Salah al-Kusuf
صلاة الكسوف
Mai Buga Littafi
مطبعة سفير
Inda aka buga
الرياض
Nau'ikan
٣٨
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
_
صلاة الكسوف
مَفهُومٌ، وَأسبابٌ، وَآدَابٌ، وَآياتٌ، وَحِكَم، وَأحْكامٌ
في ضوء الكتاب والسنة
Shafi da ba'a sani ba
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد.
فهذه رسالة مختصرة في: «صلاة الكسوف» وما يتعلق بها من أحكام، بيَّنت فيها بتوفيق الله تعالى: مفهوم الكسوف والخسوف، وأن ذلك من آيات الله التي يُخوِّف بهما عباده، وبيَّنت أسباب الكسوف الحسّيَّة والشرعيَّة، وفوائد الكسوف وحِكمه، وحُكم صلاة الكسوف، وآداب صلاة الكسوف: الواجبة والمستحبة، وصفة صلاة الكسوف، ووقتها، وأنها لا تُدرَك الركعة إلا
1 / 3
بإدراك الركوع الأول، وذكرت خلاف العلماء في الصلاة للآيات، وقد قرنت كل مسألة بدليلها أو تعليلها على قدر الإمكان، وقد استفدت كثيرًا من تقريرات وترجيحات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله تعالى.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه سبحانه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر بعد عصر يوم الإثنين
الموافق ١٨/ ١/١٤٢٣هـ
1 / 4
أولًا: مفهوم الكسوف، والخسوف:
الكسوف لغة: التغير إلى سواد، يقال: كسفت حاله إذا تغيرت، وكسف وجهه إذا تغير، وكسفت الشمس: اسودَّت، وذهب شعاعها (١).
والخسوف لغة: النقصان، يقال: خسف المكان يخسف خسوفًا، إذا ذهب في الأرض، ويقال: عينٌ خاسفة: إذا غابت حدقتها، منقول من خسف القمر، وبئر مخسوفة: إذا غاب ماؤها ونزف، منقول من خسف الله القمر، وتُصوِّرَ من خسف القمر مهانة تلحقه فاستعير الخسف للذل، فقيل: تحمل فلان خسفًا (٢).
فكسوف الشمس والقمر وخسوفهما: تغيرهما ونقصان ضوئهما فهما بمعنى واحد وكلاهما صحت به الأحاديث، وجاء القرآن بلفظ الخسوف للقمر (٣).
_________
(١) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، ٢/ ٥٤٩، والإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، ٤/ ٢٦٤، وفتح الباري لابن حجر، ٢/ ٥٢٦.
(٢) انظر: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، ٤/ ٢٦٤، والمفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، ٢/ ٥٤٩، ومفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني، ص٢٨٢.
(٣) المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم،٢/ ٥٤٩،والمغني لابن قدامة، ٥/ ٣٢١.
1 / 5
الكسوف أو الخسوف في الاصطلاح: احتجاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه بسبب معتاد يخوف الله به عباده، فعلى هذا يكون الكسوف والخسوف مترادفين أي بمعنى واحد، فَيُقال: كسفت الشمس وخسفت، وكسف القمر وخسف (١)، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر (٢).
_________
(١) الشرح الممتع على زاد المستقنع، ٥/ ٢٢٩.
(٢) اختلف في الكسوف والخسوف هل هما مترادفان أو لا؟ قال ابن الأثير ﵀ في النهاية في غريب الحديث، ٤/ ١٧٤: «قد تكرر في الحديث ذكر الكسوف والخسوف «للشمس والقمر» فرواه جماعة فيهما بالكاف، ورواه جماعة فيهما بالخاء، ورواه جماعة في الشمس بالكاف، وفي القمر بالخاء، وكلهم رووا أنهما آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، والكثير في اللغة - وهو اختيار الفراء - أن يكون الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، يقال: كسفت الشمس، وكسفها الله، وانكسفت، وخسف القمر، وخسفه الله، وانخسف». وقال أيضًا، ٢/ ٣١: «إن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته: «يقال: خسف القمر بوزن ضرب إذا كان الفعل له، وخُسِفَ القمر على ما لم يسم فاعله، وقد ورد الخسوف في الحديث كثيرًا للشمس، والمعروف لها في اللغة الكسوف، لا الخسوف، فأما إطلاقه في مثل هذا الحديث فتغليبًا للقمر، لتذكيره على تأنيث الشمس، فجمع بينهما فيما يخص القمر، وللمعاوضة أيضًا؛ فإنه قد جاء في رواية أخرى: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان»، وأما إطلاق الخسوف على الشمس منفردة؛ فلاشتراك الخسوف والكسوف في معنى ذهاب نورهما وإظلامهما، والانخساف مطاوع خسفته فانخسف».
