وبعد البحث وقف ضياء الدين على كتاب فيه سيرة طغرل بك دفعه إليه فتناوله أبو الحسن وهو يقول: «أظنني شغلتك عما جئت لأجله.»
قال: «كلا، بل أنا في غاية السرور من هذه المصادفة؛ لأني أحب أن أعرف تاريخ هذا الرجل مؤسس هذه الدولة التي ملأت الدنيا فتحا. تفضل اقعد.» وأشار إلى طراحة على مقعد بالقرب منه. فقعد أبو الحسن وقعد الهكاري بين يديه وأخذ كتابا آخر دفعه إليه أبو الحسن فجعل يقلب أوراقه وعيناه في الكتاب الذي يقرأ أبو الحسن فيه. فرآه وقف عند صفحة وجعل يقرأها ويعيد قراءتها ويهز رأسه إعجابا أو استغرابا. ثم قلبها وقرأ غيرها حتى فرغ من الكتاب فوضعه بجانبه وتناول غيره. فاشتاق ضياء الدين إلى مطالعة الصفحة التي رأى أبا الحسن يحدق فيها. فتناول الكتاب وهو يتوهم أنه فعل ذلك خلسة وأبو الحسن لا يعلم. ففتح تلك الصفحة فإذا هي تبحث في خطبة طغرل بك لابنة الخليفة القائم بأمر الله العباسي سنة 454ه. وكيف أن السلطان طغرل بك وهو تركي طلب أن يتزوج بابنة هذا الخليفة مما لم يجسر عليه أحد قبله. وأن بعض القضاة أخبر الخليفة يومئذ أن غرض السلطان من هذا الزواج أن يأتيه من بنت الخليفة غلام فيه الدم العباسي. فيوليه الخلافة بهذه الحجة وتتوالى الخلافة في أعقابه وتخرج من العباسيين. وأن الخليفة انزعج لهذا الطلب واستعطف السلطان أن يعفيه من الإجابة إلى طلبه. فأبى ألا يجاب بحيث اضطر الخليفة إلى إجابته وزوجه ابنته. لكن طغرل بك مات في تلك السنة ولم يرزق من امرأته هذه أولادا.
وكان ضياء الدين يقرأ ذلك وأبو الحسن يظهر أنه يقرأ في كتاب آخر وعيناه تختلسان النظر إلى الهكاري. فلما علم أنه فرغ من قراءة ذلك الفصل رفع نظره إليه وقال: «أرأيت شجاعة طغرل بك، وكيف أنه استطاع بحكمته وتعقله تأسيس هذه الدولة التي لولاها لم يكن صاحب الشام ولا صاحب العراق ولا غيرهما.»
قال: «نعم إنه رجل ذو بطش غريب وأنا أستغرب الآن ما قرأته في هذه الصفحة من مطامعه في الخلافة مما لم يطمع فيه أحد سواه من غير القرشيين فيما أظن.»
فتوجه أبو الحسن نحوه باهتمام وقال: «طمع فيها قبله عضد الدولة ابن بويه فأراد أن يزوج الخليفة الطائع لله بابنته لتلد من الخليفة ولدا فيه من دمه فيجعل الخلافة فيه، فلم يوفق إلى ذلك، وأما هذا فإنه خطا خطوة أكبر من تلك. أراد أن يتزوج هو ببنت الخليفة ليكون ابنها فيه دم العباسيين، ولكن هل علمت كيف نجا الخليفة من هذا الخطر فحفظ الخلافة في العباسيين؟»
فقال: «إنه نجا بالمصادفة.»
قال: «أتظن موت طغرل بك كان مصادفة؟ وهل يموت بالمصادفة على أثر ذلك العقد المغتصب؟ لا أشك في أنهم سقوه السم. ولو أحسن الأسلوب لاحتاط لنفسه ونجا من ذلك الخطر ولم يذهب سعيه عبثا.»
فقال: «وكيف يحتاط؟» قال يحتاط بألا يعرض نفسه للقتل بخطبة ابنة الخليفة فيظهر غرضه. أعني لو طلب أن يتزوج أخت الخليفة أو إحدى بنات أعمامه مثلا لا أظنهم كانوا ينتبهون لغرضه. فإذا ولدت له ولدا ذكرا كان فيه من الدم العباسي ما يكفي لادعاء حق الخلافة، ولكن ذلك التركي كان قصير النظر.»
ونظرا إلى اهتمام ضياء الدين الهكاري بصلاح الدين وشغفه بتثبيت دولته كان كلما قرأ تاريخا أو سمع حادثة مهمة طبق مغزاها على حال صلاح الدين لعله يستفيد منها ما يؤيد دولته. فلما سمع كلام أبي الحسن انتبه إلى أن صلاح الدين يقدر أن يفعل ذلك بالتزوج من أخت العاضد، وكان يسمع بجمالها وتعلقها، والعاضد أضعف من أن ينكر على صلاح الدين طلبه. وبذلك تصير الدولة إليه حتى نور الدين قد يدخل في سلطانه. فأشرق وجهه لهذه الفكرة. وصمم أن يفاتح صلاح الدين بها في ذلك اليوم. ولكنه تظاهر بأنه لم ينتبه لشيء وجعل يتشاغل بقراءة فصول أخرى وأبو الحسن يظهر من الجهة الأخرى أنه يتكلم بكل سذاجة. ثم غير الحديث فسأل ضياء الدين عن نجم الدين وهل هو مسرور من الإقامة في منظرة اللؤلؤة، فأجابه بما يقتضيه المقام وأصبح ضياء الدين شديد الرغبة في انصراف أبي الحسن ليمضي في مهمته الجديدة.
وبعد قليل استأذن أبو الحسن في الانصراف وودع صديقه الهكاري، وعاد على بغلته إلى دار الضيافة وهو يهمهم في أثناء الطريق ويكاد يخاطب البغلة من فرحه بانطلاء حيلته؛ إذ لم يشك أن الهكاري ذاهب حالا إلى صلاح الدين ليحرضه على خطبة سيدة الملك. وهو يعلم يقينا أن ذلك سيقع وقوع الصاعقة على رأسها ورأس أخيها، ولا يجدان سبيلا لرد طلب ذلك الخاطب القاهر إلا إذا ادعيا أن الفتاة مخطوبة لابن عمها أي له (هو) فينال غرضه على أهون سبيل. •••
Shafi da ba'a sani ba