إهداء
الاستبداد بمساندة السماء
البيعة ليست هي التصويت1
ادفنوا موتاكم!1
إهداء
الاستبداد بمساندة السماء
البيعة ليست هي التصويت1
ادفنوا موتاكم!1
صحوتنا لا بارك الله فيها
صحوتنا لا بارك الله فيها
تأليف
سيد القمني
إهداء
لأصدقائي، لأحبائي، الذين جمعتني بهم الفكرة وهموم الوطن.
الاستبداد بمساندة السماء
في بلاد المسلمين معاهد علمية، مهمتها تخريج مشايخ الدين للدعوة والوعظ والإرشاد، ويزعم هؤلاء على مختلف فرقهم وتنافر مذاهبهم، أنهم وحدهم الأمناء على دين المسلمين منذ فجره الأول، وأنه لا يحق لأي مسلم خارج المنظومة المشيخية أن يتحدث في شأن الإسلام والمسلمين؛ لأنه حكر على الدعاة فقط، وهو الزعم الذي يضع مشايخنا أمام مسئولية تاريخية عظيمة وهائلة، إزاء ما آل إليه أمر الإسلام والمسلمين عبر عشرة قرون مضت من الهوان والتراجع والانهزام.
والناظر إلى الشارع في بلادنا سيجد المسلمين وقد سلموا أدمغتهم للمشايخ بالتمام والكمال؛ فلا يخطو المسلم خطوة ولا يأتي تصرفا ولا يقول قولا إلا بعد استفتاء المشايخ، فهو يسير وفق برنامج من الأوامر والنواهي؛ متى يصحو ومتى ينام وكيف ينام، وبماذا يدعو قبل أو بعد، وما هو الوضع المستحب أثناء الدعاء، على ظهورهم أم على جنوبهم، لأن المشايخ هم حفظة كتاب ما فرط الله فيه من شيء؛ لذلك كل شيء عند المشايخ كامل (كومبليت) صالح لكل مكان في مكة أو في الصين أو في المريخ، ولكل زمان مضى أو لم يأت بعد.
وأمام الرهاب المستمر للإله الذي يفرضون حضوره طوال الوقت، ويجعلونه يتدخل في كل كبيرة وصغيرة، ويشغلونه بالتوافه الهينات في حياة المسلم، ليضع له عقوبات مفصلة مشروحة بعناية، فالعقوبات الربانية ألوان وفنون؛ من شي البشر على النار، إلى القلي في الزيت، إلى التمزيق بأشواك من حديد، إلى الوثاق بالسلاسل الطوال، من جهنم الحمراء، إلى جهنم البيضاء التي ابيضت نارها لكثرة ما تلظت، ومن عقارب كالبغال الموكفة، إلى ثعابين قرع، إلى عقاب دنيوي في المال والعيال والصحة والمستقبل؛ فكان أن سلم المسلمون المسئولية لمشايخهم الذين يعرفون الدروب والأنفاق والمعابر السرية لدين أصبح ثقيلا هائلا لكثرة ما أضافوا إليه، فأوكل المسلمون للمشايخ مسألة إيمانهم الذي يستعصي عليهم فهمه، ويجهلون فنونه مقابل الطاعة العمياء التي هي سبيل النجاة.
ومع هذا التسليم الشعبي الجارف لسادتنا المشايخ فإن حال المسلمين كما ترون فضيحة بجلاجل، فضحونا وجرسونا في العالمين، بمقابل لن يغفره لهم التاريخ، وهو عقل الناس الذي أخذوه منهم، فقط ليعرفوهم بالله ويشيروا لهم نحو الله ... هذا هو الله؟! أخذوا عقل الوطن مقابل أن يعرفوهم على الله الذي سيقوم بالتفكير لهم نيابة عنهم، عبر دعاته من كل لون ومذهب.
وأصبح كل من اتخذ سمت الشيخ من لحية أو زبيبة أو يونيفورم حق له أن يكون داعية ومفتيا، يعرف في كل حاجة، ويفتي في كل علم، ويتحدث في كل شأن مما هو فوق الأرض أو تحتها، وفي نهاية الفتوى يختمها بقوله: «والله أعلم»! إن عبارة «والله أعلم» هي تدريب دائم للعقل لينسحب من العلم ولا يتعامل معه كوسيلة وأداة للمعرفة؛ لأن الله أعلم عند مشايخنا، بينما في العلم نحن من نعلم، وليس في العلم شيء اسمه «والله أعلم». إن العبارة إخلاء تام وصريح للشيخ من مسئولية تفسيره أو فتواه، ويترك السائل مبلبلا، ذهب يستفتي لتزداد حيرته، السائل مسلوب العقل والإرادة يفترض في نفسه أنه لا يعلم شيئا، فذهب يسأل الشيخ الذي يعلن عن نفسه بالفم المليان أنه «عالم» عارف، فإذا هو به بدوره جاهل لا يعلم، ورغم أنه يقر في النهاية أنه لا يعلم فإنه يتصرف من البداية على أنه وحده من يعلم مفتاح أية حقيقة أو معرفة صادقة تامة.
إن عبارة «والله أعلم» المشيخية لا تبدو تعبيرا عن تواضع ذات الشيخ العالم، بقدر ما هي تسليم بأن الحقيقة شيء مخفي لا يعلمه إلا الله؛ ولأن الله هو من أخفاها فهو وحده من يعرفها، هي دعوة صريحة لعدم البحث أو المعرفة أو العلم استسلاما للمشايخ. هذا بينما لم تنتقل أوروبا إلى النهضة إلا عندما كسرت قاعدة «والله أعلم»، واعتبرت الحقيقة والمعرفة مشاعا موضوعيا لمن يبتغيها ويبحث عنها، وقالت : أنا أبحث ... إذن أنا أعلم. وإن الله قد رضي عن علمهم هذا فكشف لهم عن كنوز علمه.
بحث علماء الغرب فاكتشفوا أن سبب الإصابة بالمرض ليس المس الشيطاني ولا الغضب الإلهي، إنما هي كائنات محايدة لا علاقة لها بغضب أو رضا تعمل على أي جسم حي مناسب لحضانتها لتستكمل دورة حياتها، من ميكروبات وفيروسات وجراثيم. بحث الأوروبي فاكتشف أن عمر الكون مليارات السنين وليس 4000 سنة كما يقرر كتابه المقدس، فعلم وتأكد أن كتابه المقدس يقدم له كتالوجا مزيفا؛ لأن ماكينة الكون الموجودة تحت حواسنا وآلات رصدنا تقول شيئا غير ما يقول الكتالوج المقدس؛ لهذا قررت أوروبا أن تنحاز للعلم، وأحالت الكتالوج المزيف إلى دار المحفوظات الأثرية، بينما المسلمون حتى اليوم يقبلون كتالوجات مزيفة، من كتالوجات الصحاح، إلى كتالوج الشعراوي، إلى كتالوج قرضاوي، إلى كتالوج سليم العوا، إلى كتالوج فهمي هويدي ... وهلم جرا؛ فهم أكثر من الهم على القلب.
وإذا كان الدعاة يرون أن لديهم كل الحلول الربانية الجاهزة كأكمل الحلول وأكثرها نجاعة لكل شأن في الحياة، فلماذا نحن دون الأمم قبيلة الله المتخلفة التي اختارها رب السماء خيرا للأمم؟!
لقد كانت حلولنا مع إسلامنا مطروحة في سوق العالم عبر التاريخ، ومع ذلك فإن العالم الغربي عندما اختار لنهضته، لم يختر الإسلام، إنما اختار فلسفة اليونان وديمقراطيتها وفنونها، واختار قوانين الروم ودساتيرهم وفنونهم، ورجع لأوزيريس في مصر القديمة وعشتار في العراق القديم وأدونيس في الشام القديم كأفكار إنسانية. كل المعارف والفلسفات كانت مطروحة في سوق العالم للمفاضلة والاختيار، ومن بينها كان الإسلام الذي يتميز عنها جميعا بكونه رباني المصدر، بل إنه يجب كل ما قبله، لكن عند الاختيار العالمي لم يختره أحد، واختار الجميع غيره، فهل قصر دعاتنا في تبليغ العالم بدعوة الإسلام واكتفوا بالجلوس بيننا يدعوننا نحن إلى الإسلام بعدما أسلمنا بألف وأربعمائة عام؟
كذلك تقوم لغة العلم كله، طبيعيا كان أم إنسانيا، فلسفة أم سياسة أم اقتصادا أم قانونا، على التراث اليوناني والروماني وليس فيه من الإسلام شيء. واختار العالم الذي تقدم قيم الوثنيين وترك القيم الربانية! لماذا يا ترى؟ ولماذا أصبحنا بين بلاد العالم من يحتاج إلى إصلاح باعتراف الجميع؟ لماذا تخرج المظاهرات في بلادنا تطالب بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا تخرج في أوروبا وأمريكا مظاهرات تطالب بالشورى وبالجهاد وتعدد الزوجات؟ أليس ذلك بعلامة بليغة على تقصير الدعاة، رغم ما حازوه من ثقة شعوبهم وتسليمهم لهم، مع ما حازوه من نجومية وأبهة اجتماعية ومنازل سلطوية ورفاه وسعادة، أدناها منزلة لهط الثريد المعمر بالسمن البلدي لهطا، وهو كله ما وفره لهم بسطاء المسلمين الفقراء مخصوما من دخولهم المتواضعة، كي يتمكن الدعاة من نشر دين المسلمين وحمايته؟
ما بين عامي 1919م و1952م تشكلت في مصر نواة لطبقة برجوازية أفرزت ليبرالية وليدة، وفي ذلك الزمان تراجع دور الشيخ تراجعا كبيرا، بل ومهينا، وكان الشيخ هو محل عمل كثير من ألوان الكاريكاتير في المسرح والسينما والصحف، كان توجيه السؤال الاستنكاري لأي محاور: «هوه أنت فقي» يعتبر إهانة شديدة؛ فهو استنكار تصغيري يشير إلى العقلية الحافظة علة الجمود والببغائية، هو أيضا سخرية مرة من العاملين بشئون الدين على العباد، صاحبها وعي شعبي واسع بدور رجل الدين في التخلف أمام دنيا متسارعة. في ذلك الزمان كان الأزهر هو المكان الوحيد الذي يكفل لطلابه مع العلم الديني كل سبل المعيشة من إقامة وجراية طعام وكسوة، جلبا لزبائن حال الفقر بينهم وبين التعليم المدني، فكان على المستوى الطبقي ملجأ عاما للمعوزين والمعدمين وبخاصة ذوو العاهات منهم. حتى جاءت ثورة غفر يوليو 1952م (المباركة) لتقيم شرعيتها على التحالف مع الأزهر، وإعلاء شأنه حتى يكون مصدرا محترما لشرعية حكمها. وانتهى المشروع القومي بهزائم منكرة انتهت بقيام الصحوة الإسلامية (المباركة بدورها) على أنقاض المشروع القومي (المبارك) المهزوم. ومع الصحوة عاد الشيخ إلى الصدارة بقوة أعطته مساحة تسلط على العباد لم يسبق أن حازها من قبل خلال تاريخه، وهو الأمر الذي ساعدت عليه تقنيات الإعلام الحديثة من صحف وتلفاز ومذياع، وهو ما كان في بلادنا من حق الحكومة وحدها تصوغه كيفما تشاء، لكنها - لحسابات سلطوية بحت ، وبقصد قطع شعوبنا عن الحداثة ومبادئها الحقوقية - بدلا من أن تصوغه، تركته لحلفائها من مشايخ سداحا مداحا، مما انتهى إلى ضياع عقل الوطن، بينما أصبح الدين أسهل مطية لكل من يريد أن يركبنا، ويعمل علينا شيخ. ودون أن نفكر أن هذا الدين هو من عند الله وأنه يستحق منا احتراما يليق به.
وكان للظرف الموضوعي دوره الفصيح في نشوء طبقة رجال دين في الإسلام منذ فجره، عندما اعتمد المسلمون على حفظ القرآن كنتيجة طبيعية لانتشار الأمية، إضافة إلى صعوبة قراءة القرآن المبكر لعدم تنقيط الأحرف ولا تشكيلها بعلامات مميزة، مما جعل مثل هذه القراءة بدون شيخ معلم وملقن ومرشد تكاد تكون غير ممكنة بالمرة، ومن ثم ظهرت طبقة القراء التي أسست من بعد لطبقة رجال الدين التي احتكرت الفهم والتفسير بحكم الأستاذية. وإبان الصراع السياسي في الفتنة الكبرى وما تلاها من فتن، أمكن لهؤلاء اكتساب القداسة بمبدأ كان مرفوضا زمن الدعوة وزمن الخلافة الراشدة وهو تدوين السنة، مع اختراع الأحاديث حسب الطلب وبالقياسات المرغوبة، أصبح لهم مهمة مقدسة إضافية هي تفسير القرآن بالحديث. ومنذ شرع الخليفة عمر ضرب عنق من يختلف مع الستة المرشحين للخلافة من بعده، أمكن بالقياس أن يصبح هذا الجزاء بجز العنق من عرشه، من نصيب من يدلي برأي غير ما يقول به أهل الدين.
وخلال الفترة القريبة من متغيرات نصف قرن أو يزيد قليلا، أثبت المشايخ على طول الخط أنهم لا منشغلين بالناس ولا حتى بالدين، إنما كانوا مع مصالحهم وحلفهم السلطاني، وهو الحلف الذي تدنى بهم إلى حد استخدام الدين بانتهازية ورخص وابتذال، لتبرير كل المتناقضات للسلطان، كي تدوم إنعاماته ورضاه على أهل حظوته من مشايخ. عندما كانت مصر ملكية كانوا يهتفون والإخوان أمامهم «الله مع الملك»، وعندما دارت الأيام وجاء الزمن الناصري اكتشفوا أن الإسلام هو الذي أسس للاشتراكية، وخوطب النبي محمد «الاشتراكيون أنت إمامهم»، وفي الزمن الساداتي اكتشفوا أنهم كانوا مخطئين في فهم الدين خطأ فادحا وقالوا فيه ما هو على النقيض الكامل من مقاصده؛ لأنه دين اقتصاد سوقي مفتوح حر، دين جعل الناس درجات وطبقات. كذلك كان موقفهم عندما كان السلطان يريد حربا، وكيف أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله كأنهم بنيان مرصوص. ومع توقيع كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عادوا فاكتشفوا بالرسوخ في العلم أن رسوخهم الأول كان باطلا؛ لأن الله قد أمرنا أمرا واضحا أن نجنح للسلم إن هم جنحوا لها.
وهكذا يكتشف المسلم أن منظومته المقدسة المطهرة ذات المصدر الإلهي الرفيع والشريف شرف مصدرها، هي الأشد تعرضا للانتهازية والاستغلال من مشايخ يعلنون أنهم أهل هذا المقدس وحماته، وأنهم بدلا من أن يصونوا دين الله بإبعاده عن العبث والخطأ والطمع البشري، إذ بهم هم من يضيفون إلى شرع الله ما ليس فيه، ثم يكتشفون خطأ إضافتهم في كل مرة، ليعودوا يصوبون ويضيفون المزيد. إن مثل هذا التدخل في المقدس هو تدنيس له، ويشير إلى أن مشايخنا يشتهون النبوة، أو بعضها.
