الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
سهم الله
سهم الله
تأليف
تشينوا أتشيبي
ترجمة
سمير عبد ربه
الإهداء
إلى ذكرى أبي: «إيزايا أوكافور أتشيبي»
الفصل الأول
كان يعرف الموعد، موعد ظهور القمر، لكنه كعادته دائما بدأ في انتظاره ومراقبته قبل موعده بأيام ثلاثة، عرف أن اليوم هو موعد القمر الجديد، وها هي الليلة الثالثة منذ أن بدأ في التطلع إلى السماء والبحث عن علامات تشير إلى ظهوره. غير أنه هذه المرة وفي مثل هذا الوقت من العام لم يكن في حاجة إلى مزيد من التطلع نحو السماء بحثا عن القمر، كما كان يفعل عند سقوط الأمطار؛ حيث كان القمر يختبئ أحيانا خلف السحاب عدة أيام، قبل أن يظهر على هيئة قمر ناقص النمو. وبينما كان القمر يواصل اختفاءه وتجواله بين السحب كان الكاهن ينتظر، كل مساء كان ينتظر.
كان كوخ الكاهن عاديا لكنه مختلف عن بقية أكواخ الرجال، عتبة طويلة في الأمام وأخرى أقل طولا على اليمين تؤدي إلى الداخل وتحوي إفريزا، كثيرا ما يستند إليه «إيزولو» لرؤية ذلك الجزء من السماء الذي يظهر منه القمر. ساد الظلام وتكدست السماء بالسحب، ولم يستطع «إيزولو» حينئذ أن يحدق بوضوح بحثا عن القمر.
شعر «إيزولو» بضعف في بصره، ولم يكن راغبا في تلك الفكرة التي داهمته بأنه سيضطر يوما ما إلى الاستعانة بعيني شخص آخر، كما فعل جده عند إصابته بضعف في عينيه أدى إلى فقدان بصره، لكن جده عاش طويلا، وكانت إصابته بالعمى كأنها إحدى الحلي والزخارف التي يتحلى بها، وإذا ما عاش «إيزولو» سنوات طويلة مثل جده، فإنه سيقبل راضيا هذه الخسارة. لكنه حتى هذه اللحظة كان قويا كأي من الشباب وربما أقوى. إن الشباب لا يعرفون كيفية استخدام قوته، وكان ذلك واضحا في تلك اللعبة التي لم يسأم «إيزولو» من ممارستها معهم.
كانوا يهزون أياديهم، ويشد هو ذراعه مستجمعا كل قوته في قبضته، فينتابهم الفزع، وسرعان ما يتراجعون.
بدا غاضبا وهو يبحث عن عصاه، هكذا كان يبدو عند ظهور كل قمر جديد، ظل يقرع الجرس الحديدي بعصاه عدة مرات، وفي الحال ارتفعت أصوات الأطفال معلنة الأخبار في كل مكان:
Onwa auto! Onwa auto! Onwa auto!
انتابه الخوف عند رؤية القمر الجديد، «إيزولو» الرجل العجوز كان خائفا مثل ولد صغير؛ فقد كان القمر الذي أبصره اليوم صغيرا ونحيفا كاليتيم الذي أرضعته امرأة بقسوة وكراهية. اقترب بنظراته أكثر وظل يحدق لعله كان مخدوعا بتلك السحب، لكنه لم يستطع التخلص من حالة الخوف التي لازمته.
عندما أصبح كبير كهنة «أولو» كان الخوف يتلاشى بجانب تلك المتعة المنبعثة من موقعه الكبير، لكن الخوف لم ينته تماما وإنما كان راقدا بين ثنايا المتعة، عاود دقاته بالعصا فوق الجرس الحديدي، ثم أسند العصا على الحائط.
هرع الأطفال الصغار من كل صوب وناحية لاستقبال القمر، وارتفعت صيحاتهم إلى عنان السماء فرحين بالقمر، وكان صوت «أوبياجيلي» رقيقا مثل نغمات الفلوت، وواضحا كدقات العصا الصغيرة فوق الطبول، ووسط ضجيج الأطفال وأحاديث النساء اللاتي كن يثرثرن في حرية استطاع «إيزولو» أن يميز صوت «وافو» أصغر أبنائه.
قالت الزوجة الأولى «ماتيفي»: القمر، إن التقاء وجهك بوجهي يجلب الحظ السعيد، ربما.
سألت «أوجوي» الزوجة الصغرى: أين هو؟ إنني لا أراه، هل فقدت بصري؟ - ألا ترين أبعد من شجرة «الأكوا»؟ ليس هناك، اتبعي إصبعي. - أوه، ها أنا ذا أراه، القمر، إن التقاء وجهك بوجهي يجلب الحظ السعيد، ربما، ولكن كيف يبدو هكذا؟ أنا لا أحب هذا الوضع.
قالت «ماتيفي»: لماذا؟ - أعتقد أنه مرتبك مثل قمر شرير. - لا، إن القمر الشرير لا يدع الشكوك تساور أحدا كذلك القمر الذي ماتت تحته «أوكواتا» وكانت قدماه مرفوعتين إلى أعلى.
كانت «أوبياجيلي» تشد ملابس أمها قائلة: وهل يقتل القمر الناس؟ - يا إلهي، ماذا أفعل بهذه الطفلة، أتريدين نزع ملابسي حتى أصبح عارية؟ - لقد سألتك، هل يقتل الناس؟ هل القمر ...؟
قاطعها أخوها «وافو»: إنه يقتل الصغار من البنات. - لم أتوجه إليك بالسؤال يا صاحب الأنف الكبير. - سأضربك حالا حتى البكاء يا صاحبة اللسان الطويل.
ثم راحت «أوبياجيلي» تغني:
يقتل القمر الأولاد الصغار،
يقتل القمر أصحاب الأنوف الكبيرة،
يقتل القمر الأولاد الصغار.
دخل «إيزولو» إلى مخزنه وكانت شجرة البامبو قد زرعت خصوصا لوضع اثنتي عشرة قطعة مقدسة من اليام
1
فوقها، اقتطف واحدة وقام بالعد ثم اكتشف أنها ثمان فقط. كان يعرف أنها ثمان قبل قيامه بالعد، أكل ثلاثا من قبل وها هو يمسك بالرابعة في يده، قام بمراجعة أخيرة لما تبقى من اليام، ثم أغلق باب المخزن خلفه برفق وعاد إلى كوخه.
كان جذع الخشب يحترق باللهب، فراح يفتش عن بعض العصا، وألقى بها في النار، ووضع قطعة اليام فوق العصا كقربان. ظل ينتظر نضوجها بينما كان يفكر في الحدث القادم. كان اليوم هو «أوي» وغدا سيكون «آفو» ثم «كوا»
2
يوم السوق الكبير، وبعد ثلاثة أيام من «كوا» سيكون عيد أوراق القرعة، فليطلب من مساعديه إذن الإعلان عن ذلك اليوم، يجب أن يخبروا القرى الست في «أوموارو».
كان ل «إيزولو» نفوذ غير محدود على الناس، وكثيرا ما ساورته الشكوك تجاه هذا النفوذ القوي، فكان يتساءل بينه وبين نفسه: هل هو حقيقي هذا النفوذ؟ هو الذي يختار أيام الأعياد والمحاصيل، وهو الذي يختار يوم أوراق القرعة ويوم الاحتفال الجديد بعيد اليام. لا، إن الاختيار لم يكن له وحده، لم يكن اختيارا حرا. إنه مجرد شخص يراقب، ولم تكن قوته تتعدى قوة طفل يمتطي الماعز، ويوفر لها الطعام، ويعتني بها، ثم يبسط قوته عليها طالما ظلت على قيد الحياة. لا، إن كاهن «أولو» أكبر من ذلك، ويجب أن يكون أكثر من ذلك، كأن يرفض اختيار اليوم، فلا يكون المهرجان، ولا يكون زرع أو حصد، لا شيء يكون.
ولكن هل يستطيع أن يرفض؟
قال أحد أعدائه: إنه لا يستطيع أن يرفض أو يجرؤ على الرفض!
قال لعدوه غاضبا: دع جانبا كلمة «يجرؤ»، نعم، وأنصحك بعدم استخدامها مرة أخرى؛ فلا يوجد رجل في كل «أوموارو» يستطيع أن يقف ويعلن أنني لا أجرؤ؛ لأن المرأة التي ستحمل في بطنها ذلك الرجل لم تولد بعد.
أحس «إيزولو» بالرضا للحظات مؤقتة، لكن عقله لم يكن قانعا بذلك الرضا القليل الذي زحف إلى حافة معرفته، نفوذ، قوة، أي نوع من القوة هذه إذا لم يستخدمها؟ من الأفضل القول بأنها لا توجد، أو القول إنها ليست أكثر من تلك القوة الصادرة عن فساء كلب فخور بنفسه.
كان يقلب اليام بالعصا فوق النار حين دخل الكوخ ابنه الأصغر «وافو»، قدم له التحية باسمه، وجلس في وضعه المفضل فوق السرير الطيني عند نهايته بالقرب من المدخل الصغير. كان «وافو» طفلا صغيرا لا يزال، ولكنه يبدو كمن اختير من قبل الإله «أولو» ليصبح كبير كهنته في المستقبل، وربما قبل أن يتعلم كثيرا من كتاب الشعائر الدينية. إنه يعرف أكثر ممن يكبرونه، ومع ذلك فلا أحد يستطيع مناقشة ما يفعله «أولو»؛ ففي الوقت الذي يختفي فيه «إيزولو» فإن «أولو» سيختار من هو أقرب شبها منه بين أبنائه، حدث هذا من قبل.
كان «إيزولو» يقلب اليام بالعصا بعناية ودقة مرة إثر أخرى حين جاء «إيدوجو» ابنه الأكبر من كوخه الخاص.
قال مرحبا بأبيه: «إيزولو».
ثم عبر حيث تعيش أخته «أكيوك» بصفة مؤقتة.
قال «إيزولو» موجها حديثه إلى «وافو»: اذهب واستدع «إيدوجو».
عاد الاثنان، وجلسا فوق السرير الطيني، وراح «إيزولو» يقلب اليام مرة أخرى قبل أن يقول: ألم أخبرك شيئا من قبل عن تشويه صورة الآلهة؟
لكن «إيدوجو» لم يجب، وجلس في الجانب المظلم من الكوخ؛ حيث كانت النار التي يقلب فوقها اليام تنعكس على وجه أبيه.
ظل «إيزولو» ينظر حواليه، لكنه لم يستطع رؤية «إيدوجو»، فقال: «إيدوجو»، هل أنت هنا؟ - نعم .. إنني هنا. - سألتك عن تشويه صورة الآلهة .. ألم تسمعني أم أنني كنت أتحدث مع نفسي؟ - قلت لي أن أتجنب ذلك. - نعم .. قلت لك ذلك، وماذا إذن عن الحكاية التي سمعتها؟ - أية حكاية؟ - تشويهك ل «ألوسي» لأجل أحد رجال «أومواجو». - ومن الذي أخبرك؟ - من أخبرني؟! .. هل حدث هذا أم لا؟ هذا ما أريد معرفته. - أريد معرفة من أخبرك؛ لأنني أعتقد أنه لا يستطيع معرفة الفرق بين وجه الإله ووجه القناع. - أعرف .. يمكنك الذهاب يا بني، ولك إذا شئت أن تشوه كل آلهة «أوموارو»؛ فلن أسألك عن أي شيء بعد الآن، وإذا ما سألتك مرة ثانية فعليك بإلقاء اسمي في الوحل، أو القذف بي بين أنياب الكلاب. - إن ما فعلته لأجل أحد رجال «أومواجو» ليس ... - لا تتحدث معي، لقد انتهينا.
حاول «وافو» أن يغير سير الأحداث ولكن دون جدوى، فقرر أن يحاول مرة أخرى حين يهدأ والده ويتمالك أعصابه.
عندئذ دخلت أخته «أوبياجيلي»، وقامت بتحية «إيزولو»، ثم اتخذت لنفسها مكانا فوق السرير الطيني.
سألها «وافو»: هل انتهيت من إعداد الورق المر؟ - ألا تعرف أن تقوم أنت بإعداده أم أن أصابعك مكسورة؟
قال «إيزولو» وهو يقلب اليام فوق النار: كفى يا أولاد .. اصمتوا قليلا.
أحس بالنار تلسع إبهامه وبقية أصابعه، ابتسم والتقط سكينا من فوق عارضة الخشب، وبدأ في قشط القشر الأسود من اليام المحمرة، فتلوثت يداه وراح ينفض ما علق بهما، ثم قام بتقطيع اليام ووضعها داخل الطاسة الخشبية القريبة منه، وانتظر حتى تبرد.
حين بدأ في الأكل راحت «أوبياجيلي» تغني مع نفسها بصوت منخفض؛ فقد كانت تعرف أن أباها عند ظهور كل قمر جديد لا يأكل أبدا حتى ولو فتاتة صغيرة من اليام دون زيت النخيل، لكنها لم تتوقف عن الأمل.
تناول طعامه في صمت ثم ابتعد عن النار واستند بظهره على الحائط، صوب نظراته نحو الخارج. وكعادته في مثل هذه المناسبات كان يفكر كثيرا، وربما كانت أشياء محددة تلك التي ترهق تفكيره. كانت «أوبياجيلي» قد عادت إلى كوخ أمها فور تناوله آخر قطعة من الطعام. وجاء «وافو» بإناء الكالاباش ذي الماء البارد فشرب «إيزولو» حتى الارتواء، ووضع «وافو» الطاسة الخشبية وإناء الكالاباش بعيدا، ثم أعاد السكين إلى مكانها فوق العارضة الخشبية.
كانت العصا المسطحة خلف الحائط الرئيسي عند المدخل يبلغ طولها ذراع رجل ولها قرن حيوان طويل مثل قبضة الإنسان. حمل «إيزولو» العصا بعد أن نهض من فوق جلد الماعز ومضى خارجا.
بالنظر إلى العصا لم يجد «وافو» صعوبة في التعرف عليها. إنها عصاه التي صنعت من أجله عندما كانت تصيبه الرجفة.
جلس «إيزولو» ممددا كلتا قدميه إلى الأمام مثل امرأة، وأمسك بإحدى نهايات العصا بيده اليمنى، وضرب بنهايتها الأخرى الأرض كي يحدد مكان صلاته: «أولو»، أشكرك يا إلهي أنك جعلتني أرى قمرا جديدا، ربما أراه مرة ثانية بل أكثر من مرة ثانية، فيكون هذا البيت العائلي صحيا ومتيسرا. وبما أن هذا هو قمر الزرع فربما تنبت المحاصيل في القرى الست وربما لا نقطع الساق بالفأس، «أولو» .. دع زوجاتنا تحمل لنا أطفالا من الذكور ليزيد عددنا في التعداد القادم للقرى، ونقدم لك عندئذ بقرة كقربان وليس دجاجة كما فعلنا في عيد اليام الأخير. دع القمر يا إلهي يظهر هناك عند أولئك القوم الذين يعيشون عند ضفة النهر وفي الغابات.
ترك العصا وراءه ومسح فمه بظهر يده ثم عاد إلى مكانه. كان «إيزولو» في كل صلواته من أجل «أوموارو» يمتلئ مرارة، ويجتاحه غضب كبير كلما تذكر ما فعله أعداؤه من تقسيم للقرى الست .. لماذا؟ ولأي سبب؟ هل لأنه قال الحقيقة قبل أن ينطق بها الرجل الأبيض؟ .. ولكن كيف استطاع الرجل الذي أمسك عصا «أولو» المقدسة أن يتحدث بشيء يعرف أنه مجرد أكذوبة؟ كيف فشل في سرد الحكاية كما سمعها من والده؟ حتى «وينتابوتا» ذلك الرجل الأبيض - الذي لا يعرف أحد من أي أرض - جاء وقال إن «إيزولو» هو الشاهد الوحيد، وكانت قولته تلك هي ما أثارت غضب أعدائه. لقد غضبوا لأن رجلا أبيض لا يعرف أحد شيئا عن أمه أو أبيه هو الذي أخبرهم بالحقيقة التي يعرفونها ويكرهون سماعها، حتى إنهم راحوا يرددون: إن في ذلك نهاية العالم.
اقتحمت أصوات النساء أفكار «إيزولو» وكان الظلام منتشرا بالخارج، فلم يستطع رؤيتهن رغم ما تركه القمر الجديد من ضياء قبل أن يعاود الاختفاء. كانت زيارة القمر قد أضفت نوعا من الطمأنينة فلم يكن الظلام كما كان في الأيام الأخيرة.
سمع النساء وهن يزعقن واحدة وراء الأخرى: «إيزولو» .. «إيزولو».
استطاع رؤية ظلالهن وبادلهن التحية، ثم غادرن الكوخ، واتجهن يمينا إلى قطعة الأرض الداخلية من المدخل الوحيد عبر الباب العالي المنقوش باللون الأحمر. - أليس هؤلاء هم الناس الذين رأيتهم يندفعون نحو الجدول قبل غروب الشمس؟
قال «وافو»: نعم .. لقد ذهبوا إلى «وانجين». - آه .. لقد فهمت.
كان «إيزولو» قد نسي أن «أوتا»، ذلك الجدول القريب، أصبح مهجورا منذ أعلن العراف بالأمس أن الصخرة الكبيرة التي تستقر فوق صخرتين عند منبعه على وشك السقوط.
ارتفع صوت أحد الرجال عاليا: «أوبيكا العظيم».
اقتحم الصوت سكون الليل عند وصول «أوبيكا» إلى بيته، كان يطلق صفيرا أقوى من أصوات الرجال، ثم يغني ويعاود الصفير بالتناوب.
قال «وافو»: ها هو «أوبيكا» يعود.
همس «إيزولو» في نفس اللحظة: إن طير الليل يأتي مبكرا اليوم.
أضاف «وافو» مشيرا إلى الشبح الذي رآه «أوبيكا» ذات ليلة: ذات يوم قريب سوف يرى «أيرو» مرة ثانية.
قال «إيزولو» مبتسما: سيكون هذه المرة «إيديميلي» أو «جوجو».
فرح «وافو» كثيرا وغمرته السعادة.
