظهر منها قطعة صغيرة ، وصالحهم على شيء من المال واحتوى على سائرها ، فعظم شأنه وكان هذا العنبر سبب غناه ، والله المغني.
وقد اختلف في أمر العنبر فقيل : إنه ينبت في البحر وله رائحة ذكية. قال الشافعي : سمعت من قال : رأيت العنبر نابتا في البحر مثل عنق الشاة ، وقال : حدثني بعضهم أنه ركب البحر فوقع إلى جزيرة فيه ، فنظر إلى شجرة
Shafi 51