ومع حضور فوضى الصحوة الإسلامية التبست المعارضة بالتشدد الذي لم يقف عند حد معاداة السلطة أو المشايخ الرسميين، بل تجاوزه إلى معاداة المواطنين والمجتمع كله. ولم يكن مشايخ المعارضة الإسلامية المسلحة أوفر حظا بالمبادئ والقيم المحترمة من مشايخ السلطان، فقتلونا، وحاكمونا، وكفرونا، وهددونا، ومزقوا الوطن، ودمروا السياحة بوحشية فضحتنا أمام العالم. وقد فعلوا ما فعلوا بدورهم بادعاء الرسوخ في العلم ومعرفتهم وحدهم بالمعاني الصحيحة للوحي الإسلامي، ليعودوا هم أنفسهم وليس غيرهم، ليكتشفوا أن رسوخهم الأول كان باطلا، وأنهم قد اكتشفوا رسوخا جديدا، ليكتبوا سلسلة المراجعات التصحيحية التي تحولوا فيها عن العمل المسلح إلى خوض العمل السياسي السلمي؛ ليوضحوا أن رسوخهم الثاني قد نسخ رسوخهم الأول بأمر الله؟! ألا ترونهم ...؟ إنهم ينسخون! إنهم يقلدون السماء، إنهم لا يشتهون النبوة فقط، إنما هم يشتهون الربوبية!
ومن ثم لم يعد لقب «داعية» قاصرا على الدهاقنة الرسميين، وإنما حازه أمراء الجماعات الإرهابية على كل صنوفهم، حتى تقدم هؤلاء للعمل بمهمة الفتوى ليبرروا جرائمهم بدورهم، التي هي جرائم دموية بكل المقاييس، ويعطوها شرعية سماوية مطهرة. وهكذا يضعك كلا النوعين من المشايخ في مشكلة؛ لأنهم يتحصنون وراء السلطان ووراء الدين وتفسيرهم له، فإن أنت أردت إطلاق سهم على السلطان رشق في الدين، وإن أردت إطلاقة على الشيخ (سلطانيا كان أم إرهابيا) أصبت به دين الله! ويبقى السؤال: إذا كان موضوع اهتمام المشايخ، سلطانيين أو إرهابيين، هو الدين، والدين واحد وربه واحد، فلماذا يختلفون؟ إنهم يختلفون بشأن دين كامل وليس شيئا بسيطا هينا، ربما يصح افتراض أن الاختلاف طبيعي لتفاوت العقول والبيئات والثقافات المحلية والمستوى المعرفي ... إلخ، لكن الصحيح بإطلاق أنه خلاف حول المصالح، والمكاسب، والسلطة، وبلهنية العيش في طراوة القشدة البلدي، بدأ مع الأمة مبكرا في فتن وجوائح قسمتها فرقا وشيعا متقاتلة تكفر بعضها بعضا؛ لأنها تعمل جميعا تحت راية الكتاب والسنة المفترض أنهما يعبران عن دين واحد، وأمة واحدة، ورب واحد!
إذن لا مفر عن استنتاج أن الدين في حد ذاته لم يكن هدفا واضحا لصراع الشيوخ وانقسام الفرق وتعدد المذاهب. إنما كان الانقسام تسهيلا للشيخ كي يتمكن من السيطرة على فريق من المسلمين يلتفون حوله، يمدهم بآرائه تشريعا لوجوده ووجودهم مع ضمان الاستمرارية والتنفيذ، وضمان رسوخه في سدة القيادة. •••
يلاحظ المراقب قيام تنافس الكهنة حتى داخل الفريق الواحد على الاستحواذ على أكبر جمهور، باستخدام فنون الخطابة والبلاغة واللباقة، مع سمت الورع الملائكي أحيانا، أو سمت القيادي المقاتل الجسور أحيانا أخرى، لكن جميعهم يقومون بعرض ما يرضي الجمهور ويحببه في داعيته المتبتل، أو شيخه المقاتل، مع الطعن في إيمان المنافسين؛ فمن سطع نجمه أصبح مرغوبا فيه من السلطان (مصطفى محمود، شعراوي، غزالي، زغلول، قرضاوي، هويدي ... إلخ) وذلك لشهرته وقدرته على التأثير في العوام، فيصبح شريكا في حاشية السلطان، وينال السيادة والسعادة مع الهبات والإنعامات ويعيش في المهلبية، أما الشيخ المقاتل فإنه عندما ينجح فإنه يعيش كالخفافيش ماصة الدماء في الكهوف والبوادي والأصقاع المتبدية في كهوف تورا بورا أو قندهار أو بوادي الشام وأصقاع العراق، مثل «فان باير أو دراكيولا » يطلب المزيد من الدم البريء دون أن يشبع أبدا.
وكان اشتداد المنافسة عبر التاريخ وراء فتح الباب لفكرة «التكفير» والإقصاء كحل ناجح مع المعارضين، فقامت الفرق الإسلامية تكفر بعضها بعضا، وقام كل طامع إلى السيادة يطرح تأويله الخاص للدين وفهمه له في سوق الأطماع، بتسويق فكرة مع تبديع وتكفير فكر كل الفرق الأخرى بحسبانه من يعرف وحده الإسلام الصحيح؛ وعادة ما يبدأ التكفير المتبادل بين التأويل الجديد وبين سابقه ليصل إلى صدام وقتال. وفي تاريخنا ما كان أكثر القتال للوصول إلى السلطة بالدين، بل إن تاريخنا ليس شيئا غير ذلك، وما أشنع ما ارتكبوا من مجازر علنية حتى أبيد بعد آل البيت فرق بكاملها مع كل ما أنتجت وقالت، وبقي الفريق المنتصر وحده سيدا؛ ولأنه انتصر فلا شك أنه كان على الحق، ولأنه من يملك الحق فهو يؤكد أن الحق واحد «فقط لا غير»، ومن ثم فغيره هو الباطل المطلق. وهكذا انتصر القتلة وأصبحوا أسيادا لنا. لقد جاءنا القتلة ومشايخ المنسر بالحق بعد أن أبادوا الباطل ومحقوه وسحقوه؛ العباسيون أبادوا الأمويين وأخرجوا جثث من مات منهم حتى يجلدونهم، ثم أين المعتزلة؟ أين المرجئة؟ أين الجهمية؟ أين المعطلة؟ أين مؤلفات ابن الراوندي والرازي؟ كانت الإبادة تمتد إلى الفكرة. إن من يحكم المسلمين اليوم فكر قاتل وسلطات قاتلة، وتشكيلات عصابية التكوين قبلية القوانين طائفية عنصرية، ولو رددنا كلام مقتول سابق لأصبحنا المقتول اللاحق. وكان أكثر هذه الفرق ضراوة، هو ما يسمى مذهب ابن عبد الوهاب الذي تحالف مع ابن سعود للاستيلاء على حكم نجد مسافة الحجاز، والذي يتم تعريفه بحسبانه تجديدا لمذهب الإمام أحمد بن حنبل؛ لذلك لا تجد مبدأ التكفير مرفوضا في بلادنا أو مستهجنا ممجوجا، بل هو يسير فينا مسرى الأمراض المستوطنة؛ لأنه لو لم يقم ابن عبد الوهاب بتكفير بقية الفرق فلن يحصل على أتباع، لن يحصل على زبائن ما دامت الفرق الأخرى سليمة صحيحة؛ فالتكفير هنا أداة إعلان، وأيضا - وهو الأهم - أنها أداة ترويج وتسويق يعمل بها لنفسه زبائن؛ لأنه لو قال إن الشيعة والمعتزلة والأشاعرة والأحمدية والبهائية على صحيح الدين، فإنه سيترك مجالا للاختيار، وربما ذهب الناس إلى هؤلاء وتركوه في بواديه قاعدا، إنها باختصار بلاغي ما قاله المثل الشعبي المصري: «ما يكرهك إلا ابن كارك»؛ ومن ثم كانت الاختلافات الحادة، حتى إنهم لم يتفقوا على الرب الذي يؤمنون به، وبصفاته، وذاته، وكلامه مخلوق أم أزلي؟ والنتيجة التكفير والتقتيل. وهي موضوعات صراع نخبة المسلمين المتخصصين، فما بالك بالعوام منهم؟ وتظل الفرقة أو المذهب يردد ذات الكلام، ويكرر ذات القصص، ويؤكد ذات الأساطير، كأنهم جميعا غير مصدقين لما بين أيديهم ويريدون التصديق بمزيد من التكرار والترديد دون أي جديد. ومع الصحوة أصبحت المدرسة والصحيفة والإذاعة والتليفزيون أماكن ووسائل مهمتها تعليم الناس الإيمان، وبات لا يخلو خبر محايد، أو برنامج حواري، أو محاضرة، أو حتى فنون درامية، من مهمة دعوية، حتى أمسى الحكم على الرأي حتى في أخطر الشئون ليس بمدى نفعه أو ضره، أو صوابه من خطئه، إنما بقدر ما دعم نفسه بالآيات والأحاديث أو أي حكاية من حكايات زمن التابعين وتابعي التابعين، صحيحة كانت أم مخترعة. والسبب الواضح هو أن الاستعانة بالمقدس والاستناد إليه في الخطاب الموجه للمسلمين، هو من أجل الإرغام على قبول القول والخضوع للأمر حتى يرضخ الجميع إخلاصا لما يعتقدون أنه دينهم، فظهرت مع الصحوة أسوأ أنواع الديكتاتورية لأنها الاستبداد بمساندة السماء.
في حوارات المشتغلين بالدين وموظفيه، لا يجدون بأسا من إظهار بعض الاحترام لمنجز الحداثة وقوانين العلم والعقل مداورة والتفافا؛ لأنهم عندما يجدون أن الحوار غير مجد، مع رغبة الداعية في فرض فكر يتنافى مع العقل ومنطقه، فإنه فورا يلجأ للحديث والآيات ليرضخ المسلم بعد أن تحاور بالعقل وأشبع رغبته في الشغب الحميد، ليقبل بعد ذلك ما يرفضه عقله احتراما لآياته وأحاديثه القدسية. وقد ساعد التطور التقني والعلمي في وسائل الاتصال والإعلام في تطور الدول نحو مزيد من الارتقاء العلمي والحقوقي، بينما في بلادنا تمكن حلف الشيخ والسلطان من استثمار هذه الأدوات والتقنيات لمسح وعي المسلمين وإعادتهم إلى الوراء قرونا؛ لأن مثل تلك الأجهزة لا تملكها في بلادنا إلا الحكومة التي هي الدولة نفسها (!) ومن ثم أمكن لهذا الحلف بتلك التقنيات العالية من إنجاز أكبر عملية تدجين مجرمة تمت في التاريخ لشعب من الشعوب في أقصر فترة زمنية ممكنة، وأصبحت الزيادة في دين الله ملعبا مشيخيا، حتى أصبح الحجاب فريضة سادسة، وعادت اللحية مع الجلباب الباكستاني لينتمي الجميع إلى هناك وليس إلى هنا؛ فدخلت البداوة الوهابية العنيفة إلى بلاد هي بطبيعتها الزراعية كانت الأميل إلى السلم، لتسيطر على مختلف الأقطار من فاس إلى بغداني وعلى كل بلاد العرب أوطاني، ثم لتتجاوز الجغرافيا مسافرة في كافة مناطق العالم أينما يعيش مسلم لإثبات أن العرب الفاتحين وإن لم يعد لديهم في البلاد المفتوحة جيوش احتلال، فإن لهم ثقافة حولت كل المسلمين إلى غزاة فاتحين طول الوقت، ينتمون بالولاء إلى حيث جغرافيا الإسلام، إلى الحجاز الوهابي، ثقافتهم بالصحوة الإسلامية جاءت بفتح جديد وغزو غليظ، يفقد فيه المواطن حريته من دماغه، فيسافر شابا يافعا واعدا متهربا متخفيا بلدانا وبحارا وصحاري، لكي ينتحر عند باب مسجد أو حسينية أو في تشييع عزاء في العراق، معتقدا أنه حر مختار فيما اختار، وأنه على الحق الذي لا شائبة فيه، وأنه قدم حياته فداء لدينه وربه وأمته!
ومن المبادئ الاستبدادية الراسخة بطول التاريخ، أنه إذا أردت نشر شئون لا تقبل المناقشة فعليك بالإرهاب؛ لأن الإرهاب يذهب باللب والعقل فيصبح الإنسان مذعورا مرعوبا، لا يجد معروضا أمامه في سوق الفكرة سوى أهوال يوم القيامة، وعذاب القبر، والجن، والعفاريت، يحيطون به في كل مكان، ومع الهلع والبحث عن الأمان من هذا الخوف المقدس يصبح المسلم على استعداد لتسليم أي شيء مقابل الأمان حتى لو كانت إرادته أو روحه، وهنا يظهر له الشيخ اللطيف الوديع ليمنحه الأمن والطمأنينة، إنها ذات قصة فاوست؛ فالشيخ أو الشيطان سيحمل عنه كافة أوزاره ببعض الفتاوى، ويطمئنه أنه المسئول عنه أمام رب الجبروت، ويأخذ منه روحه، إرادته، وعقله أيضا ، مقابل المسبحة وكتاب الأدعية وسجادة الصلاة، وحزاما ناسفا إذا كان من المحظوظين المختارين، لجنة عرضها السماء والأرض.
لو كنا آمنين ولا يحيط بنا هذا الخوف المقدس الرهيب لفكرنا وناقشنا، وربما قاومنا، وهنا يخسر الشيخ نفوذه كله، لكنه بالإرهاب الدائم يرعبك ليشل تفكيرك، ويشير إليك: هذا هو المخرج الآمن، وستجد هناك كتب فتاوى ابن باز وابن عثيمين وابن قرضاوي وابن جمعة، ثم عليك أن توافق على كل شروطه التي يعرضها عليك مقابل الأمان، لتصبح تابعا صالحا تعلو درجاته بقدر ما يقدم من علامات الخضوع والطاعة والخنوع؛ فهو يؤكد للمؤمن الطائع الخانع أنه قد امتلك كامل حريته؛ لأنه تحول من عبد للعباد إلى عبد للإله، بينما هو في الحقيقة أصبح عبدا لأسوأ أنواع العبودية؛ للمشايخ أو للسلطان أو لهما معا! وهكذا أصبح مشهد المسلمين ومشايخهم وسلاطينهم، مشهدا بائسا زريا يزري بالعقل وبالشخصية الإنسانية، موقف هو منتهى الاستخفاف بآدمية الإنسان، وبعقله، وبكرامته، أصبح الشيخ يقوم بتلعيب المسلمين على كيفه: «نام نوم العازب» ينام فورا. «قل دعاء طلوع السلم» يقول. «اعجن عجين الفلاحة» يعجن. «اقرأ دعاء دخول الخلاء» يقرأ. «لا تركب زوجتك إلا بموافقة القرداتي، بكلمة سر الليل المعروفة بدعاء النكاح» يقرأ، ليثبت الشيخ حضوره في أخص أوقات المسلم، حاشرا نفسه بين الزوجين.
وترى المأساة مجسمة كاملة الإهانة، محزنة، جارحة مؤلمة، عندما تتابع أسئلة المسلمين لمشايخ الفضائيات، وكم هي تافهة إلى درجة تصيب بالدهش والحيرة مما وصل إليه العقل المسلم. ويبدو أن مشايخ الفضائيات يعمدون إلى إبراز تلك التساؤلات المزرية عمدا، لزيادة تحجيم العقل المسلم داخل أضيق الأطر الممكنة، التي تضيقها الفتاوى يوما بعد يوم. استفسارات الفضائيات تشير إلى مسلم سلبي جاهل، لا يعرف كيف يتخذ أبسط القرارات في خصوصياته البشرية، تمت برمجته ليعود إليهم في كل شأن، سلبوه إرادته بمزاجه وكسب هو ضمان ألا يضل؛ فهذا الجيش من المشايخ هم من سيختارون له ما هو مضمون الصحة وسليم النتائج، حتى ضمر العقل المسلم ودخل في غيبوبة الاحتضار، في حالة موت سريري طويلة. •••
كانت السنة المحمدية هي أقوال وأفعال النبي محمد، فيها ما يجوز الأخذ به والاقتداء به طلبا للثواب، وفيها ما لا يصح الأخذ به لأنه كان من خصوصيات النبي، ومنها ما لا يأثم المسلم إن لم يأخذ به ودون أن يخرج على الملة. وبموت النبي ظهرت سنن من لا يوحى إليهم؛ كسنن الراشدين المهديين، ثم أخيرا ومع الصحوة الإسلامية وعودة الفتوحات بقيادة ابن عبد الوهاب، ظهرت سنن الأئمة الفقهاء والعلماء بطول التاريخ الإسلامي تحت مسمى الفتوى والاجتهاد الفقهي. وتضخم شأن الداعي والمفتي لتعلو منتجاتهم على المنتجات المحمدية التي يجوز أخذ بعضها وترك بعضها؛ لأن سنن العلماء كلها جبرية لا اختيار فيها، كلها ملزمة رغم أنها غير موحى بها، ولم يعلم بها حامل الوحي جبريل أصلا، كلها ملزمة رغم أنها جميعها إنتاج بشري، إنها وضعية. إن سنن الوحي على لسان النبي الذي لا ينطق عن الهوى فيها ما يجوز تركه دون عقوبة سماوية رغم أن صاحبها هو الله، أما سنن مشايخنا فلا يجوز ترك أي منها، رغم أن الله لم يوح لأحدهم بها، أصبحت سنن مشايخنا هي قول وفعل من لا يوحى له.
