وصلا بعد هنيهة إلى منزل قراقوش فدخلا، وأمر قراقوش ألا يدخل البيت أحد من الناس ولو أنه السلطان صلاح الدين نفسه. وأمر جوهر أن يعد ما يلزم للتنكر وسأله عن محل الاجتماع أين موقعه في الفسطاط فقال: «قرب جامع عمرو.» وعين النقطة، فتركه يهيئ ما يلزم، وأخذ في إعداد فرقة من الجند تسبقه لتتربص في خان قرب ذلك المجتمع، ودبر وسيلة للإحاطة بالمنزل عند ابتداء الإشارة.
أعد كل شيء قبل الغروب، ولم تغب الشمس حتى كان قراقوش قد تزيى بزي أطباء النصارى، والزنار على وسطه والعمامة على رأسه وأعدت له البغلة. ومشى جوهر في ركابه، ولا يشك من يراهما أنهما الطبيب وغلامه.
برحا القاهرة عند الغروب وقطعا المسافة بينها وبين الفسطاط بسرعة، ثم أطل قراقوش على الفسطاط من مرتفع فرأى آثار الحريق ما زالت ظاهرة فيها، وقد خربت أكثر أبنيتها بأمر شاور منذ بضع سنين (سنة 564ه)؛ إذ خاف شاور الوزير من وصول الصليبيين إليها واستيلائهم عليها فأمر أهلها بالخروج منها إلى القاهرة، وألقى النار فيها وأمر بنهبها. فانتقلوا ونهبت المدينة وافتقر أهلها وذهبت أموالهم. وظل الحريق عاملا فيها 54 يوما، فاختلطت الأزقة حتى اشتبهت على المارة. ولولا جوهر ومعرفته الشوارع جيدا لاستحال على قراقوش الوصول إلى المكان المطلوب . ولكن ذلك الحبشي كان يقود البغلة ويتخطى الخرائب كأنه ماش في داره. ودليله الأظهر مئذنة جامع عمرو، فإنها كانت بارزة في الفسطاط دون سواها.
لم يتجاوزا جامع عمرو حتى خيم الغسق وأظلمت الدنيا وقل الناس في الشوارع. والمتأمل في الفسطاط يجد فرقا كبيرا بينها وبين القاهرة؛ فإن هذه أكثر عمارة وسكانا وأضخم خانات وأعظم آثارا. سكن الأمراء فيها؛ لأنها خاصة برجال الدولة، وأما الفسطاط فإنها مقر الباعة والصناع ويكثر فيها السوقة والملاحون لقربها من النيل، وقد زادها الحريق حقارة.
ولما توسط قراقوش المدينة ورأى نفسه منفردا هناك مع جوهر خطر له أن ذلك الحبشي ربما ينوي الغدر به وهو خائن لا يركن إليه، فالتفت نحوه وقال: «أين نحن يا جوهر، يظهر أننا قد بعدنا عن المكان المطلوب الذي ذكرته وتجاوزنا جامع عمرو؟»
قال: «ثق يا مولاي أنني ذاهب بك إلى المكان المطلوب، وقد تجاوزناه الآن حقيقة كما قلت، ولكنني أريد أن تشرف عليه من منزل آخر بابه في شارع آخر. ألا تريد أن ترى القوم مجتمعين وتسمع ما يدور بينهم؟»
قال: «بلى، ولكن تمهل قليلا.» قال ذلك وتفرس فيما يجاوره فعلم أنه على مقربة من الخان الذي أوصى الجند أن يتربصوا فيه فقال: «أخبرني يا جوهر أين هو البيت الذي يجتمعون فيه؟ دلني عليه بإصبعك من هنا.» فأشار هذا بإصبعه قائلا: «ألا ترى هذا النور المعلق على تلك السارية.» قال: «رأيته.» قال: «أترى وراءه بيتا خربا؟ إنهم يجتمعون في داخله.»
فتحول قراقوش ببغلته إلى الخان فلقيه قائد الفرقة بالباب فأوصاه أن يفرق جنده حول ذلك البيت من كل ناحية بحيث لا يشعر به أحد، ولا يظهر أحد من رجاله في الطريق، ثم قال: «إذا رأيتم مصباحا يتحرك فوق أحد هذه الأسطح حركة رحوية فاهجموا على هذا البيت من كل ناحية واقبضوا على من فيه.» وعاد فأدار شكيمة بغلته وجوهر يقودها حتى دخل الزقاق المطلوب ووصل إلى باب فدقه وقراقوش لا يزال على البغلة، ففتحت خوخته وأطل رأس الشيخ قد تدلى سالفاه على خديه وقال: «من الطارق؟»
فتقدم جوهر وقال: «الطبيب سمعان ، افتح.»
قال: «وماذا يريد الطبيب منا؟ ليس عندنا أحد مريض.»
Shafi da ba'a sani ba