وقال في جامع الأصول ٦/ ١٦٤: «يقال: كسفت الشمس وكسفها الله بتعدّي فعله ولا يتعدّى، وكذلك كسف القمر، والأولى أن يقال: خسف القمر، وقد جاء في الحديث: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف».
وقال الفيروز آبادي في القاموس، ص١٠٣٩: «خسف المكان يخسف خسوفًا: إذا ذهب في الأرض، وخسف القمر: كسف، أو كسف للشمس وخسف للقمر، أو الخسوف إذا ذهب بعضهما، والكسوف كلهما، وقال في موضع آخر، ص١٠٩٧: «كسف الشمس والقمر كسوفًا: احتجبا، كانكسفا، وكسف الله إيهما: حجبهما، والأحسن في القمر: خسف، وفي الشمس: كسفت».
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «يقال: كسفت الشمس والقمر، بفتح الكاف، وكُسِفا بضمها، وانكسفا وخسفا، وخُسِفا، وانخسفا بمعنى، وقيل: كسف الشمس بالكاف، وخسف القمر بالخاء، وحكى القاضي عياض عكسه عن بعض أهل اللغة والمتقدمين وهو باطل مردود بقول الله تعالى: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ ثم جمهور أهل العلم وغيرهم على أن الخسوف والكسوف يكون لذهاب ضوئهما، كله، ويكون لذهاب بعضه، وقال جماعة منهم الليث بن سعد: الخسوف في الجميع، والكسوف في بعض، وقيل: الخسوف ذهاب لونهما، والكسوف تغيره» شرح النووي على صحيح مسلم، ٦/ ٢٥١.
قال الإمام البخاري ﵀: «بابٌ: هل يقول: كسفت الشمس أو خسفت، وقال الله تعالى: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ [القيامة: ٨]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: «قال الزين بن المنير: أتى بلفظ الاستفهام إشعارًا منه بأنه لم يترجح عنده في ذلك شيء». ثم قال ابن حجر: «قلت: ولعله أشار إلى ما رواه ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال: لا تقولوا كسفت الشمس ولكن قولوا: خسفت، وهذا موقوف صحيح رواه سعيد بن منصور عنه، وأخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عنه، لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه؛ لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح، وقيل: يتعين ذلك، وحكى عياض عن بعضهم عكسه، وغلطه لثبوته بالخاء في القمر في القرآن وكأن هذا السر في استشهاد المؤلف به في الترجمة، وقيل: يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف؛ لأن الكسوف التغير إلى السواد، والخسوف النقصان أو الذل، فإذا قيل: في الشمس كسفت أو خسفت؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل: بالكاف في الابتداء وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون والكاف لتغيره ... [فتح الباري لابن حجر، ٢/ ٥٣٥]،وقال الحافظ ابن حجر أيضًا: «قيل: الخسوف في الكل والكسوف في البعض وهو أولى من قول من قال: الخسوف للقمر، والكسوف للشمس لصحة ورود ذلك في الصحيح بالخاء للشمس» [هدي الساري مقدمة فتح الباري، ص١١١]. وقال: «كسفت الشمس: أي سُتِر ضوؤها» [المرجع السابق، ١٧٩].