ذات ليلة منذ ثلاثة أعوام خلت اقتحم «أوبيكا» الكوخ، وألقى بنفسه بين ذراعي أبيه مرتعدا من الفزع. كانت ليلة مظلمة تملؤها أصوات الرعد وبريقه اللامع، وكانت الأمطار على وشك السقوط.
سأل «إيزولو» مرة أخرى: ماذا حدث يا ولدي؟
كان «أوبيكا» يرتعد ولم يجب بشيء.
قالت أمه «ماتيفي»: ماذا حدث يا «أوبيكا»؟
ثم راحت تجري داخل الكوخ وقد أصابها الخوف أكثر من ابنها.
قال «إيزولو» بثبات: كن هادئا وتمالك نفسك .. ماذا رأيت يا «أوبيكا»؟
تمالك «أوبيكا» نفسه بعد أن التقط أنفاسه، وراح يقص على أبيه ما رآه من ضوء لامع براق بالقرب من شجرة «الأوجيلي» بين قرية «أوماشالا» و«أومونيورا».
وعلى ذكر المكان أدرك «إيزولو» على الفور ما قد حدث.
وماذا بعد رؤيتك لذلك الضوء اللامع البراق؟ - عرفت أنها الروح فتورمت رأسي. - هل تحول هذا الضوء إلى الشجيرة التي يأوي إليها صغار الطيور على الشمال؟
كان «إيزولو» يتحدث بثقة وهدوء، وكانت هذه الثقة مصدر انتعاش وطمأنينة بالنسبة ل «أوبيكا»، فأومأ برأسه، وهكذا فعل «إيزولو» مرتين.
كانت النساء الأخريات متجمعات حول الباب ...
وماذا كان يشبه؟
ابتلع ريقه قائلا: أطول من كل الرجال الذين أعرفهم وجلده مضيء بشدة .. مثل .. مثل مثل ... - هل كانت ملابسه توحي بأنه رجل فقير أم أنه كان يبدو رجلا ميسورا؟ - بل رجل غني، كانت قبعته مزينة بريش الملائكة.
بدأ «أوبيكا» يخاف من جديد، وراحت أسنانه تصطدم ببعضها، فبادره «إيزولو» بقوله: تمالك ولا تنس أنك رجل، هل كان له ناب مثل سن الفيل؟ - نعم .. ناب كبير بين أكتافه.
تساقطت الأمطار بغزارة، وبدا صوت قطرات المياه كصوت الحصى بعد إلقائها فوق سقف من القش. - لا شيء يدعو للخوف يا بني، إن ما رأيته هو «أيرو» العظيم الذي يهب الثروة لمن يعترف بفضله. إن الناس تراه أحيانا في ذلك المكان في مثل هذا الوقت وهذا الطقس، ربما كان عائدا إلى بيته بعد زيارة قام بها إلى «إيديميلي» أو بعض الآلهة الأخرى. إنه لا يسبب أذى لأحد سوى لأولئك الذين يقسمون زورا وبهتانا أمام مقدساتهم.
قدم «إيزولو» شكره وثناءه لإله الثروة بطريقة تجعل الإنسان يعتقد أنه فخور لكونه كاهنا ل «أيرو» أكثر مما هو كاهن للإله «أولو» الذي يقف فوق «أيرو» وكل الآلهة الأخرين. إن «أولو» إذا أراد أن تتدفق ثروة إنسان كالنهر فإن حبات اليام تنمو كبيرة في بيته، ويصير إنتاج الماعز مضاعفا ثلاث مرات، وتفقس الدجاجات تسعة أضعاف إنتاجها.
جاءت «أوجيوجو» ابنة «ماتيفي» ومعها طاسة «الفوفو» وأخرى مليئة بالشوربة، ووضعتهما أمام أبيها بعد أن قدمت التحية، ثم اتجهت ناحية «وافو» وقالت: اذهب إلى كوخ أمك؛ فلقد انتهت من طهي الطعام.
كان «إيزولو» يعرف أن «ماتيفي» وابنتها يكرهان محاباته لابنه من الزوجة الثانية، فبادرها بقوله: اتركيه وشأنه، واذهبي لاستدعاء أمك.
لم يتناول الطعام، فعرفت «أوجيوجو» أنه في طريقه لإثارة المتاعب، فعادت إلى كوخ أمها لاستدعائها.
قلت كثيرا وأعلنت مرارا في هذا البيت أنني لن أتناول عشائي كل مرة متأخرا هكذا، وبعد أن ينام كل الرجال في «أوموارو».
كانت «ماتيفي» قادمة فاستطرد يقول: لكنك لا تسمعين الكلام؛ لأنك تعتبرين كل ما أقوله في هذا البيت ليس سوى فساء كلب. - لقد ذهبت طوال الطريق إلى «وانجين» لإحضار الماء و... - كان من الأفضل أن تذهبي إلى «كيزا»، أما إذا أردت الشفاء من هذا الجنون فعليك بإحضار عشائي يوما آخر في مثل هذا الوقت.
عادت «أوجيوجو» لتتناول الطاستين فشاهدت «وافو» وهو يلتهم الشوربة .. انتظرت حتى ينتهي وهي غاضبة، ثم لملمت الطاستين وذهبت لإخبار أمها .. كثيرا ما كان يحدث هذا ربما كل يوم.
قالت «ماتيفي»: هل تلومين النسر حين ينقض فوق الجيفة؟ ماذا تتوقعين من ولد تقوم أمه بصنع الشوربة من جراد السمك؟ .. إنها توفر نقودها لشراء أساور من العاج، مع أن «إيزولو» لا يرى أي خطأ فيما تفعل .. أبدا لا يرى أي خطأ. ولو كنت أنا التي تفعل ذلك لعرف عندئذ ماذا يقول.
بامتداد قطعة الأرض كان لكل امرأة كوخ منفصل، وكانت «أوجيوجو» تنظر تجاه أكواخ النساء الأخريات، وشيئا فشيئا لم تستطع أن ترى سوى ذلك المصباح المتأجج باللون الأصفر بين السطح وعتبة البيت، وكوخ ثالث يشكل مع كوخين آخرين شكلا يشبه نصف القمر .. إنه كوخ زوجته الأولى «أوكواتا» التي ماتت منذ سنوات كثيرة حتى لا تكاد «أوجيوجو» تستطيع التعرف عليها أو تذكرها .. إنها تتذكر فقط أنها كانت تقدم لكل طفل يذهب إلى كوخها قطعة من السمك والفول أثناء قيامها بعمل الشوربة.
كان كل من «آديز» و«إيدوجو» و «أكيوك» أبناءها الذين عاشوا في الكوخ بعد موتها حتى تزوجت البنات، وأصبح «إيدوجو» وحيدا في الكوخ، إلى أن تزوج بعد عامين، وبنى لنفسه بيتا فوق قطعة صغيرة من الأرض بجوار أبيه، لكن «أكيوك» عادت للكوخ مرة ثانية بعد أن غادرت بيت زوجها؛ لأن زوجها - كما قالوا - كان يسيء معاملتها، غير أن أم «أوجيوجو» كذبت ذلك قائلة: إن «أكيوك» متصلبة وعنيدة وفخورة بنفسها. إنها من نوع النساء اللاتي يذهبن إلى بيوت أزواجهن حاملات معهن كل ما تعودن عليه في بيوت آبائهن.
كانت «أوجيوجو» وأمها تهمان بالبدء في تناول طعامهما لما دخل «أوبيكا» وهو يصفر ويغني.
قالت «ماتيفي»: لقد جاء مبكرا اليوم فلتحضري طاسته.
دخل «أوبيكا» بيديه أولا خافضا رأسه تحت السقف المنخفض .. قدم التحية لأمه التي بادلته إياها بقرف .. ارتمى بكل ثقله فوق السرير الطيني .. أحضرت «أوجيوجو» طاسته المصنوعة من الطين المحروق، وجاءت له بالفوفو من حافة شجرة البامبو .. نفخت «ماتيفي» في طاسة الشوربة لإزالة ما علق بها من صدأ ورماد، ثم صبت الشوربة فيها، وقدمتها «أوجيوجو» لأخيها، وذهبت لإحضار الماء من الإناء.
رشف «أوبيكا» أول رشفة، ثم أمسك بالطاسة في اتجاه الضوء وظل يتفحصها بضيق: ما هذا؟ هل هي شوربة أم عصيدة اليام؟
واصلت كل من أمه وأخته طعامهما المتقطع دون الالتفات إليه. كان واضحا أنه شرب كثيرا من النبيذ.
كان «أوبيكا» واحدا من أكثر الشباب وسامة في «أوموارو» وكل المناطق المحيطة؛ فتقاطيع وجهه جميلة ومتسقة، وله أنف كالجوهرة، وجلد بشرته وجسده مثل جلد أبيه بلون الطين الناضج، حتى إن الناس كلما شاهدوه في مثل هذا البهاء قالوا بأنه لم يولد هنا في تلك الأجزاء وبين شعب «إيبو» في الغابات، لا بد أنه في حياته السابقة كان يعيش مؤقتا مع شعب آخر بجوار النهر يدعونه شعب «الأولو».
كان «أوبيكا» يتعاطى الخمر إلى حد التطرف، وبسرعة كان يغضب غضبا نافرا، ولأنه قوي كالصخرة كان يوقع الأذى بالآخرين، وهذا ما كان يعيب «أوبيكا». لكن «إيزولو» كان يفضله على «إيدوجو» الهادئ الذي هو شقيقه من زوجة أخرى، وغالبا ما كان يقول له: «إنه لشيء يستوجب الشكر أن تكون شجاعا وجسورا يا بني، لكنه من الأفضل أحيانا أن تكون جبانا؛ فلقد تعود الرجل الشجاع أن يعيش وسط الدمار، لكننا يا بني نحيا في أرض الجبناء .. إن الرجل الشجاع لا يخضع أبدا لأي شيء سوى القبر.»
هكذا كان من الأجدر ل «إيزولو» أن يكون له ولد قوي يستطيع كسر الأوعية بدلا من الذي يكسر القوقعة ببطء.
أوشك «أوبيكا» - في يوم ما ليس ببعيد - على ارتكاب جريمة قتل حين جاءت «أكيوك» أخته من أم أخرى إلى البيت غاضبة لأن زوجها يضربها، وحين عادت مرة أخرى ذات صباح مبكر من بيت زوجها بوجه متورم. لم ينتظر «أوبيكا» سماع بقية القصة، وسارع بالرحيل إلى «أوموجوجو» قرية زوجها، بعد أن توقف في الطريق لاستدعاء صديقه «أوفيدو»، الذي يشارك دائما في المعارك، وعند وصولهما «أوموجوجو» قال «أوبيكا»: لن تشترك معي في ضرب زوج أختي.
سأله «أوفيدو» بغضب: ولماذا جئت معك إذن؟ أمن أجل أن أحمل لك الحقيبة؟! - سيكون هناك ما تفعله إذا جاء أهل «أوموجوجو» للدفاع عن أخيهم، وعندئذ ستعرف ما يجب عليك أن تفعله.
لم يكن أحد يعرف إلى أين ذهب «أوبيكا» إلى أن عاد قبل الظهر بقليل وبصحبته «أوفيدو»، حاملين زوج «أكيوك» فوق رءوسهم، وهو مربوط في السرير شبه ميت .. وضعوه على الأرض تحت شجرة «الأوكوا» وحذروا الجميع من الاقتراب منه أو مساعدته .. توسل الجيران والنساء إلى «أوبيكا» خوفا من وقوع الفاكهة الناضجة والكبيرة كأواني المياه. - نعم .. لقد وضعته هناك لنفس السبب، كي تتساقط فوقه الفاكهة كالحيوان.
كان «إيزولو» جالسا عند الشجيرة حين سمع أصوات الجيران والنساء، فسارع إليهم، وعندما شاهد ما يحدث كاد يبكي لما قد يسببه «أوبيكا» من خراب في بيته، فأصدر إليه الأمر بإطلاق سراحه.
لم يتمكن «أيب» من مغادرة سريره قبل أسابيع ثلاثة، وعندئذ جاء أقرباؤه طالبين العفو من «إيزولو» .. كانوا لحظة وقوع الحادث في مزارعهم، وظلوا طوال الأسابيع الثلاثة ينتظرون في صبر من يفسر لهم هذا الحادث .. كيف يضربون قريبهم ويأخذونه بعيدا؟!
قالوا: ماذا عن هذه القصة التي سمعناها عن «أيب»؟
حاول «إيزولو» تهدئتهم دون الاعتراف بخطأ ابنه .. صاح في طلب «أكيوك» وأمرها بالوقوف أمامه: ليتكم رأيتموها يوم أن جاءت هنا .. أهكذا تكون النساء المتزوجات عندكم؟ إذا كانت هذه طريقتكم في معاملة الزوجات فإنني أعلن لكم عدم موافقتي على هذه الطريقة.
وافق الرجال على كلامه، واعترفوا بأن «أيب» ضربها كثيرا، ولا أحد يستطيع أن يلوم «أوبيكا» في الدفاع عن أخته.
قال قائدهم: لذلك فنحن نتوجه دائما بالصلاة إلى «أولو» وأسلافنا لزيادة عددنا، فإذا ما أصبح عددنا كبيرا فلن يجرؤ أحد على إزعاجنا أو الاحتكاك بنا، وعندئذ ستعكف البنات في بيوت أزواجهن .. نحن إذن لا نلوم «أوبيكا» كثيرا .. هل أقول الصواب؟ أليست هذه هي الحقيقة؟
أجاب زملاؤه: بلى .. بلى.
ثم استطرد لا نستطيع أن نتهم ابنك، أو إلقاء اللوم عليه فلقد كان يدافع عن أخته .. نعم، لكن ما لا نستطيع أبدا أن نفهمه هو كيف ولماذا يتم نقل رجل يحمل عضوا بين أفخاذه من منزله وقريته وكأنكم تقولون له: أنت لا شيء، وأقرباؤك لا يجرءون على فعل شيء .. هذا ما يستعصي على أفهامنا! .. لم نأت هنا بحكمة لكننا جئنا بحماقة؛ لأن الرجل لم يذهب إلى زوج أخته بالحكمة وكل ما نريده أن تعترفوا بخطئكم .. الاعتراف بالخطأ هو ما يجب أن تفعلوه، وعندئذ نقتنع ونعود لديارنا .. أما إذا سمعنا بعد ذلك أن أحدنا قد ضرب وأخذوه بعيدا فلا بد أننا سنعرف الإجابة اللازمة .. أيها الزعيم إنني أحييك.
استخدم «إيزولو» كل مهارته في تهدئة نسيبه، فعادوا إلى ديارهم أسعد مما جاءوا، ثم أمروا «أيب» بحمل النبيذ إلى «إيزولو» والسؤال عن عودة زوجته.
انتهى «أوبيكا» من طعامه، ثم التحق بالآخرين في كوخ «إيزولو»، وكالعادة تحدث «إيدوجو» إلى الجميع بما فيهم أوبيكا و«أودوش» و«وافو».
قال «إيدوجو»: غدا يوم «آفو». ولقد جئنا لمعرفة العمل الذي تعده لنا.
فكر «إيزولو» لحظة وكأنه لم يكن مستعدا للسؤال ثم سأل «أوبيكا» عما تبقى من عمل دون إنجاز في بيته الجديد فأجاب «أوبيكا» مخزن المرأة فقط، ولكن هذا يمكن إرجاؤه فإلى أن يحين وقت الحصاد لن تكون هناك جوزة اليام لوضعها بداخله.
قال «إيزولو»: لا شيء يمكن إرجاؤه .. لا يجب أن تأتي الزوجة الجديدة إلى بيت به شيء لم يكتمل بعد .. أعرف أن مثل هذا الشيء لا يسبب متاعب في الوقت الحاضر .. أنت يا «إيدوجو» عليك وأخوتك والنساء بالذهاب غدا لبناء المخزن، فإذا لم يكن «أوبيكا» خجلا فإن بقيتنا خجلون.
قال «أودوش»: أبي .. عندي ما أقوله. - وها أنا ذا أستمع.
تنحنح «أودوش» وبلع ريقه، وكان خائفا من البدء في الحديث.
قال «أوبيكا» بصوت هادئ لا يكاد يسمعه أحد: ربما كان ممنوعا أن يساعدوا إخوتهم في بناء المخزن.
قال «إيدوجو» محدقا فيه: أنت دائما تتحدث كالأبله .. ألم يعمل «أودوش» مثلك بجد وصلابة في بيتكم؟ وربما عمل بجد أكثر منك.
قال «إيزولو»: أود سماع «أودوش»، ولا أريد سماعكم أنتم. - لقد اختاروني ضمن آخرين للذهاب غدا إلى «أوكبيري» لإحضار حقائب وأشياء المدرس الجديد. - «أودوش»! - نعم يا أبي. - استمع لما أقوله الآن .. إذا ما جاءت هذه اليد خلف الكوع، فإنها كما نعرف تتحول إلى شيء آخر .. إن صداقتي مع الرجل الأبيض «وينتابوتا» هي التي جعلتني أرسلك للالتحاق بأولئك الناس .. لقد سألني أن أرسل أحد أبنائي ليتعلم أساليبهم، فوافقت على إرسالك، لكنني لم أفعل ذلك قط لكي تترك واجبك في المنزل .. هل تسمعني؟ .. اذهب وقل لأولئك الذين اختاروك للذهاب إلى «أوكبيري» إنني أقول لا .. أخبرهم أن غدا هو اليوم الذي يعمل فيه كل أبنائي وزوجاتي وزوجات أبنائي من أجلي .. يجب أن يعرف أولئك الناس عادات هذه الأرض، وإذا لم يعرفوا فعليك بإخبارهم ليعرفوا .. هل تسمعني؟ - نعم .. إنني أسمعك. - اذهب واطلب من والدتك الحضور .. أعتقد أن غدا هو دورها في طهي الطعام.
الفصل الثاني
كثيرا ما كان «إيزولو» يردد: إن آباء «أوموارو» القدامى يجب أن يخجلوا وتصيبهم الحيرة والارتباك لما يحدث هذه الأيام. لقد خاضت «أوموارو» حربا ضد «أوكبيري» .. هل كان لأحد أن يتصور أن «أوموارو» تكون طرفا في إحدى الحروب وهي متفرقة هكذا؟ من كان يعتقد أنهم سيتجاهلون تحذيرات قس «أولو» الذي عمل على وحدة القرى الست وجعلهم على ما هم عليه؟ لكن «أوموارو» شعرت بالقوة والحكمة وملأها الغرور والخيلاء حتى أصبحت مثل الطائر الصغير الذي أكل وشرب ثم تجرأ في طلب صراع ربه الخاص ومنازلته. لقد قامت «أوموارو» بتحدي الإله الذي شيد قراهم .. وإذن فماذا كانوا يتوقعون؟ .. ها هو يعاقبهم .. اليوم وغدا.