والملحظ الهام بشأن الفتوى أنها خصوصية إسلامية، فإذا كان الإسلام هو آخر الأديان وتمامها وكمالها وأشملها فلماذا هو بحاجة للفتوى؟ إن الفتوى هي استكمال نقص، وهو ما يشين ديننا وهو متكامل بذاته وليس به من حاجة لمشايخ الفتوى.
ويمكن رصد أنواع الفتوى وحصرها في أربع حزم: الأولى هي الفتاوى الخاصة بالعبادات من صوم وحج وصلاة وزكاة. والثانية اجتماعية يتلقاها المفتي من السائل، وتتعلق بشئون شخصية وعائلية، وفي هذين النوعين عادة ما يلزم الشيخ السائل بحل بذاته وسلوك بعينه دون تفرقة بين ما هو عبادة وبين ما هو شخصي أو اجتماعي؛ فهم يزعمون أن أي سلوك للمسلم هو تعبد، وضمن هذا السلوك يأتي التزامه بالفتوى، التي تصبح أوامرها جزءا من العبادة، بينما الصواب هو أن يقدم الشيخ رأيه كنصيحة ومشورة غير ملزمة؛ لأنه شأن يخص الناس وليس شأنا من شئون الدين في ذاته. أما الحزمة الثالثة فهي الفتاوى التي تصدر عن دور الإفتاء، والتي تصدرها تلك الدور دون طلب من أحد ولا تتعلق بأمور العبادات، بل هي تأتي لإثبات الوجود كأنها قرارات جمهورية تلزم وتمنع وتسمح دون طلب من أحد، وهو ما أوقع الدبلوماسية المصرية في الحرج أكثر من مرة، حتى تم إنذار دار الإفتاء رسميا من وزير الخارجية المصري، للتوقف عن التدخل؛ ذلك التدخل الناشئ عن شعور المفتي بضعف الحكومة واحتياجها للكاهن باستمرار. مصيبة مثل هذه الفتاوى أنها لا تتوقف عند الحدود المحلية بل هي عابرة للقارات، رغم أنها إن صلحت في موطن قد تكون خرابا عاجلا غير آجل في موطن آخر. ورابع أنواع الفتوى هو تلك الحزمة من الفتاوى المتبعثرة الصادرة عن غير ذي صفة، تدعمها تيارات شعبية غير رشيدة، بها قتل السادات، وبها دمرت طابا، وشرم الشيخ، ودهب، والعريش، وبها جرت مذبحة الأقصر، وبها قتل فرج فودة، وبها نهبت بيوت الأموال فقراء المسلمين، وبها ندمر العراق ونقتل أبناءه. ويا ويح قلوبنا ما لنياطها لا تتمزق مما يفعله المشايخ والملالي بعراقنا الجميل.
حرمت الفتاوى التدخين فاختفت السجائر من البقالات وانزوت في الأكشاك، وأصبحت قاعدة دينية، ثم حشرت أنفها فيما هو أخطر فحرمت الفن، والاستنساخ، والتطعيم، ونقل الأعضاء، فأغلق بنك العيون أبوابه! وبما أن الفتوى تشريع قانوني قدسي فإنها تصعد إلى السماء، وعلى السماء هنا أن تفهم، وأن تسمع، وأن تعي، وأن تطيع، وأن تنفذ. فعندما يفتي المفتي بحرمة التدخين، يصبح من الضروري على ربنا أن يسمع الكلام، وأن يلتزم بالفتوى ويدخل المدخنين نار جهنم، كذلك عليه أن يعاقب جريمة نقل الأعضاء، وأن يعاقب المشتغلين بالفن، وأن يدخل غير المحجبة إلى النار، دون وجود نصوص عقابية في كلام الله في أي شأن من هذه الشئون، لكن على الله أن يقوم بالوظيفة التي أناطها به كهنة المسلمين؛ وظيفة الجلاد.
ومع اختلاف الفتاوى باختلاف ألوان الفقه ما بين جعفري شيعي، وسني، وزيدي، وغيره، لا بد أن يتساءل العقل المسلم: بأي فقه منهم سيلتزم ربنا ويقوم بدوره التنفيذي ؟ في نفس البلد الواحد مثل مصر تتضارب فتاوى الأزهر بالنقيض الكامل مع فتاوى دار الإفتاء (البنوك، ختان الإناث، كنماذج) فهل سيحتار ربنا هنا في تنفيذ الفتاوى المتضاربة، التي تصعد إليه أوامر من الأزهر ودار الفتوى والتشريع، ومن قنوات الجزيرة، والمجد، واقرأ، واكره، وأخواتهن، ومن ابن باز، وابن عثيمين، وابن جمعة، وابن لادن، وابن الزرقاوي، وابن قرضاوي، وابن هويدي، وابن عاكف، وابن العوا، وما أكثرهم؟!
ثم ما هو المعيار الذي سيستخدمه ربنا في الاختيار والمفاضلة بين تلك الأوامر والنواهي المتضاربة الصادرة إليه، مع ما يفرضه المفتي على الله لتعذيب من يعصي المشايخ، وإثابة من يرضون عنه؟
تحكي لنا كتبنا التراثية، أن نبي الإسلام في مرضه الأخير صلى قاعدا إلى جوار أبي بكر، «فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس وكلمهم رافعا صوته قائلا: يا أيها الناس سعرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، وإني والله لا تمسكون علي شيئا، إني لم أحل لكم إلا ما أحل لكم القرآن، ولم أحرم عليكم إلا ما حرم القرآن» (الطبري سنة 11ه، ص198).
فالرسول صاحب الدين لم يحرم علينا إلا ما حرم القرآن، وترك لنا فيما عدا ذلك مساحة حرة واسعة، نتعامل فيها بعقولنا وحسب ظروفنا ومصالحنا، وهي المساحة التي لم يأت القرآن على ذكرها، فانقض عليها الكهنة ليؤمموها لصالحهم ليجدوا فيها مكانهم الدائم؛ ليحرموا علينا ما لم يرد في قرآن ولا سنة، كتحريمهم مستحدثات العلم والطب كالتطعيم والاستنساخ والتلقيح الصناعي وزرع الأعضاء، وهي شئون لا يعرفها الإسلام ولم تكن في سنة ولا في قرآن، فأضافوا للإسلام تحريمات ونواه دون وحي يوحى، علما أن من يبدع نصف دين أو ربع دين هو مبتدع لدين جديد غير دين الله، هو كاذب شرير علينا، وعلى الله، وعلى الدين، وهي البدعة الملعونة في الإسلام نصا وروحا، اصطلاحا ولغة؛ لأنها بدعة في الدين، إنهم بهذا المعنى من المتنبئين.
الفتوى اسمها فتوى شرعية، والدار الرسمي لها اسمه دار الفتوى والتشريع؛ لذلك هي قانون، ومع سيل الفتاوى المنهمر؛ أصبح كلام الفقهاء والمفتين في منزلة الوحي وشريعته، وأصبحت الفتوى قانونا دينيا ملزما إلزام الوحي، رغم أن كل ما قال الفقهاء، والمفسرون، والمفتون، وأصحاب المذاهب، قد صدر بعد توقف الوحي بموت النبي، وهو ما يعني أنها غير ذات سند سماوي ولا يمكن أن تكون في حجية شريعة محمد؛ لأنها جميعا من وضع البشر، إنها جميعا بهذا المعنى «وضعية» بكليتها، تشوبها نقائص الوضع مثلها مثل أي منجز إنساني آخر.
الشيخ إذن لا يملك أية قداسة بل هو لاعب بدين الله، ويضع رأيه الشخصي مقدما على الوحي الإلهي ويفرضه على المسلمين ويلزمهم به، ومع معرفتنا ذلك يجب أن تتراجع مهابة الشيخ الرهابية من أنفسنا؛ فهي حالة رهابية غير ذات سند ولا سلطان ولا شرع إلهي ولا أرضي.
إن السبب الحقيقي وراء فوضى المشايخ والفتاوى والدعاة في بلادنا أنه ليس لدينا مجلس تشريعي حقيقي، ولا قانون مدني حقيقي، وهو ما أدى إلى تآكل الدولة المدنية ومؤسساتها وتراجعها، ليحل الشيخ في كل محال اتخاذ القرار والسيادة الممكنة، وأمسى يمارس حقوقا لا يملكها غيره من المسلمين دون مبرر واحد ديني أو دنيوي يمنحه تلك الحقوق، ويرفض أن يكون لغيره من المسلمين مثل هذا الحق، ناهيك عن غير المسلمين من مواطنين. الشيخ يفكر، إذن على المسلم ألا يفكر؛ فقد قال الغزالي، وقرر ابن تيمية، وحسم ابن حنبل، وانتهى ابن عبد الوهاب ... هذا هو مقياس الأمور، وبه حسمها أيضا، أقوالهم هم، فيلعبون في شغل الله، ويعبثون بتخصصاته ليسلبوه بعضها، ويتهمون العلمانيين الضعاف من أمثالي بالعبث بدين الله مع تكفيري بغرض قتلي. فمثل هذه المقالة التي بين يديك مثلا هي عندهم عبث بدين الله، رغم أنها لم تفتر فتوى، ولم تضف إلى الإسلام، ولم تحذف منه شيئا، إنهم يلبسون على المسلمين أن من مسهم أو مس فتاواهم فقد مس الله ذاته، ألم أقل لكم إنهم يشتهون الربوبية! •••
إن صحيح الإيمان المفترض، يؤمن أن الله عندما ترك ما ترك دون تشريع أو تدخل، لم يكن سهوا منه ، فلا شيء عنده عبثا، إنما ما يجب أن يفهمه المؤمن أن الله ترك ما ترك قصدا، وعمدا؛ لأنه لم يرد التضييق على عباده بالإكثار من التشريعات، والتحريمات، والتجريمات؛ ليترك لهم عن قصد منه ورغبة مساحة حرية يمارسون فيها إنسانيتهم، يضعون لأنفسهم فيها ما يناسبهم من تشريعات؛ لأن الله كان يعلم أن الدنيا ستتطور، وكان يعلم أن الأحوال ستتبدل لأنه هو الله، وليس غيره إله، أليس هكذا يعتقد المسلمون؟
هل يعتقد المسلم البسيط أو المفكر أن رب الإسلام، كان لا يعلم أنه سيكون في الأرض يوما بلد مثل أمريكا وبقدرات أمريكا، أو بوجود الاتحاد الأوروبي، أو هيئة الأمم؟ بالطبع فيما يعتقد المؤمن، أن الله كان يعلم، كان يعلم ولم يذكرها ولم يضع لنا أية قواعد تشريعية محددة للتعامل معها، وترك لنا مواجهة مشاكلنا بأنفسنا فسكت عنها، لكن مشايخنا حلوا في مساحتنا الحرة ليصادروها، وليصدروا فتاواهم إزاء مثل تلك المستحدثات.
وإذا كان رب الإسلام قد علم بذي القرنين وفتوحاته كما ورد بالقرآن، فلا شك أنه كان يعلم أن أستاذ ذي القرنين كان هو الفيلسوف اليوناني أرسطو، وأن أستاذ أرسطو كان أفلاطون، ومع ذلك لم يندد لا بأرسطو ولا بأفلاطون ولا بالفلسفة ولم يكفر المتفلسفين، كما فعل الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي من بعد، وألجمنا عن التفلسف والكلام، بكتابه «إلجام العوام عن علم الكلام»، بينما لم يفعل ذلك ربنا فترك لنا ما تركه دون أن يحدد منه موقفا، ليكون مساحة المؤمنين الحرة للأخذ من السياسة الأرسطية، أو الجمهورية الأفلاطونية، أو قوانين سولون وروما، أو من ديمقراطية اليوم ومقدساتها القانونية الحقوقية الراقية إنسانيا.
إن رب الإسلام أيضا حسبما يخبرنا القرآن كان على علم بأنظمة الحكم المختلفة، ومنها حكم بلقيس لمملكة سبأ، وكيف أنها كانت لا تتخذ قرارا إلا بعد الرجوع إلى مجلسها الشعبي (ملئها)، ولم يعترض عليها نبي الله سليمان بهذا الشأن، حسبما جاء في القرآن، ولم يعب عليها نظامها في الحكم، لكنه عاب عليها دينها، وترك لشعب سبأ نظامهم شبيه الديمقراطي في الحكم، دون أن يندد به أو يعترض عليه، كان ما عابه عليهم هو سجودهم لغير الله وليس طريقة حياتهم.
القرآن والسنة لم يتكلما عن زرع الأعضاء، ولا عن التدخين، ولا عن مجلس تشريعي، ولا عن حقوق الإنسان؛ لأن رب الإسلام كان يعلم أن التطور وحده هو قاعدة الكون الأزلية، وأن هذا التطور سيفرز ما سوف يفرزه في حينه، وترك ذلك لعباده حرا طليقا لأنها شئون لم تكن قد وجدت بعد، ودون أن يدخله تحت قوانين مقدسة، حتى لا يتجمد المسلمون عند النص، وحتى لا يختلف المسلمون حوله ويتقاتلون، تركها مساحة حرة لهم ليتنافسوا فيما هو الأصلح لهم بدلا من أن يتقاتلوا لعبا بالدين وبالسيوف وبمصائر شعوب بكاملها.
كذلك لم ينتقد رب الإسلام القيم الإنسانية وما يحميها من قوانين وضعية، رغم أنها كانت كقوانين من وضع المجتمع عبر جمعيات منتخبة شعبيا، كانت معروفة وموجودة في روما قبل ظهور الإسلام بألف عام كاملة، وسكت عنها القرآن وترك للأجيال اللاحقة، عندما تكتمل نضجا وعندما تحتك بدول العالم وترتقي مثلها، أن تسعى إليها تستلهمها وتستلهم منها، وهو ما سبق وسمحت ببعضه الضئيل الدولة العباسية، فأنجبت كوكبة من المفكرين لم يتكرروا بعدها أبدا.
أليست القاعدة: «ما نهاكم عنه فانتهوا، وما آتاكم فخذوه»؟ إذن لماذا يحرم المشايخ كل يوم شأنا مما تركه الله مسموحا؟ ولو كان مضمون الفعل الفتوي أصلا من أصول الدين لقاله لنا ربنا، ولم ينتظر الدعاة حتى يأتوا من بعد توقف الوحي ليكملوا له شرعه ودينه ويفتوا في الأرض كالآلهة فسادا، إنهم يريدون الربوبية، لا محيص!
