Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Nau'ikan
فالحق أن الذي لا تهزه العواطف الوثابة يكون أثقل مادة من أن ينهض إلى الآفاق العالية. (ه)
هذا من جهة الشخصية، ولكن إلى جانب هذا يمتاز العظيم دائما بقوة العقل والذكاء. والواقع أن قوة العقل والذكاء ما هي إلا نتيجة لازمة للقوة العصبية، وقد كان صلاح الدين على أكبر ما بلغه الإنسان من قوة العقل. إنه لم يكن عالما بالمعنى الأكبر ولو أنه كان على شيء كثير من الاطلاع في الحديث وشيء من الفقه والأدب ولا سيما أنساب العرب ووقائعهم وسيرهم، فنعرف مثلا أنه قرأ فيما قرأ كتابا في الفقه من تصنيف الرازي، وكان في الصباح يقرأ بعد الصلاة شيئا من الحديث أو الفقه مع بعض الأشياخ مثل القاضي بهاء الدين بن شداد. ولكن ذكاءه القوي كان يسد ما في علمه من نقص؛ ولهذا كان أكبر مدرسي عصره يحسبون لعلمه حسابا إذا ما أحاطوا به في مجلسه الحافل بكبار أهل العلم في عصره. وكانت وجوه مناقشته ونقده تدل على مقدار فهمه، وإذا وصفناه بالفهم فإنا نقصد بالطبع أنه كان من أهل السنة المتشددين في مسألة العقيدة، وإذا كانت المغالاة في ذلك عيبا فقد كان مغاليا في التشدد، ويعرف عنه أنه قتل جماعة ممن كان يشك في صدق إيمانهم. ولعل روح العصر تشفع له إذا كان هناك من يميل إلى مؤاخذته في ذلك.
ولكن صلاح الدين كان رجل سياسة وحرب ولم يكن برجل العلم؛ ولهذا كان ذكاؤه أظهر ما يكون في أمور الدولة والحروب؛ فقد كان بعيد النظر يتوقع الأمر قبل حدوثه من أول بوادره، وكثيرا ما كان رأيه في أمور الدولة خيرا من رأي أجمع عليه أمراؤه كلهم. وكان في إصلاح أمور بلاده يضع يده دائما على مواضع الخلل والضعف، وكانت له قدرة عظيمة على القيام بتفاصيل الأمور؛ فكان في وقت واحد يدبر الحرب ويرسم الخطط ويرسل إلى الأقاليم المختلفة التي في دولته يرسم خطط الإصلاح الداخلي ويملي إرادته في الإدارة المحلية، ويقوم في أثناء هذا وذاك على مراقبة كل ما يجري في القضاء في بلاده على يد القضاة، وما يجري من الأمور في جيشه الكبير، حتى لقد كان كل جندي يظن أن عين صلاح الدين واقعة عليه، وكانت حماسة جنوده ناشئة من اعتقادهم أنه يعرف ما يعملون ويجازي الإحسان ويعاقب الإساءة على طريقته في الجزاء والعقاب. (و)
على أن صلاح الدين يمتاز فوق كل هذا بميزة قل أن توجد في غيره من العظماء؛ فقد ذكر التاريخ كثيرين ممن جمعوا قوة الشخصية وقوة العقل، وأحدثوا في العالم بهذه الميزات آثارا كبرى، ولكن قل أن نجد من هؤلاء العظماء من كان في نفس الوقت عظيما وقديسا. بل إن كثيرا منهم كانت لهم سقطات في خلقه: إما من قسوة، وإما من عدم تردد أمام الوسائل لبلوغ غاياتهم، وإما من تجاوز لحدود الأخلاق الفاضلة. بل إن كثيرين من العظماء يرون الفضائل دون قدرهم، ويظنون أنها قيود وضعت للدهماء الذين هم في مستوى دون مستواهم، ولكن صلاح الدين كان من القلائل الذين جمعوا الخلق الكريم والعقل القوي والشخصية المسيطرة.
فكان متدينا منذ أول حياته، ولكنه كان مخطئا بعض الخطأ في صباه، حتى إذا ما دخل ميدان العمل في أول رجولته ترك اللهو وتاب عما حرمه الله. ولكن عقيدته لم يتدخل إليها خلل في وقت من أوقات حياته، وكان حريصا على أن تكون عقيدة أبنائه قائمة على صخرة، فكان يعلمهم بنفسه أول قواعد الدين.
وأما فروض الدين من الصلاة فكان مواظبا عليها ويصلي نوافل فوقها كثيرة، ولم يترك الصلاة إلا عندما اشتد عليه مرض الموت وتغيب ذهنه في الأيام الثلاثة الأخيرة. وكان يؤدي الزكاة عن ماله القليل ولو أنه لم يكن في وقت من حياته كثير المال؛ لكرمه وكثرة نفقته في وجوه الخير؛ وليس أدل على ذلك من أنه لم يترك عند وفاته في خزائنه أكثر من سبعة وأربعين درهما وجرما واحدا ذهبا، ولم يخلف ملكا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة.
وأما الصوم فقد كان يشتد عليه؛ ولا سيما في ميدان الحرب وأيام المرض، وكان ضعيف الجسم؛ فلهذا كان يتأخر عليه فوائت، وحاول أن يقضيها بعد أن انتهى من حروبه ولكنه مات وعليه بعضها.
ولم يستطع الحج مع عزمه عليه وشدة شوقه إليه؛ إذ لم يمهله الأجل بعد أن فرغ من الجهاد ليتم تلك الفريضة. ومن العجيب أن نعرف أنه في العام الوحيد الذي خلا من الجهاد في آخر حياته لم يستطع الحج «لخلو اليد عما يليق بأمثاله».
وكان رقيق النفس يهتز اهتزازا شديدا لسماع القرآن والحديث، وكان كثير الثقة بالله إلى درجة قد يعدها البعض خرافة، ولكن الحقيقة أن ثبات نفسه كان يدفعه إلى الاطمئنان إلى ما يجري به القضاء واثقا بأنه قد بذل ما في وسعه، وأن الحيلة بعد ذلك في تصريف القضاء ليست في يده.
ولكن التدين وحده ليس كل ما اتصف به ذلك الرجل الفذ؛ فقد كان خلقه مما يزين أبعد الناس عن الدين فيقربه إلى نفوس المتدينين. فكان لا يرى الغاية تبرر الوسيلة؛ ولهذا لم ينزل في جهاده - مع حماسته وشدة إيمانه - لقصده إلى سلوك سبيل تأباها المكارم؛ فلم يغدر مرة ولم يقل كلمة إلا وفى بها ولم يعد حتى يكون قصده الوفاء، وكان في هذا يسوي بين صديقه وعدوه، فكان يأبى مع أعدائه إلا أن يكون منازلا شريفا، فلم تحفظ عليه هنة، ولم يعرف عنه نقض لعهد ولا سعي دنيء في الخفاء، وقد انتصر في حطين وفتح القدس نصرا عظيما، فلم يبطره ذلك ولم يدر رأسه فيدفع به إلى انتقام أو قسوة، بل تجلت شفقته على الضعيف وبره بالوعد ورحمته بالإنسان ولو كان من غير جنسه ودينه، بل لو كان من أشد أعدائه.
Shafi da ba'a sani ba