كانوا في غابر الأزمان قليلين جدا ومتفرقين بين القرى الست؛ «أومواشالا»، «أومونيورا»، «أومواجو»، «أوموزيني»، «أوموجوجو»، و«أوموسيوزو»، وكانوا يعيشون كشعوب متباينة، وكل منهم يعبد آلهته الخاصة، وعندئذ كان جنود «آبام» المرتزقة يضربون في غياهب الليل .. يشعلون النار في البيوت، ويعاملون الرجال والنساء والأطفال معاملة العبيد.
في كل أرجاء القرى الست كان الأمر سيئا وبشعا إلى أن اجتمع القادة وتكاتفوا لإنقاذ أنفسهم.
استأجروا فريقا قويا من رجال السحر من أجل صنع إله شائع ومعروف. وكان «أولو» هو الإله الذي صنعه الآباء للقرى الست، دفن نصفه هذا الفريق من رجال السحر في مكان عرف بعد ذلك بسوق «كوا»، وألقوا بالنصف الآخر في الجدول الذي أصبح «مجرى أولو»، ثم أطلق اسم «أوموارو» على القرى الست، وصار قس «أولو» رئيسا للقساوسة. ومنذ ذلك الحين لم يحدث أبدا أي اعتداء من العدو .. كيف إذن استطاع مثل أولئك الناس أن يتجاهلوا الإله الذي أسس بلادهم وحفظها؟ ... رأى «إيزولو» ذلك نهاية للعالم.
ذات يوم من أعوام خمسة قرر قادة «أوموارو» إرسال مبعوث إلى «أوكبيري» حاملا الصلصال الأبيض دليل السلام أو ورقة جديدة من أوراق السرخس دليل الحرب .. تحدثوا كثيرا وكذا فعل «إيزولو» دون جدوى.
قال لرجال «أوموارو»: أعرف بأن الإله «أولو» لن يساهم في هذه الحرب الظالمة .. نعم، لقد أخبرني أبي أن قريتنا عندما جاءت لتعيش هنا بادئ الأمر كانت الأرض ملكا ل «أوكبيري» .. إن «أوكبيري» هي التي قدمت لنا الأرض لنعيش فيها، بالإضافة إلى أنهم وهبونا آلهتهم الخاصة «أودو » و«أوجوجو»، لكنهم قالوا لأجدادنا ...
توقف «إيزولو» قليلا وقال: انتبهوا لما أقول ...
ثم استطرد: قال الناس في «أوكبيري» لأجدادنا بألا يدعوا الإله «أودو» باسمه ولكن باسم «ابن أودو»، وكذلك «أوجوجو» باسم «ابن أوجوجو» .. هذه هي القصة كما سمعتها من أبي، فإذا أردتم محاربة رجل في أرضه فلن أشارككم تلك الحرب.
كان «واكا» واحدا من ثلاثة في كل القرى الست الذين اشتهروا في الأرض وكان لهم شأنهم .. لقبوه ب «أيرو» إله الثروة؛ فلقد انحدر من سلالة عريقة من الأغنياء، وكانت قريته من «أوموارو».
صاح «واكا» بصوت كالزئير: «أوموارو» وينو:
أجاب رجال «أوموارو»: هيم! - وينو! - هيم! - أوكواتا! - هيم!
ساد السكون بعد أن قدم تحيته ثم بدأ كلامه بهدوء: إن الحكمة مثل حقيبة من جلد الماعز، وكل رجل يحمل حقيبته الخاصة به. ولقد حدثنا «إيزولو» عما أخبره به والده عن تلك الأيام البعيدة، وكلنا يعرف أن الأب لا يتحدث سوى الصدق مع ابنه، وكلنا أيضا يعرف أن أسرار الأرض وحكمتها تقف فيما وراء معرفة كثير من الآباء، وإذا كان «إيزولو» تحدث عن آلهة «أوموارو» العظماء التي يؤمن بها، وآمن بها آباؤه من قبله، فقد استمعت لما قال، لكنه ذكر أحداثا هي أقدم كثيرا من «أوموارو» نفسها، ولا أخشى القول بأنه لا أحد في هذه القرية بما فيهم «إيزولو» يعرف شيئا عن تلك الأحداث؛ فلقد سمعنا من الكبار والرجال ذوي الشأن ثرثرات كثيرة في هذا الصدد.
كان «واكا» أثناء حديثه يتقدم للأمام ثم يعود للخلف، وكانت قبعته مزركشة بريش النسر ولفافة برونزية في ركبته وكأنه أحد أرباب الأرض .. كان شهيرا ب «أيرو» إله الأغنياء.
استطرد قائلا: إن أبي روى لي قصة أخرى مختلفة .. قال لي إن شعب «أوكبيري» كانوا جوالين وهائمين في الأرض. وحكى لي أنهم أقاموا لفترات قصيرة في ثلاثة أو أربعة أماكن مختلفة، ثم غادروها، وأن «الأموفيا» و«الآباء» و«الأنينتا» قد طردوهم، فهل يذهبون اليوم للمطالبة بكل هذه المواقع؟ هل كان لهم أن يطالبوا بأي شيء قبل أن يغير الرجل الأبيض حياتنا تماما؟ أيها الكبار، يا كبار «أوموارو»، اتركوا كل شخص يعود إلى بيته. إذا لم تكن لدينا نية القتل فلن نكون أول من هجروا أرضهم أو بيوتهم تجنبا للحرب، ولكن لا يجب أن نقول لأنفسنا أو لأطفالنا فيما بعد إننا فعلنا ذلك لأن الأرض لم تكن لنا وإنما كانت لقوم آخرين. دعونا نخبرهم بأن آباءهم اختاروا السلام بديلا عن القتال .. دعونا نخبرهم أيضا أننا تزوجنا بنات «أوكبيري» وأن رجالهم تزوجوا من بناتنا. وهكذا فقد هذا الخليط من الرجال حماسهم للقتال .. «أوموارو وينو!» - هيم! - أوكواتا! - هيم! - أحييكم جميعا.
سادت الضوضاء والثرثرة كنوع من القبول والاستحسان. لقد أفسد «واكا» كل كلمة قالها «إيزولو»، وخاصة عندما أشار إلى أن أم رئيس الكهنة كانت إحدى بنات «أوكبيري».
تفرق المجلس إلى عدد كبير من المجموعات الصغيرة، وراحوا يتبادلون الحديث فيما بينهم.
قال أحد الرجال: لقد نسي «إيزولو» أن يخبرنا عن الذي روى له حكاية الأرض .. هل كانت أمه أم أباه؟
علت الأصوات في المجلس واحدا بعد الآخر، وكان واضحا أن القرى الست بأكملها تقف خلف «واكا».
لم يكن «إيزولو» هو الرجل الوحيد في «أوموارو» الذي جاءت أمه من «أوكبيري»، لكن أحدا لم يجرؤ على الوقوف بجانبه ومساندته سوى «أوكوكاليا» فقط، الذي كان غاضبا ونافرا من اختياره لحمل الصلصال الأبيض وورقة السرخس إلى «أوكبيري» مسقط رأسه.
كان أكبر الرجال عمرا من نفس قرية «أكواكاليا» هو آخر من تحدث في ذلك اليوم .. كان صوته مهزوزا لكنه قوي، وعندما بادر بتحية المجلس دوى صوته واضحا في كل أركان سوق «كوا»، فأصابت كل رجال «أوموارو» الدهشة لمجهوده الكبير وصياحه.
قال بهدوء: يجب أن أنتظر قليلا حتى ألتقط أنفاسي تاركا الفرصة لهؤلاء الذين يضحكون، أريد أن أوجه حديثي إلى الرجل المبعوث إلى «أوكبيري» .. لقد مضى وقت طويل منذ قاتلنا في الحرب، وكثير منكم ربما لا يتذكر .. لا أقول بأن «أكوكاليا» في حاجة لمن يذكره ولكنني رجل عجوز، والرجل العجوز لا يملك سوى الكلام. إذا كان ينبغي على أصحاب البيت أن يهملوا عملهم فلا بد أنهم مخطئون في حق أصحاب الأرض. لقد عرفت مقدار غضب «أكوكاليا» من الطريقة التي تحدث بها، من حقه أن يغضب لكننا لن نرسله إلى موطنه من أجل القتال.
نظر إلى «أكوكاليا» قائلا: اخترناك مبعوثا لكي تضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما، الحرب أو السلام.
ثم قال: هل أواصل حديثي إليكم يا شعب «أوموارو»؟
وافقوا بالإجماع حين استطرد: نتمنى ألا تختار «أوكبيري» الحرب؛ فلا أحد يحب الحرب. إذا اختاروا السلام فسوف نفرح كثيرا. وأيا ما كان ردهم واختيارهم فلا تتصد يا «أكوكاليا» لأي نزاع؛ فإن واجبك هو إبلاغنا بالرد فقط. نحن جميعا نعرف أنك رجل شجاع، لكنك هناك يجب أن تضع شجاعتك في حقيبتك. وإذا ما تسبب الرجال الذين معك في قلق يكون واجبك عندئذ أن تتصرف بشيء من اللباقة والحكمة. لقد ذهبت في شبابي للقيام بمثل هذه المهمة، وأعرف جيدا ما تنطوي عليه من إغراءات. أحييكم.
تملكت «إيزولو» الدهشة لكل ما رأى وسمع، وطافت فوق شفتيه ابتسامة ملؤها الحزن والتأثر، فهب واقفا على قدميه وكأن نحلة سوداء لسعته بين أردافه وقال: «أوموارو وينو». - هيم. - أحييكم جميعا.
قدم لهم التحية بوجه ساخط، ثم قال: عند وجود الجدي في البيت فإن الماعز لا تذهب بعيدا لتعاني آلام المخاض. هذا ما قاله أجدادنا. وإذن فما هذا الذي نراه ونسمعه هنا اليوم؟ إن بعض الناس خائفون والبعض الآخر متعطش للحرب، ولكن دعنا من هذا كله الآن، فإذا كانت الأرض هي حقا أرضنا فإن «أولو» سيقاتل في جانبنا، وإذا لم تكن كذلك فسوف نعرف. لم أكن راغبا في الحديث مرة ثانية اليوم إلى أن رأيت الشباب في بيوتهم يهملون واجباتهم. كان من الواجب على «أوجبوفي إيجونوان»، كواحد من أكبر ثلاثة رجال في «أوموارو»، أن يذكرنا بأن آباءنا لم يحاربوا من الخجل، لكنه بدلا من ذلك أراد أن يعلم مبعوثنا كيفية حمل النار والماء في فم واحد. ألم نسمع بأن صبيا أرسله والده للسرقة فلم يذهب خلسة ولكنه كسر الباب بقدميه؟ لماذا إذن يرهق «إيجونوان» نفسه بمثل هذه الأشياء الصغيرة بينما يتغافل الكبار؟ نحن نريد الحرب، ولن يتصرف «أكوكاليا» مع شعب «أوكبيري» هكذا، بل يستطيع أن يبصق في وجههم إذا أراد، إذا سمعنا عن سقوط بيت فهل يحق لنا أن نسأل عن وقوع السقف معه؟ أحييكم جميعا.
عند مطلع الفجر التالي رحل «أكوكاليا» بصحبة رفيقين إلى «أوكبيري»، وكانت حقيبته المصنوعة من جلد الماعز تحوي بداخلها كومة كبيرة من الطباشير الأبيض، وقليلا من ورق النخيل الأصفر كانوا قد اقتطعوه من أعلى الشجرة قبل أن يعرضوه للشمس، وكل منهم يحمل سلاحه في غمده.
كان فجر يوم «إيك»، يوم السوق الشهير في «أوكبيري»، وكانت النساء أمام «أكوكاليا» ورفيقيه قد خرجن من كل القرى المجاورة في طريقهن إلى سوق «إيك»، وكثير منهن كن من «إيلوميلو» و«آبام» الشهيرة بصناعة أفضل أنواع الأوعية في كل أرجاء البلاد. كانت كل واحدة منهن تحمل خمسة أو ستة، وربما أكثر من تلك الأوعية وأواني المياه الكبيرة، مربوطة ببعضها بالحبال، في سلة كبيرة، بدت في ذلك الوقت من الفجر وكأنها أحد الأرواح ذات الرءوس الخيالية .. وبينما عبر رجال «أوموارو» تلك الحشود من نسوة السوق كانوا يتحدثون عن سوق «إيك» الكبير في «أوكبيري» وهؤلاء القوم ذاهبون إليه من كل أرجاء «إيبو» و«أولو».
قال «أكوكاليا» مفسرا: إنها قوى السحر القديمة. إن رجال «أوكبيري» عظماء في عالم السحر والدواء.
ثم استطرد بفخر: في البدء كان «إيك» سوقا صغيرا يبدو ضئيلا وخاليا بجانب الأسواق الأخرى المجاورة، حتى أقبل رجال «أوكبيري» ذات يوم على صنع إله قوي، يتولى رعاية سوقهم، وعندئذ كبر السوق، بل أصبح أكبر سوق في المنطقة. كان ذلك الإله امرأة عجوزا، وكان اسمه «واينيك»، وكانت المرأة العجوز يوم «إيك» من كل أسبوع تظهر في السوق قبل الفجر، تقبض بالمكنسة في يدها اليمنى، وتلف وتدور في رقصات سريعة وهي تشير بالمكنسة في كل الاتجاهات، فتجذب بذلك الناس من أرجاء الأرض. لم يكن الناس يذهبون للسوق قبل الفجر حتى لا يشاهدوا العجوز وهي ترقص .
قال أحد زملاء «أكوكاليا»: نفس القصة يقولونها على سوق «كوا» بجوار نهر «أومورو» الكبير؛ حيث انتشرت أعمال السحر، ولم يعد يوم «كوا» هو اليوم الوحيد للسوق.
أجاب «أكوكاليا»: لكن «أوموارو» لا تنافس «أوكبيري» في السحر. لقد أصبح السوق عندهم كبيرا؛ لأن الرجل الأبيض ذهب إلى هناك ببضاعته.
قال الزميل الآخر: ولماذا ذهب الرجل الأبيض ببضاعته إذا لم يكن بسبب السحر؟ .. لقد احتوت مكنسة المرأة العجوز العالم كله، بما فيه أرض الرجل الأبيض التي لا تشرق فيها الشمس أبدا، كما يقولون.
سارع الزميل الأول بالسؤال: هل حقا أن واحدة من نسائهم في «أوموارو» ذهبت بعيدا بدون القبعة البيضاء وأذابت زيت النخيل في الشمس؟
قال «أكوكاليا»: سمعت أيضا عن ذلك، لكن ثمة أكاذيب كثيرة عن الرجل الأبيض، فسمعت مثلا ذات مرة أنه لا توجد أصابع في قدمه.
كانوا عند الشروق قد وصلوا إلى الأرض المتنازع عليها. كانت أرضا جافة لم تعرف الزرع منذ سنوات عديدة، وكان الحشيش ذو اللون البني منتشرا بكثافة فوقها.
هز «أكوكاليا» رأسه قائلا: أتذكر جيدا يوم جئت هنا مع أبي لقطع الحشيش وجمع القش من أجل عمل سقف لنا، وما يبعث الدهشة في نفسي أن أهل أمي يطالبون بها اليوم.
إن كل شيء يرجع إلى الرجل الأبيض الذي يقول كما يقول رجل كبير لطفلين متصارعين بألا يتشاجرا في وجوده، فيبدأ أصغر الطفلين وأضعفهما في التباهي وإظهار قوته.
قال «أكوكاليا»: لقد قلت الحقيقة، مثل هذه الأشياء لم تكن تحدث أبدا وأنا صغير، لم تكن تحدث أيام أبي، نعم .. إنني أتذكر جيدا كل شيء.
ثم أشار بيده مستطردا: هذه الشجرة هناك. إنها شجرة «أيبينيب» التي حطمها الرعد ذات مرة، وجمع الناس القش من تحتها، ثم هرعوا إلى كل الاتجاهات.
كان أحدهم صامتا طوال الرحلة التي بدأت في الفجر، ولم يكن قد تحدث كثيرا، وفجأة قال: ماذا يجب أن تقول لهم؟ .. يجب عليهم - إذا كانت الأرض حقا أرضهم - أن يفسروا لنا كيف تركونا نزرعها ونجمع منها القش جيلا بعد جيل ولم يدركوا ذلك إلا بعد مجيء الرجل الأبيض.
أجاب «أكوكاليا»: ليس من حقنا أن نطرح أي سؤال سوى ما يريدون هم الإجابة عليه. أعتقد أنني أخبرتك بأن تكون حريصا فيما تقوله لهم، ودع الكلام لي .. إنهم قوم عنيدون بما فيهم أمي، ولكني أعرف ما يعرفون، فإذا ما أشار لك رجل من «أوكبيري» مناديا إياك، فهذا يعني أن تجري بكل قوتك، يجب أن تتعود طريقتهم في الحياة كي لا تقضي معهم وقتا طويلا وتشاركهم الحديث والطعام دون أن تفهم شيئا، وتكون مجرد شيء يطفو فوق سطح الماء. دعهم لي إذن؛ لأن الرجل الماكر حين يموت فإن أحدا لا يدفنه سوى رجل ماكر مثله.
وصل الرجال الثلاثة إلى «أوكبيري» في اللحظة التي فرغ فيها الناس من تناول إفطارهم، واتجهوا على الفور إلى «أدوزو» الذي يعد أقرب الناس إلى أم «أكوكاليا».
كانت «أوكبيري» تتوقع مثل هذه المبادرة من «أوموارو». وربما أدرك «أدوزو» هذا من وجوه الرجال المتجهمة، فسارع بسؤالهم عن أحوال الناس في قريتهم.
أجاب «أكوكاليا» بنفاد صبر: إنهم بخير، الجميع بخير. لكننا جئنا في مهمة عاجلة نود لو عرفنا رأي «أوكبيري» بشأنها الآن.
