فاستغرب قوله وقال: «أظنك تعني أن أتنكر بثوب جارية.» قال: «كلا. فإن هذا لا يغني شيئا؛ إذ لا يستطيع أحد المرور من الباب إن لم يعرفه الحاجب باسمه ولقبه.»
قال: «كيف إذن؟»
قال: «أعرف طريقا سريا في سراديب تحت الأرض بين هذه المنظرة وقصر الخليفة لا يعرفها إلا القليلون.» قال: «سراديب تحت الأرض؟» قال: «نعم يا مولاي. لما بنى الخلفاء الفاطميون قصورهم أرادوا أن يكون لنسائهم طريق يخرجن منه إلى الحدائق والبساتين أو إلى المناظر القائمة على ضفاف هذا الخليج. فاصطنعوا لهن سراديب تحت الأرض ينزلن إليها من وسط القصر ويمشين فيها بلا حجاب حتى يخرجن إلى البساتين. وفي جملتها السراديب المؤدية إلى هذه المنظرة فإنها كانت مطروقة أكثر من سواها لكثرة تردد الخلفاء وإقامتهم هنا. حتى إن ثلاثة منهم ماتوا في هذه المنظرة وحملوا في هذه السراديب إلى القصر، وهم الآمر بأحكام الله، والحافظ لدين الله، والفائز. ثم أهمل أمرها بعد نزول غير الخلفاء المنظرة. وتنوسيت منذ عدة سنوات ولكنني أعرفها فإذا أحببت أن أسير في خدمتك فعلت.» •••
تحير عماد الدين في أمره واستغرب وجود هذه السراديب وفكر هل يجيب الدعوة أم يعتذر لأنه على وشك السفر. والتفت إلى نافذة الغرفة فرأى الشمس دنت من المغيب وهو لا بد له من مغادرة القاهرة في تلك الليلة كما أقسم ووعد، فنادى الغلام إليه وقال: «كم يقتضي لنا من الوقت لنصل إلى القصر؟»
قال: «لا يستغرق سيرنا إلا دقائق معدودة.» فقال في نفسه: «أجيب الدعوة وأعود سريعا فأسافر.» والتفت إلى الغلام وقال: «هلم بنا.» قال: «تمهل ريثما تغيب الشمس فنذهب في الظلام لئلا يشعر بنا أحد من أهل هذا القصر.» فتصور عماد الدين الخطر المحدق به في هذه المهمة، لكنه أكبر أن يتخوف أو يحسب للمخاطر حسابا وهو الذاهب لقتل زعيم الإسماعيليين. فقال: «انتظرني إذن خارج هذه المنظرة فألاقيك هناك بعد الغروب.» قال: «حسنا، سأمكث في انتظارك تحت هذه الجميزة بجانب الخليج، فإذا رأيتك قادما تقدمت نحوك ومعي الرداء الذي ينبغي أن تلتف به في أثناء الطريق، وعند الوصول إلى القصر، لئلا ينكرك أحد من أهله.» قال ذلك وخرج وخلف عماد الدين على مثل الجمر من القلق. فلما خلا بنفسه استأنف النظر إلى ذلك الكتاب وأعاد قراءته، وتذكر المرة الأولى التي شاهد فيها صاحبة ذلك الشعر وما سمعه عنها أمس من أمر صلاح الدين، فرأى أنه قد يستطيع خدمة مولاه بإجابة سؤالها فيحرضها على قبوله. ولما تصور ذلك هبت الغيرة في قلبه. ولكنه تعمد الإغضاء عن هذا الشعور حبا في مصلحة مولاه.
ولما أسدل الليل نقابه خرج بأخف ملابسه وسلاحه حتى دنا من الجميزة، فرأى شبحا كأنه امرأة قادما نحوه فتقدم إليه وتفرس فيه فإذا هو الغلام قد التف بملاءة كالإزار أو المطرف ودفع إليه ملاءة ليلتف بها أيضا، ثم مشى الغلام بين يديه في البستان وهما لا يريان شيئا غير أشباح الأشجار تتراءى بينهما وبين الأفق. مشيا مدة لا يتكلمان، ثم التف الغلام إلى عماد الدين وأمسك بيده كأنه يقوده فهبط معه إلى حفرة. ومد الغلام يده إلى أعشاب يابسة أزاحها فوصل إلى باب من حديد فيه حلقة قبض عليها وأعانه عماد الدين ففتحا الباب فشعر عماد الدين بريح فيها رطوبة وعفونة، فعلم أنها أتت من ذلك السرداب. فقال له الغلام: «اتبعني يا سيدي. اقتص خطواتي.»
