اعلم يا يوسف أنك وإن أقفلت عليك الأبواب وأقمت الحراس لا تقدر أن تنجو من القصاص. أراك قد بالغت في القحة وتطاولت وظلمت ونسيت شيخ الجبل زعيم الإسماعيليين. لو أردت قتلك الليلة لما أبقيت عليك، ولكنني عفوت عنك وأنا منذرك أن تصلح من سيرك. ولا تطمع أن تعرف من أنا، فإن ذلك بعيد المنال؛ إذ قد أكون أخاك أو خادمك أو حارسك، وقد أكون خيطا في عمامتك أو شعرة في رأسك، وأنت لا تدري! وإنما أطلب منك أن تلزم حدك والسلام.
فاستولى السكوت على الجميع لحظة. ثم أشار نجم الدين إلى عماد الدين أن يقفل الباب وأن يجلسوا في خلوة لا يدخل عليهم أحد، ففعل وقلبه يتقد غيظا وقد ساءه حدوث هذا الأمر في الليلة الأولى التي تولى فيها الحراسة الخاصة، وأصابه الجمود لا يدري ما يقول، وأدرك نجم الدين قلقه فناداه وابتسم له وقال: «لا تضطرب يا بني ولا يداخلك خوف، إنكم لا تعرفون هؤلاء القوم ولا أظن يوسف يعرفهم.»
فقال صلاح الدين: «أذكر أني عرفت عنهم شيئا. ولكن من هم الإسماعيلية هؤلاء؟ وما هذه الجسارة؟ وكيف يستطيعون الدخول علي في غرفة نومي والحرس حولي. صدقوا، لم يكن يمنعهم شيء من قتلي.»
فصاح عماد الدين: «خسئوا! إن ذلك بعيد عنهم. إنهم لا ينالون من مولاي السلطان شعرة قبل أن يقتل زعيمهم اللعين.» •••
جلس نجم الدين وأمر عماد الدين أن يجلس وقال: «هل تعرف من هو هذا الزعيم؟» قال: «كلا يا سيدي. ومهما يكن من شأنه ...»
فقطع نجم الدين كلامه وقال: «تمهل يا شاب واسمع ما سأقصه على يوسف من خبر هذا الطاغية الذي يسمي نفسه رئيس الإسماعيلية الذين هم في الحقيقة طائفة الحشيشية.» ووجه خطابه إلى صلاح الدين وقال: «اعلم يا بني أن الإسماعيلية أو الباطنية أو الحشيشية طائفة من الشيعة لها بالدولة العبيدية علاقة قل من يعرفها، ولذلك أحببت أن أفصلها لك. إن مذهب الإسماعيلية كان مذهب هذه الدولة عند الفتح وقد نصروه ولا سيما الحاكم بأمر الله، فإنه أحياه ونشره بمساعدة رجل فارسي اسمه حمزة الدرزي.» «وفي أيامه ظهر رجل فارسي اسمه حسن بن الصباح له حديث طويل مع نظام الملك وعمر الخيام لا محل له هنا، فأنشأ حسن هذا جمعية من الفدائيين وأقام في جبل «ألاموت» قرب قزوين منذ أكثر من مائة سنة. وكان يغري رجاله بالفتك بمن شاء من كبار الرجال، ومن جملة الذين قتلوهم نظام الملك وزير السلاجقة وكثيرون من القواد والملوك. كانوا يقتلون ولا يعرف قاتلوهم. أو إذا عرفوا لا يبالون أن يقتلوا في سبيل تنفيذ أمر مولاهم!»
وكان صلاح الدين مصغيا لما يسمعه بكل جوارحه فقال: «كأني سمعت بشيء من هذا القبيل ... ولكنني لم أكن أصدقه؛ إذ لا يعقل أن يعرض الرجل نفسه للقتل على هذه الصورة تنفيذا لأمر مولاه فقط.»
فاعترض عماد الدين وعيناه تتقدان وقد هاجت الحمية في رأسه وقال: «نعم يا سيدي. هذا أمر معقول. إن الرجل ليفدي مولاه بروحه إذا كان يحبه ويحترمه.»