وقال في معجم لغة الفقهاء، ص١٧٣، و٣٤٩: «خسوف بضم الخاء مصدر خُسف الشيء: نقص: ذهاب ضوء القمر خاصة كلًا أو جزءًا، كُسوف: بالضم مصدر كسف: زوال ضوء الشمس كلًا أو جزءًا، بسبب اعتراض القمر بين الأرض والشمس» والراجح ما تقدم في المتن، والله تعالى أعلم.
1 / 6
ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد؛ ولهذا نظائر في اللغة العربية، والله تعالى أعلم (١).
_________
(١) الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، ٥/ ٢٢٩، وانظر: نيل الأوطار للإمام الشوكاني، ٢/ ٦٣٣ - ٦٤٨.
1 / 8
ثانيًا: الكسوف أو الخسوف: آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده؛ لحديث ابن عمر ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: «إنَّ الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموهما فصلوا» (١)؛ ولحديث أبي مسعود ﵁، قال: قال النبي ﷺ: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلُّوا» (٢).
قال الحافظ ابن حجر ﵀: قوله: «آيتان»: أي علامتان، «من آيات الله» أي الدالة على وحدانية الله، وعظيم قدرته، أو على تخويف العباد من بأس الله وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ
_________
(١) البخاري، كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، برقم ١٠٤٢.
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس، برقم ١٠٤١، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف «الصلاة جامعة»، برقم ٩١١.
1 / 9
مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا﴾ (١) (٢)؛ ولحديث أبي بكرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يُخوِّف بهما عباده» (٣).
وعن عائشة ﵂ ترفعه: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتى ينجليا» (٤).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وكأن بعض الناس ظن أن كسوفها [أي الشمس] كان؛ لأن إبراهيم مات فخطبهم النبي ﷺ وقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» (٥). وفي رواية في الصحيح:
_________
(١) سورة الإسراء، الآية: ٥٩.
(٢) فتح الباري، لابن حجر، ٢/ ٥٢٨.
(٣) البخاري، كتاب الكسوف، باب قول النبي ﷺ:يخوف الله عباده بالكسوف، برقم ١٠٤٨.
(٤) مسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم ٦ – «٩٠١».
(٥) متفق عليه من حديث عائشة ﵂: البخاري برقم ١٠٤٤، ورقم ١٠٤٧، ومسلم، برقم ٩٠١، ويأتي تخريجه في صفة صلاة الكسوف.
1 / 10
«ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده» (١). وهذا بيان منه ﷺ أنهما سبب لنزول عذاب بالناس؛ فإن الله تعالى إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه، وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفًا، قال تعالى:
﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا﴾ (٢)، وأمر النبي ﷺ بما يزيل الخوف: أمر بالصلاة، والدعاء، والاستغفار، والصدقة، والعتق، حتى يُكشف ما بالناس، وصلى بالمسلمين صلاة الكسوف صلاة طويلة» (٣).
وهذا يؤكد الاستعداد بالمراقبة لله تعالى والالتجاء إليه سبحانه، وخاصة عند اختلاف الأحوال وحدوث ما
_________
(١) البخاري، برقم ١٠٤٨، وتقدم تخريجه في الذي قبله.
(٢) سورة الإسراء، الآية: ٥٩.
(٣) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ٢٤/ ٢٥٨ - ٢٥٩، وانظر: ٣٥/ ١٦٩.
1 / 11
يخاف بسببه (١).
ثالثًا: أسباب الكسوف الحسّيَّة والشرعية:
السبب الحسي (٢)، قال الإمام ابن القيم ﵀: «وفي قوله ﷺ: «لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته» (٣)، قولان:
أحدهما: أن موت الميت وحياته لا يكون سببًا انكسافهما، كما كان يقوله كثير من جهال العرب وغيرهم عند الانكساف، أن ذلك لموت عظيم، أو ولادة عظيم، فأبطل النبي ﷺ ذلك، وأخبر أن موت الميت وحياته لا يؤثر في كسوفهما البتة.
والثاني: أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة، فلا يكون انكسافهما سببًا لموت ميت ولا لحياة حي، وإنما ذلك تخويف من الله لعباده أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة، بالحساب: طلوع الهلال، وإبداره، وسراره.
