Salah Din Ayyubi
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Nau'ikan
وأخيرا تم الصلح - صلح الرملة - في 3 سبتمبر سنة 1192م/22 شعبان سنة 588ه وحلف عليه من الفرنج جماعة الأمراء والملك الذي سيتخلف بالشام وهو «الكند هري»، ولم يحلف الملك «ريكارد» قائلا: إن الملوك لا يحلفون ولكن كلمتهم تكفي. وحلف من المسلمين الملك العادل أخو صلاح الدين والملك الأفضل والملك الظاهر ابناه وجماعة من أمرائه الكبار، وكانت شروط الصلح أن يحتفظ الفرنج بالساحل من عكا إلى يافا، وأن يسمح للحجاج أن يزوروا بيت المقدس، وأن تخرب عسقلان ويكون الساحل من أولها إلى الجنوب لصلاح الدين.
ودخل في ذلك الصلح أميرا طرابلس وأنطاكية على أن يحلفا للمسلمين؛ فإن لم يفعلا لم يدخلا في الصلح.
وهكذا تم الصلح ووفدت وفود الحجاج المتحمسين إلى القدس، فأكرمهم صلاح الدين إكراما عظيما، وعاد ريكارد إلى بلاده، وانصرفت الجنود الإسلامية عائدة إلى أوطانها المختلفة بعد تلك الحرب الضروس التي لم يخب لهيبها مدة قرن، فمات فيه من مات من الفرنج في سبيل غرض دفعتهم إلى قصده حماسة غير موفقة، وساقهم إلى تلك الحماسة جماعة كان أكثرهم يسر حسوا في ارتغاء،
7
ومات من مات من المسلمين في دفاعهم المجيد عن أوطانهم يقودهم شيوخ من كرامهم رأوا ذلك الجهاد خير ما يقضى فيه عمر الأحياء، وما الحياة؟ أليست تلك الأنفاس التي تتردد في تلك الفترة المحتومة ما بين واجب الميلاد وواجب الموت؟ ألا إنها لفترة مملة مسئمة إذا لم يكن بها ما يهز النفوس، ولئن كان هذا كذلك فلقد اختار مسلمو ذلك العهد ذلك الجهاد سلوة يقطعون عليها حياتهم، ولقد كانت سلوة جديرة بكرام الرجال.
وأما عمل صلاح الدين في ذلك فإنه قد جمع الدول الإسلامية بين يديه، وكانت عندما دخل الميدان لا تعدو عاصمتين من عواصم الشام والجزيرة وما بينهما من الأرض، وكان ما عدا ذلك في يد الفرنج أو الفواطم.
فلما مات كانت دولة واحدة من الدجلة إلى النوبة إلى برقة، وما زال بالفرنج حتى حصرهم على الساحل في الرقعة الضيقة بين عكا ويافا. وإذا قلنا: إن ذلك عمل صلاح الدين فما ذلك إلا لأنه لولاه لما تم ولظلت دولة الفرنج قوية بل لزادت قوة. (29) آخر حياة صلاح الدين
أقام صلاح الدين بالقدس حينا بعد الصلح؛ لكي يصلح من أمرها على حسب سنته، وأقام بها المدارس والمستشفيات، ثم خلف بها صديقه القديم عز الدين جورديك، وسار يتفقد أحوال البلاد الشمالية ويقابل الأمراء لا يفرق بين صاحب أنطاكية المسيحي وأصحاب نابلس وطبرية وصفد المسلمين، ثم دخل دمشق وكان دخوله إليها دخول المنصور الموفق، واستقبلته تلك المدينة المحبوبة استقبالا عظيما جمعت فيه تقدير عظمته وحب كرمه وخلقه العظيم، وجاءت إليه وفود الناس من أهل دنيا وأهل دين، واجتمع له الشعراء والأدباء يقصدونه بالمدح، فكان وجوده بالمدينة سلسلة من الأعياد والأفراح، ووافاه هناك أخوه وأولاده، وكان يقصد أن يعود إلى مصر من هناك، ولعله كان يقصد أن يجعلها مركز دولته الجديدة، ويأخذ في تنظيمها وإعلاء شأنها، ولكن جماعة يقولون إنه إنما كان يقصد الراحة قليلا ثم يعود إلى القتال في آسيا الصغرى وبلاد فارس. على أنه قد بقي في دمشق أطول مما كان عازما عليه في أول الأمر؛ فقد كانت دمشق مهد صباه الأول، وكانت أحب البلاد إليه، وقد استهواه فيها الصيد فخرج يقضي منه وطره وينعم بلذة الرجولة فيه، ويتفرج في أرض الظباء في سهوبها مدة الشتاء، وكان يجلس في أكثر أوقات الفراغ في وسط أولاده الصغار وأصدقائه المقربين، وقد رفعت عنهم الكلفة وسادت المباسطة، وفي أثناء تلك الراحة حدث له كسل فكان لا يكثر من الخروج إلى العمل الرسمي بل يؤثر البقاء في خلوته.
صورة قبر صلاح الدين.
ولكنه لما رجع الحجاج خرج إلى لقائهم، وعند ذلك اجتمع الناس لرؤيته، وكان في لباس بسيط ليس عليه درع ولا وقاء، وكان يرغب في الحج ولا يجد فرصة لذلك وسط حروبه ومشاغله، فكان لذلك تأثره عظيما عندما رأى المقبلين منه، ثم عاد بعد ذلك إلى دمشق سائرا بين البساتين ليتحاشى الجموع الكثيرة المصطفة لرؤيته، ولعل ذلك كان برأي الذين حوله؛ إذ خشوا عليه من شر يحدث له في وسط الجموع وليس عليه ما يقيه.
Shafi da ba'a sani ba