فأدرك نجم الدين غرضه وقال: «بارك الله فيك يا بني، لكن مثلك قليل وأكثر الناس يفعلون ذلك طمعا في شيء. أما الفدائيون هؤلاء فإنما يفعلون ما يفعلونه طاعة لرئيسهم وكفى. وقد اختلفوا في سبب هذا التفاني، فيقول بعض العارفين إن ابن الصباح كان يستهويهم بالسحر أو يسقيهم الحشيشة التي تأخذ بالعقل. ولذلك عرفوا بالحشيشية أو الحشاشين، ومهما يكن السبب فإن وجود هذه الطائفة خطر على كبار الرجال.» «وكان مقرها في زمن «ابن الصباح» في قزوين بعيدا عن هذه الديار. أما الآن فإن مركزها في جبل السماق من أعمال حلب، ولهم فيه معاقل وحصون ودعاة في الأطراف، ولهذه الطائفة تاريخ طويل قبل انتقالها إلى الشام، خلاصته أن الرياسة انتقلت بعد ابن الصباح إلى غيره وغيره، وكان رابعهم في «ألاموت» منذ نحو خمسين سنة يسمى حسنا أيضا، ويضيفون إلى اسمه قولهم: «على ذكره السلام»، وكانت دعوته قد انتشرت في الشام فلما فتحها الإفرنج قربوا الإسماعيليين واستعانوا بهم على المسلمين في مواقع كثيرة سرا وجهرا. فأذن لهم ملك الإفرنج صاحب حلب أن يقيموا في جبل السماق (جبل النصيرية) ونزلوا «بانياس» وزعيمهم يومئذ اسمه بهرام، وفي أيامه تمكنوا من الفتك بطائفة من الملوك والقواد بمصر والشام، منهم الملك الأفضل أمير الجيوش بمصر، ويقال إنهم فعلوا ذلك به؛ لأنه استبد بالآمر بأحكام الله. وبلغني أن الآمر تغلب على بهرام وقتله لسبب لا أعلمه، ولعله ساءه قتل أمير الجيوش وإن كان قتله دفاعا عنه. وطافوا برأس بهرام في شوارع القاهرة هذه، وقتلوا أيضا كثيرين من الإفرنج بحجج مختلفة، ومن هؤلاء ريمون صاحب طرابلس. ولهم بجبل السماق عدة قلاع حتى الآن، منها مصياف ومرقب وعليقة والرصافة وغيرها. وهم يعتصمون بها. أما زعيمهم الآن فأظنه أدهى الرؤساء جميعا، واسمه راشد الدين سنان بن سليمان، وأصله من البصرة. خدم رئيس الإسماعيلية في «ألاموت» وتفقه في العلم والفلسفة، ثم انتقل إلى الشام وأقام في حلب، وهو أعرج وقد تظاهر بالتقوى والتدين فاجتذب العامة بذلك. ولا تجد شيئا يستهوي العامة مثل الدين. وبلغني من بعض رجالنا هناك أن سنانا هذا كان يجلس للوعظ على صخرة وهو جامد مثلها، فكثر دعاته وكانت دعوته لهم أن يتعاونوا، فتغلب على عقولهم بالدهاء أو السحر لا أعلم، حتى جعلوا أموالهم مشتركة بينهم حتى النساء والبنات. ثم منعهم من ذلك.» «وبلغ خبره إلى رئيس الإسماعيلية يومئذ في جبل السماق واسمه أبو محمد فاستقدمه إليه. وبعد قليل خلفه وتسلم زعامة هذه الطائفة منذ بضع سنوات فقط. وقد سمعت خبره قبل سفري بقليل، وهو الآن صاحب السطوة والكلمة النافذة، وقد التف حوله ألوف من الدعاة الفدائيين الذين يفدونه بأرواحهم. إذا أمر أحدهم بقتل أمير أو ملك، فإنه سرعان ما يتنكر ويدخل في خدمة ذلك الأمير أو الملك بصفة سائس أو خادم أو حارس. ولا يزال يترقب الفرص حتى تسنح له ويغمد خنجره في صدره. فالحمد لله أنهم لم يفعلوا ذلك هذه المرة، ولكن تهديدهم هذا أثقل وقعا من القتل!» •••
كان صلاح الدين في أثناء سماع الحديث مطرقا يفكر، وعماد الدين يراعي حركات نجم الدين بعينيه ويتلقف ألفاظه بأذنيه وقد هاجت أريحيته وجاشت الحماسة في صدره. فلما فرغ نجم الدين من الكلام نظر إلى عماد الدين فرأى عينيه يكاد الشرر يتطاير منهما فتجاهل.
Shafi da ba'a sani ba