_________
(١) حاشية ابن قاسم على الروض المربع، ٢/ ٥٢٤.
(٢) انظر: الشرح الممتع لابن عثيمين، ٥/ ٢٣٠.
(٣) البخاري برقم ١٠٤٨، وتقدم تخريجه.
1 / 12
فأما سبب كسوف الشمس: فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا.
وأما سبب خسوف القمر: «فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعًا من اكتساب النور من الشمس، ويبقى ظلام ظل الأرض في ممره؛ لأن القمر لا ضوء له أبدًا، وأنه يكتسب الضوء من الشمس ...» (١).
والعلم بوقت الكسوف ليس من علم الغيب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «الكسوف والخسوف لهما أوقات مقدرة، كما لطلوع الهلال وقت مقدر، وذلك ما أجرى الله عادته بالليل والنهار، والشتاء والصيف، وسائر ما يتبع جريان الشمس والقمر، وذلك من آيات الله ... وكما أن العادة التي أجراها الله تعالى أن الهلال لا يستهل إلا ليلة ثلاثين من الشهر، أو ليلة إحدى وثلاثين، وأن الشهر لا يكون إلا ثلاثين أو تسعة
_________
(١) مفتاح دار السعادة، ٣/ ٢١٢ - ٢١٥، وقد شرح هذه الأسباب شرحًا مفصلًا، فليرجع إليه من شاء من ٣/ ٢١٢ - ٢٣٠.
1 / 13
وعشرين، فمن ظن أن الشهر يكون أكثر من ذلك أو أقل، فهو غالط، فكذلك أجرى الله العادة أن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار، وأن القمر لا يخسف إلا وقت الإبدار، ووقت إبداره: الليالي البيض التي يستحب صيام أيامها: ليلة الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فالقمر لا يخسف إلا في هذه الليالي، والهلال يستسر آخر الشهر إما ليلة وإما ليلتين، كما يستسر ليلة تسع وعشرين، وثلاثين، والشمس لا تكسف إلا وقت استسراره، وللشمس والقمر ليالي معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف ... وليس خبر الحاسب بذلك من علم الغيب، ومن قال من الفقهاء إن الشمس تكسف في وقت الاستسرار فقد غلط، وقال ما ليس له به علم ... (١» (٢).
_________
(١) فتاوى شيخ الإسلام، ٢٤/ ٢٥٤ - ٢٥٧، وانظر ٣٥/ ١٧٥.
(٢) وقال شيخ الإسلام أيضًا: «وما يروى عن الواقدي من ذكره أن إبراهيم بن النبي ﷺ مات يوم العاشر من الشهر، وهو اليوم الذي صلى فيه النبي ﷺ صلاة الكسوف: غلط، والواقدي لا يحتج بمسانيده فكيف بما أرسله من غير أن يسنده إلى أحد، وهذا فيما لا يعلم أنه خطأ، فأما هذا فيعلم أنه خطأ. ومن جوز هذا فقد قفا ما ليس له به علم، ومن حاج في ذلك فقد حاج فيما ليس له به علم» [مجموع الفتاوى، ٢٤/ ٢٥٧]، وقد ذكر العلامة أحمد شاكر نقلًا عن بعض علماء الفلك تحقيق وقت الكسوف الذي صلى فيه النبي ﷺ صلاة الكسوف يوم مات إبراهيم، وأن الشمس كسفت في المدينة في يوم الإثنين ٢٩ شوال سنة ١٠هـ الموافق ليوم ٢٧ يناير سنة ٦٣٢م في الساعة الثامنة والدقيقة ٣٠ صباحًا [المحلى، الحاشية، ٥/ ١٠٣ - ١٠٥]، وانظر هذا النقل أيضًا في إسعاف الملهوف في بيان أحكام صلاة الكسوف، لأبي عمر حاوي بن سالم الحاوي، ص٥٢ - ٥٣،الدار السلفية، الكويت.