فشعر وشعر بأنه يمشي على أرض مرصفة بالحجارة. ولكن الظلام كان شديدا جدا وأخذت، رائحة العفونة تشتد كلما أمعنا في السرداب. فخاف عماد الدين أن يكون قد ورط نفسه فقال: «هل أنت على ثقة من أمر هذا الطريق؟» قال: «نعم وقد جئت فيه إليك اليوم.» فاطمأن خاطره وسكت وهو يخطو ويتلمس الجدران. ثم سمع وقع أقدام فوق السرداب فقال له الغلام: «نحن الآن تحت القصر الصغير، وبعد قليل نمر تحت الميدان وليس بعده إلا قصر الخليفة فقصر النساء.»
ولما أحس الغلام أنهما تحت قصر النساء أشار إلى عماد الدين أن يقف فوقف. فتقدم هو الهوينى حتى رفع باب السرداب، فبصر عماد الدين بالنور وبعد قليل أتاه الغلام وأمسك بيده وأشار إليه أن يخرج. فصعد بضع درجات فإذا هو في غرفة فيها مصباح فنظر إلى نفسه وإلى رفيقه على النور بعد هذه السفرة في الظلام فرأى عليهما التراب ونسيج العناكب، فنفض الرداء ونظر إلى الغلام وأشار بيده يستفهم عما يعمله، فأومأ إليه أن ينزع الملاءة ففعل ودخلا حجرة مفروشة بأحسن الرياش فتحقق أنه في قصر النساء. ثم أشار إليه الغلام أن يقعد وينتظر وخرج هو، فقعد وقلبه يخفق تطلعا لما سيراه في تلك الليلة، وتذكر مجيئه إلى هذا القصر من عهد غير بعيد، وكيف رأى سيدة الملك. وطال انتظاره حتى تولاه القلق. وإذا بالغلام قد عاد ومعه ياقوتة الحاضنة فحالما وقع نظره عليها تذكر أنه رآها قبل ذلك الوقت.
أما هي فأسرعت إليه وحيته وأشارت إلى الغلام أن ينصرف فانصرف، وظلت ياقوتة وحدها مع عماد الدين فقالت: «لقد أتعبناك يا سيدي وأتينا بك في هذا الليل.» فقال: «لا بأس يا سيدتي وإنما أرجو ألا يكون لاستقدامي سبب يوجب القلق.» فتنحنحت وقالت: «لا والحمد لله. ألا تذكر أنك رأيتني يا عماد الدين؟» قال: «بلى أذكر ذلك جيدا.» قالت: «أما أنا فلا أنسى قدومك في ذلك اليوم العصيب، وما أتيته من الأريحية والنخوة في إنقاذ مولاتي سيدة الملك من خطر الموت. إنها لا تنفك تذكر ذلك الفضل لك. وكثيرا ما تمنت أن تراك لتكافئك على صنيعك ولكنك لم تعد.» فقال مسرعا: «لأني لم أفعل ما فعلت لأجل المكافأة، وأنا غني عن ذلك بفضل مولاي صلاح الدين.» قالت: «طبعا، ولكن المكافأة لا تعطى دائما للحاجة إليها، بل هي تدل على امتنان المعطي للمعطى له. وعلى كل حال فليس ذلك من شأني بل هو يرجع إليك وإليها فإذا التقيتما صرت أنا غريبة. أليس كذلك؟» قالت ذلك وضحكت وفي عينيها وغنة صوتها معنى لا يعبر عنه بالكلام، فتوسم عماد الدين في كلامها معنى اختلج له قلبه. ولم يصدق نفسه لما يعلمه من البون البعيد بينه وبين سيدة الملك، وهي أخت الخليفة أعظم نساء المسلمين بمصر. فقال وهو يتجاهل مرادها: «كيف مولاتنا سيدة الملك؟ أرجو أن تكون في خير وعافية.»
قالت: «ألم تصل إليك رسالتها؟» قال: «كيف لا؟ ما الذي أتى بي في هذا الوقت؟» قالت: «وخصلة الشعر؟» فمد يده واستخرجها من جيبه وقال: «هذه هي.»
Shafi da ba'a sani ba