السهم المسموم
السهم المسموم
السهم المسموم
السهم المسموم
تأليف
علي الجارم
السهم المسموم
هل نستطيع بما ألقى به إلينا التاريخ من أخبار أبلتها القرون، وطمستها الحوادث أن نصف بغداد في عهد الرشيد العباسي؟ وهل في مكنة الخيال - وإن أبعد وأغرق - أن يملأ الفراغ، أو يكمل صورة العظمة العباسية في هذا العهد، بعد أن عجز المؤرخ والواصف عن إكمالها؟! لا. إن الخليفة الذي كان يتحدى السحب، ويأمرها في اعتزاز وثقة أن تذهب حيث شاءت؛ لأنها لن تمطر إلا بلاده جدير بأن يطرق القلم قليلا قبل أن يفكر في وصف ضخامة ملكه، وبعد سلطانه، وإن الإمبراطورية التي كانت تبسط حكمها على أطراف الأرض، والتي كانت تجبى إليها ثمرات الدنيا، لحقيقة بأن يعتصم الكاتب إذا حاول تصويرها بالسكوت، فإن من المعاني ما يعجز عنه الكلام ويكبو دون بلوغه الخيال. ويكفينا أن ننتقل بالقارئ في إيجاز وتواضع إلى بغداد في أحد شهور سنة مائة وواحد وثمانين أيام خلافة الرشيد. كانت الشمس تتهادى للغروب، وكانت أشعة الأصيل تسقط على نهر دجلة فتحيل لجينه ذهبا نضارا، وكانت القصور تبدو على الشاطئ الشرقي شامخة البناء، بعيدة الذرا، وكان بينها قصر بني على الطراز البيزنطي، وامتاز بكثرة نوافذه، واتساع حديقته التي أحاطت به؛ فجعلت منه صورة للفن الهندسي الرفيع في إطار أخضر بديع.
هذا قصر أبي عبد الله محمد الموصلي، وقد كان من أعظم تجار بغداد، وأكبر سراتها، طوته يد المنون منذ سنين، وترك لزوجه، وابنته حفصة ثروة تتحدى كنوز قارون. •••
كانت حفصة في الثامنة عشرة من سنيها، وكانت رائعة الحسن، باهرة الطلعة، تأنق في صنعها الجمال، فجمع فيها كل ما تدل به المرأة من أنوثة وفتنة، وكانت إلى ما منحها الله من قسامة وجمال ساحر تزدان بقوة النفس، وشجاعة القلب، ومضاء العزيمة مما يحسدها على بعضه كثير من الرجال. وقفت حفصة في أحد مشارف القصر تتطلع ذات اليمين وذات الشمال إلى الغادين والرائحين من صنوف البشر التي تزدحم بهم بغداد، وتغص بهم طرقاتها، وكان يبدو على وجهها القلق والسأم لطول التطلع والانتظار، وما كادت تمر ساعة أو نحوها حتى انبسطت أساريرها، وتطلق وجهها عن ابتسامة مشرقة زادت نور الأصيل بهاء وائتلاقا، وبدرت منها صيحة حاولت أن تخفيها فما استطاعت، فقد سمعت نفسها تصيح: نزار! نزار! قدم نزار! ثم وثبت في خفة الطفلة الغريرة نحو السلم حتى إذا بلغت نهايته ارتمت بين ذراعي شاب وسيم القسمات، فضمها إليه في شوق وشغف؛ فاختلط الجسمان، وتتابعت القبلات في لحن موسيقي بديع، يعرف الحب كيف يؤلف نغماته.
Shafi da ba'a sani ba