1 / 14
ولا يُكذَّب المخبر بالكسوف ولا يُصدَّق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «وأما تصديق المخبر بذلك وتكذيبه، فلا يجوز أن يصدق إلا أن يعلم صدقه، ولا يكذب إلا أن يعلم كذبه (١)، ولكن إذا تواطأ خبر أهل الحساب على ذلك فلا يكادون يخطئون، ومع هذا فلا يترتب على خبرهم علم شرعي، فإن صلاة الكسوف
_________
(١) قال الإمام ابن باز: «وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم ما يوافق ذلك وأن الله سبحانه قد أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر؛ لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب، والواقع شاهد بذلك ولكن لا يلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون، بل قد يخطئون في حسابهم، فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا، والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير، لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، والله أعلم» تعليق ابن باز على فتح الباري لابن حجر، ٢/ ٥٣٧.
1 / 15
والخسوف لا تُصلَّى إلا إذا شاهدنا ذلك، وإذا جوَّز الإنسان صدق المخبر بذلك أو غلب على ظنه فنوى أن يُصلي الكسوف والخسوف عند ذلك، واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلك كان هذا حثًّا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته؛ فإن الصلاة عند الكسوف متفق عليها بين المسلمين، وقد تواترت بها السنن عن النبي ﷺ، ورواها أهل الصحيح، والسنن، والمسانيد من وجوه كثيرة» (١).
السبب الشرعي: هو تخويف الله تعالى لعباده؛ لحديث أبي بكرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يخوِّف بهما عباده» (٢).
وهذا السبب هو الذي يفيد؛ ليرجعوا إلى الله تعالى، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة؛ ولهذا لم يبينه النبي ﷺ (٣).
_________
(١) مجموع فتاوى ابن تيمية، ٢٤/ ٢٥٨.
(٢) البخاري، برقم ١٠٤٨، وتقدم تخريجه.
(٣) انظر: الشرح الممتع؛ لابن عثيمين، ٥/ ٢٣٣.
1 / 16
قال شيخ الإسلام ﵀ عن الحديث السابق: «فذكر أن حِكْمَةَ ذلك تخويف العباد كما يكون تخويفهم في سائر الآيات: كالرياح الشديدة، والزلازل، والجدب، والأمطار المتواترة، ونحو ذلك من الأسباب التي قد تكون عذابًا؛ كما عذب الله أُممًا بالريح، والصيحة، والطوفان، وقال تعالى: ﴿فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (١)، وقد قال:
﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا﴾ (٢)، وإخباره بأنه يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سببًا لعذاب ينزل: كالريح العاصفة الشديدة، وإنما يكون ذلك إذا كان الله قد جعل ذلك سببًا لِمَا ينزل
_________
(١) سورة العنكبوت، الآية: ٤٠.
(٢) سورة الإسراء، الآية: ٥٩.
1 / 17
في الأرض» (١).
وقد سبق أن شيخ الإسلام ذكر: أن النبي ﷺ بيّن أن كسوف الشمس والقمر سبب لنزول عذاب بالناس (٢).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «نعم لا ننكر أنه سبحانه يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم، ويجعل الكسوف سببًا لذلك؛ ولهذا أمر النبي ﷺ عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله، والصلاة، والعتاقة، والصدقة، والصيام؛ لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسف الذي جعله الله سببًا لِمَا جعله، فلولا انعقاد سبب التخويف لَمَا أمر بدفع موجبه بهذه العبادات، ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء، والنعماء، ويقضي من الأسباب ما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به، أو يقلله، أو يخففه، فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه
_________
(١) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، ٣٥/ ١٦٩.
(٢) المرجع السابق، ٢٤/ ٢٥٨ – ٢٥٩.
1 / 18
الشر الذي جعل الله الكسوف سببًا له أو بعضه؛ ولهذا قلّ ما تسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف، وتسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل، أو يقل فيها جدًا، ولمَّا كسفت الشمس على عهد النبي ﷺ قام فزعًا مسرعًا يجرُّ رداءه، ونادى في الناس: الصلاة جامعة، وخطبهم بتلك الخطبة البليغة، وأخبر أنه لم يرَ كيومه ذلك في الخير والشر، وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة: بالعتاقة، والصدقة، والصلاة، والتوبة، فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله، وبأمره، وشأنه، وتعريفه أمور مخلوقاته، وتدبيره، وأنصحهم للأمة، ومن دعاهم إلى ما فيه سعادتهم: في معاشهم، ومعادهم، ونهاهم عما فيه: هلاكهم: في معاشهم ومعادهم» (١).