إن من حق المسلمين اليوم أن يستردوا ما أخذه منهم المشايخ وما صادروه بفتاواهم، من حقهم أن يقيموا صناعة سياحة حرة طليقة تكفل عيشا كريما في بلد فقير، من حقهم أن يقيموا الكرنفالات السعيدة، وأن يستعيدوا الفرح، والحفلات، والفنون التي تروح عن الروح، من حقهم أن يضعوا شرائعهم بأيديهم كبقية خلق الله، من حقهم النهوض بالمرأة، وبالسينما، وبالبنوك، وأن تصبح مسألة أن أدخن أو لا أدخن، أسهر بالحسين أو بكازينو بالهرم، ألبس الحجاب أو الميني جيب أو طاقية الإخفاء، مسائل حرية شخصية يجب طرد المشايخ منها، حرصا على الدنيا وعلى الدين وعلى عقول المسلمين.
إن طرد الدهاقنة والسدنة والكهنة والأحبار والمشايخ وكل من اشتغل بالدين من عالم المسلمين واجب ديني على كل مسلم يحب دينه ووطنه؛ فليس في الإسلام كهانة ولا سدانة، وليس في كتاب الله ولا في سنة نبيه شيء اسمه الأزهر أو رجال الأزهر أو جماعات تزعم الإسلام دون كل المسلمين، وتركهم يلعبون بنا وبديننا مأثمة عار على كل مسلم فرط في كرامته التي منحها له الله
ولقد كرمنا بني آدم ، وفي دينه، وفي وطنه، وترك كل شيء لرجال مثلنا لهم مطامع ورغائب ونزعات وحاجات بشرية، رغم أنهم ليسوا بآلهة، ولا بأنبياء، ولا بأنصاف أنبياء، ولا هم حتى من الصالحين.
أيها المسلمون أعلنوا إيمانكم بأن محمدا هو خاتم النبوات، وبأن الله واحد أحد فرد صمد، بطرد الكهنة السدنة الدهاقنة من حياتكم، حتى تصحوا وتتعافوا وتلحقوا ببقية الأمم، وربما عليكم قبل ذلك، إقامة محاكمات علنية شفافة، لآخر جيل من هؤلاء في زماننا، ولأسماء من مات منهم زيادة في تحري العدل.
البيعة ليست هي التصويت1
إصرار من لون عجيب، دون كل شعوب الدنيا، على إدخال الدين في كل مدخل كبر شأنه أو صغر، إصرار أصبح نوعا من المرض العضال. وضمن هذا الإصرار يأتي إلحاح الذين يلعبون السياسة بالإسلام، وكيف أمكنهم العثور في الإسلام على كل ما وصلت إليه المبادئ والقيم والحقوق الإنسانية في زمن الحداثة وما بعدها، وكل ما يتعلق بنظام الحكم المتفوق والذي أدى لتفوق بلاده حيثما تم تطبيقه، مما دفعهم بدلا من الأخذ به وتطبيقه إلى البحث في ركامنا التاريخي عن كل مكونات العمل السياسي الديمقراطي كما هو في أقصى نضوجه اليوم. وأول سؤال بديهي يطرح نفسه إزاء سادتنا هؤلاء هو: إذا كنا نملك كل تلك الأدوات الحاكمة بين الشعب والدولة، بما يؤدي إلى إرادة شعبية هي الحاكم الحقيقي عبر انتخابات حرة، إذا كنا نعرف حقوق الإنسان فعلا، إذا كنا نعرف ما هي الحرية؟ فلماذا نحن هنا في القاع، ولماذا هم هناك يجوبون الفضاء؟! والمصيبة الأفدح أن تكون كل تلك القيم الدافعة للتحضر موجودة في ديننا ولا نعرفها ولا نكتشفها إلا بعد أن نراها محققة في بلاد الغرب، وهو ما يعني أحد أمرين: إما كذب وبطلان هذا الادعاء كله برمته، وأن الإسلام لم يعرف مفاهيم الحريات والمساواة وحقوق الإنسان والقيم الديمقراطية التي نعرفها اليوم، وهو الموقف العلمي الذي لا بد منه؛ لأن تلك مفاهيم بنت زماننا لم تكن تعرفها البشرية زمن الدعوة الإسلامية، وإن عرفتها مناطق أخرى كاليونان وروما؛ لأن ال «إما» الأخرى ستعني أن أولي الأمر منا ومشايخنا وفقهاءنا التاريخيين والصحابة والراشدين كانوا يعرفون كل تلك القيم المؤدية للعدل والتفوق والتحضر في ديننا، ولم يعملوا بها ولم يحاولوا تحقيقها، وتركوا المسلمين وغيرهم معهم تحت الظلم والقهر بطول عصور الخلافة السوداء، وهي جريمة تاريخية كبرى، ثم ظهروا يحدثوننا اليوم عن هذا الذي كان بيدهم وكانوا يخفونه عنا! إنهم لا زالوا يريدوننا عبيدا لسدنتهم بسرقة حلمنا في وطن ديمقراطي دستوري حقوقي محترم.
نموذجا لهؤلاء الفلاسفة الجدد الدكتور محمد زيدان، وهو من يكتب للنخبة الراقية من الإسلاميين؛ لذلك هو يشغل منصب رئيس القسم الشرعي بشبكة إسلام أون لاين، وهي أهم شبكة إسلامية حتى الآن، وتحظى بنسبة زوار هائلة. وقد كتب الدكتور زيدان على شبكته عملا بعنوان: «البيعة: شرعية الشورى وتمكين الأمة».
http://islamonline.net/arabic/mafaheem/2005/07/article01.shtml .
وهو عمل مثالي ونموذجي لما نحن بصدده كخطاب إسلامي جديد قرر التفاعل السياسي بعد حراك العالم في سبتمبر 2001م، ليثبت أن حداثتنا موجودة لدينا، وهي ذات الديمقراطية الغربية لكن بمسميات وآليات إسلامية، وهي تناسبنا بعكس تلك الغربية لأنها غريبة عنا. ومن هنا تأتي أهمية موضوع الدكتور زيدان الذي يمكن اتخاذه لمناقشة مسألة البيعة، كأداة ديمقراطية إسلامية في ممارسة الشعب للسلطة، ومدى صدق هذا الطرح من عدمه كشهادة لفلاسفة الإسلام السياسي الجديد. وعليه يمكن هنا إنشاء موضوع يبحث البيعة حسبما تراها أحدث الأدبيات الباحثة في تيار الإسلام السياسي المعاصر.
البيعة كشرعية للنظام
يدخل الدكتور زيدان إلى موضوعه بفقرة قوية تبدو محكمة الترتيب والغرض، يقول: «البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ إذ إنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم، بل وتسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم
فهي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى، وهي صيغة تمكين الأمة لا إخضاعها، قبل الدولة وبعدها، والبيعة في الخبرة النبوية هي عقد اجتماعي تأسست عليه الأمة ثم الدولة؛ فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة كان عقدا حقيقيا تاريخيا، تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة، وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية، في حين أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو مثلا في الفكر الغربي الحديث، كانت تبريرا غيبيا لا نصيب له من الواقع، لجأ أصحابها إليها لمحاربة سلطة الحاكم الفرد عبر أسطورة لم يشهد تاريخهم تحققها كما حدث في التاريخ الإسلامي.»
ألا ترون هذا الكلام الكبير العظيم الفخيم؟ ألا تروننا قد سبقنا عقد روسو الاجتماعي في بيعتي العقبة، بينما نحن في قاع الأمم تراتبا؟ بل إن عقد روسو كان مجرد تهويم غيبي مقابل عقدنا الواقعي الحقيقي (البيعة) الذي تشهد عليه أحداث تاريخية وقعت مرتين عند العقبة. مثلي لا يقتنع بسهولة بطرح الكلام الجميل المرتب المنمق المفلسف؛ لأن ذلك لو كان حقا لكنا نحن القاطرة التي أخذت العالم نحو الحداثة منذ ألف وأربعمائة وستة وعشرين عاما، ولكنا الأكثر رقيا وتقدما نحن ودول العالم الأخرى مما هي عليه الدنيا الآن. هنا لا بد أن نشك في الكتالوج المقدم إلينا من الدكتور زيدان؛ فالكتالوج يقول شيئا وواقعنا يقول شيئا آخر، ومن ثم وجب البحث وراء ما طرح الدكتور ومدى صدقه من كذبه أو تدليسه.
هنا، وحتى نفهم ما قال سيادته، سنقوم بتحليل وتفصيص ما قال واحدة واحدة، في خطابه السياسي الإسلامي الجديد؛ ولنبدأ بالواحدة الأولى:
يقول سيادته: «إن البيعة من أبرز جوانب الفعل السياسي الذي تمارسه الأمة؛ إذ إنها في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم.»
وهكذا يكون أول الآية كفرا، واستئصالا وتكفيرا وتحريضا، بصيغة الجزم والتأكيد؛ فهو يصدر حكما على كل الحكومات الإسلامية القائمة بالكفر، ويسحب عنها الشرعية؛ فكلها قامت على نظام الدولة الحديثة، ولم يكن فيها كلها بيعة (عدا بضع منها)، ألا ترونه يصوغها مشروطة بقطع تأكيدي «إذ إنها» مما يعني أن كل حكومات المسلمين المعاصرة غير مشروعة، «إذ إنها (أي البيعة) في الرؤية الإسلامية هي التي تضفي الشرعية على نظام الحكم.»
الغريب في شأن سادتنا هؤلاء من مفكري التيار الإسلامي أنهم يبنون أبنية محكمة قوية البناء، لكن كلها على مستوى المخيلة وحدها وليس أبعد من ذلك. المشكلة أن هذا الكلام المتخيل يتم ترديده باستمرار حتى بات كما لو كان حقيقة، وأن علينا التصديق ثم السمع والطاعة.
لكن هل القواعد الدينية المفترض فيها السمو والبناء والتقدم، يمكن أن تصبح مهمتها إثارة الفتن وتدمير الأوطان بالحركات الدينية المسلحة، أو حتى الثورات الشعبية المتدينة؟ والأهم هو السؤال: ما هو مصدر هذه القاعدة التي تبدو صحيحة واضحة دينيا 100٪، في أي مكان هي موجودة بدين المسلمين؟ إن عبارة تحريضية من هذا النوع إنما تحرض الشعوب بالدين للفتن لأن حكوماتها لم تقم على نظام البيعة، رغم أنه إذا كان لا بد من الثورة، فهناك أسباب ومبررات أخرى كثيرة لا تدمر لكنها تبني. نحن بحاجة لمعرفة مدى صدق هذه العبارة التي بنى عليها موضوعه كله عن البيعة، وبحاجة إلى النصوص الصريحة التي يمكن أن تنبثق عنها مثل هذه القاعدة الدينية الدستورية؟
إن التحريض على التمرد الديني غير المعارضة البناءة، إن تحريض البسطاء وهم وقود كل الحركات الدينية عبر التاريخ، يحولهم عن الولاء لوطنهم إلى خيانة الولاء الوطني لصالح ما يقال لهم إنه شرع السماء، مما يعطي الضوء الأخضر لعمليات الإرهاب المسلح بحجج شرعية قالها الدكتور زيدان، المفترض أنه في طليعة الحداثيين الإسلاميين ليعطي الدافع لمزيد من دمار اقتصاد بلاد المسلمين وموت الأبرياء وتفجير السياح ودور العبادة ووسائل المواصلات وأنابيب البترول، فيضرب منتج د. زيدان في كل مكان دون هدف واضح سوى التخريب والتدمير؛ لأن الدكتور زيدان لم يضع بديلا حقيقيا واضحا يمكن تطبيقه اليوم للنظام الذي تقوم عليه الدول الإسلامية، وسنرى معا كيف أن وفاضه أخلى من عباراته الكبيرة، الأهم في كل هذا أنهم يشيعون بين المسلمين اتفاقا على عدم شرعية الحكومات القائمة، حتى يكونوا هم البديل الشرعي لأنهم هم من يفهم الإسلام وشروطه، وحتى يتم اتفاق الأمة على اختيارهم بديلا، فليس أمام المسلمين سوى الإرهاب والتخريب حتى تسقط هذه الأنظمة غير الشرعية بيد الجماعات الإرهابية الشرعية.
المثير هو أن زيدان يعلن يقينه هذا على المسلمين وهو يعلم أن الحال لم يكن كذلك في تاريخنا الميمون، لنقرأ معا «فصل في وجوب الإمامة وبيان طرقها، من كتاب الإمامة وقتال البغاة، في المجد الثالث من روضة الطالبين»؛ إذ يقول فصل: وأما الطريق الثالث (لتنصيب الإمام) «فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها، من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته، لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا أو جاهلا، فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرنا، وإن كان عاصيا بفعله.» وبعد تولي المتغلب توضع له الأحاديث في الصحاح، عن حذيفة بن اليمان: «اسمع لحاكمك وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك.» وكذلك عن الحسن البصري: «لا تعصوا أولي الأمر منكم فإن عدلوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن بغوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، فهو امتحان من الله يبتلي به من يشاء من عباده، فعليكم أن تتقبلوا امتحان الله بالصبر والأناة لا بالثورة والغيظ.» وعن أحمد بن حنبل عن رواية عبدوس العطار: «من غلب على المسلمين بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، بارا كان أم فاجرا.» ويقول ابن عبد ربه في العقد الفريد (كتاب اللؤلؤة في السلطان): «السلطان زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا، وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم، وينتصر مظلومهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائفهم. قالت الحكماء: إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم، ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن.» قال وهب بن منبه فيما أنزل على نبيه داود
صلى الله عليه وسلم : «إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة.» وعن عبد الله بن عمر: «إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإن كان جائرا فعليه الوزر وعليك الصبر.» ليوجز حذيفة بن اليمان نظرية الإسلام السياسي في الحكم فيقول عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله.»
إنها بيعة المتغلب التي يتميز بتشريعها فقهنا الإسلامي عن غيره، في تسليمه بالأمر منعا للفتنة وانشقاق الأمة، فما بال زيدان يحرض على الفتنة وانشقاق الأمة، خاصة وهو يعلم أن بيعة المتغلب كانت هي المتغلب على تاريخ الخلافة الإسلامية بطولها وعرضها؟ فما باله لا يعترف بحكومات إسلامية ولو متغلبة منعا للفتن؟ أم تكون الفتن هنا مطلوبة في حالة وجود البديل الذي يزعم أنه الإسلامي الشرعي، في حالة وجود زيدان ورفاقه دون فلسفة حكم متكاملة واضحة بأيديهم؟ وإذا كانت البيعة هي التي تعطي الشرعية للحاكم، فماذا عن تأخر علي بن أبي طالب والهاشميين ومعظم جزيرة العرب عن بيعة أبي بكر، ومع ذلك فإن التيار السني يعتبر بيعة أبي بكر شرعية مائة بالمائة.
