أديم مماطلة الجوع من غير ذلة خضوع , وأواعد نفسي بسوف أبلغك الأمل واتصبر , ولم يزل حالي بها كذلك حتى أميت الجوع وأعدمه [65ظ] ولا أتضجر , واترك ذكره إعراضا فأنساه وأغفل عنه ولا أجد له ألما ويمسني ضررمنه , وهذا ما ذكره التحرير السويدي في شرحه , والذي يظهر لنا أنه لما كان الأكل لا يزال ينفك عنه لمقتضى البشرية , وانه لو تركه دفعة ربما لا يطيق على ذلك , فيكون مماطلته لنفسه حتى أمات الجوع عما هو معتاده , وأنه ترك منه شيئا فشيئا خشية الحاجة إلى غير همته , وأن يكون مدامنا عليه , ولعمري لقد بالغ في صبره على الجوع بحيث أن ما ادعاه خارجا عن مقدرة البشر , لكن لا يخفى أن للبلغاء مقامات خطابية وقضايا شعرية يسكبونها في قالب الإمكان , فيتلقاها كل من نظر إليها بالقبول والعرفان , ومما يناسب ما ادعاه قول
الشاعر (1): [من الوافر]
أبت لي عفتي أبى بلائي ... أخذي الحمد بالثمن الربيح (2)
وإمساكي عن المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح (3)
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مكارم صالحات ... وأحمي بعد عن عرض صحيح
وقوله - صلى الله عليه وسلم: (تموت الحرة ولا تأكل بثدييها (4)) , فإن قلت: إذا كان من العدائين , ويسبق القطا إلى الورد , ومقدام شجاع , فما الذي يحوجه إلى بقائه جائعا , قلت: من شدة توحشه عن أبناء جنسه , وموالفته للفيافي والقفار قد ترمي به الأقطار في صحراء لا أحد فيها , وتعظم [66و] نفسه أنه لأجل أكله خوفا من جوع يقصد مسافة بعيدة حتى يأخذ ما يقيته , أو أنه يأتي به الطريق إلى بعض أحياء العرب فيراهم كراما تأبى نفس الكريم تصديقهم , أو انه قد يتفق إيثار الذئاب على نفسه فيما يوجد عنده المأكول عفة منه , أو أنه يمكنه التسلية لنفسه بخلافها لأنها ليست ذات عقل.
Shafi 220