قال «أدوزو»: نعم، نعم، لقد تساءلت بيني وبين نفسي عن سبب مجيء ابني بصحبة اثنين من أهله كل هذا الطريق، وفي مثل هذا الوقت المبكر. لو أن أمك ما زالت تعيش لفكرت عندئذ أن شيئا ما قد أصابها.
توقف لحظة قليلة ثم استطرد: مهمة عاجلة وهامة. نعم، إن الضفدعة لا تجري إلا إذا كان ثمة شيء وراءها. لا أريد أن أكون سببا في تأخير مهمتك، ولكن يجب أن أقدم لك قطعة من جوز الكولا.
لا داعي لأي شيء، ولا تقلق نفسك؛ فربما نعود فور الانتهاء من مهمتنا. إنه عبء كبير يثقل رءوسنا، ولن نستطيع أن نفهم ما نقول قبل إزاحة هذا العبء.
أعرف ما تعني - ها هي قطعة من الصلصال الأبيض - دعني أوافقك، ولنترك قطعة الكولا حتى تعود.
أسرع «أدوزو» إلى حجرته الداخلية، وعاد حاملا حقيبته المصنوعة من جلد الماعز ، وقال: سوف أصحبك إلى الرجل الذي يتلقى رسالتك.
مضوا خلفه في الطريق بهدوء .. عبروا السوق الكبير المكدس بالناس، وكان موسم النبات وكثير من الناس في السوق يحملون سلالا كبيرة تحوي بذور اليام، وآخرون يحملون الماعز في سلال كبيرة أيضا، ورجل ما يمسك بدجاجة. أما النساء وكان بعضهن قد جئن من أماكن بعيدة، فكن يتحدثن بصوت عال كلما تجمعن في مكان ما؛ فقد أصابهن التعب والإجهاد، وظللن صامتات، بينما لم يجد «أكوكاليا» صعوبة في التعرف على أواني المياه التي يحملنها فوق الرءوس.
كان غيابه عن موطن أمه ثلاث سنوات قد جعله يشعر بعاطفة غريبة تجاه هذه الأرض - التي تساءل يوما ما وهو صغير عن لونها الأبيض - بينما الأرض في «أوموارو» بلون أحمر بني، فأجابته أمه يومئذ بأن ذلك يعود إلى أن الناس في «أوكبيري» يغتسلون كل يوم، وكانوا على قدر كبير من النظافة بينما في «أوموارو» لا يقربون الماء إلا يومين أو ثلاثة في الأسبوع.
كانت أمه امرأة شديدة القسوة، وتتوق دائما إلى العراك معه، لكنه يحس الآن عاطفة قوية تجاه هذه الأرض وتجاه أمه.
وصل «أدوزو» مع زواره الثلاثة إلى بيت «أوتيكبو» مناديا «أوكبيري»، الذي كان جالسا في كوخه يقوم بإعداد حبات اليام للسوق. قدم التحية لزواره مناديا «أدوزو» باسمه، ومرحبا ب «أكوكاليا» قائلا: ابن ابنتنا. ثم صافح الاثنين الآخرين.
كان «أوتيكبو» طويلا وقويا وذا أكتاف عريضة، ولم يزل يبدو مثلما كان في شبابه عداء كبيرا .. دلف إلى الحجرة الداخلية وعاد بحصيرة ملفوفة يضعها فوق السرير الطيني للزوار .. دخلت فتاة صغيرة وهي تنادي: أبي .. أبي. - اذهبي بعيدا يا «أوجيانج» .. ألا ترين؟ - ضربني «ويك»، لقد صفعني يا أبي. - سأجلده فيما بعد، قولي له إنني سأجلده.
قال «أدوزو»: هيه .. «أوتيكبو» .. دعنا نخرج من هنا لنتحدث قليلا؛ فإنهم في عجلة من أمرهم ولن يبقوا طويلا .. أرجو أن تأتي ببعض جوز الكولا في الطاسة الخشبية.
قدم «أكوكاليا» الشكر قائلا: لن نستطيع أن نأكل أو نشرب شيئا قبل أن نفرغ أنا وزملائي من المهمة التي جئنا بشأنها.
سأل «أوتيكبو»: وإذن هل من الممكن البوح لي أنا و«أدوزو» فقط بما تتضمن هذه المهمة التي تثقل كاهلكم، أم أنه من الضروري حضور كبار رجال «أوكبيري»؟ - إنها تتطلب كبار الرجال. - إذن فقد جئت في وقت غير مناسب .. كل إنسان في «إيمبولاند» يعرف جيدا أن شعب «أوكبيري» لا يفعل شيئا في يوم «إيك» الذي هو يوم السوق الكبير .. كان من الأفضل لو جئت بالأمس أو أمس الأول أو غدا أو بعد غد .. ابن ابنتنا .. كان ينبغي أن تعرف عادتنا.
أجاب «أكوكاليا»: إن عاداتكم لا تختلف كثيرا عن عادات الآخرين، لكن مهمتنا لا تحتمل التأجيل.
قال «أوتيكبو»: نعم .. نعم.
ومضى إلى الخارج، وكان صوته مسموعا وهو ينادي على جاره «إيبو»، ثم عاد وقال مستطردا: مهمة لا تحتمل التأجيل! وماذا نستطيع أن نفعل الآن؟ أقترح أن تنام في «أوكبيري» اليوم لمقابلة الكبار غدا.
دخل «إيبو» ولوح بالتحية إلى كل الحاضرين .. أصابته الدهشة لوجود كل أولئك الناس، وللحظات انتابه التردد، ثم صافح الجميع لكن «أكوكاليا» رفض مصافحته.
قال «أوتيكبو»: اجلس يا «إيبو» .. إن «أكوكاليا» يحمل رسالة إلى شعب «أوكبيري» تمنعه من تناول جوزة الكولا ومن المصافحة. إنه يرغب في مقابلة الكبار. ولقد شرحت له استحالة ذلك اليوم. - ولماذا اختاروا اليوم لإبلاغنا برسالتهم؟ أليس لديهم سوق في بلدهم؟ إذا كنت قد استدعيتني من أجل هذا السبب فينبغي أن أعود للإعداد للسوق. - يجب إبلاغ رسالتنا حالا .. لا يمكن الانتظار .. قلت هذا من قبل. - لم أسمع من قبل عن رسالة لا تحتمل الانتظار أو التأجيل، أم أنك جئت لنا بأخبار تفيد بأن «شوكو» الإله الأكبر أوشك على تدمير العالم؟ إذا لم يكن الأمر كذلك فلا بد أن تعرف أن مجيء ثلاثة رجال إلى المدينة لن يكون سببا لتوقف يوم «إيك» في «أوكبيري» .. تستطيع أن تسمع بوضوح تلك الأصوات في السوق، والتي لم تكتمل إلى النصف حتى الآن .. عندما تكتمل يمكنك سماعها من «أمودا»، فهل تعتقد أن سوقا كهذا يمكن أن يتوقف لسماع رسالتك؟
جلس لحظة قصيرة، وساد صمت قطعه «أوتيكبو» قائلا: والآن لعلك تعرف يا ابن ابنتنا صعوبة إحضار رجالنا الكبار قبل الغد. - وإذا ما اشتعلت الحرب في مدينتكم فجأة فكيف تستدعون رجالكم يا جدي؟ هل ستنتظرون حتى الغد؟
انفجر «إيبو» و«أوتيكبو» ضاحكين بينما كان رجال «أوموارو» الثلاثة يتبادلون النظرات. وارتسمت فوق وجه «أكوكاليا» علامات الغضب الممتزج بالخطر، أما «أدوزو» فكان كما هو منذ جاء جالسا ويده اليسرى تحت ذقنه.
قال «أوتيكبو» بعد أن فرغ من الضحك: اختلاف العادات من اختلاف الناس، وفي «أوكبيري» ليس من عاداتنا أن نرحب في سوقنا بالغرباء. - يا جدي أنت إذن تعتبرنا كنساء السوق .. لقد تحملت إهانتك بصبر، فدعني أذكرك أن اسمي «أوكيك أكوكاليا» من «أوموارو».
قال «إيبو» ولم يزل متألما من عدم مصافحته له: أووه .. «أوموارو» .. إنني سعيد لقولك «أوموارو»، لكن هذه المدينة تدعى «أوكبيري».
صاح «أكوكاليا»: عد إلى بيتك وإلا حطمت رأسك. - إذا أردت أن تصيح كالثور المخصي فعليك بالانتظار حتى تعود إلى «أوموارو» .. قلت لك إن هذا المكان يدعى «أوكبيري».
قال «إيبو»: إن «أكوكاليا» عاجز، وإن زوجتيه كانتا تذهبان سرا إلى رجال آخرين من أجل إنجاب أطفاله.
وهنا أصبح القتال عنيفا، ولم يكن «إيبو» ندا ل «أكوكاليا»، الذي سرعان ما حطم رأسه، التي غرقت في الدم.
غضب «إيبو»، وأصابه الجنون من الألم وشدة الخجل، وأسرع لالتقاط سلاحه من بيته .. كانت كل نساء وأطفال البيوت المجاورة بالخارج .. ارتفع صراخهم من الرعب، واندفع المارة إلى حيث يتشاجران في محاولة للتوسط بينهما.
تطاير الشرر من عيني «أكوكاليا»، فاندفع داخل الكوخ ملتقطا سلاح «إيبو» من مخزنه، ووسط دهشة الجميع حطمه إلى نصفين بينما كان «أوتيكبو» يهدئ من غضب «إيبو» تجنبا لسفك الدماء. وعندما شاهد الجميع ما عزم «أكوكاليا» على فعله ناشدوا «أوتيكبو» أن يترك الرجل وشأنه.
خرج الرجلان الآخران معا من الكوخ .. اندفع «إيبو» في اتجاه «أكوكاليا»، ثم توقف عما يريد عمله، ولم يكن يعرف أبدا ما إذا كان مستيقظا أم أنه يحلم .. فرك عينيه بظهر يده اليسرى وكان «أكوكاليا» واقفا أمامه، وكان السلاح المنشطر إلى نصفين في مكانه فوق التراب حيث ألقاه «أكوكاليا». - تحرك خطوة أخرى إن كنت رجلا .. نعم إنني كسرته إلى نصفين .. ماذا تستطيع أن تفعل؟ - كان حقيقة إذن ما فعلت .. قالها «إيبو» وظل يلف حول نفسه، ثم دخل كوخه، وعند المخزن ركع على قدميه لإلقاء نظرة قريبة على السلاح، فوجد مكانه فارغا في الدولاب الخشبي، لم تلحقه الرمال بعد.
بكى مرددا: نا .. دو .. نا .. دو .. وراح ينادي أباه المتوفى أن يأتي لمساعدته، ثم نهض وذهب إلى حجرة نومه حيث طال غيابه .. خاف «أوتيكبو» أن يفعل شيئا في نفسه فاقتحم الحجرة، لكن «إيبو» دفعه جانبا وهرع إلى الكوخ حاملا بندقيته المليئة بالرصاص، وعند العتبة ركع على قدميه وصوب نظراته نحو الهدف .. كان «أكوكاليا» يرى الخطر قادما فاندفع إلى الأمام، وبالرغم من أن الرصاصة أصابته في الصدر إلا أنه واصل الجري رافعا سلاحه إلى أعلى حتى سقط أمام العتبة .. لامس وجهه سقف القش المنخفض قبل أن يسقط على الأرض.
صاعقة أصابت كل فرد في «أوموارو» عندما جاءت الجثة. لم يحدث أبدا من قبل أن قتلوا رسول «أوموارو» خارج بلده.
قالوا: لقد قتلوا أحد أبناء عشيرتنا، ولا تهاون أو سماح في ذلك.
وقالوا: فلنضع أنفسنا مكان ذلك الرجل القاتل .. من منا يتحمل هذا الشيء؟ وما التضحية أو الكفارة التي تغفر له؟
كان ممكنا ل «أوموارو» أن تتجاهل ذلك الحدث أو تتناساه، وربما تنازعت كل البلاد بسببه، لكن شيئا صغيرا كان يقلقهم .. شيء صغير لكن دلالته كبيرة .. لماذا لم تتنازل «أوكبيري» بإرسال مبعوث إلى «أوموارو» يخبرهم بما حدث؟
إن الجميع متفقون على أن الرجل الذي قتل «أكوكاليا» كان غاضبا، وأن شيئا ما استفزه، وأنه لمن الحق أيضا أن «أكوكاليا» لم يكن ابنا ل «أوموارو» فقط، وإنما هو ابن بنت «أوكبيري» أيضا، وما حدث شبيه بسقوط رأس الماعز في حقيبة من جلد الماعز .. وإذن كان عليهم بعد قتل الرجل أن يقولوا شيئا، أو يقدموا بعض التفسيرات، إلا أن «أوكبيري» لم تفعل شيئا سوى عودة الجثة، وكان ذلك دليل احتقار شديد ل «أوموارو»، ولم يكن هذا التصرف بالشيء الذي يمكن تجاهله بسهولة.
مضت أربعة أيام منذ وفاة «أكوكاليا» .. أربعة أيام من الحزن والتساؤلات، ثم راح المنادون يهتفون في الليل عبر القرى الست.
في صباح اليوم التالي اجتمع الناس .. كان مجلسا مهيبا، أجمع فيه غالبية المتحدثين على أنه ليس من حقهم أن يلوموا المتوفى، مع التسليم بأن قريبه أخطأ خطأ جسيما .. طالب كثير من رجال «أوكبيري»، وخاصة الكبار منهم، نسيان ما حدث؛ فقد شد بعضهم شعره أسفا، ثم أقسموا أنهم لن يعيشوا كي يروا «أوموارو» تحترق .. كانوا كما في الماضي تحت قيادة «واكا»، الذي تحدث بفصاحته المعتادة، فأثارهم، وحرك كثيرا من القلوب.
كان «إيزولو» صامتا طوال الوقت، وكان آخر المتحدثين.
قدم لهم التحية بهدوء ولكن بحزن شديد: أوموارو وينو. - هيم. - أوموارو أوبودونيزي وينو. - هيم. - ويزينو. - هيم. - إن الناي الذي كنا نعزف عليه أصبح الآن مكسورا .. عندما تحدثت يوم السوق الماضي والذي قبله من نفس هذا المكان استخدمت مثالا عن الماعز أثناء حديثي، وكنت حينها أتحدث إلى «أوجبوفي إيجونوان» الشاب .. أخبرته - لعلكم تتذكرون - بأن يكون حرا في حديثه إزاء ما كنا نخطط له بدلا من أن يضع قطعة من الفحم المشتعل في أوراق نخيل الطفل، ويسأله أن يحملها بعناية، وها نحن جميعا عرفنا بأي عناية حملها .. لم أكن أتحدث وقتئذ إلى «إيجونوان» بمفرده، بل إلى كل الكبار هنا الذين تركوا ما كان يجب فعله وفعلوا شيئا آخر .. الذين كانوا في البيت وتركوا الماعز تعاني آلام المخاض.
ألا تعرفون حكاية المصارع الذي لم تعرف الدنيا مثل قبضته؟ .. كان يصارع الرجال من قرية إلى أخرى حتى طرح كل رجال العالم أرضا، ثم قرر أن يذهب للمصارعة في أرض الأرواح ليصبح بطلا هناك أيضا .. ظل يضرب كل الأرواح التي تتقدم ناحيته، وكان لبعضها سبعة رءوس والبعض الآخر عشرة رءوس لكنه قهرهم جميعا، إلى أن توسل إليه زملاؤه - وهم يبالغون في مدحه - أن يبتعد، فلم يبتعد .. كان الدم يغلي في عروقه، واحترقت أذناه، فقرر ألا يقبل دعوتهم بالعودة والابتعاد حتى يأتوا له بأقوى مصارع لديهم، فأرسلوا له الإله الشخصي لهم .. روح صغيرة وقوية أوقفته بيد واحدة، وحطمته فوق الأرض الحجرية.
يا رجال «أوموارو» .. لماذا أخبرنا آباؤنا بهذه القصة؟ لماذا تعتقدون أيها الرجال؟ لأنهم أرادوا أن يعلمونا أن الإنسان يستطيع أن يتحدى كل شيء وأي شيء مهما عظم شأنه، ومهما كان قويا أو عظيما .. هذا ما فعله قريبنا .. لقد تحدى قدره .. كنا نعزف له أنغاما على الفلوت ولم نفعل شيئا لإنقاذه من الموت .. أين هو اليوم؟ .. إن الذبابة حين لا تجد أحدا تقرصه تتبع الجثة داخل القبر.
اتركوا «أكوكاليا» جانبا الآن .. لقد ذهب بالطريقة التي رسمها له القدر، اتركوا العبد الذي يرى شيئا آخر داخل ظلال القبر يعرف أنه سيدفن بنفس الطريقة عندما يحين موعده.
إن «أوموارو» اليوم تتحدى قدرها .. هل يوجد رجل أو امرأة في «أوموارو» لا يعرف «أولو» الإله، الذي يدمر الإنسان في أحسن حالاته؟ .. إن بعض الناس ما زالوا يتحدثون عن شن حرب ضد «أوكبيري» .. هل تعتقدون أن «أولو» سيقاتل معكم؟ .. إن العالم في اضطراب عظيم، وإذا ذهبت للحرب لمجرد الانتقام من شخص ما لعن أمك وأباها فستتلوث بالفساد والعفونة، ولن يتبعك «أولو»، «أوموارو» .. أحييكم.
انتهى الاجتماع وساد اضطراب .. انقسمت «أوموارو» إلى مجموعتين .. تجمع الكثير من الناس حول «إيزولو» مؤكدين وقوفهم بجانبه ومساندته، بينما ذهب آخرون إلى «واكا» الذي عقد اجتماعا آخر في بيته في نفس الليلة، وقرروا فيه حتمية سقوط رءوس أربعة من «أوكبيري» كي يستقر الأمر .. أكد «واكا» على ألا يحضر أحد من «أومواشالا» قرية «إيزولو» إلى ذلك الاجتماع المسائي.