وماذا عن امتناع الوالي معاوية عن مبايعة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب؟ وما هي الإجراءات الدستورية التي كان يلزم اتباعها وإجراؤها في ذلك الوقت لضمان عدم امتناع معاوية؟ وهل كان للبيعة مؤسسات تضمن تنفيذها؟ وهل تمكن الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب الذي حكم بالبيعة، من فرض سلطانه على الشام وعزل المتمرد معاوية؟ إن البيعة لم تحافظ على نظام حكمها الشرعي مع علي، وأخذ غير الشرعي (معاوية) منصبه بل واجتاز الخلافة كلها دفعة واحدة ، ثم أخذ البيعة له ولابنه يزيد تحت تهديد الصحابة بالقتل، ما قيمة البيعة هنا؟ وهل أفادت البيعة عثمان بما أضفته من شرعية على نظام حكمه، وهل ساعدته على إخضاع المتمردين من عرب مصر والصحابة وصانت حياته؟ وماذا وضع نظام البيعة من إجراءات لمثل هؤلاء؟ وكيف كان يمكن التصدي لهم شرعيا، وما هي الترتيبات والتنظيمات والإجراءات والمؤسسات التي يقترحها د. زيدان لمواجهة مثل تلك المشاكل مستقبلا؟ وما هو حكمه على تلك الأحداث من منطق فكره السياسي الإسلامي المعاصر؟ أم إن الشخصيات التي عاصرت الفتنة الكبرى مقدسة ولا يجوز توجيه النقد إليها بما يفيدنا في تطوير نظم الحكم والمراقبة الشرعية وفق نظام البيعة؟
اللطيف في شأن سادتنا المفكرين الإسلاميين أنهم لا يلحظون ما هو شديد الوضوح، وهو أن البيعة لم تكن يوما سببا لشرعية أحد، وقد عبر الخليفة عثمان عن ذلك بوضوح عندما طالبه الثوار بالاعتزال، فهو لم يعتد ببيعتهم، ولا بسحبهم هذه البيعة؛ لأنها لم تكن لا في العير ولا في النفير؛ فقد كان رده التاريخي: «والله لا أخلع قميصا سربلنيه الله.» كانت هي إذن إرادة الله وليست إرادة الناس وبيعتهم، كان عثمان يعتقد أن تلك بيعة من الله وليست بيعة من الناس، وماذا تكون بيعة الناس بجوار بيعة الله؟
ويبقى النظام الإسلامي غير قابل للتطوير والتحديث بسبب هذه القدسية التي لحقت زمن الصحابة وبيعاتهم. على زيدان أن يختار - وهو لا يستطيع حتى أن يختار - ثم يقدم لنا درسا في العقد الاجتماعي الإسلامي، بنظام البيعة الذي لم يتمكن من حماية نفسه يوما.
البيعة تسبق الدولة
الحديث مع الدكتور زيدان لا يمل، فلنأخذ الواحدة الثانية من حديثه إذ يقول: «بل وتسبق (أي البيعة) الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم .» ويستشهد على ذلك بقوله: «فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة، كان عقدا حقيقيا تاريخيا» (يقصد عقدا اجتماعيا كما قال). إذن البيعة قد تمت مرتين في العقبة الأولى والثانية من الأنصار للنبي، وبذلك «تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية في عهد الرسول». ولا تفهم الغرض من وضع قاعدة لا تعمل منذ أن وضعت؛ فالخلافة على مدار التاريخ الإسلامي كله كانت تقوم على الوراثة، إلا في عصر الخلفاء الراشدين وحدهم، حيث تولى كل خليفة بأسلوب وطريقة فريدتين لم تتكرر مع سواه، فلم يخضع تولية منصب الخلافة في زمن الراشدين لأي آلية أو لقاعدة منتظمة، وهو ما يعكس ارتباك تلك الفترة وعدم وضوح شكل الدولة أو نظام تداول السلطة فيها أمام أصحابها، ولا تجد هنا أية فائدة لكون البيعة «تسبق إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية»؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لظهر معها قواعد لتداول السلطة ولنظام الدولة وشكلها، وهو ما لم يحدث مما أدى للارتباك في تداول السلطة، وإلى قيام نزاع مسلح بدأ في الفتنة الكبرى ثم الجمل ونزاع علي ومعاوية في حرب أهلية، ونعرفها بالفتنة الكبرى تمييزا لها عن فتن أخرى تملأ صفحات تاريخنا الإسلامي السياسي.
ولم تستقر الأوضاع إلا بعد قيام الدولة الأموية على فكرة الملكية وتداول السلطة بالوراثة أو بالغلبة والقهر، وكانت البيعة مجرد إجراء شكلي يعبر عن خضوع الرعية؛ لأن البيعة ليست آلية انتخابية كما يحاول زيدان أن يلقي في روع المسلمين المسالمين الطيبين، البيعة لم تكن وسيلة اختيار الحاكم؛ لأن الحاكم يكون معروفا قبل البيعة، فالبيعة لا تكون إلا لخليفة، فتولي الخلافة أسبق من البيعة في إجراءات تولي الحكم، ويريد زيدان هنا أن يفهمنا أن اللاحق هو الذي أنتج السابق، رغم أن البيعة تكون للحاكم بعد تعريفه وإعلانه وتوليه الكرسي فعلا. وحتى بعد استقرار الدولة في المملكة الأموية والعباسية لم ينجح الفقه في الاستقرار على طريقة تداول السلطة ونظامه، ولم ينجح في تحديد شكل هذه الدولة، وجعل كل شيء جائزا لغياب فلسفة السياسة التي تحدد أهداف الدولة والعلاقة مع المحكومين، لغياب دستور ونظام موحد للحكم، رغم نجاح شعوب قديمة قبل الإسلام بقرون طويلة، ولم يستفد المسلمون منها، وكان أقربها إليها النظام الروماني الدستوري. كل ما يقوله الفقه لنا جاء في «روضة الطالبين» نفس الباب السابق: «وتنعقد البيعة بثلاثة طرق: أحدها البيعة كما بايعت الصحابة أبا بكر الصديق (رضي الله عنه)، والطريق الثاني استخلاف الإمام من قبل الإمام القائم وعهده إليه كما عهد أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى عمر (رضي الله عنه)، وانعقد الإجماع على جوازه. والاستخلاف أن يعقد له في حياته الخلافة بعده، فإن أوصى له بالإمامة فوجهان حكاهما البغوي: ولو جعل الأمر شورى بين اثنين فصاعدا بعده كان كالاستخلاف، إلا أن المستخلف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، كما فعل عمر فجعل الأمر شورى بين ستة اتفقوا على عثمان (رضي الله عنه). وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد، وفيه مذهبان، وأنه لو عهد إلى جماعة مرتبين فقال الخليفة بعد موتي فلان، وبعد موته فلان، وبعد موته فلان جاز، وانتقلت الخلافة إليهم على ترتيب ما رتب، كما رتب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمراء جيش مؤتة. وأما الطريق الثالث فهو القهر والاستيلاء (سبق سرده في بيعة المتغلب).»
وفي حال بيعة المتغلب لا معنى للبيعة؛ فسواء بايعته أو لم تبايعه فقد جلس هو واستراح على الكرسي، هو لا ينتظر التمثيلية الإسلامية الهزلية إلا لإثبات السيادة والسيطرة، وخضوع شعبه وإقراره بذله، هي تهنئة وتباريك وإعلان إذعان وطاعة.
وفي حالات البيعة الثلاث لا وجود هنا للناس؛ ففي أنواعها تنعقد البيعة بعد تولي الخليفة بالاستخلاف أو بالشورى أو بالتغلب، هذا رقم 1، ثم تأتي البيعة في الترتيب رقم 2، والبيعة بهذا المعنى لا تضفي الشرعية على النظام بقدر ما هي إعلان خضوع الناس للحاكم الجديد؛ هي إعلان إذعان علني.
ويحاول د. زيدان جعل البيعة مبدأ إسلاميا مقدسا تم صكه قبل إقامة الدولة في عهد النبي. وهو منطق مردود عليه بمنطقه هو نفسه؛ لأنه إذا كانت البيعة هي التي تضفي المشروعية على الحاكم، وأن البيعة سبقت إنشاء الدولة في الخبرة الإسلامية لأن رسول الله - حسب اعتقاد المسلمين - لم يكن في حاجة للبيعة بهذا المعنى؛ لأنه نبي ليس بحاجة لمن يضفي الشرعية على فعل أو قول من أقواله؛ فالنبي مختار من السماء ويدعمه الرب وليس بحاجة لاستمداد الشرعية من بيعة بشرية ينشئ بها الرب لنفسه دولة إسلامية على الأرض. كما أن البيعة لم تؤد إلى إجماع كل الناس على الإله الإسلامي، فلا زالت الأرض تتقاسمها أديان شتى؛ لأن زيدان إن قصد بالبيعة مفهوم الانتخاب المعاصر فهو يعني الاختيار بين بدائل، والرسل لا يأتون باختيارنا بل من السماء، بايعناهم أم لم نبايعهم، وبيعة البشر لا تعطيهم شرعية لهم ولا لدولتهم.
البيعة في الخبرة النبوية
فماذا عن بيعتي «العقبة» كما يقول «بعقد تاريخي حقيقي بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة من أجل تحقيق رسالة سامية»؟ بنص كلام د. زيدان؟ ألا يعني ذلك أن الانتخاب/البيعة الإسلامية كانت المفهوم الأعلى والأرقى؛ لأنها تحققت في الواقع كعقد اجتماعي، وسبقت مفاهيم روسو التي كانت مجرد كلام غيبي، بل وسبقت وجود الدولة وإنشاءها، مما يعني إعطاءها قيمة عليا أعلى من الدولة؛ فهو يقول عن هذا العقد الذي تم في العقبتين: «تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة، وأفكار واعية ناضجة، من أجل تحقيق رسالة سامية، في حين أن فكرة العقد الاجتماعي عند روسو مثلا، في الفكر الغربي الحديث، كانت تبريرا غيبيا لا نصيب له من واقع.»
يبدو الكلام هنا قويا مدعما ببيعتين حدثتا على الأرض، بل وقبل إنشاء الدولة، لكن الخطأ الوحيد هنا أو التلبيس على المسلمين، هو أن كل الكلام يبدو صحيحا خاصة وقائعه التاريخية التي لا يمكن إنكارها، لكن ما يمكن إنكاره - بل يجب إنكاره - أن بيعتي العقبة كانتا لمحمد
صلى الله عليه وسلم
لإنشاء دولة، وهنا خلط للأوراق الذي يفوت على العين التي لا تدقق فيما يسوقه لنا سادتنا أهل الدولة الإسلامية؛ فلم يكن هناك أي اتفاق في البيعة على إنشاء دولة بموجب تلك البيعة، ولا توجد أي بيعة في الإسلام منشئة للدولة كما يزعم الدكتور زيدان، هو يريد تأكيد أن الإسلام دين ودولة وليس مجرد دولة، بل دولة مستكملة الشروط والأركان التي وصلت إليها الدول المعاصرة المتفوقة. وهو في واقع الخبرة الإسلامية لا وجود له بالمطلق؛ لأن الإسلام كما جاء كان دينا للحياة وللآخرة بالعبادات والثواب والجزاء، نعم حدثت بيعات وليس بيعتين؛ فهناك العقبة الأولى والعقبة الثانية، وبيعة الرضوان المسماة ببيعة الشجرة في الحديبية، لكن أيا منها لم يرد فيه شيء عن الدولة ولا السياسة ولا نظام الحكم. ويبدو لنا أن الإسلاميين لديهم شيء من الارتباك والتخبط في هذه المفاهيم، حتى إن الدكتور زيدان نفسه يفسر البيعة لنا ثلاث مرات، كل مرة بمعنى مختلف، فالمعنى الأول في قوله: «إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي»، وفي قوله: «فالعقد الذي حدث مرتين عند العقبة كان عقدا حقيقيا تاريخيا تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة.» وأن هذه البيعة كانت «من أجل تحقيق رسالة سامية». وهكذا لم تعد البيعة ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي؛ لأن الهدف في القول الثاني هو من أجل تحقق رسالة سامية؛ أي إنها كانت شأنا دينيا صرفا داعما للرسالة كي تتحقق؛ فهي مرة عقد اجتماعي تأسست عليه الأمة، ومرة كانت أساسا لتأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، ثم مرة تحقيق لرسالة سامية. إن دقة المفاهيم عند حضراتهم مفقودة بالمرة.
للتدقيق نعود إلى ما حدث ليلة العقبة الأولى وليلة العقبة الثانية اللتين ركز عليهما الدكتور زيدان، نبحث عن الدولة، أو عن العقد الاجتماعي، وعن الإرادات الإنسانية الحرة، وعن عقد تأسيس المجتمع الإسلامي، وأيا ما نجد منها، سيكون في صف الدكتور وإخوانه المسلمين، وعسانا نجد خيرا.
نقرأ حوادثه سنة 11 للهجرة في أي كتاب من كتب السير والأخبار والحديث، ولنأخذ هنا من المنتظم؛ إذ يحدثنا أن «من حوادث هذه السنة، أن اثني عشر رجلا لقوه
صلى الله عليه وسلم
بالعقبة، وهم أسعد بن زرارة ... (يذكر الأسماء حتى) عويم بن ساعدة، فبايعهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ليلة العقبة الأولى ... ويقول: ونحن اثنا عشر رجلا أنا أحدهم، فبايعناه على بيعة النساء؛ على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصاه في معروف، وذلك قبل أن تفرض الحرب، قال
صلى الله عليه وسلم : فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة، وإن غشيتم فأمركم إلى الله، إن شاء غفر وإن شاء عذب».
هذه حكاية بيعة العقبة الأولى على اتفاق بين الرواة في كتب السير والأخبار والحديث والتفسير، ألا يشركوا بالله ولا يزنون، ولا يقتلون، ولا يكذبون، كلها بنود لشأن ديني أخلاقي بحت، كلها تأكيد من أصحابها قبول الإسلام وشروطه دينا يؤدي لدخول الجنة أو النار، أمر الناس فيه مفوض لرب الدين إن شاء غفر وإن شاء عذب؟ فأين هو الفكر الواعي الجديد؟ إن منطوق هذه البيعة يوعز بشدة أن مجتمع العرب كان مجتمع فسوق ورذيلة وفجور وانحلال وفساد، حتى يحتاج الأمر إلى هذا اللقاء التعهدي المبايع على التخلي عن أخلاق الجاهلية وفسوقها والتخلق بأخلاق الإسلام، منطوق البيعة ليس فيه ما يشير بالمرة إلى تأسيس مجتمع سياسي إسلامي، وليس فيها أي عقد اجتماعي يؤسس أمة أو مجتمعا؛ لأن المجتمع كان قائما موجودا، ولن يقيمه اثنا عشر رجلا، هذه البيعة كانت إشهار إسلام ودخول في الدين الجديد، تم فيها تعريفهم ببعض يسير من مبادئ وشئون دينهم؛ فلم تكن الحرب (الجهاد) قد فرضت بعد، ولم يكن الدين قد اكتمل، فحتى الدين نفسه تعاهدوا على بعضه وهو الجزء الذي كان يعرفه النبي حتى حينها في الزمن المكي الذي لا يحوي إلا على اليسير من مبادئ الإسلام وقيمه وتشريعاته ونصوصه، ومعظمها نسخه الزمن المدني في يثرب الذي لم يتعاهدوا عليه، هكذا كانت بيعة العقبة الأولى؛ تحديد هدف الدين بالسعي في الدنيا للحصول على رضا الله لدخول جنته، وليس لإنشاء دولة ذات سلطة وسلطان، وملك يتناصر حوله الناس أو يتصارعون.
فماذا عن العقبة الثانية؟ «قال كعب بن مالك: خرجنا في حجاج قومنا حتى قدمنا مكة، وواعدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالعقبة من أواسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج كانت الليلة التي واعدنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام ... وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، نتسلل تسلل القطا حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن نحو ثلاثة وسبعين رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا؛ نسيبة بنت كعب أم عمارة، وأسماء بنت عمرو بن عدي وهي أم منيع، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حتى جاء ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له، فلما جلس
صلى الله عليه وسلم
كان أول من تكلم العباس (المشرك!) فقال: يا معشر الخزرج ... إن محمدا منا حيث قد علمتم (يقصد قرابته وقبيلته وليس دينه)، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه (الحديث هنا عن حماية ومنعة النبي من قبيلة قريش رغم عدم إيمانهم به)، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم (لم يقل كما أمره الله بذلك؛ فهو لا يؤمن بدين محمد، ولا يرى إلا الوقائع).»
القضية المطروحة هنا أن العباس بن عبد المطلب يعلن للأنصار أن محمدا لا نتبع دينه ولا نؤمن بنبوته ومع ذلك نحميه لأنه ابن قبيلتنا، ونحن نحافظ عليه في مكة ونحميه طبقا لتقاليد القبائل البدوية، ولكنه رغب في اللحوق بكم والهجرة إليكم. المطروح هنا هو مسألة حماية محمد
صلى الله عليه وسلم
وضمان أمنه وسلامته؛ لذلك كانت الكلمة الأولى للعباس غير المسلم لكنه عم النبي.