والعلم بوقت الكسوف لا ينافي الخوف؛ ولهذا قال
_________
(١) مفتاح دار السعادة، ٣/ ٢٢٠.
1 / 19
شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: «وأما كون الكسوف أو غيره قد يكون سببًا لحادث في الأرض من عذاب يقتضي موتًا أو غيره: فهذا قد أثبته الحديث نفسه» (١). وقال ﵀: «فإذا كان الكسوف له أجل مسمى لم ينافي ذلك أن يكون عند أجله يجعله الله سببًا لِمَا يقتضيه من عذاب وغيره لمن يعذب الله في ذلك الوقت، أو لغيره ممن ينزل الله به ذلك، كما أن تعذيب الله لمن عذبه بالريح الشديدة الباردة: كقوم عاد كانت في الوقت المناسب وهو آخر الشتاء كما ذكر ذلك أهل التفسير، وقصص الأنبياء، وكذلك الأوقات التي يُنزل الله فيها الرحمة: كالعشر الآخرة من رمضان، والأُول من ذي الحجة، وكجوف الليل، وغير ذلك: هي أوقات محدودة لا تتقدم ولا تتأخر، وينزل فيها من الرحمة ما لا ينزل في غيرها» (٢).
ولا تنافي بين اجتماع السبب الحسي والشرعي، ويكون
_________
(١) مجموع الفتاوى، ٣٥/ ١٧٥.
(٢) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ٣٥/ ١٧٦.
1 / 20
الحسي معلومًا معروفًا للناس قبل أن يقع، والشرعي معلومًا بطريق الوحي؛ «لأنه حتى الأمور العظيمة: كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها وأنها عقوبة لها أسباب طبيعية، يُقدِّر الله هذه الأسباب الطبيعية حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك: هو تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يُقَدِّر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله ...» (١).
رابعًا: فوائد الكسوف وحِكَمَهُ: للكسوف حِكَمٌ عظيمةٌ منها، سبع فوائد: قال ابن الملقن رحمه الله تعالى: «ونقل المحب الطبري في أحكامه عن بعضهم أن في الكسوف سبع فوائد:
الأولى: ظهور التصرف في الشمس والقمر، وهما خلقان عظيمان.
_________
(١) الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن عثيمين، ٥/ ٢٣٣.
1 / 21
الثانية: أن يتبين بتغيُّرهما تَغيُّر شأن ما بعدهما (١).
الثالثة: إزعاج القلوب الساكنة بالغفلة وإيقاظها.
الرابعة: ليرى الناس نموذج ما سيجري في القيامة، قال تعالى: ﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ (٢).
الخامسة: أنهما موجودان في حال الكمال، ويكسفان ثم يلطف بهما، ويعادان إلى ما كانا عليه، تنبيهًا على خوف المكر ورجاء العفو.
السادسة: إعلام بأنه قد يؤخذ من لا ذنب له؛ ليحذر من له ذنب.
السابعة: أن الناس قد أَنسوا بالصلوات المفروضات، فيأتونها من غير انزعاج ولا خوف، فأتى بهذه الآية سببًا لهذه الصلاة؛ ليفعلها بانزعاج، وخوف، ولعل تركه يصير عادة لهم في المفروضات» (٣).
_________
(١) في عمدة القاري للعيني، ٦/ ٥٣ «الثانية: تبين قبح شأن من يعبدها».
(٢) سورة القيامة، الآيتان: ٨، ٩.
(٣) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، ٤/ ٢٦٧، وانظر: عمدة القاري للعيني، ٦/ ٥٣، وفتح الباري لابن حجر، ٢/ ٥٣٢.
1 / 22