قال «واكا»: لا يجب على «أوموارو» السماح لنفسها بالسير تحت قيادة رئيس كهنة «أولو» .. لم يخبرني أبي بأن على «أوموارو» أن تأخذ الأمر من كاهن «أولو» قبل الدخول في الحرب .. إنه يحمل تعاليم الإله ويعمل على إنجاز الطقوس الدينية وحمل القرابين .. هذا كل ما في الأمر .. لكنه ليس ملكا .. إنني أراقب هذا «الإيزولو » منذ سنوات وأعرف أنه رجل طموح .. إنه يطمع في أن يكون ملكا وكاهنا وعرافا .. يريد كل شيء .. إنه مثل أبيه تماما كما يقولون .. يجب على شعب «أوموارو» أن يقولوا له بأن شعب «إيبو» يعلم تماما بعدم وجود ملوك، ولقد حان الوقت لقول ذلك لابنه أيضا .. نحن لسنا ضد «أولو»؛ فهو الذي لم يزل يحمينا، مع أننا لم نعد نخاف من أبطال «آبام» في الليل .. لن أعيش حتى أرى بعيني ذلك الكاهن الذي اختاره يجعل من نفسه ملكا علينا .. لقد حدثني أبي عن أشياء كثيرة لم يكن من بينها أن «إيزولو» سيكون ملكا في «أوموارو» .. من هو على أية حال؟ هل دخل أحدكم بيته من البوابة؟ .. إذا قررت «أوموارو» أن يصبح لها ملك فنحن نعرف من أين سيأتي .. متى أصبحت «أومواشالا» عاصمة للقرى الست؟ .. إن الغيرة كانت منتشرة بين القرى الكبيرة كما نعرف، مما جعلهم يختارون الكاهن من أضعف القرى، سوف نقاتل من أجل أرضنا ومن احتقار «أوكبيري» لنا .. لن نستمع إلى أي شخص يحاول إثارة مخاوفنا باسم «أولو» .. إن إرادة الرجل فوق كل شيء. ولقد سمعنا عن كيفية تعامل شعب «أنينتا» مع الإله الخاص بهم عندما فشل معهم .. ألم يأخذوه إلى الحدود الفاصلة بينهم وبين جيرانهم وأشعلوا فيه النيران؟ .. أحييكم.
كان «آفو» هو اليوم الذي اشتعلت فيه الحرب .. قتلت «أوموارو» رجلين من «أوكبيري»، وكان «كوا» هو اليوم التالي، فتوقف القتال، لكنه في اليومين التاليين «إيك» و«أوي» اشتدت ضراوة الحرب فقتلت «أوموارو» أربعة رجال آخرين مقابل ثلاثة قتلتهم «أوكبيري» كان أحدهم أخا ل «أكوكاليا» يدعى «أوكوي» .. أصبحت الحرب في اليوم التالي أكثر عنفا، فسارع الرجل الأبيض «وينتابوتا» بإحضار جنوده إلى «أوموارو» لإيقاف الحرب .. ألقت «أوموارو» أسلحتها دون أي مقاومة، وما زالوا يقصون حكاية هؤلاء الجنود وما فعلوه بفزع، ويقولون بدون خجل إن موت «أكوكاليا» كان أخذا بالثأر، وإنهم ضحوا من أجله بثلاثة رجال آخرين كي يستريح في موته، كان «إيكونزو» إله الشر وراء موت «أكوكاليا» وأخيه في نفس النزاع.
لم يتوقف الرجل الأبيض عند إيقاف الحرب، ولكنه جمع كل الأسلحة في «أوموارو»، وأصدر أمرا للجنود بتكسيرها في وجههم، فيما عدا ثلاث بنادق أو أربعا احتفظ بهم، ثم عقد محاكمة بين «أوموارو» و«أوكبيري» انتهت بحق «أوكبيري» في الأرض المتنازع عليها.
الفصل الثالث
كان الحر شديدا طوال الشهر أو الشهرين الماضيين، فاحترق العشب واصطبغت أوراق الشجر بلون الأرض الأحمر الداكن. ولم تكن ثمة فرصة للانتعاش سوى ساعتين فقط في الصباح، قبل أن تتحول الرءوس والرقاب إلى جداول من العرق. كان أكثرها إثارة للغضب والضيق هو ذلك العرق المتصبب خلف الأذن وكأنه ذبابة تمشي .. عند هبوب الرياح الباردة لحظة الغروب كان ثمة إحساس آخر بالانتعاش المؤقت. غير أن هذه الرياح المخادعة كانت بمثابة خطر كبير على أفريقيا؛ حيث كان الأوروبيون المستهترون يتعرون أمامها فيصيبهم المرض.
ها هي أمطار أول العام تواصل السقوط بينما الكابتن «وينتربوتوم» واقف في إحدى شرفات بيته الأرضي الكثيرة يراقب أحداث الشغب.
لم يعرف الكابتن «وينتربوتوم» النوم منذ توقفت الرياح الباردة الجافة فجأة في ديسمبر وها هو منتصف فبراير .. أصبح الكابتن شاحبا ونحيفا، وكانت الحرارة ما تزال قوية غير أن قدميه كانتا باردتين. وكان من الأجدر له أن يكون الحمام ساخنا حتى لا يصيبه سوء، لكنه في كل صباح كان يفضل الحمام البارد، ثم يتطلع إلى المرآة فيرى لثة أسنانه أكثر بياضا .. ربما كانت نوبة أخرى من الحمى .. في المساء كان مضطرا لحبس نفسه داخل الشبكة التي تمنع الناموس حتى في وجود هواء بالخارج، فكان يتصبب بالعرق وتصير الوسادة كحوض مليء بالمياه، لكنه سرعان ما كان يستيقظ بعد إغفاءة قليلة على إثر دقات الطبول القريبة، وعندئذ كانت تنتابه الدهشة من تلك الطقوس التي يمارسونها ليلا في الغابة .. ترى هل هي ضربات قلب الظلام الأفريقي؟
أصابه الذعر ذات ليلة عندما كان راقدا في الليل، ولم يقرعوا الطبول لكن دقات الطبول كانت تتخلل مسامعه من نفس المسافة .. هل كانت مجرد دقات رأسه الساخن؟ .. هذه الأرض القديمة المثيرة للكوابيس!
ظل «وينتربوتوم» طوال خمسة عشر عاما مكتئبا من هذا المناخ ونوعية الطعام، وكثيرا ما فكر في ترك الخدمة في نيجيريا. وبالرغم مما يسببه له هذا المناخ من غضب سريع، إلا أنه لم يعد يقارن بين الحياة هنا والحياة في أوروبا .. كان إيمانه قويا بقيمة المهمة البريطانية في أفريقيا، وكان هذا كافيا، ومما ساعد على ذلك رحلته للكاميرون عام 1916م، عندما كان يحارب ضد الألمان؛ حيث حصل على لقب كابتن.
كان سقوط الأمطار مثار دهشة كبيرة للناس .. توقفت الأمطار، وكانت الشمس في النهار حارقة كالعادة، ولم تعد الطيور تغني في الصباح، ولم يكن ثمة هواء، والأشجار واقفة في سكون، ثم هبت فجأة رياح شديدة وأظلمت السماء .. امتلأ الهواء بالأتربة وأوراق الشجر المتطايرة، وترسخت أشجار النخيل وجوز الهند وكأنها عملاق يهرب من الرياح .. كانت الأوراق تتمايل للوراء.
سارع «جون» خادم «وينتربوتوم» إلى غلق الأبواب والنوافذ، وراح يلتقط الأوراق والصور من على الأرض بينما كان الرعد يدوي بشدة .. عادت الحياة مرة أخرى بعد سكون دام عدة شهور، واخضرت أوراق الشجر من جديد، فأصبح «وينتربوتوم» الواقف عند درابزين الشرفة رجلا آخر .. لم يهتم بالتراب وتركه يهب فوق عينيه، وكان يحسد الأطفال وهم يقفزون في العراء ويغنون للمطر القادم.
سأل «جون»: ماذا يقولون؟ - إنهم يناشدون الأمطار سرعة السقوط.
كان أربعة آخرون من الأطفال يسرعون نحو الأولاد ليلحقوا بهم عند مروج السيد «وينتربوتوم» .. إنه المكان الوحيد الذي يتسع لألعابهم، راحوا يصيحون والسماء ملبدة بالسحب السوداء، غير أن ضوءا كان يتسلل عبر الأفق البعيد وثمة أضواء أخرى كانت تخترق السحب بصعوبة ومشقة.
تساقطت الأمطار غزيرة وقطرات من ماء المطر المتجمد كانت تتساقط فوق رءوس الأطفال، لكنهم لم يتوقفوا عن مواصلة غنائهم .. كانت تلك القطرات المتجمدة تؤلمهم أحيانا، وفي أكثر الأحيان كانت تجعلهم يضحكون، فيسرعون نحوها، ويقذفونها في أفواههم قبل أن تذوب.
ظلت الأمطار تتساقط بشدة طوال ساعة كاملة، فعادت الأشجار إلى لونها الأخضر الجميل وكانت الأوراق ترفرف .. كانت الساعة السادسة، ومن خلال ما تثيره الأمطار في النفس من روعة وجلال كان الكابتن «وينتربوتوم» قد نسي الشاي والبسكويت الذي أعده له «جون» قبل الساعة الخامسة .. بدأ في تناول البسكوت، وتذكر عندئذ موعد «كلارك» على العشاء، فذهب إلى المطبخ ليرى ما يقوم الطباخ بإعداده.
لم تكن «أوكبيري» مدينة كبيرة .. خمسة فقط من الأوروبيين كانوا يعيشون بها .. كابتن «وينتربوتوم» كضابط، للمنطقة، السيد «كلارك»، «روبرتس»، «واد»، «رايت» .. كان علم الوحدة يرفرف أمام شرفة الكابتن مشيرا إلى أنه ممثل الملك في المنطقة .. كان الاحتفال بيوم الإمبراطورية هو أحد المناسبات القليلة التي يرتدي فيها زيه الأبيض ويمتشق سيفه؛ حيث يخرج أطفال المدارس في طوابير منتظمة ويبادلهم التحية.
كان السيد «كلارك» هو مساعده الذي جاء منذ أربعة أسابيع فقط، خلفا ل «جون ماكميلان» الذي مات بملاريا المخ .. لم يكن بقية الأوروبيين ممن يعملون لدى الإدارة .. كان «روبرتس» مساعدا لمدير البوليس التابع للفصيلة العسكرية المحلية، و«واد» تابعا للسجن يعمل مساعدا أيضا للمدير، أما الرجل الأخير «رايت» فلم يكن تابعا للمنطقة؛ فهو يعمل في قسم الأعمال العامة؛ حيث كانوا يمهدون طريقا جديدا إلى «أوموارو» .. اغتنم كابتن «وينتربوتوم» الفرصة المناسبة للتحدث مع «رايت» بشأن ما بدر منه من تصرفات، وخاصة مع نساء المنطقة، مبينا له أن كل أوروبي في «نيجيريا»، وخاصة أولئك المقيمين في أماكن بعيدة مثل «أوكبيري»، لا يجب أن ينتشروا أمام المواطنين .. قرر «وينتربوتوم» إبعاد «رايت» عن النادي إلا إذا أظهر تغيرا ملحوظا.
كان النادي مكانا عسكريا يتناولون فيه الطعام قبل أن يغادره الجنود عند انتهاء مهمتهم في تهدئة ما كان من صراع في المنطقة وانتقالهم إلى مكان آخر .. وكان عبارة عن بيت أرضي من الخشب واسع الشرفات يحتوي على حجرة للطعام وحجرة أخرى وشرفة .. أما حجرة الطعام فإنهم يستخدمونها الآن كحانة ومكان للاسترخاء والحجرة الأخرى كمكتبة؛ حيث يمكن الاطلاع على الصحف القديمة التي مضى عليها شهران أو ثلاثة، أو قراءة ما تعلنه وكالة «رويتر» فيما لا يتعدى عشر كلمات مرتين في الأسبوع.
كان «توني كلارك» قد أمضى أكثر من ساعة في ارتداء ملابسه استعدادا للعشاء .. إن ارتداء الملابس في مثل هذا الجو الحار شيء مزعج، لكنه نوع من الحياة في هذه المدينة القاسية والمفسدة للروح المعنوية .. كان اليوم لطيفا بسبب الأمطار، أما بعض الأيام الأخرى فقد كان «توني كلارك» يمتنع عن حضور العشاء تجنبا لارتداء قميصه النظيف وربطة العنق.
كان ينظر إلى ساعته الذهبية التي أهداها له والده عندما جاء للعمل في نيجيريا بينما يطالع الفصل الأخير من كتاب جورج آلين «مصافحة قبائل النيجر البدائية»، الذي أعاره له كابتن «وينتربوتوم» .. كان يجب الانتهاء من قراءته لإعادته هذه الليلة، فكانت سرعته في القراءة هي أحد الأشياء التي تعلمها هنا .. وبالرغم من صعوبة فهم الكتاب وإحساسه بالكآبة إلا أن الفقرات القليلة الأخيرة قد أثارته .. كان عنوان الفصل الأخير «النداء» وقد جاء فيه ما يلي: «من أجل تلك المطالب، بل من أجل حياة أفضل واحتلال هادئ، فإن نيجيريا مغلقة، وستظل مغلقة حتى تفقد الأرض بعضا من خصوبتها .. من أجل هؤلاء الذين يبحثون عن حياة نشطة .. لهؤلاء الذين يستطيعون معاملة الناس مثل معاملتهم للمادة .. الذين يستطيعون فهم الأوضاع الكبيرة .. الأحداث المراوغة .. الأقدار المرسومة .. نيجيريا تقدم ذراعيها لأجل الرجال في الهند الذين جعلوا من الإنجليز صانعا للقانون ومشيدا ومهندسا للعالم .. أعرف أننا نستطيع العثور على الرجال .. إن أمهاتنا لا يجذبننا نحو الجانب القاسي من الطفولة .. العودة إلى دائرة البيت .. العودة إلى ألعاب الشباب عديمة الفائدة .. إنه لمن الفخر الشديد أنهن جئن بنا أقوياء لا نخاف من قيادة هذه الشعوب المتخلفة .. لا شك أننا نحن! الشعوب! هل سيكون الإنجليزي الصغير الذي قاتل من أجله النورماندي ضد الساكسوني في أرضه؟ هل من أجل مكتب فقط يقرأ عليه صغارنا «ذراك، ولفروبيشرا، لنيلسون، وكلايف»، ورجال مثل «مونجو بارك»؟ هل من أجل مكتب المحاسبة الذي أخذوه عن اليونان وروما؟ لا .. لا .. ألف مرة لا .. إن الجنس البريطاني سيأخذ مكانته .. إن الدم البريطاني سيحكم.»
قال السيد «كلارك»: آه .. شيء طيب.
ثم راح ينظر في ساعته مرة ثانية .. دقيقتان فقط للوصول إلى كابتن «وينتربوتوم»، وإذن فهناك متسع من الوقت .. كان «كلارك» قبل مجيئه إلى «أوكبيري» قد أمضى شهرين في مراكز القيادة، تذكر يوم أن دعاه نائب المحافظ على العشاء حين اعتقد لأسباب ما أن الساعة كانت تمام الثامنة، وأنه وصل في ميعاده لكن صالة الاستقبال البراقة كانت فارغة من الناس، فاضطر «كلارك» أن يتوجه إلى الحديقة الأمامية للانتظار، وحينئذ جاء أحد الخدم، وقدم له مشروبا، فجلس على حافة الكرسي بقلق وكأس من الشيري في يديه .. كان يود لو ينسحب تحت ظل إحدى الأشجار في الحديقة حتى يصل بقية الضيوف، لكن شخصا ما كان يهبط السلم بسرعة وهو يطلق صفيرا عاليا .. قفز «كلارك» على قدميه وقبل أن يتقدم مضيفه لمصافحته حدق فيه بانتباه لحظة قصيرة، فسارع «كلارك» بتقديم نفسه، وكان على وشك الاعتذار لكن «ه. ه» لم يمنحه الفرصة، وقال: أعتقد أن العشاء في الثامنة والربع.
دخل مساعده في تلك اللحظة، ورأى الضيف وهو يبدو قلقا، ويهز ساعته مستمعا إلى دقاتها: لا تقلق يا «جون»، تعال لمقابلة السيد «كلارك»، الذي جاء مبكرا بعض الشيء.
صعد إلى أعلى مرة ثانية تاركا إياهم، وطوال وقت العشاء لم يتحدث أبدا إلى «كلارك» .. كان بقية الضيوف جميعا من كبار السن والمقام، ولم يبد أحدهم أي اهتمام ب «كلارك» المسكين، وكان اثنان منهم بصحبة زوجاتهم أما بقيتهم بما فيهم «ه. ه» فإنهم غير متزوجين أو أنهم لحكمة ما تركوا زوجاتهم في انجلترا.
كانت أسوأ اللحظات التي شاهدها «كلارك» حين قام «ه. ه» بدعوة الضيوف إلى صالة الطعام دون الإشارة إليه بالإضافة إلى أن أحدا منهم لم ينتبه لذلك، أخذوا جميعا أماكنهم فور جلوس «ه. ه» ثم أرسل «أ. د. ك» واحدا من الخدم لإحضار كرسي، ولا بد أن شيئا ما كان وراءه عندما وقف وقدم مقعده الخاص ل «كلارك».
لحظة وصول «توني كلارك» كان الكابتن «وينتربوتوم» يشرب البراندي والبيرة. - إن الجو لطيف اليوم .. شكرا للرب.
قال «وينتربوتوم»: نعم، كان جميلا أن تتساقط الأمطار. - كيف ستكون العاصفة الاستوائية؟ .. أعتقد أن الجو سيميل للبرودة أكثر مما هو عليه الآن. - نعم .. ولكن ليس تماما كما تعتقد .. سيكون الجو لطيفا ليومين فقط، هذا كل ما في الأمر .. إن موسم الأمطار الفعلي لا يبدأ قبل مايو وأحيانا يونيو .. تفضل بالجلوس. - أشكرك كثيرا .. ربما يكون السيد «آلين» حقيرا ومتغطرسا بشدة، ويمكننا القول بأنه أنيق ومعتد بنفسه بعض الشيء.
جاء «بونيفيس» الصبي الصغير للكابتن .. تقدم للأمام حاملا صينية فضية وقال: ماذا تشربون؟ - لا أعرف بالضبط .. ولكن ... - فلنجرب قليلا من الكوستر القديم. - براندي وبيرة. - حسنا .. شيء جميل.