نكمل الاستماع إلى العباس مستطردا: «فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه (أي الهجرة إليهم)، ومانعوه ممن خالفه (كانت حرية العبادة مكفولة وموفورة حتى هذه اللحظة، ولم تكن الآيات المدنية بهذا الشأن قد وصلت)، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم (أي الهجرة)، فمنذ الآن دعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.»
العقبة الثانية إذن كانت تمهيدا للهجرة، نجح فيها العباس الكافر في تحقيق الغرض منها، وهو توفير الأمن لمحمد عند هجرته ليثرب؛ لأن كعب بن مالك يستطرد: «فقلنا إنا قد سمعناك وسمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك وربك ما أحببت. قال: فتكلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فتلا القرآن ودعا إلى الله تبارك وتعالى ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحرب والحلقة ورثناها كابرا عن كابر.»
هو اتفاقية دفاع مشترك ستقوم فيها حروب مقبلة سيقودها النبي؛ لذلك كان هذا الاتفاق واللقاء سريا، تسللوا إليه تسلل القطا؛ لأن قريش كانت هي المستهدف الأول؛ لأن يثرب كانت تقع على عصب الطريق التجاري إلى الشام، وبعد الهجرة قطع المسلمون من يثرب هذا الطريق وحاصروا مكة اقتصاديا لتركيعها؛ لذلك أكد البراء أن أهل يثرب هم أهل الحرب والحلقة. لقد قبل الأنصار تولي مهمة حماية النبي وتأمينه عند هجرته إليهم. يستمر كعب بن مالك روايته فيقول: «فاعترض القول البراء، يكلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا ونحن قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثم قال: بل الدم الدم، الهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.»
إنها بيعة اتفاق على الدم والهدم والحرب، وألا يتخلى الأنصار عن نبيهم، ويمنعونه كما يمنعون نساءهم وأطفالهم حتى يشتد أمره وتقوى شوكته، وعليه أيضا عندما يقوى شأنه ألا يرتد عنهم ويتخلى عنهم ويعود إلى بلده. هذه هي العقبة الثانية بتفاصيلها ليس فيها شيء عن دولة ولا انتخابات ولا تصويت ولا دستور ولا ديمقراطية ولا أي شيء مما يريد الدكتور زيدان أن يوهم به القارئ المسلم .
للرواية بقية، فيتابع ابن مالك: «وقال
صلى الله عليه وسلم
أخرجوا اثني عشر نقيبا؛ تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وقال ابن إسحق، فخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حرام، أن رسول الله قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء كفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي، قالوا: نعم.»
الرواية توضح أنه حتى ذلك الوقت وهذا الاتفاق، كان للأنصار أحياء؛ أي قبائل، ولها زعامات مستقلة سوف تتكفل بتنفيذ بنود هذا الاتفاق الدفاعي أو الهجومي المشترك، وأن هذه الزعامات كانت اثنتي عشرة؛ لأن مجتمعهم كان قبليا عشائريا وليس دولة ذات قيادة واحدة بنظام تراتبي إداري هرمي كما هو أبسط نظم الدول المجاورة، منذ ألوف السنين.
يقول بن مالك: «وقام منهم العباس بن عبادة بن نضلة موضحا لهم ملخص ما تم الاتفاق عليه، فقال: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعون على حرب الأحمر (اليهود) والأسود (قريش) من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذ نهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا، أسلمتموه؟ فمن الآن، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف.»
أين هنا الدولة؟ العقبة الأولى كانت تمهيدا للهجرة، وكانت اتفاقا سريا غير علني والدول غير سرية، العقبة الثانية سرية لتنفيذ الاتفاق، ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال
صلى الله عليه وسلم : لم نؤمر بعد. فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا، فلما غدت علينا جلة من قريش جاءونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنا قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينكم. فانبعث من مشركي قومنا من يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه. قال: وصدقوا، ولم يعلموا.»
مرة أخرى: أين هي الدولة؟
العقبة الأولى كانت تمهيدا للهجرة، وكانت اتفاقا سريا غير معلن، والدول غير سرية. العقبة الثانية سرية بدورها لتنفيذ الاتفاق السري، الهدف هو تكوين حلف عسكري ضد الأحمر والأسود من الناس، حلف هجومي وليس دفاعيا، وليس أكثر من هذا، الكلام الأهم في العقبة الثانية هو الذي تم طرحه، هو كلام العباس الكافر نيابة عن بني هاشم الكفار في بيعة تأسيس لمجتمع إسلامي، كيف يتفقان أو يلتقيان؟ الاجتماع ببساطة كان لتأمين الهجرة وتكوين الجيش الهجومي الذي سيأخذ منه كل طرف نصيبه من الصفقة أو البيعة، ولا علاقة لها بروسو وعقده الاجتماعي لا من قريب ولا من بعيد، ولا بتأسيس مجتمع سياسي إسلامي لأنه كان يرأسه كافر هو العباس، وإلا لو أقررنا بذلك فلا بد أن نقر بما يترتب عليه، وهو إمكانية وصول غير المسلم إلى رئاسة المسلمين بالقياس، فهل هذا المطلب الرفيع والسامي هو ما يطلبه سيدي الدكتور؟ فلنتابع لمزيد من الفهم والتدقيق.
البيعة كعقد اجتماعي
يقول الدكتور زيدان «إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي». وهي من العبارات العجيبة التي تلقى هكذا دون تدقيق في القول حتى يكون مفهوما. فهل سيؤسس الدكتور زيدان بالبيعة مجتمعا سياسيا إسلاميا من فراغ؟ أم في مجتمع قائم؟ أم هي السير على السنة، كما انفصل النبي وأتباعه عن مجتمعهم، ثم أخذوا في التغذي على المجتمع الجديد والتهامه إما بدخول أفراده في الإسلام أو خضوع القبائل للقوة الجبرية، إنه يحدثنا عن مجتمع كالثقب الأسود يظهر فيلتهم ما حوله.
إن أي انفصال عن أي مجتمع يعتبر في نظر أهله خيانة للمجتمع وللوطن، والدكتور زيدان يريد تكوين مجتمع يتم سلخه من المجتمع القائم، وهو ما يحمل في طياته تكفير المجتمع كله لأن مجتمعنا ليس المجتمع السياسي الإسلامي المطلوب، إنهم يأخذون المواطن من الولاء لمجتمعه ووطنه للولاء إلى كيان هلامي معاد غريب محارب لوطنه وأهله وناسه، يفصل الناس عن مجتمعهم ليعود بهم إلى طريقة حياة مخالفة، ليتم التفجير والتدمير ونتساءل مندهشين: من أين أتانا الإرهاب؟
كيف يمكن القول اليوم إن التصويت هو البيعة، وإن تصويتنا مقدس لأنه يقوم على فعل مقدس تم في العقبة الأولى والثانية، دون أن يكون في الأولى لا سياسة ولا دولة ولا شورى ولا ديمقراطية، كان الكلام عن الدين والعبادة والجنة وليس للحصول على دولة. وفي الثانية كانت شديدة التكتم والسرية لأنها كانت تأخذ إقرارا وتعهدا من رؤساء قبائل اثني عشر أنصاريا، لا توجد هنا دولة، هنا حوار قبلي وليس حوار دولة. الدولة عندما تتعاقد تتعاقد مع رئيس واحد وليس 12 رئيسا، لا يوجد نظام هرمي يعطي الرئيس فيه تعليماته للدرجات الأولى من السلم لنقلها للدرجات التحتية الأوسع.
أما الآيات التي جاءت بشأن البيعة فقد جاءت تالية للبيعة وليس قبلها، لتوافق عليها،
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (الفتح: 18)، أو
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (الفتح: 10). ليس هنا أيضا دولة ولا ديمقراطية ولا مؤسسات ولا هيئات، لا شيء، هي برقيات تهنئة وتبريكات سماوية ليس أكثر، وليس فيها فرض للبيعة على المسلمين حتى ينشئوا مجتمعا سياسيا إسلاميا كما يريد زيدان. يعني المسلمون عملوا بيعة، جاءت الآيات وقالت إن ما فعلوه هو عمل حميد، ليس أكثر.
كل هذا كان عندنا، بينما روسو كان هيمان في غيبيات العقد الاجتماعي؟ لماذا كل هذا الجهد الذي يبذله زيدان وإخوانه بلا طائل، لماذا؟ لماذا يكون الدين هو معيار الديمقراطية؟ كل هذا الجهد لأن أهل الدين كأصحاب مصالح لن يتنازلوا بسهولة، لكني أعتقد أن هذا اللون من الخطاب الذي بين أيدينا هو زفرتهم الأخيرة.
انظر اختياره للألفاظ للتعبير عن دلالات لا تعنيها بالمرة؛ فالبيعة هي «ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وأداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى».
عندما يقول رجل أكاديمي قولا فلا بد أن يعنيه، لا أن يعتمد على انتشاره في المخيلة الجماعية لكثرة الترديد والتكرار. فإذا كانت البيعة ميثاقا فلا بد أن يكون هذا الميثاق مكتوبا، خاصة مع تعلقه بأمر مصيري يمس تأسيس المجتمع الإسلامي السياسي، يمتد بامتداد الإسلام، وأن يكون هذا الميثاق موضحا به كل ما قدم الدكتور زيدان، خاليا من الغموض ومبينا لأسس ذلك المجتمع وعوامل قيامه بالتفصيل الدقيق، وقد قرأنا المكتوب في كتب السير ونصوص القرآن دون أن نجد لهذا الميثاق ذكر. إن نفس الكتب تعرف ما هو الميثاق لذلك دونت بنود المواثيق للتاريخ حتى اليوم، مثل ميثاق صلح الحديبية بندا بندا وشرطا شرطا، وكان لهذا الميثاق مدة زمنية وليس أبديا، فكانت مدته عشر سنوات فقط، ومع ذلك دونه لنا التاريخ الإسلامي، فإذا كانت البيعة ميثاقا ونظاما أبديا في السياسة الإسلامية فلماذا لم يتم تدوين بنود هذا الميثاق بالمرة في أي مرجع إسلامي؛ لأن هناك فرقا بين الحديبية ووثيقة البيعة، البيعة هي الأهم، ومع ذلك ذكرت تفاصيل الحديبية بكل دقة رغم أننا لن نطبق الحديبية اليوم وهي المدونة بندا بندا، ونريد أن نطبق البيعة، وليس لدينا وثيقتها لا في القرآن ولا في حديث ولا في كتب الروايات الإسلامية التي يدعيها الدكتور زيدان، لماذا لم يخبرنا الله بتفاصيل هذا الميثاق إذا كان له كل هذه الأهمية في دين المسلمين.
لماذا لم ينزل على نبيه آية الميثاق أو سورة الدستور؟ إن قوله إن البيعة ميثاق تأسيس المجتمع السياسي الإسلامي، وبما أن هذه البيعة قد تمت في الخبرة الإسلامية زمن الرسول، فالنتيجة المحتمة هو أن ما لدينا الآن مجتمع سياسي إسلامي، وهو ما يرد طلبه إنشاء هذا المجتمع؛ لأنه قد تم إنشاؤه بتلك البيعة، لكن لو أسمينا مجتمعنا بالمجتمع السياسي الإسلامي فعليه يمكن لنا افتراض مجتمع مسيحي سياسي، ومجتمع بوذي سياسي، ومجتمع هندوسي سياسي، ويكون لهذه المجتمعات خصوصياتها المغايرة لخصوصيات المجتمع الإسلامي، وحتى لا يحدث أي خلط يشوب مغايرة مجتمع المسلمين ومخالفاته للمجتمعات الدينية الأخرى، خاصة مع وصف مجتمعنا تمييزا له بالمسلم، لم يضع د. زيدان تعريفا دقيقا لهذا المجتمع، ولا وضعه غيره من متأسلمين أو إخوان، حتى يمكن للمجتمع إجراء عمليات الفرز والتجنيب للمجتمعات لمعرفة مسلميها من غير المسلمين. لنعرف مثلا موقع المسلمين الذين يعيشون في الغرب الكافر والشرق الوثني وهي ديار حرب جميعا، هل يشكل هؤلاء جزءا من المجتمع الإسلامي المقصود؟ أم إنهم مواطنون يعيشون في أوطان؟ أم إنهم يعيشون جاليات بدون هوية؟ وهل ستنطبق قواعد المجتمع المسلم كالبيعة والشورى على تلك الجاليات؟ هل يذهبون للتصويت في بلادهم حسب الأنظمة المعمول بها في الديمقراطية، أم سيعطون الرئيس بوش البيعة؟ أم تراهم سيبايعون ابن عاكف وابن قرضاوي بغض النظر عن الأوطان؟ أم يجب عليهم الانتظار حتى يقوم سدنة الإسلام بالاستقرار على تسمية الخليفة المقبل للمجتمع الإسلامي وساعتها يبايعونه؟ أم تراهم سيختارون فيما بينهم من يبايعونه ويعطونه الولاء؟ أم سيختارون هاني السباعي أو أبا حمزة المصري أو أبا قتادة أو أبا فصادة؟ أم سيعيشون في الغرب ويعطون ولاءهم لخليفة من بلادنا جاري البحث عنه؟ وعلينا انتظار اتفاق الفرق الإسلامية ربما ألف وأربعمائة عام أخرى ضائعة كالتي ضاعت. كل هذه الأسئلة بلا إجابة لأن الألفاظ بلا معنى وبلا ضابط، كلها كلام نظري لطيف لا علاقة له بواقع، كلها خيلاء وشعر وفخر بمجتمع غير موجود ولم يوجد قط.
البيعة كالتزام بالإسلام
هنا يتضح لنا أن الدولة المطلوبة باسم البيعة هي دولة الاستبداد عينه، إنهم من الآن وقبل أن يستبدوا بنا مرة أخرى، يقومون بتقديس وسائل الاستبداد وأدواته ليسلم بها المسلمون بحسبانها دينا وإسلاما. ألا ترونه يقول إن البيعة هي ميثاق تأسيس المجتمع، لا بل وهي «أداة إعلانه الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى»!
ألا ترون معي أن البيعة لا يصح أن تكون أداة إعلان الالتزام بالمنهج والشريعة بمنطق الإسلام نفسه؟ لأن إشهار الإسلام والنطق بالشهادتين يحمل ذلك الالتزام ويتضمنه؛ فهو جزء في مبناه، بمجرد الدخول في الإسلام يعني الالتزام بمنهجه وشريعته وأحكامه. والحاجة لبيعة لتحقيق ذلك الالتزام بالإسلام يعني شعورهم أن هناك من سيرفض حكمهم ودولتهم، وهنا يتم اعتبار هذه المعارضة عدم التزام بالإسلام؛ لذلك يكون النكوص عن البيعة نكوصا عن الإسلام.
ولو كان الأمر بهذا المنطق صحيحا؛ أي إن البيعة موضوعة لإلزام المسلم غير الملتزم، لترتب على ذلك أن تكون البيعة ركنا من أركان الإسلام تجعل الناس يلتزمون بشريعته ونظامه، ويصبح الإسلام بلا بيعة هو والكفر سواء. كل هذه الإضافات في دين الإسلام يفعلونها ببساطة لأنهم يتحدثون باسم الإسلام، ولا شرعية معهم لذلك، بينما البدعة المكروهة في الإسلام هي «الزيادة في الدين» على اتفاق الفقهاء، إنهم أيضا يعلمون هذا ومع ذلك يفعلونه. إن الدين ليس هو غرضهم ولا هو هدفهم، إنما هو الكرسي الأعظم في الوطن.
