فقال له دبوس: «اعلم يا بني أن طالب الحصول على عهد مولانا الشيخ لا بد له من الاستسلام لكل ما يؤمر به بلا تردد. وقد خيرتك عملا بتوصية عبد الرحيم؛ لأنه ذو مقام عندنا. فإذا رأيت العدول عن عزمك رددنا أشياءك إليك.»
فلم ير بد من الطاعة؛ لأنه لم يوفق إلى دفاع، فمد يده واستخرج خنجره من منطقته ودفعه إليه. ثم استخرج ما كان عنده من الجواهر والنقود ودفع كل ذلك إلى دبوس وقد أحس بالخوف من الخديعة، لكنه اطمأن نوعا لما رأى الشيخ يبش له وقد وضع أشياءه كلها في منديل وأخفاه في حفرة بأسفل المقعد. وأومأ إليه أن يخرج إلى غرفة أخرى يستريح فيها. فخرج وقاده أحد الحراس إلى حجرة خلا فيها بنفسه وأخذ يفكر فيما سمعه، فتحقق الخطر الذي أوقع نفسه فيه وأصبح لا يعرف ماذا يعمل: أيعدل عن مهمته بعد أن وعد صلاح الدين بها أم يعرض نفسه للخطر بالدخول؟ وتذكر ما سمعه من صديقه عبد الرحيم عن كرامات راشد الدين وما هو شائع من هيبته واقتداره، فوقع في حيرة لأن رجوعه عنها يحط من قدره عند صلاح الدين وعند حبيبته. أو على الأقل ينحط قدره عند نفسه فإنها لا تطاوعه على الجبن. ودخوله يعرضه للقتل أو لخيانة صلاح الدين.
وكان يفكر في ذلك وهو يمشي في تلك الحجرة وليس فيها شيء من الأثاث سوى حصير وبساط قديم، فأطل من نافذة صغيرة فأشرف على ما يحيط بجبل مصياف من المستنقعات والسهول والروابي والأودية إلى مسافة بعيدة. واستغرق في أفكاره حتى نسي موقفه. ثم أجفل لأنه سمع وقع خطوات وراءه فالتفت فرأى رجلا كالخادم أتاه بالطعام ودعاه إلى الأكل وخرج. فأشار عماد الدين شاكرا وعاد إلى تفكيره ونفسه لا تطلب الطعام لفرط اهتمامه وقلقه. وحانت منه التفاتة وهو يجيل بصره في ذلك الفضاء إلى سور عال يحيط ببناء لا يظهر منه شيء، فظنه قلعة أو حصنا يلجأ إليه الإسماعيليون عند الاضطرار.
وعاد إلى هواجسه وهي تتعاظم وتتكاثف حتى ضاق صدره من كثرة التردد، وكان إلى تلك الساعة لم يذق طعاما، وأحس بالجوع فتحول نحو الطعام الذي أتوه به، وهو مؤلف من بعض الثمار وشيء من الخبز واللحم. فمد يده إلى الرغيف وكأن شيئا أرجعها عنه، وخطر له سوء الظن فقال في نفسه ... «قد يكون هذا الطعام مسموما.» ثم تذكر صديقه عبد الرحيم وتوصيته لدبوس، فغلب عليه حسن الظن وأكل ما يسد رمقه واقتصر على الثمار.
وفيما هو يأكل سمع ضوضاء في الساحة فنهض ونظر من الباب فرأى جماعة من أهل القلعة وفيهم الحراس والأجناد يتهامسون ويتضاحكون والبشر ظاهر في وجوههم. فخاف أن يكون لذلك علاقة بوجوده هناك أو ربما كان عليه خطر. فأصاخ بسمعه وإذا هم يتكلمون لغات مختلفة؛ لأن رجال الإسماعيلية أخلاط من أمم شتى، وفيهم العربي والتركي والفارسي والكردي والشركسي، يتكلمون كل هذه اللغات وإنما تغلب العربية على ألسنتهم.
وبعد الإنصات وإعمال الفكرة سمعهم يذكرون السلطان نور الدين وكأنهم يذكرون موته، فغالط سمعه ولم يعبأ به لأنه فارق السلطان منذ يومين في صحة تامة ورآه عائدا من الميدان على جواده كالأسد. واعتقد أنهم يشيعون ذلك رغبة في اجتماع كلمتهم. لكنه ما لبث أن جاءه رسول من الشيخ دبوس يدعوه إليه، فأسرع في أثره إلى مجلس دبوس فرآه قاعدا في صدر الغرفة وبين يديه جماعة من الأمراء بلباس متشابه وعلى رءوسهم العمائم تقرب من عمامة دبوس. فغلب على اعتقاده أنهم من رجاله.
فلما وقف عماد الدين أمامهم خاطبه دبوس قائلا: «أأنت قادم من بيت المقدس؟» قال: «نعم.»
قال: «ألم تجعل طريقك على دمشق؟» قال: «بلى.»
قال: «كيف كان سلطانها الأتابك نور الدين هل شاهدته؟»
قال: «نعم شاهدته على جواده عائدا من الميدان نحو الظهر.»
Shafi da ba'a sani ba