منذ اللحظة الأولى التي شاهد فيها الصبي بزيه الأبيض عرف للوهلة الأولى قدر وسامته، وبدا كابتن «وينتربوتوم» وكأنه قرأ أفكاره، فقال: إنه نموذج مشرف وجميل .. أليس كذلك؟ إنه يعيش معي منذ أربع سنوات، وعندما جئت به كان ولدا صغيرا في حوالي الثالثة عشرة، وهم في مثل هذا العمر كما أرى لا يدركون شيئا من أعمارهم .. كان في ذلك الوقت لا يعرف شيئا عن أي شيء. - إنهم كما قلت لا يدركون شيئا عن أعمارهم وعن السنين و... - إنهم يعرفون المواسم .. أنا لا أعني ذلك، ولكن إذا سألته عن عمره فلن يعرف.
عاد الصبي بالمشروبات.
قال السيد «كلارك» وهو يتناول مشروبا: أشكرك جدا.
حول المصباح عند الركن كان عدد هائل من الذباب والحشرات محتشدا، وسرعان ما تساقطوا فوق الأرض زاحفين .. ظل كلارك يتابعهم باهتمام. - هل هذه الحشرات تلسع؟ - لا .. إنها لا تؤذي، وإنما هكذا يتساقطون بعد الأمطار .. لقد قلت شيئا عن «آلين» .. أعتقد أنك وصفته بالأناقة والاعتداد بالنفس. - إنه مجرد انطباع. - أرى أنك واحد من التقدميين. وعلى أية حال فعندما تطول إقامتك هنا لفترة أطول مما أقام «آلين»، وتتمكن من فهم الناس بصورة أشمل، ستبدأ حينئذ في رؤية الأشياء بشكل مختلف .. أنت لم تر كما رأيت أنا رجلا يدفن حتى رقبته وفوق رأسه قطعة من اليام المحمر لجذب النسور .. هل تعرف؟ حسنا .. لا عليك؛ فنحن البريطانيين مجموعة من الفضوليين نفعل كل شيء بلا حماس .. انظر إلى الفرنسيين. إنهم لا يخجلون من تعليم ثقافتهم إلى الأجناس المتخلفة، وموقفهم تجاه حاكم هذه الشعوب واضح .. يقولون له: إن هذه الأرض ملك لك لأنك تملك من القوة ما يكفل لك رعايتها والإمساك بها، وإذا لم تكن راضيا فتعال وحاربنا .. أما نحن البريطانيين فماذا نفعل؟ .. إننا نتخبط من طريقة إلى عكسها، نحن نبتعد عن طريقنا، ونأتي بمن ليس لهم شأن ثم نصنع منهم الزعماء .. إنهم يسببون لي المرض.
رشف ما تبقى من كأسه، وصاح مناديا «بونيفيس» من أجل كأس آخر، ثم قال مستطردا: أنا حقا لا أهتم إذا ما تركوا هذا الاضطراب والعبث لأولئك المتزمتين القدامى في لاجوس، ولكن إذا ما تعلق الأمر بتلويث سمعة ضباط السياسة الصغار فإنني سأترك مكاني، وبعد هذا ندعو الشخص الإيجابي بأنه أنيق.
اعترف «كلارك» بأن حكمه كان عن جهل ويجب أن يعمل على مراجعته. - «بونيفيس». - نعم. - كأس آخر للسيد «كلارك». - لا .. لا أريد حقا؛ فأنا أعتقد أن ... - لا تعتقد شيئا .. إن العشاء لن يكون جاهزا قبل ساعة أخرى، فلتجرب شيئا آخر إذا شئت .. ويسكي مثلا.
طلب «كلارك» كأسا آخر من البراندي ولكن دون رغبة منه في مزيد من الشراب وهو يفكر في موضوع جديد. وكان حظه حسنا حين أبصر مجموعة من البنادق موضوعة بعناية كالتذكارات بالقرب من الشباك السفلي لحجرة المعيشة، فقال: إنها مجموعة ممتازة من الأسلحة النارية، هل هي بنادق أهل البلد؟
شعر عندئذ أنه تورط في الحديث.
قال كابتن «وينتربوتوم» بلهجة مختلفة: هذه البنادق لها حكاية طويلة وشيقة .. كان أهل «أوكبيري» وجيرانهم من «أوموارو» أعداء أو هكذا كانوا قبل مجيئي .. نشبت بينهم حرب ضارية من أجل قطعة من الأرض، وكان النزاع القبلي نزاعا سيئا لكن «أوكبيري» تصرفت بتحرر وحكمة، ورحبت بالرسل المبعوثين وبالحكومة، في الوقت الذي أصرت فيه «أوموارو» على تخلفها حتى ما يقرب من السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة .. يمكنني القول بتواضع شديد إن هذا التغيير لم يحدث إلا بعد أن جمعت كل الأسلحة وحطمتها أمامهم في نفس المكان، باستثناء هذه المجموعة التي تراها .. سوف تذهب هناك كثيرا. وإذا ا سمعت أحدا يتحدث عن «أوتيجي إيجب» فلتعرف إذن أنهم يتحدثون عني. إن «أوتيجي إيجب» تعني محطم الأسلحة .. حتى الأطفال الذين ولدوا في ذلك العام ينتمون إلى تلك المرحلة الجديدة لتحطيم الأسلحة.
قال «كلارك»: شيء مثير حقا، شيء مدهش .. وكم تبعد هذه القرية الأخرى التي تدعى «أوموارو»؟ - أوه .. ليس سوى ستة أميال تقريبا، لكنهم يعتبرونها بلدا أجنبيا، وهي لا تشبه بعض القبائل المتقدمة في شمال أو غرب «نيجيريا» .. إن «الإيبو» لم يطوروا أبدا أي نوع من السلطة المركزية؛ ولهذا فشلت قيادتنا في التقدير. - نعم .. لقد فهمت. - بدأت الحرب بين «أوموارو» و«أوكبيري» بطريقة غريبة ومثيرة للدهشة .. كنت قد ذهبت إلى هناك، وثمة تفاصيل في الاعتبار.
توقف لحظة ثم رفع صوته مناديا على «بونيفيس» وأضاف قائلا: كيف تبدو يا سيد «كلارك»؟ أوه .. رائع وجميل .. ينبغي أن تشرب المزيد؛ فإن الشراب شيء جيد ومفيد للملاريا .. آه .. كنت أقول إن الحرب قد بدأت حين ذهب رجل من «أوموارو» ذات صباح صحو لزيارة صديق في «أوكبيري» حاملا معه جالونا أو اثنين من النبيذ وكومة كبيرة من الخمر، لكن ذلك الرجل شرب الخمر كله قبل أن يصل إلى أصدقائه، وعندما وصل إلى
Ikenga
1
قام بتحطيمه وشقه إلى نصفين .. كان
Ikenga
من أكثر الأصنام أهمية في «إيبو»؛ فقد كان يمثل الأسلاف، وكان يجب تقديم القرابين له كل يوم .. تستطيع أن تفهم الآن معنى أن يحطم رجل من «أوموارو» صنم مضيفه وتكسيره إلى نصفين .. بالطبع كان ذلك الحدث من أكبر الكبائر ونوعا من التدنيس للأشياء المقدسة .. لم يكن أمام المضيف الذي شعر بالإهانة سوى الإطاحة برءوس من تبعوه .. وهكذا تطورت الحرب بين القريتين حتى جئت أنا إلى هنا .. سألت عن ملكية قطعة الأرض، واكتشفت دون أي ظلال من الشك أنها أرض «أوكبيري». وكان كل الذين أدلوا بالشهادة من كلا الجانبين كذابين .. تذكر دائما في معاملتك مع هؤلاء الناس أنهم مثل الأطفال كذابون .. إنهم لا يكذبون ببساطة من أجل الخروج من مأزق لكنهم يزيفون الحقائق بأكاذيب لا أساس لها .. أما الكاهن فكان هو الرجل الوحيد الذي شهد ضد أبناء قريته .. لم أكن أعرفه، غير أن شكله كان مؤثرا وذا وجه متلألئ باللون الأحمر .. أحيانا يجد المرء منا شخصا مثل هذا الكاهن بين هؤلاء «الإيبو» .. يتملكني إحساس ما بأن «الإيبو» في الماضي السحيق كانوا بعيدي الشبه عن القبائل الزنجية.
نهض «وينتربوتوم» بعد ذلك وقال: والآن .. هيا إلى العشاء.
الفصل الرابع
اشتد العداء بين «إيزولو» و«واكا» في السنوات الخمس الأخيرة منذ أن حطم الرجل الأبيض أسلحة «أوموارو»، وكان شعارهم في «أوموارو» يقول: «اقتل وخذ الرأس».
أصبح العداء بين الفريقين عنيفا، وتسربت إلى الآذان حكايات كثيرة عن التسمم.
كان «واكا» معروفا بالحكمة والاتزان ويعرف دائما ما يقول، لكنه في تلك الليلة عندما هدد «أولو» في بيته فإن كثيرا من الناس قد ارتعدوا منه.
لم تكن رأس «واكا» أو بطنه تؤلمانه، ولم يتأوه في منتصف الليل رغم تهديده ل «أولو»، وربما كان هذا معنى الأغنية التي كان يشدو بها في احتفال «إيديميلي» هذا العام .. كان «واكا» يملك قناعا كبيرا يرتديه في ذلك الاحتفال وبقية المناسبات الهامة. وكان اسم القناع «أوجالانيا» أو رجل الثروة .. في احتفالات ومهرجانات «إيديميلي» كانت حشود من الناس تأتي من كل القرى لرؤية هذا القناع العظيم، المزخرف بالمرايا والملابس الغالية ذات الألوان الكثيرة.
تحدث القناع ذلك العام بفخر واعتزاز، وقال الذين يعرفون لغة أرواح الأسلاف إن «واكا» كان يتحدث عن مقاومته ل «أولو»: «أيها الناس، أنصتوا جيدا إلى ما أقول .. هناك مكان ما لا يعرفه أحد؛ حيث لا رجل ولا روح تجرؤ على المغامرة إلا إذا أمسك صديقه بيده اليمنى وقريبه باليد اليسرى، ولكنني أنا «أوجالانيا» ذهبت إلى هذا المكان وحيدا دون صديق أو قريب.»
ارتفعت نغمات الفلوت ودقات الطبول: «أوجالانيا آجومو».
ثم استطرد: عندما وصلت هناك اتخذت لي صديقا، لكنه تحول إلى ساحر، فبحثت عن صديق آخر فعرفت أنه شخص فاسد، وكان الصديق الثالث مصابا بالجذام. وحين ارتفعت نغمات الفلوت ودقات الطبول مرة ثانية بدأ «أوجالانيا» في الرقص، وراح يتحرك خطوات قليلة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، وكان يلف ويدور بسرعة رافعا يديه إلى أعلى. عدت عندئذ من جولتي، ومرت الأيام، وجاء يوم «آفو» مرة ثانية ولم تؤلمني رأسي أو بطني، كما أنني لم أحس بالدوار .. أخبروني إذن أيها الناس، هل الذي يفعل كل ذلك لا تكون ذراعه قوية؟
أجابوا جميعا: إن ذراعه قوية، قوية جدا.
كان الفلوت يواصل نغماته مع دقات الطبول.
ظل الناس طوال سنوات خمس يتساءلون كيف أن هذا الرجل استطاع أن يتحدى «أولو» دون أن يلحقه أذى .. ها هو يعيش متباهيا .. من الأفضل القول بأنه لم يكن «أولو» هو الذي تحداه الرجل .. إنه لم يستدع اسم الله، ولكن إذا كان كذلك فمن أين حصل «واكا» على هذه القوة؟
عند رؤيتنا لطائر صغير يرقص في منتصف الطريق فلا بد أن طارق الطبول ليس ببعيد .. لا بد أنه بجوار الشجيرة.
كان قس «إيديميلي» هو طارق الطبول الذي يغني بالثناء على «واكا». إنه الإله الشخصي ل «أومونيورا»، إنه «إيزيديميلي» صديق «واكا» الحميم، ومعلمه الخاص الذي جعل «واكا» قويا، ودفع به للأمام. غير أن أحدا لم يكن يعرف ذلك لمدة طويلة.
أشياء قليلة كانت تحدث في «أوموارو» لم يكن يعرفها «إيزولو»، لكنه عرف أن كهنة «إيديميلي» و«أجوجو» و«أيرو» و«أودو» كانوا يشعرون بالحزن والضيق لاختيار «أولو» إلها فوق كل الآلهة القدامى، فانتابه إحساس بأن أحدهم سيقوم بعمل ما يتجاوز مجرد الإحساس بالحزن والضيق، وأنه سيجرؤ على تحدي «أولو».
بدأت صداقة «واكا» و«إيزيديميلي» منذ كانا شابين صغيرين، ودائما ما كانا يلتقيان .. ولد أحدهما قبل الآخر بثلاثة أيام، وكان «واكا» هو الأصغر .. هكذا قالت أمهاتهم .. كان كلاهما يجيد المصارعة، غير أنهما كانا مختلفين تماما.
كان «واكا» طويلا ذا جلد لامع ومضيء بينما «إيزيديميلي» قصير وأسود كالفحم .. مضى كل منهما في حياته بعيدا عن الآخر، غير أن «واكا» كان دائما ما يطلب النصح من صديقه قبل القيام بعمل أي شيء، وكان هذا ما يثير الدهشة والعجب؛ لأن «واكا» كان رجلا عظيما وخطيبا بارعا ، وكان أصدقاؤه يدعونه «صاحب الكلمة» .. كانت صداقته مع «إيزيديميلي» هي سبب عداء «إيزولو» الشديد.
ذات يوم كان «واكا» جالسا مع «إيزيديميلي» في كوخه يشربان النبيذ ويتبادلان الحديث عن شئون «أوموارو». وكالعادة تحول الحديث إلى ذكر «إيزولو»، ثم سأل «إيزيديميلي»: ألم يسأل أحد عن إزالة رأس كاهن «أولو» من الجسد لحظة الموت؟
كان السؤال بلا إجابة طوال أجيال عديدة، ولم يكن «واكا» يعرف الإجابة.
قال: في الحقيقة أنا لا أعرف، ويمكن القول إن «إيزولو» نفسه لا يعرف.
أفرغ «واكا» النبيذ في قدحه ضاربا إياه مرتين على الأرض وقد انتابته حالة من الشوق لسماع القصة العظيمة، لكنه لم يظهر اشتياقه وترقبه .. صب لنفسه قدحا آخر، ثم استطرد قائلا: «إيزيديميلي» إنها حكاية شيقة، ولا أعتقد أنني أخبرت بها أحدا من قبل .. لقد سمعتها من آخر «إيزيديميلي» قبل أن يموت.
توقف قليلا، وتناول بعضا من النبيذ، وأضاف: إن هذا النبيذ مخلوط بالماء.
ثم واصل حديثه قائلا: إن كل ولد في «أوموارو» يعرف أن «أولو» من صنع آبائنا، لكن «إيديميلي» كان موجودا منذ بدء الحياة ولم يصنعه أحد .. هل تعرف معنى «إيديميلي»؟
كان قدح النبيذ بين شفتي «واكا» الذي هز رأسه برفق وقال: إن «إيديميلي» تعني عمود الماء أو الأساس .. تماما مثل قائمة هذا البيت التي تحمل السقف .. إن «إيديميلي» يتحكم في السحب الممطرة كي لا تتساقط .. «إيديميلي» يختص بالسماء؛ ولهذا فإنني أنا الكاهن الخاص به لا أبحث في أرض مكشوفة.
أومأ «واكا» برأسه مرة ثانية وأضاف: كل الأولاد في «أوموارو» يعرفون أن «إيزيديميلي» لا يبحث في أرض مكشوفة؛ ولهذا أيضا فإنني عندما أموت فلن يدفنوني في الأرض .. إن الأرض والسماء شيئان مختلفان .. ولكن كيف تم دفن كاهن «أولو» بنفس الطريقة؟ .. إن «أولو» لم يكن في نزاع مع الأرض، فحين صنعه آباؤنا لم يقولوا إن الكاهن الخاص به لا يجب أن يلمس الأرض، ولم يكن سوى «إيزولو» الأول الذي كان رجلا حسودا مثل «إيزولو» الحالي، وهو الذي طلب من شعبه أن يدفنوه مع القدامى، مما أصاب كاهن «إيديميلي» بالرهبة والفزع.
أومأ «واكا» برأسه مرة ثالثة في تعجب، وراح يضرب يدا بيد.
كان المكان الذي بنى المسيحيون فيه كنيستهم قريبا من أرض «إيزولو»، الذي كان جالسا في كوخه يفكر في الاحتفال بأوراق القرعة .. سمع أجراس الكنيسة وبدأ يفكر في ذلك الدين الجديد .. ساورته الشكوك ولم يكن يعرف فيما يفكر .. كان من الضروري حين مجيء الرجل الأبيض بكل قوته أن يتعلم بعض الناس أساليب دينه؛ ولذا فقد وافق على إرسال ابنه «أودوش» ليتعلم الدين الجديد .. أراد له أيضا أن يتعلم حكمة الرجل الأبيض التي عرفها عن «وينتابوتا»، والتي سمعها عن الآخرين من بني جنسه.
لكن «إيزولو» أصبح خائفا لكون الدين الجديد مثل الجذام .. صار يتحدث مع ابنه بقوة وعنف .. ابنه الذي كان يتغير يوما بعد يوم، وأصبح من العسير محاولة رده عن ذلك الدين .. ماذا يحدث لو تحققت نبوءة العرافين وسيطر الرجل الأبيض على الأرض والحكم؟
من الحكمة إذن أن يكون «أودوش» من بينهم.
هكذا كان يفكر «إيزولو» بينما جاء «أودوش» يرتدي قميصا أبيض ويحمل فوطة أعطوها له في المدرسة، وكان «وافو» بصحبته يتعجب من قميصه .. قدم «أودوش» التحية لأبيه ومضى؛ فقد كان اليوم هو صباح الأحد، وكانت الأجراس تواصل رنينها ذا النغمات الحزينة.
عاد «وافو» إلى الكوخ فسأل أباه عن معنى دقات الجرس.