المصيبة أن البيعة بهذا الشكل الذي يسوقه لنا د. زيدان ليست ركنا سادسا في دين الإسلام فقط، بل هي الحاكمة على الخمسة أركان الأساسية التأسيسية التي نعرفها، فهي شرط التزام وتنفيذ. الدكتور زيدان يكتب لنا شيكات بدون رصيد، غير قابلة للصرف، ويريد توقيعنا في المقابل على بيعته، فإذا كانت البيعة فرضا فلماذا احتاس أبو بكر في السقيفة؟ لماذا لم يقل إن البيعة فرض، كما قال «الخلافة في قريش»، وكما قال: «الأنبياء لا يورثون»؟
لماذا لم يحلها أبو بكر دفعة واحدة كما فعل بالحديثين السابقين؟ لو كانت البيعة ركنا إسلاميا وميثاقا معروفا مفروضا، لفرضها أبو بكر بحديث نبوي ثالث، وإذا كانت الخبرة النبوية والخبرة الإسلامية مصدرا هاما كأحداث واقع وليست تنظيرات فلسفية كما عند روسو، فكيف جاز له أن يقول «إن البيعة هي أداة إعلان المجتمع الإسلامي الالتزام بالمنهج والشريعة والشورى»؟ ألا يرى أن البيعتين اللتين كانتا مناط حديثه (العقبتين)، كانت قبل اكتمال الشريعة وقبل الهجرة وقبل نزول آية الشورى أصلا؟ إن البيعتين ببساطة كانتا حلفا هجوميا يكون فيه النبي هو الزعيم الديني، كانت البيعتان قسم ولاء للنبي والدين لا للدولة؛ فلم يكن هناك دولة.
ناهيك عن كون البيعة لم تلزم من أعطاها بالإسلام، فلم تثمر مع المنافقين مثلا لأن الدين اقتناع وليس إعلانا بالبيعة. زيدان يعلم أننا أسلمنا سلفا، لكنه يريد منا الحلف والقسم بصدق إسلامنا بإعطاء البيعة؟ المصيبة هنا أن الهدف الحقيقي من البيعة قد اختفى وراء هذا الركام من الكذب والتلفيق، إن الخليفة جالس سلفا في الصورة وحوله خلفيته طاقم محترف من تجار الدين ينتظرون البيعة، التي أصبحت شأنا مقدسا لأنها ركن سادس للإسلام يضمن بقية الأركان!
إن الحديث مع هؤلاء القوم له لذة كشف الباطل ومحاكمة الفاسد وتعريته لكشف مدى استهانتهم بديننا وبناسنا، مدفوعين بالرغبة في تحصيل السيادة السلطانية. انظر مدى الخلط بلعبة الثلاث ورقات الفاسدة، يقول البيعة أداة إعلان المجتمع المسلم التزامه بالمنهج والشريعة والشورى، بينما الإيمان ومقياسه وكميته شأن لا يمكن معرفته؛ لذلك الإيمان شأن فردي تماما؛ لذلك كان يوجد منافقون زمن النبي، ومع الإيمان يكون الالتزام بالشريعة من عدمه. أما البيعة فهي شأن جماعي لا يؤثر في صدق إيمان الأفراد؛ فالإيمان لا يتعلق بالمجتمع الذي تريدونه «إسلاميا» إنما يتعلق بالفرد.
وحسب العقيدة الإسلامية فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فسوف يحاسب الله الأفراد لأنها أمور تخص الفرد وحده وتعود نتائجها عليه وحده، دون مسئولية على المجتمع أو على الحاكم أو حتى على النبي؛ فالمسئولية الدينية شأن فردي ليس جماعيا، فلا البيعة ولا المجتمع بقادرين على إلزام أي فرد بإيمان معين ولا بدين معين، حتى إن النبي المؤيد من السماء لم يستطع أن يلزم أعمامه بالإيمان؛ لأنه في الزمن الملكي لا إكراه في الدين حتى لو كان بالبيعة؛ فقد حضر عمه العباس البيعة وكان كافرا (أسلم العباس قبل فتح مكة بساعات).
البيعة كتمكين للأمة
قال زيدان: إن البيعة «هي صيغة تمكين الأمة لا خضوعها، قبل الدولة، وبعدها.» ألا ترون حجم الكذب على التاريخ؟ ابحث في تاريخنا ما شاء لك البحث، فلن تجد هذا التمكين للأمة يوما، في عهد من من خلفائنا العظام كانت الأمة متمكنة وغير خاضعة؟ من أين لهم هذه القدرة على التزييف ليأتي بهذا التعريف الذي يجعل الأمة متمكنة من الدولة وليست خاضعة؟ من سن هذا من الخلفاء؟ راشدون أو غير راشدين؟ أو أين يمكن أن نجد هذا، في كتب السيرة أم التاريخ الإسلامي أم الفقه؟ أين تحديدا؟ لن تجد شيئا بين يديك يدل على هذا المعنى ولو من باب التأويل. إنه يقصد تمكين أهل الدين؛ فهم كل الأمة، هم حراس الدين، ومن يؤتمن على الدين يؤتمن على الحياة بالضرورة. أما حكاية «الأمة» التي يرددونها طوال الوقت فإن زيدان لا يعرف معناه، ولا الصحابة عرفوا معناه، ولا النبي قال لنا شيئا عن معناه، ولا أحد منهم شرح لنا وقال ما هي الأمة المقصودة، وأين هي؟ وأين تقيم؟ الغريب هذا الاجتراء على مستقبل البلاد والعباد، بينما لا توجد قاعدة واحدة واضحة ثابتة مدونة بدقة قانونية لتمكين الأمة في تنصيب الخليفة أو خلعه؟ ولو كانت مثل تلك القاعدة موجودة ما حدثت الفتنة الكبرى؛ لأنه بموجبها كان الجميع، الصحابة وعثمان، يعرفون ما يجب فعله، إما خلعه وإما بقاؤه واستسلام كل المسلمين للقاعدة مع خليفتهم وطاعتها دون قتل وقتال وفتن.
لم تكن هناك قاعدة توضح هذا أو ذاك. إذا كانت دولة كما يزعمون فالمعنى أنها كانت دولة بلا نظام؛ لأن الإسلام لم يقصد إقامة نظام دولة، بل قصد الدين وحده، ولذلك كان لكل خليفة من الراشدين رأي يختلف عن الآخرين في طريقة استلام الحكم وفي علاقته بالمحكومين. كل شيخ وطريقته في الشغل، ولم يكن هذا الشغل تنويعا مفيدا كما يقول لنا أهل الدين، إنما كان ارتباكا عشوائيا، ولم تنتظم الدولة إلا بعد الراشدين وأخذ الخلافة بالنظام الرومي وبعض الفارسي، وفق ملكية وراثية منتظمة إلى حد ما، فلم توجد في الإسلام عمليا في الواقع أية قواعد لوصول أي حاكم لكرسيه؛ الإمام علي كان يريدها دينا وسياسة، معاوية لم يشغله لا الدين ولا السياسة وأخذها بيعة متغلب. من تمت مبايعته عن رضا من الناس هو علي ولم تمكنه البيعة من الحكم، ومن تمكن هو معاوية، إذن البيعة لا بتهش ولا بتنش.
يضع زيدان البيعة ليس مقابل العقد الاجتماعي عند روسو ، إنما في مكان أرقى سبق في عمق التاريخ وأنها تحققت في واقع الخبرة النبوية، ومع ذلك فإن أصحاب الخبرة في عمق التاريخ هم اليوم في الدرجات السفلى في رتبة الكائن الإنساني، بينما أصحاب العقد الاجتماعي الوهمي الغيبي هم من يمثلون رتبة جديدة في فرع الإنسان هي العالم المتمدن الراقي بحضارته التي ننفس الغرب عليها، وهي الحضارة التي قامت على تهويم العقد الاجتماعي المتخلف الغيبي! والفكرة الأساسية في عقدهم الاجتماعي هي التي دفعت زيدان وإخوانه لإعادة فحص ركامنا لاستخراج ما يكون بديلا لها، أو ينافسها، أو يعادلها، أو حتى يشبهها كلاما، وهذا أضعف الإيمان! فلما لم يجد شيئا قام يقيم مدينته الفاضلة تخيلا ووهما، ودليل أنها مجرد أخيلة وهلاوس هو عدم توصل هذا الخطاب إلى أي جديد يمكن تطبيقه حتى هذه اللحظة.
زيدان لا يقر بفضل روسو نكاية فيه لأنه سمح لنفسه أن يكون من العلماء الكبار دون أن يشهر إسلامه، ودون أن يفهم زيدان أنه سواء أقر أم لم يقر فلن يقدم شيئا ولن يؤخر؛ لأن المجتمعات التي قامت على فكرة العقد الاجتماعي عند روسو قد نهضت بالفعل وأصبحت هي المجتمعات التي توصف بالمجتمعات الحرة، وليس المسيحية ولا اليهودية ولا الإسلامية؛ فالمجتمعات التي تطلق على نفسها اسما دينيا في العالم اليوم، هي المجتمعات المتخلفة وحدها.
العجيب في شأن سادتنا عدم إدراكهم ما بأيديهم من متناقضات؛ فبينما يؤكد الدكتور زيدان البيعة كمقدس دونه الكفر، يستشهد بأحاديث: «من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات موتة جاهلية، ومن مات وقد نزع يده من بيعة كانت ميتته ميتة ضلالة»، يقول لنا «وهي (أي البيعة) ليست ممارسة قهرية بل اختيارية حرة»، ثم يدرك الخلل فيبرره بقوله في مهرجان كلامي عجيب: «والالتزام الديني ببيعة وفق حديث من مات وليس في عنقه ميتة جاهلية، يعني ببساطة أن البيعة وإدارة تولي السلطة ووجود إدارة سياسية في المجتمع الإسلامي تنظم شئونه وتدير مصالحه، هو شرط التمدن الإسلامي، وتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع وبالتالي تعود جاهلية ... إلخ.» في وسط هذه المتاهة يمكننا أن نخلص إلى أن البيعة يمكن أن تكون اختيارية دون أي دليل شرعي نقلي أو حتى عقلي فيما قال، المهم أنه يريدها اختيارية لتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع ... إلخ، وهو ما يعني أن المسلمين قبل ذلك منذ زمن الدعوة وحتى الآن قد عاشوا في فوضى ضيعت الشرع وعادت جاهلية، وليس فقط الحكومات في الدول الإسلامية المعاصرة.
لنقرأ معا كتاب الجهاد من فتح الباري باب «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ...» فيه حديث لأبي هريرة عن قزمان الذي قاتل مع النبي في غزوة أحد وكان شديدا على المشركين وقتل وحده ما قتله الجيش كله، فأصيب إصابة شديدة فقتل نفسه من الألم فقال النبي: «إنه من أهل النار.» ونعيد قراءة كتاب روضة الطالبين، الطريق الثالث لتولي الإمامة «فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا أو جاهلا فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرنا، وإن كان عاصيا بفعله.»
وعليه يمكن اعتبار الخلافة قائمة، فلماذا يبحثون عن دولة إسلامية وخليفة؟ لماذا لا يعتبرون حكام المسلمين ممن تصدوا للإمامة بشوكتهم وجندهم، وإن كان الحاكم فاسقا أو جاهلا، حتى يستقر المجتمع المسلم؟ إذن ليس الدين هو هدف الدكتور زيدان ولا كل كوكبته من إخوان، إنما هي السلطة، وما أسوأهما من خيارين أمام شعوبنا، الحكومات الاستبدادية القائمة في الدول الإسلامية، أو زيدان ورفاقه.
ادفنوا موتاكم!1
على عينا وراسنا كل ألوان الخطاب التدليلي التبجيلي لمؤسسة الأزهر، لكنني أعتقد أنه مع حركة الإصلاح فلا أحد فوق المؤاخذة أو كبير على المساءلة، ومن هنا سأحاول إلقاء نظرة تاريخية على الأزهر للوصول إلى نتيجة نستطيع أن نحكم فيها على أدائه كمؤسسة حكومية وطنية، خاصة في ظل مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، والتي سنصر طوال الوقت على طلب تفعيلها في واقعنا حتى نصدق ما يحدث ونتفاعل معه ونحترمه.
إن الأزهر يقوم في مبادئه على أهداف ثابتة وغايات أسمى، هي تخريج قادة للفكر الديني، هدفهم إنقاذ العالم من الظلمات والأخذ بيده إلى النور؛ أي إلى الإسلام، ويقدم للدارسين فيه معارف ومهارات يؤكد أنها الأفضل في العالم كله؛ لأنها موروثة عن الزمن القدسي عندما كانت الأرض على اتصال بالسماء في بلاد أخرى تقع على الجانب الشرقي من البحر الأحمر، وأن الرب قد اختار هذه المنطقة وباركها وحرمها وبخاصة مكة والمدينة، فأصبحتا أقدس المواقع على الأرض، وأن الله الذي أوحى لعبده هناك هو الأدرى بما يصلح لمخلوقاته منهم.
وهنا نقول كلاما تقريريا لا بلاغيا، إن هذا الفكر عندما يكون الخلفية والأساس الذي يقوم عليه التعليم الأزهري، فهو ما يعني أن هذا اللون من التعليم ظل دون تطور أو تغير أو تبدل أو انفتاح، تأسيسا على مسلمة تؤكد أن خير القرون في الزمان كله كان بالحجاز في القرن السابع الميلادي.
وتقوم المسلمة على حديث نبوي بهذا المعنى، فيترتب عليها أن أي تغيير يتفاعل مع متغيرات الواقع وتقدم الزمن؛ يعني أن هناك نقصا في مأثورنا وتراثنا الكامل المقدس، وحتى لا يكون هناك أي نقد تم تشريع الحدود التي تقنن قطع الأطراف وجز الأعناق والجلد والسلخ في حال التفكير، مجرد التفكير، بما يتناقض مع تراثنا الخالد أبد الدهر، تفنى الدهور ولا يفنى.
والمعلوم أن التعليم في بلادنا قد انقطع عن تخصصاته القديمة في جامعات الإسكندرية وأسيوط وطيبة، ومدارسه المتخصصة في الفنون والعلوم على اختلافها، فمع الفتح العربي أصبح التعليم في بلادنا كله دينا، وبعضه دين، وما يستنتج منه دين؛ وذلك لكفالة طاعة المواطنين لسيادة سلطة تمثل جماعة أو هيئة أو طائفة، مهمتها أن تقوم بالتفكير نيابة عن كل المواطنين، لأن الوطن ليس بحاجة لتفكير أكثر مما هو بحاجة إلى دين وذمة وشرف ... إلخ، وتعتبر هذه السيادة السلطوية نفسها العقل المفكر القادر المبدع المتمكن من إدارة كل الشئون داخليا وخارجيا؛ وذلك لأن العوام قاصرون عن إدارة شئونهم بالخلقة والفطرة.
ومع هجمة الأسلمة التي أتتنا مع زوبعة ما يسمونه «الصحوة الإسلامية» تمكن السعودي ابن عبد الوهاب من إعادة فتح مصر، وقام كل أسيادنا من القبور، يشيرون لنا كي نسمع ونطيع، هكذا قال ابن تيمية، وهكذا قال الغزالي، وهكذا قال ابن عبد الوهاب، وهكذا قال ابن قطب، وهكذا قال ابن عاكف، وهكذا قال ابن هويدي. لقد نهض موتى التاريخ ليحكمونا مرة أخرى كسادة لنا يقولون قولا مقدسا، بعد أن ظلوا يقولون ما ينوف على ألف وأربعمائة عام، ظلوا أربعة عشر قرنا يقولون وحدهم ولا ينطق غيرهم، ومعهم لا قول لشعب ولا لمواطن عبر التاريخ الهباب غير قول آمين.
