وما زالا يمشيان حتى بعدا عن قصور الخلفاء ودخلا بيتا من بيوت العامة لا تقع عليه شبهة. وهو منزل لذلك الغلام كان يختبئ فيه عند الحاجة، فلما دخلا البيت أقفل الغلام الباب وقعد وقد امتقع لونه، وأبو الحسن يستغرب ذلك منه ولا يزال يعتقد أن الغلام مخطئ في توهمه، اعتمادا على ما دار بينه وبين الهكاري.
فلما استقر بهما الجلوس قال أبو الحسن: «قل الآن ما الذي حملك على هذا الفرار؟»
قال: «لو لم أفر بك لكنت الآن في السجن.»
فضحك أبو الحسن بتهكم وقال: «في السجن؟ هه هه، هذا أمر بعيد. ولا ألومك على هذا الخوف؛ لأنك لا تعلم ما دار بيني وبين القوم في هذا الصباح.»
قال: «علمت كل شيء وعلمت أن تدبيرك لم يفلح، وأن قراقوش اللعين لما كنت أنت في انتظاره بالقصر كان هو عند صلاح الدين ذهب إليه بأمر مستعجل، فأمره أن يحيط قصور الخلفاء بالجند. وحالما يموت الخليفة يقبض على كل ما في القصور من النساء والأولاد والرجال والغلمان وكل شيء.»
سمع أبو الحسن هذا القول ولم يصدقه فقال: «كيف عرفت ذلك؟ ومن أطلعك على هذا السر يا جاهل؟ لا يبعد أن يكون صلاح الدين قد أمر هذا الطواشي أن يحتفظ بالقصور وما فيها، وهو إنما أمره بذلك لئلا يتعدى عليها أحد من دعاة الإمامة سواي. ولا ألومك على توهمك؛ لأنك لا تعلم ما تم الاتفاق عليه بيني وبينهم مما سأطلعك عليك في وقت آخر.»
فقال: «قلت لك يا سيدي إني مطلع على كل شيء، وما أنا بجاهل كما تقول، بل أنا عاقل ساهر على مصلحة مولاي الشريف، وقد تحققت أن صلاح الدين أمر طواشيه هذا أن يقبض على من في القصر، وأن يبحث عنك بنوع خاص، وإذا كنت لا تصدق ارجع إلى القصر وانظر ماذا تكون النتيجة.»
فأطرق أبو الحسن وهو يرتعد من الغيظ وأخذ يعبث بلحيته وهو يراجع ما سمعه ويستغربه والغلام ساكت لا يبدي حراكا. ثم التفت أبو الحسن إليه وقال: «يا جوهر، هل أنت واثق مما تقول؟»
قال: «إني واثق تمام الثقة، إن شئت أن تتحقق قولي فاخرج متنكرا وانظر إلى الجند يبحثون عن الشريف أبي الحسن كما يبحثون عن سائر أبناء الخلفاء في قصر النساء. ولا أضمن أنهم لا يكشفون أمرنا ويقبضون علينا ولو تنكرنا.»
فلما تحقق أبو الحسن صدق غلامه وأيقن بفشله حمي غضبه حتى أصبح صدره يرتفع وينخفض وهو يغلي كالمرجل. ونسي موقفه مع غلامه فأخذ يزمجر كالأسد ثم صار يرغي كالثعلب ويتظاهر بالتجلد والتفت إلى الغلام وقال: «ما لنا ولهم، دعنا منهم، لا أعلم السبب في نقمتهم علي أيضا. إني بذلت الجهد في خدمتهم ... من يا ترى سيخلف العاضد على كرسي الإمامة؟»
Shafi da ba'a sani ba