هز «إيزولو» رأسه قائلا: تعني أن تترك اليام وجوزة اليام لتذهب إلى الكنيسة .. ذلك ما أخبرني به «أودوش».
استطرد «إيزولو» بعد تفكير واهتمام كبير: ذلك يعني أن يترك الناس اليام وجوزة اليام لينشدوا بعد ذلك أغنية الفناء، أليس كذلك؟
توقفوا عن الحديث إثر صياح واضطراب داخل البيت .. هرع «وافو» لرؤية ما يحدث بينما الأصوات قد زادت حدتها وصياحها، وانتبه «إيزولو» الذي لم يكن يهتم بصياح النساء .. عاد «وافو» سريعا وقال بأنفاس متقطعة: إن صندوق «أودوش» يتحرك!
كان الصياح والقلق أكثر حدة مما كان، وصوت «أكيوك» كالعادة كان أعلى الأصوات.
قال «إيزولو» ببطء وهدوء يوحيان بعدم الاهتمام: ماذا يعني أن صندوق «أودوش» يتحرك؟ - إنه يتحرك فوق الأرض. - أشياء غريبة تحدث هذه الأيام .. سوف يسمع الإنسان الكثير.
هكذا قال «إيزولو» ثم اتجه ناحية الباب الخلفي لكوخه نحو النساء المنبهرات .. لحق به «وافو»، وكانت «أكيوك» و«ماتيفي» أكثر المتحدثين، أما «أوجوي» أم «وافو» فكانت صامتة تضم كلتا يديها إلى بعضهما وترفعهما إلى السماء.
هرعت «أكيوك» نحو أبيها قائلة: تعال يا أبي لترى ما رأيناه. إن هذا الدين الجديد ...
قال «إيزولو»: اقفلي فمك ولا تتكلمي.
لم يكن «إيزولو» يرغب في أن يسأله أي شخص، وخاصة إحدى بناته، عن الحكمة في إرسال أحد أبنائه للالتحاق بالدين الجديد.
كان الصندوق الخشبي في الحجرة التي ينام فيها «أودوش» و«وافو» هو الصندوق الوحيد ذو القفل في أرض «إيزولو»، ولم يكن أحد من الناس يملك مثل ذلك الصندوق سوى أولئك الناس في الكنيسة، والتي كان يصنعها لهم بعض النجارين المتخصصين، وكانت لها قيمة كبيرة في «أوموارو».
لم يكن صندوق «أودوش» يتحرك، لكن شيئا ما بداخله هو الذي كان يتحرك بقوة وكأنه كان يناضل من أجل حريته.
وقف «إيزولو» أمام الصندوق مفكرا فيما يجب عمله .. يجب أن ينتظر قليلا حتى يتوقف الصندوق عن الحركة .. انحنى حاملا إياه إلى الخارج، وفر الأطفال والنساء إلى كل الاتجاهات.
كان «إيزولو» يحمل الصندوق بطول ذراعيه كقربان ذي شأن وهو يقول: سوف أرى .. سواء كان شيئا سيئا أو طيبا فسوف أرى.
لم يمض في سيره خلال كوخه، لكنه مضى ناحية مدخل الحائط الأحمر بلون الأرض، وتبعه ابنه الثاني «أوبيكا»، ثم وراءه بقليل «وافو»، وكان الأطفال والنساء يتبعونهم من بعيد والخوف يتملكهم .. نظر «إيزولو» إلى الخلف وسأل «أوبيكا» أن يأتي له بالفأس، وحين أصبح بعيدا عن أرضه وضع الصندوق على الرصيف، فأبصر «وافو» والنساء والأطفال .. قال لهم: عودوا جميعا إلى البيت .. إن الفرد الذي يسأل كثيرا يتلقى رصاصة في وجهه.
بادروا في طريق العودة، لكنهم توقفوا أمام الكوخ .. أحضر «أوبيكا» الفأس لأبيه الذي وضعه جانبا، وأرسله في طلب المنجل الذي يستخدمونه في اقتلاع اليام .. كانت الحركة داخل الصندوق قوية وعنيفة.
ربما كان «إيزولو» خائفا لكنه تناول المنجل من «أوبيكا» ووضع حافته الرفيعة بين الصندوق وغطائه، وعندما حاول «أوبيكا» أن يأخذ منه المنجل وبخه «إيزولو» قائلا: قف بعيدا .. ماذا تعتقد، ماذا تعتقد بشأن هذه الحركة داخل الصندوق؟ اثنان من الديوك؟
ثم أطبق أسنانه وهو يرفع الغطاء .. كان المشهد مرعبا، وتصبب الكاهن العجوز بالعرق .. ما شاهده «إيزولو» و«أوبيكا» كان كافيا لأن يفقد الإنسان بصره .. لم يقو «إيزولو» على الحركة، وسارع الأطفال والنساء بالمجيء.
كان «أنوسي» أحد جيران «إيزولو» مارا بالقرب منه فانضم إليهم ليرى، وسرعان ما تجمع حشد كبير من الناس لرؤية ذلك الثعبان الضخم المرهق راقدا داخل الصندوق.
قال «أنوسي»: ربما يكون ممنوعا من قبل الإله الكبير.
وقالت «أكيوك»: لقد أصابنا الاشمئزاز.
وعلقت «ماتيفي»: إذا كان هذا علاجا فلا بد أنه فقد تأثيره.
تساقط المنجل من يد «إيزولو» الذي صاح: أين «أودوش»؟
لكن أحدا لم يجب.
كرر سؤاله بصوت متعب: أين «أودوش»؟
أجاب «وافو»: لقد ذهب للكنيسة.
رفع الثعبان الضخم المقدس رأسه إلى حافة الصندوق، وبدأ يتحرك ببطء.
قال «إيزولو» وهو يلتقط الفأس: سوف أقتل الولد اليوم بيدي هذه.
كرر «أنوسي» قولته: ربما يمنع الإله الكبير مثل هذه الأشياء.
أجابه «إيزولو»: لقد قلت هذا.
بكت أم «أودوش»، وشاركتها النساء الأخريات، بينما راح «إيزولو» يعود ببطء إلى كوخه حاملا الفأس، ومضى الثعبان بعيدا في اتجاه الشجرة.
سأل «أنوسي»: «أوجوي» .. ما فائدة البكاء؟ أرسليه إلى أقربائك .. من حسن حظنا أن الثعبان لم يمت.
كان «أنوسي» في طريقه إلى «أومونيورا» لشراء بذور اليام من أحد أصدقائه، فقال لنفسه وهو يواصل سيره: إنه لمن حسن الحظ حقا أنه حي .. كنت أعرف ما سيحدثه هذا الدين الجديد في «أوموارو» .. ذلك الدين الذي يرتدي أصحابه قبعة فوق رءوسهم.
كان يتوقف في الطريق عند مقابلة أي شخص ليخبره عما فعله ابن «إيزولو»، وقبل موعد الظهر كانت الحكاية قد انتشرت حتى وصلت إلى «إيزيديميلي»، كاهن «إيديميلي»، صاحب الثعبان الملكي الضخم.
منذ خمس سنوات كان «إيزولو» قد وعد الرجل الأبيض بإرسال أحد أبنائه إلى الكنيسة، لكنه لم يف بوعده إلا بعد ثلاث سنوات؛ لأنه كان يريد التأكد من أن الرجل الأبيض لم يأت في زيارة قصيرة، ولكن لبناء المنازل والعيش مدة طويلة.
لم يكن «أودوش» في بادئ الأمر يرغب في الذهاب إلى الكنيسة، فدعاه «إيزولو» إلى كوخه، وتعامل معه كرجل يتحدث إلى صديقه العزيز .. فرح «أودوش» وأحس بالفخر الشديد؛ فلم يحدث من قبل أبدا أن سمع أي شخص يتحدث مع «إيزولو» كنظير له، وعندئذ لم يتردد في الذهاب إلى الكنيسة.
قال «إيزولو» لابنه: العالم يتغير من حولنا، وأنا لا أحب ذلك، لكنني أحب طائر «الأوبا» الذي سأله أصدقاؤه عن سبب طيرانه الدائم فأجابهم بأن رجال اليوم تعلموا الرماية دون أن يفقدوا شيئا، وأنه تعلم الطيران دون الركوع .. أريد أن يختلط أحد أبنائي بأولئك الناس ليكون رسولي عندهم .. إذا لم يكن لديهم ما يستحق فسوف تعود، وإذا كان ثمة شيء فسوف تخبرني به .. إن العالم يا بني مثل رقصة القناع، وإذا أردت معرفة العالم جيدا فلا تقف في مكان واحد .. إن إحساسا يتملكني بأن أولئك الذين يرفضون صداقة الرجل الأبيض اليوم سيقبلون غدا.
كانت «أوجوي» قلقة بشأن اختيار ابنها ليكون ضحية للرجل الأبيض.
حاولت كثيرا مع زوجها، لكنه كان عنيفا معها.
قال لها: وما شأنك بما أفعله مع ابني؟ أنت لا ترغبين في انضمام «أودوش» للكنيسة واتباع الأساليب الجديدة .. يجب أن تعلمي أنه في بيت الرجل العظيم يجب أن يكون هناك من يتبع كل أنواع الأساليب الغريبة .. الطيبون والأشرار موجودون في كل مكان، وكذلك الشرفاء واللصوص وصانعو السلام وصانعو الحروب .. مهما كانت الموسيقى التي تعزفينها بطرق الطبول فلا بد من وجود شخص ما يستطيع الرقص عليها.
تعلم «أودوش» بسرعة وبدأ يفكر في اليوم الذي يتحدث فيه بلغة الرجل الأبيض مثل أساتذته، ومثلما يتحدث السيد «مولوكو» مع السيد «هولت» عندما يزور الكنيسة.
كان «بلاكيت» المرسل للتبشير من غرب الهند ذا تأثير كبير على «أودوش»؛ فبالرغم من كونه ملونا إلا أن معرفته كانت تفوق الرجل الأبيض.
قال «أودوش»: لو أنني أعرف القليل جدا مما يعرفه «بلاكيت» لأصبحت رجلا عظيما في «أوموارو».
تقدم «أودوش» تقدما ملحوظا، وكان محبوبا من أستاذه ومن أعضاء الكنيسة، وكان أصغر الذين اهتدوا إلى الدين الجديد. كان في حوالي الخامسة عشرة من عمره، وقد تنبأ له الأستاذ «مولوكو» بمستقبل عظيم، وقبل انتقاله إلى «أوكبيري» كان يعمل على تعميده.
كان الأستاذ الجديد رجلا من دلتا النيجر يتحدث الإنجليزية وكأنها لغته الأصلية، وكان اسمه «جون جود كنتري»، حكى لهم عن المسيحيين في دلتا النيجر الذين حاربوا العادات السيئة لشعبهم، وحطموا أصنامهم ومقدساتهم، وأخبرهم عن قريبه «جوزوا هارت» الذي عانى من الاستشهاد، وقال: يجب علينا كمسيحيين أن نكون دائما على استعداد للموت في سبيل الإيمان .. يجب أن نستعد لقتل الثعبان الضخم؛ فأنتم تعتبرونه إلها رغم أنه لا شيء سوى ثعبان، الثعبان الذي خدع أمنا حواء. وإذا كنتم خائفين من قتله فلا تحسبوا أنفسكم مسيحيين.
كان «جوزيا مادو» من «أومواجو» هو أول رجل من «أوموارو» قتل ثعبانا وأكله، ولم يعرف به سوى مجموعة قليلة من المسيحيين، لكن غالبيتهم قد رفضوا أن يفعلوا مثلما فعل «جوزيا»، وكانوا يتبعون «موسى أوناشوكو»، أول وأشهر المهتدين في «أوموارو».
كان «أوناشوكو» هو النجار الوحيد في كل أرجاء البلاد، وقد تعلم النجارة من مبعوث التبشير الأبيض الذي بنى مصنع «أونيتشا»، وكان في شبابه يعمل حمالا لمعدات الجنود المرسلين لتعمير «آبام»، وقد شاهد «أوناشوكو» أثناء تلك البعثة التأديبية أشياء كثيرة تعلم منها أن الرجل الأبيض ليس مجرد شيء للسخرية والضحك .. لم يعد إلى «أوموارو» بعد الانتهاء من مهمته معهم، وظل يعمل في مصنع «أونيتشا» حتى أصبح مساعدا للنجار المبعوث «جي-بي هارجرجريفز»، وقبل عودته إلى «أوموارو» كان قد أمضى عشر سنوات في أرض غريبة، عاد بعدها مع مجموعة من المبشرين نجحوا في تثبيت العقيدة الجديدة في نفوس الناس، بعد أن فشلوا مرتين في أوقات سابقة .. كان «أوناشوكو» يرجع ذلك النجاح إلى نفسه.
كان النجار الوحيد في البلاد؛ ولهذا فقد بنى الكنيسة الجديدة في «أوموارو» بمفرده، وأصبح واعظا بروتستانيا وحارسا للقس الذي لم يكن موجودا في «أوموارو» قبل ذلك، وكان يعقد كثيرا من الجلسات في الكنيسة الجديدة لاقت احتراما كبيرا من الناس، حتى إن السيد «مولوكو» كان يستشيره في كل ما يفعل، على عكس ما كان يفعل مع السيد «جود كنتري» الذي كان يحاول جاهدا تجاهله .. لم يكن «موسى أوناشوكو» رجلا يمكن تجاهله ببساطة.
كانت أحاديث السيد «جود كنتري» عن الثعبان المقدس هي أول شيء أتاح الفرصة ل «موسى» في أن يتحداه علانية ليس فقط بالرجوع إلى الكتاب، بل أيضا إلى أساطير شعب «أوموارو»، وكان ذلك مثار دهشة المهتدين .. تحدث بقوة واقتناع عن قدومه من القرية التي تحمل قداسة «إيديميلي» .. كان «موسى أوناشوكو» يعرف ما لا يعرفه الآخرون عن ذلك الثعبان الضخم، بالإضافة إلى إقامته في «أونيتشا» مصدر الدين الجديد، التي زودته بمزيد من المعلومات عن الكتاب المقدس وزودته بالثقة.
قال للأستاذ الجديد بشيء من الحدة: لا يوجد في الكتاب المقدس ولا حتى في كتاب الطقوس الدينية ما ينص على قتل الثعبان .. إنه الوحش مفعم بالتفاؤل المريض.
وسأل: أليست هناك حكمة في أن الله وضع اللعنة في رأسه؟ ثم جاء به فجأة إلى «أوموارو» .. يوجد اليوم ست من القرى في «أوموارو»، وقد قال لنا آباؤنا إنهم كانوا سبعا من قبل، وكانت القرية السابعة تدعى «أومواما».
أومأ بعض المهتدين برءوسهم موافقين بينما كان السيد «جود كنتري» يستمع بنفاد صبر وازدراء.
استطرد «أوناشوكو»: ذات يوم قام ستة من الأخوة بقتل الثعبان الكبير في «أومواما»، وطلبوا من أحدهم ويدعى «أيويكا» استخدامه في صنع حساء اليام المركز .. أحضر كل منهم قطعة من اليام وطاسة من الماء إلى «أيويكا»، وبعد انتهائه من طهي حساء اليام تقدموا واحدا بعد الآخر لتناول نصيبهم، وبدءوا في ملء طاساتهم، لكن أربعة منهم فقط حصلوا على نصيبهم، وانتهى الحساء.
ابتسم المستمعون فيما عدا السيد «جود كنتري» الذي كان جالسا كالصخرة.
ابتسم «أودوش» لسماعه هذه القصة في الماضي من ولد صغير ، وكان قد نسيها .. هز «أوناشوكو» رأسه مواصلا: تشاجر الأخوة شجارا عنيفا، وتقاتلوا بشدة، وسرعان ما انتشرت أخبار القتال خارج «أومواما»، ومن ظل منهم حيا فر هاربا من قريته عبر النهر الكبير نحو أرض «أولو» حيث هم منتشرون اليوم .. قال أحد العرافين إن الثعبان الملكي الضخم كان مقدسا ل «إيديميلي» الإله الذي عاقب «أومواما». ومنذ ذلك الحين يرى الناس في القرى الست أن من يقتل ثعبانا كأنه قتل أحد أقربائه.
راح «أوناشوكو» يحصي القرى والقبائل التي منعت قتل الثعبان فوق أصابعه، وانتهى من حديثه.
قال السيد «جود كنتري»: ليس من المناسب سماع مثل هذه القصة التي قمت بسردها هنا في بيت الله، ولكنني سمحت لك بالاستطراد حتى يعرف الجميع حماقة هذه القصة.
ساد التذمر وسط المجتمعين، ولم يعرفوا في جانب من يكونون.
نظر السيد «جود كنتري» إلى كل الحاضرين قائلا: سوف أترك الحكم إلى الناس الذي تنتمون إليهم.
لم يتحدث أحد. - ألا يوجد بينكم من يستطيع التعبير عن رأيه بحرية؟
كان «أودوش» جالسا بجوار «أوناشوكو» فرفع يده، ثم سارع بإنزالها مرة ثانية، لكن السيد «جود كنتري» شاهده. - نعم. - ليس حقيقيا بأنه لا يوجد في الكتاب المقدس ما ينص على قتل الثعبان .. ألم يخبر الله آدم أن يسحق رأس الثعبان بعد أن خدع زوجته؟
صفق كثير من الحاضرين. - هل تسمع يا «موسى»؟
أوشك «موسى» على الإجابة، لكن السيد «جود كنتري» قاطعه قائلا: تقول بأنك أول مسيحي في «أوموارو»، وأنك شاركت في الوجبة المقدسة، وحين تفتح فمك فلا شيء يخرج منه سوى بعض القذارات الوثنية، وها هو طفل يرضع من ثدي أمه يعلمك الكتاب المقدس .. لقد قال الرب إن الأول سيصبح الأخير ويصير الأخير في المقدمة .. إن العالم سينتهي، لكن كلمة واحدة من الرب لن تضيع هباء.
ثم اتجه ناحية «أودوش» وقال: عندما يحين موعد تعميدك سيكون اسمك «بيتر»، وفوق هذه الصخرة سوف أبني كنيستي.