ماذا يقول الطالب الدارس؟! وهل مسموح له أن يقول أمام البخاري أو الشعراوي وباقي جحافل أصحاب هذه الأقوال المقدسة المنزهة وحدها؟! إن الطالب في ظل هذا المنهج التعليمي لن يفهم أبدا أن من حقه أن يقول، فهذا شيء عجاب، وبدعة ما لها في شرعنا من باب. ألا ترون المسلمين في الفضائيات يخاطبون أصحاب القداسة بقولهم: يا شيخنا، ويا مولانا، ويا سيدنا، في اعتراف بائس بأن العبودية كحامل لهذه الثقافة قد ختمت الأرواح بالذلة والمسكنة؟! ألا تسمعونهم يطلبون الفتوى على الملأ في أخص الشئون حتى أدخلوهم معنا في مخادع الزوجية؟!
ألا ترون مدى الصغار ومدى التمكن من الأرواح والعقول حتى بات الواحد منا لا يخطو خطوة دون أن يعرف فيها رأي مشايخنا؟!
وفي المقابل لا بد أن يستشعر الشيخ أنه شخص استثنائي غير باقي الناس؛ فهو سيدهم، وهو من يخطط لهم، وهو من يضع لهم القوانين، ويكون له الحق كل الحق من بعد أن يكفر هذا ويرضى عن هذا، أن يشكل خطرا على هذا النظام، وأن يضغط على ذلك الفريق، ومن ثم أن يلعب سياسة لأن جمهوره يقدسه، وهو الفائز بحول الله.
وكلنا يعلم أن الهدف من إنشاء الأزهر كان هو دعم توجهات الفاطميين بمصر، ومع تغير الأنظمة الحاكمة والمذاهب المسيطرة، تقلب الأزهر في جلسته مع كل جديد على مستوى السلطة، وأثبت أنه يمكنه التغير مع المستجدات، فانتقل من التشيع الفاطمي إلى المذهب السني في نقلة نقيضة بالكلية ، ومن بعد ذلك أثبت مرونة مذهلة في التحول والتغير، فكان مع اشتراكية عبد الناصر، ثم مع الانفتاح الاقتصادي، وكان مع الحرب، ثم أصبح مع السلام، وهي مرونة تحسده عليها كل الهيئات الدينية المشابهة في العالم.
لكن عندما يتعلق الأمر بحريات المواطنين أو بحقوق الإنسان الأساسية كحق الحرية وحق الاعتقاد وحق إعلان الرأي، فإن الأزهر كان يتخذ أشد المواقف تزمتا وانغلاقا وأصولية شديدة المراس. وهو أمر يؤدي إلى التساؤل عن سر هذه الازدواجية ما بين أزهر مرن قادر على تطوير نفسه وتطويع الإسلام لما هو جديد، وبين وقوفه ضد حقوق المسلمين وحرياتهم الأساسية!
هل كان موضوع مشايخ الأزهر عبر التاريخ هو استمرار الحظوة السلطانية وهباتها اللدنية فقط؟! هل كان مع ما يريد الحاكم حتى لو قهرا واستعبادا، ويصبح ضد شعبه عندما يطلب أن يكون المواطن إنسانا كبقية الناس في العالم، وإنسانا كريما كرمه الله؟!
والملاحظ لتاريخ الأزهر سيكتشف أنه رغم كل ما حصل عليه من قداسة ورفعة، فإنه لم تثبت عليه يوما اهتمامات وطنية بالمعنى المفهوم من كلمة وطنية، ومن كلمة مواطنة؛ لأن لغته واهتماماته وموضوعاته وتاريخه وكل ما يتعلق بشأنه الدعوي يأخذنا إلى وطن أهم وأقدس من مصرنا، يأخذنا إلى حيث أسيادنا في الحجاز. ولا أتهم الأزهر أنه انشغل يوما بناسنا الذين هم على مختلف الاصطلاحات؛ غوغاء، رعية، أهل ذمة، أنباط، علوج، موالي، بقدر ما انشغل بكيف يوجه العوام ليدفعوا لله والحاكم خراجهم وجزيتهم، كما لا أتهم الأزهر بأنه حقق سبقا في ميدان حقوق الإنسان؛ لأنه ضدها حتى الآن، وأكثر ما يحز في نفسي كمسلم أن الأزهر لم يسع مرة إلى رقي الأمة، أو دعوتها إلى نقل الحضارة من بلاد المتقدمين إلى بلادنا، حتى بعد أن أدرك مدى تخلفه مع مجيء الحملة الفرنسية، ومع ذلك لم يطور الأزهر نفسه، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهو ما كان بالأصل قادرا على تطوير الأمة.
حتى بعد بونابرته، وقف الأزهر ضد كل اكتشاف أو اختراع أو حرية؛ لأن كل ذلك خروج على الإيمان ، لأنه لم يخرج من لدنهم هم، ولا يبقى إلا أن تسألهم: ومن أعجزكم عن فعل مثل فعلهم وأن تتطوروا مثل تطورهم؟! هل كان المسلمون سيقولون لكم لأ؛ هذا كفر؟!
وعبر السنين السوداء السوالف التي كان فيها أجدادنا يروون أرض مصر الطيبة بعرقهم ودموعهم ... وحتى الآن، كان رجال الأزهر هم محل الوجاهة الاجتماعية والوجوه المقدمة، تحترمهم الرعية وتجلهم، بل تتبارك بهم وتتقدس، لكن هذه الرعية التي كانت تقبل الأيدي طلبا للرضا السماوي، لم يكونوا موجودين في أجندة مشايخنا؛ لأن مصدر رزق مشايخنا ووضعهم السيادي مستمد وقائم على عدم الأخذ في الاعتبار بشئون الرعية في القرارات السيادية؛ لذلك كان رجال الأزهر هم الطبقة الحقيقية الحامية للحكام من أجل استقرار الأوضاع الاجتماعية على ما هي عليه دوما، ومن ثم كان الأزهر هو الحامي الحقيقي لمنظومة الاستبداد الشرقي في دولة خراج تتركز كل السلطات فيها عند القمة، حيث السادة والأشراف والبكوات والفاتحون، ولم يكن للشعب سوى دور واحد هو تنفيذ الأوامر والصدع بالفتاوى ودفع المطلوب منه لتقسيمه على مائدة اللئام! ثم آل الأزهر في النهاية إلى حليف للحكومات الوطنية، أخذ بموجبه مكانا سياديا يتم تعيين شيخه بقرار جمهوري مع تلقيبه بالإمام الأكبر وبدرجة رئيس وزراء!
وكلنا يعلم أيضا أنه بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر، فإن محمد علي لم يلجأ للأزهر مع عزمه وكارزميته وخططه لبناء مملكة قوية، إنما اتجه أولا إلى التخلص من كل مراكز القوى الفاسدة في مذبحة القلعة، ثم اتجه ثانيا نحو أوروبا، ولم يستطع الأزهر حينها أن يقدم بديلا وطنيا أو قوميا أو دينيا أو محليا للتحضر كالغرب، لم يكن عنده ما يفيد به الأمة وينهض بها، كان خالي الوفاض، كان لا يعرف سوى التخديم على السلاطين، وهو ما استمر يقوم به، لكن النهضة زمن محمد علي تركته إلى بعث البعثات واستجلاب الخبراء وخطط الإصلاح الغربية، فنهضت مصر لتصبح ندا للدول العظمى في عصرها منذ قرنين من الزمان، وقامت نهضتها على الانفتاح على العلم بمعناه العصري الإنساني الكشفي الابتكاري التجريبي ، وأيامها قال أحدهم: لو كان لمشايخ الأزهر أي نفع لأخذهم معه نابليون إلى فرنسا.
ولا بد من توضيح بدهية معلومة وهي أننا عندما نتحدث عن الأزهر لا نتحدث عن الإسلام؛ لأنه ليس في القرآن أو الحديث شيء اسمه أزهر أو رجال أزهر، وبالنظر إلى حال الأزهر سنجد أنفسنا بإزاء حالة متخفية تتحرك في عالم حفري؛ لأن علماء الأجناس والحضارات يقولون لنا إن أية حضارة سليمة لا بد أن يضيف إليها الجيل الواحد إضافات ابتكارية جديدة تصل إلى نسبة 15٪ لتفسح المجال للتطور والنمو والازدهار، بينما تعلقت قلوب الناس في بلادي برجال الدين، فإن رجال الدين في بلادي ما زالت غاية أمانيهم أن نعود معهم إلى القرن السابع ميلادي! هي دعوة إلى «الخلاء» حيث لا تاريخ، ولا وجود.
وإذا طالعنا كشف حساب الأزهر في تأدية مهمته التأسيسية، وهي حماية دينه ومجتمعه، بما له من كرامة مرفوعة وأموال مدفوعة ليؤدي دوره التربوي والديني، ولأنه قلعة ديننا الحصينة بالفرض الضروري ليبرر وجوده، فإن أزهرنا لم يحصن نفسه ولا مجتمعه ولا دينه، وفشل بكل سلطانه القادر في إرساء مبادئ الدين السمح ومعاني الأمن والأمان أو التطور بالدين ليتماشى مع متطلبات الزمن، لقد فشل الأزهر في ذلك ولم يستطع مواجهة الفكر التكفيري، بينما من تصدى لهذه المهمة للحفاظ على الدين وعلى الناس وعلى الوطن، هم المفكرون الليبراليون الذين يكفرهم الأزهر، وإنهم في ذلك أصحاب الفضل العظيم الذي لا ينكره إلا فاسد الضمير والأفاق اللئيم. لقد فشل الأزهر لأن الفيروس اخترقه مبكرا، بينما أمن الليبراليون من الإصابة عندما تحصنوا بطعم الحضارة.
لقد فشل الأزهر في أداء دوره لله وللوطن وللناس عندما أصر، ولم يزل يصر، على مسلمة أن «الحق لا يتغير».
نعم إن الحق والخير والجمال هي قيم مطلقة بين بني الإنسان، لكن معيار القيمة نفسه قد تغير بمرور الزمن، واكتسبت هذه القيم معاني جديدة، وللتبسيط الشارح أتساءل: هل تكون مضاجعة رجل لامرأة رغم إرادتها بحجة أنها جارية أو ملك يمين أو سبية حرب ... خيرا؟! أم هو هتك عرض علني بموافقة القانون الشرعي؟!
وهل يظل القانون الذي يشرع هذا قانونا ملائما اليوم؟! وهل مضاجعة صغيرات البنات حتى سن تسع حسب المبدأ السني المعلوم هو خير اليوم أم شر؟! وهل الفنون الجميلة بأنواعها من موسيقى إلى مسرح إلى باليه إلى غناء وطرب إلى فن تشكيلي رسما أو نحتا أو تصويرا، مما يرتقي بالحس الإنساني ويؤدي إلى رهافة الروح ... هل هذا شر أم خير؟! وهل تفجير زوار الحفيد النبوي في مساجد العراق في يوم الجمعة، وتمزيق أشلاء الأبرياء من شيعة أو سنة أو نصارى العراق ... هو خير أم شر؟ يبدو سادتي أن الأزهر بما يعلنه يعيش زمنا غير زماننا، وعلينا نحن أن نراجع شئونه، وقبل هذا وذاك أن نراجع فهمنا لقيم الحق والخير والجمال بما يوافق زماننا.
والعجيب أن الأزهر يراوح مكانه دون أن يلتفت شرقا إلى بلاد المقدسات ليرى الإصلاح وهو يدق أبواب الأرض المقدسة، ونوافذ محمد بن عبد الوهاب، ثم قام الأزهر يصلح ويعالج بعد أن دقت أمريكا عاصمة الخلافة، منذرة بقية الأنظمة الخليفية في المنطقة، لكن الأزهر قام يصلح بنفس الفكر ونفس الأدوات وذات المنهج والمنطق، فهو يعالج بينما هو حامل الوباء، ويداوي بالتي كانت هي الداء. مشايخنا ما زالوا عند قديمهم لا يدركون أن القيم أيضا متغيرة، وأن الحق ليس واحدا، وأن الخير والجمال أيضا قد أصبحا قيمتين إنسانيتين لا طائفيتين، بل تشملان جميع البشر.
كان يفترض في الأزهر بالنسبة للدين أن يكون كوزارة الصحة بالنسبة للمواطنين، لكنه عندما لم يتحرك اخترقه الوباء واستشرى فيه وانتشر؛ فإذا برجاله يصدرون فتاوى قتل الأبرياء فيستشهد فرج فودة، ويطعن نجيب محفوظ، ويقفون ضد الحملة التي قامت للقضاء على عادة ختان الإناث بفتاوى محتشدة، ويكفرون بنوك الدولة ويحرمون معاملاتها بما يضرب الاقتصاد الوطني في مقتل.
فذهب الناس يودعون أموالهم بيوت الأموال الإسلامية برعاية مباشرة علنية دعائية من رجال الدين في بلادنا من شعراوي إلى قرضاوي، إلى أزلامهم ممن وفروا للصوص نهب فقراء مصر وتدمير اقتصادياتها، عندما ركن الناس إلى ثقتهم في مشايخهم بإيمان تسليمي خانع خاضع يبحث عن ربح سريع دون بذل أي جهد، فكان ما كان، وكم حذر أخي وصديقي الراحل ممجدا فرج فودة من بيوت الأموال (ارجع لكتابه «الملعوب»)، وقدم فيه الدراسات الوافية بحسبانه اقتصاديا مبرزا ووطنيا مخلصا، في وقت كان المشايخ يعلنون ويدعون لبيوت الأموال، وأيضا يقبضون أجورهم من هذه البيوت من مال الفقراء، وقتلوا فرج بفتاواهم وفروا بأموال الناس، ولم يقم واحد فقط ممن قبضوا من هذه الأموال بردها حتى تعود لأصحابها، من شعراوي إلى قرضاوي وما بينهما وما بعدهما من أزلام، ومع ذلك ما زال عوامنا يعتبرونهم السادة والأسياد.
لقد ظلوا يقولون ألفا وأربعمائة عام (أربعة عشر قرنا) البخاري يقول ... وابن عباس يقول ... وابن تيمية يقول ... وابن لادن يقول ... ليضيفوا لإسلامنا ما لم يكن فيه يوما، وكلهم ليسوا بأنبياء، لقد قالوا طويلا وقننوا طويلا، لكن اليوم من سيقول، هو نحن ... الناس، وسنقول كل مختلف عن المعلوم بالضرورة، وسنعلن كل رأي يضرب الخطوط الحمراء جميعا، ويهتكها هتكا، وسنتجاوز كل الأسوار المانعة القامعة من ثوابت الأمة، سنقول مصالحنا ومعاشنا ومستقبلنا وحرياتنا وحقوقنا الإنسانية، نريد عندما ينزل المواطن المصري بلدا لا يفتشون حتى ما تحت ملابسه الداخلية، نريدهم أن يستقبلوه هاشين باشين حفاوة بإنجازه وعلمه ونبوغه، لقد انتهى بنا مشايخنا إلى كاريكاتير دموي ومحل هزوء وسخرية واحتقار من شعوب العالم، بعد أن وأدوا وقتلوا كل جميل في بلادنا.
اليوم لم تعد معاهد العلم مكانا لتعليم الناس الإيمان، فهو أمر يحصله الإنسان بنفسه عندما يريد، ولم تعد مكانا يحفظون فيه التراث؛ لأن التراث يحفظ بدار الكتب أو المتاحف، معاهد اليوم هي التي تقوم بصنع الإنسان الحي لا الميت ولا المخدر بأحلام أموات لم تتحقق يوما ولا حتى في زمانها القدسي، معاهد اليوم مهمتها أن تعلم الناس ما ينفعهم بالعمل والجهد المنتج المبهج.
أما التراث وأهله الملتحفون بأكفان الموتى فقد آن لنا أن نودعهم اليوم غير آسفين داعين أهل مصر : يا أهل مصر ... ادفنوا موتاكم، وبلا عزاء!
Shafi da ba'a sani ba