ومن أحد الجوانب ارتفع التصفيق، وأصبح «موسى» أكثر حماسا حين قال: هل هو مجرد شخص يستطيع أن تضعه في حقيبتك وتمضي بعيدا؟ .. لقد كنت على رأس هذا الدين الجديد ورأيت بعيني الرجل الأبيض وهو يأتي بهذا الدين، وأود أن أخبرك الآن أنني لن أضل بواسطة الآخرين ممن يبكون ويصرخون أكثر من أصحاب المتوفى .. أنت لست أول مدرس أراه أو الثاني أو الثالث، فإذا كنت حكيما فسترفع يديك عن الثعبان، وتذكر بأنني أخبرتك بهذا، ولن يتقدم لك أحد هنا بالشكوى لأن الثعبان وقف في طريقه وهو قادم إلى الكنيسة .. إذا شئت أن تنجز عملك في سلام فلا بد أن تفهم كلامي، أما إذا أردت أن تكون سحلية تخرب جنازة أمها فعليك أن تتحمل ما تفعل.
ثم قال ل «أودوش»: وفيما يتعلق بكونهم سيدعونك «بيتر» أو «بول» أو «بارناباس» فذلك لا يثيرني أبدا، وليس عندي ما أقوله لولد لا يتعدى كونه ولدا، أما إذا أصبحت مدرسا في يوم ما فسأكون في انتظار اليوم الذي تملك فيه الشجاعة لقتل الثعبان في «أوموارو» هذه .. إن الجبان يتكلم كثيرا وإذا ما حان موعد القتال فإنه يفر بعيدا.
كان «أودوش» في تلك اللحظة قد اتخذ قراره .. كان ثعبان صغير وآخر كبير يعيشان في كوخ أمه عند قمة الحائط الذي يستند عليه السقف .. لم يتسبب الثعبانان في أي أذى، ولم يقربا الفئران إلا مرة واحدة أحسا فيها بالخوف، فابتلعا بيض الدجاجة .. قرر «أودوش» أن يضرب واحدا منهما في رأسه بعصا غليظة، ويجب أن يخطط لذلك في سرية كاملة حتى يعتقد الناس أنه مات من تلقاء نفسه .. مضت أيام ستة قبل أن يجد «أودوش» اللحظة المناسبة، وطوال هذه الفترة كان قلبه يخفق، وفقد بعضا من عزيمته، ثم قرر أن يضرب الثعبان الأصغر، دفعه أسفل الحائط بالعصا، وخيل إليه أنه يسمع وقع أقدام فلم يستطع أن يحطم رأسه، وكان مضطرا إلى قتله بسرعة حتى لا يراه أحد، ثم التقطه بسرعة شديدة، كما كان يرى جارهم «أنوسي»، وحمله إلى حجرة نومه، وبعد تفكير قليل فتح الصندوق الذي صنعه «موسى» له، وأخرج الفوطة والصديري، ثم وضع الثعبان داخل الصندوق ، وأغلق عليه. وعندئذ شعر براحة كبيرة وبقدر من السعادة والرضا حين فكر قائلا لنفسه: إن الثعبان سيموت لنقص الهواء، وسيكون هو المسئول عن موته، فلا ينتابني الإحساس بذنب القتل.
كان «إيدوجو» أول أبناء «إيزولو» قد غادر البيت مبكرا هذا اليوم للانتهاء من صنع قناع روح الأسلاف الجديد؛ فلم يعد باقيا على الاحتفال بأوراق القرعة سوى خمسة أيام فقط .. ذلك الاحتفال الذي يتوقعون فيه عودة الروح من أعماق الأرض على هيئة قناع .. كانوا متشوقين للقناع الذي يصنعه «إيدوجو» .. كان يوجد صناع آخرون للقناع في «أوموارو»، وبعض منهم كان أفضل من «إيدوجو»، لكن سمعته كانت طيبة؛ فهو ينتهي من عمله في الموعد المحدد، وهذا ما لم يكن يفعله «أوبياكا» الذي يعد أحسن من يصنع القناع .. كان العمل في القناع مختلفا؛ فلا يستطيع «إيدوجو» أن يصنعه في البيت أمام تحديق النساء والأطفال، ولكنه يحتاج للعزلة في منزل الأرواح المشيد خصوصا لذلك العمل في أحد الأركان من سوق «كوا»؛ حيث لا يجرؤ أحد ممن لا يعرفون سر القناع على الاقتراب.
كان الكوخ مظلما بالداخل لكن العين سرعان ما تتعود عليه .. أمسك «إيدوجو» بقطعة الخشب البيضاء ثم شد حقيبته المصنوعة من جلد الماعز، والتي يحمل فيها أدواته، ودون الحاجة إلى العزلة كان «إيدوجو» يرى هذا الكوخ مناسبا لنحت الأقنعة .. كان كل ما حوله عبارة عن أقنعة قديمة وبعض علامات أرواح الأسلاف، وكانت معظم الأقنعة لأرواح عنيفة وشريرة ذات قرون وأسنان بحجم الأصابع، غير أن أربعة كانوا يصنعون أقنعة أرواح الفتيات، وكانت هذه الأقنعة جميلة جدا .. ابتسم «إيدوجو» عندما تذكر زوجة «وانينما»، التي أخبرته بغيرتها الشديدة من روح الفتاة التي تنافسها.
كان الضوء قريبا من الباب حيث جلس «إيدوجو» وبدأ في العمل .. توقف فجأة واسترق السمع فسمع صوتا مألوفا لديه جدا. إنه «أنوسي» أحد جيرانهم .. ظل «إيدوجو» يستمع ثم نهض صوب الحائط القريب من مركز السوق، واستطاع حينئذ أن يسمع بوضوح .. كان «أنوسي» يتحدث إلى رجلين أو ثلاثة آخرين وكان يقول: نعم .. لقد كنت هناك ورأيت بعيني ولم أصدق .. رأيت الصندوق مفتوحا وبداخله الثعبان الكبير.
قال أحد الآخرين: لا تقل ذلك مرة ثانية؛ فلا يمكن أن يكون ذلك حقيقيا. - هكذا قالوا جميعا، ورغم أن أحدا لم يصدق إلا أنني شاهدت بعيني .. اذهبوا الآن إلى «أومواشالا» لتروا أن القرية كلها في حالة اضطراب. - إن «إيزولو» سيجلب ل «أوموارو» امرأة حاملا وطفلا رضيعا في نفس الوقت. - لقد سمعت أشياء كثيرة، لكنني لم أسمع أبدا بمثل تلك الكراهية والاشمئزاز.
كان «إيزولو» في حالة سيئة لحظة وصول «إيدوجو» إلى البيت، ولم تكن حالته هذه بسبب «أودوش» بقدر ما كانت بسبب الجيران ذوي الوجهين وأولئك العابرين الذين يخفون تحت كلماتهم المتعاطفة حقدا في قلوبهم .. كان «إيزولو» يكره من يشفق عليه، وظل الغضب بداخله حتى تفجر عند دخول آخر مجموعة من النساء لرؤية زوجاته؛ فقد كن كمن جئن للعزاء.
سمع صيحاتهن: أي .. ي .. ماذا سنفعل لأطفال الغد؟
أسرع نحوهن وأمرهن بالرحيل قائلا: إذا رأيت أي واحدة منكن هنا بعد عودتي فستجدونني رجلا شريرا. - وما الخطأ الذي ارتكبناه؟ .. لقد جئنا لمساعدة امرأة أخرى. - ارحلن فورا من هنا.
هرعن إلى الخارج: سامحنا .. لقد أخطأنا.
أخبره «إيدوجو» بما سمع في السوق، فازداد غضب «إيزولو»، وعندما انتهى «إيدوجو» من سرد القصة سأله «إيزولو»: وماذا فعلت عند سماعك ما قالوا؟ - ماذا كان ينبغي أن أفعل؟
كان «إيدوجو» مندهشا، وكان صوت «إيزولو» ينبئ عن الغضب، فقال موجها حديثه إلى لا أحد: آه .. إن ابني الأول يسمع من يقول إن أباه قد تسبب في الكراهية، ثم يسألني ما كان ينبغي عليه أن يفعل .. عندما كنت في مثل عمرك كنت أعرف ما أفعله .. كنت بالطبع قد حطمت رأس الرجل بدلا من الاختفاء في بيت الأرواح.
غضب «إيدوجو» لكنه أمسك لسانه وهو يقول: عندما كنت في مثل عمري لم يرسل جدي أحد أبنائه لعبادة إله الرجل الأبيض.
ثم توجه إلى كوخه مفعما بالمرارة، وقد اعتراه الندم لتركه العمل في القناع ومجيئه إلى هنا من أجل الإهانة.
فكر «إيزولو» قائلا: أنا ألوم «أوبيكا» أحيانا من أجل طبعه الحاد، لكن هذا الطبع الحاد أفضل كثيرا من هذا الرماد البارد.
مال للوراء، وأسند رأسه على الحائط، وبدأ يصر أسنانه ويقول: كان يوما سيئا بالنسبة لرئيس الكهنة .. عند غروب الشمس جاء لزيارته رجل شاب من «أومونيورا»، لكن «إيزولو» لم يقدم له جوزة الكولا بسبب العداء بين قرية «إيزولو» و«أومونيورا»، حتى لا يشعر الرجل بالمغص ويرجع ذلك إلى ضيافة «إيزولو».
لم يتردد الرجل في تبليغ رسالته: لقد أرسلني «إيزيديميلي». - حقا؟ إنني واثق أنه بخير، أليس كذلك؟ - إنه بخير، وفي نفس الوقت هو ليس على ما يرام.
انتبه «إيزولو» وقال: أنا لا أفهمك .. إذا كنت قد جئت لتبلغني بشيء ما فأسرع بتبليغ رسالتك؛ لأنني لا أملك الوقت الكافي لسماع ولد يتكلم بالألغاز.
تجاهل الرجل الشاب الإهانة ثم قال: إن «إيزيديميلي» يود لو يعرف ما تنوي عمله بشأن ما تسببت فيه من كراهية واشمئزاز في بيتكم.
قال رئيس الكهنة ممسكا بكلتا يديه في غضب: بماذا أخبرك؟ - هل أكرر ما قلت؟ - نعم. - حسنا، إن «إيزيديميلي» يريد معرفة ما تنوي عمله إزاء الكراهية التي تسبب فيها ابنك. - أخبر «إيزيديميلي» عند عودتك أن يأكل الخراء .. هل تسمعني؟ أخبره أن «إيزولو» سيذهب ويملأ فمه بالخراء .. أما أنت أيها الشاب فاذهب في سلام؛ لأن العالم لم يعد كما كان وإلا كنت قد فعلت بك ما يذكرك دائما باليوم الذي وضعت فيه رأسك في فم النمر.
أراد الشاب أن يقول شيئا، لكن «إيزولو» استطرد قائلا: اسمع نصيحتي، ولا تقل شيئا آخر.
نهض «إيزولو» مهددا، وسارع الشاب بالمغادرة.
الفصل الخامس
نظر الكابتن «وينتربوتوم» إلى المذكرة التي أمامه بتركيز وانفعال ونوع من الازدراء .. كانت المذكرة قد انتقلت إليه من الحاكم عبر المندوب السامي، ثم ضابط المقاطعة الكبير، اللذين أضافا على المذكرة تعليقهما الخاص .. غضب الكابتن «وينتربوتوم» مما أضافه ضابط المقاطعة لما رآه من توبيخ، في محاولة لإعاقته، فقال بينه وبين نفسه: لو أن شخصا آخر فعل ذلك لما غضبت؛ لأنني متقدم على «واثينسون»، كما أنني أكبر منه بثلاث سنوات.
كثيرا ما قال «وينتربوتوم» لنفسه ولمساعديه: إن أي أحمق يستطيع أن يكون متقدما دون عمل أي شيء، وإنما بالمحاولة فقط، أما نحن المشغولين بأعمالنا فلا نملك وقتا للمحاولة.
أشعل غليونه وبدأ يسير في مكتبه الفسيح، الذي صممه بنفسه كي يتخلله الهواء، وبينما يواصل سيره جيئة وذهابا كعادته سمع لأول مرة غناء المساجين .. كانوا يقطعون العشب، وكم هو مدهش نمو العشب هكذا طويلا رغم عدم سقوط الأمطار إلا مرتين متتاليتين! .. توجه صوب النافذة وظل ينظر إلى المساجين فترة قصيرة، كان أحدهم يضرب بشيء يشبه قطعة الحجر في إناء فارغ ويغني منفردا بينما يقوم الآخرون بدور الكورس ويلوحون بأسلحتهم .. انتزع كابتن «وينتربوتوم» غليونه من فمه، ووضعه فوق عتبة النافذة، ثم وضع كلتا يديه فوق فمه، وصاح قائلا: سكوت، اخرسوا.
نظروا جميعا إلى أعلى وعرفوا من هو الصائح، ثم توقفوا عن الغناء .. كان الحارس واقفا بالقرب من ظلال شجرة المانجو، ففكر في أخذ رجاله إلى مكان آخر حيث لا يمكن إزعاج الضابط، ثم جمعهم في طابور، وأشار لهم بالتوجه إلى مكان آخر، كانوا يرتدون سترات بيضاء مصنوعة من قماش البافتا وقبعات كالجمجمة، فبدوا جميعا متشابهين .. اثنان منهم كانا يحملان القوارير فوق الرءوس، والمغني يمسك بإنائه والحجر الذي يضرب به، وسرعان ما بدءوا في الغناء من جديد فور وصولهم إلى المكان الجديد: «أنا أقطع العشب .. أنت تقطع العشب،
كلانا يقطع العشب،
فما هو حقك إذن في إهانتي؟»
عاود الكابتن «وينتربوتوم» قراءة المذكرة: «إن هدفي فيما سأقوله محدد .. إنه التأثير على المكاتب السياسية التي تعمل وسط القبائل، تلك القبائل التي تنقصها مهارة التطور .. إن الحكم غير المباشر يرتكز على المعاهد الوطنية والإدارة الوطنية أو القومية بالنسبة لعديد من الأمم الاستعمارية، نحن نسعى لتطهير النظام القومي من شوائبه لبناء حضارة عليا تسمو فوق الجذور القومية التي اكتسبت أفكارها من قلوب وعقول الشعب .. لا يجب أن ندمر البيئة الأفريقية أو العقل الأفريقي أو أصل جنسه.» - كلمات، كلمات، كلمات، حضارة، عقل أفريقي، بيئة أفريقية .. هل أنقذ رجلا كان مدفونا إلى رقبته حيا وقطعة من اليام المحمرة فوق رأسه لجذب النسور؟
قال الكابتن «وينتربوتوم» ذلك، وبدأ في السير إلى الأمام وإلى الخلف مرة ثانية .. كان يعرف أنهم جميعا خائفون من فقدان الترقية.
دخل السيد «كلارك» قائلا: سأقوم بأول جولة في المنطقة.
ودون أن ينظر إليه كابتن «وينتربوتوم» كعادته دائما لوح بيديه وقال: رحلة سعيدة.
وقبل أن يهم «كلارك» بالمغادرة سارع في ندائه قائلا: عندما تكون في «أوموارو» حاول جاهدا - بدون أن يدري أحد - أن تراقب «رايت» وترى الطريق الجديد الذي يشرف عليه؛ فلقد سمعت حكايات بذيئة كالجلد بالسياط وأشياء أخرى يمارسها، ولا أريد إصدار حكم قبل معرفة الوقائع، وإلا فلن أستطيع اتهامه .. لقد ضاجع امرأة سوداء .. على أية حال سوف أراك في خلال أسبوع، اهتم بنفسك، ورحلة موفقة.
كانت مقاطعة «كلارك» له قد مكنته من العودة إلى الاطلاع على المذكرة، وقد خفت حدة غضبه، لكنه كان يشعر بالإجهاد .. كانت المأساة الكبرى في إدارة الاستعمار البريطاني في الرجل الذي يعرف أفريقيته، ويعرف ما يقول حيث تتسلط عليه الأعين، وتتبعه إلى مركز القيادة.
كانوا منذ ثلاث سنوات يضغطون على كابتن «وينتربوتوم» لاختيار الرئيس المفوض ل «أوكبيري». وبعد مباحثات طويلة اختار «جيمس إيكيدي» الذكي، كي يقوم بالتعليم الخاص بالتبشير في تلك الأجزاء .. ولكن ما الذي حدث؟ .. سمع «وينتربوتوم» بعد ثلاثة شهور بعض الأقاويل عن هذا الرجل الذي تسلم التفويض .. لقد أقام حكما غير شرعي وسجنا خاصا، وكان يتزوج من امرأة جميلة دون أن يدفع لها المهر المألوف.
عرف كابتن «وينتربوتوم» كل شيء، وتجاهل كثيرا من الفضائح الخطيرة، ثم قرر أن يتركه في منصبه ستة شهور أخرى، يبدأ بعدها في سحب تفويضه تدريجيا، لكن المندوب السامي كان قد عاد حديثا من الخارج ولم يكن يعرف شيئا عن تلك الأحداث، فأعاده إلى منصبه وسرعان ما عاود فضائحه.
كانوا في ذلك الوقت يعملون في الطرق والمصارف والمجاري بعد انتشار مرض الجدري الوبائي، وكانت سمعة «جيمس إيكيدي» سيئة حتى لقبوه برئيس العمال السكير، وكان أهل البلد يدعونه بالمدمر .. كانت خطة الطرق والمجاري قد اكتملت منذ زمن طويل، ووافق الكابتن «وينتربوتوم» بنفسه دون التدخل مع الناس في شئون أرضهم وبيوتهم، لكن هذا الملاحظ راح يثير الخوف في قلوب الفلاحين بقوله إن الطريق الجديد سيتخلل أراضيهم وبيوتهم، ولم يكن يتوقف عن تهديده إلا بعد أن يأخذ منهم نقودا، وكان من لا يملك مالا يقترض من أحد جيرانه؛ فقد كانوا يعتقدون أن تلك أوامر الرجل الأبيض، وفي بعض الأحيان كانوا يبيعون الماعز أو اليام، فيأخذ الملاحظ ضريبته، ثم ينتقل لأخذها من مكان آخر، وكان حريصا على اختيار القرى الغنية.
عندما كانوا يتأخرون في الدفع كان يقوم بهدم ثلاثة أو أربعة من البيوت رغم بعد المسافة بين هذه البيوت وبين العمل في الطريق والمجاري. وهكذا فقد حصل رئيس العمال «إيكيدي» على قسط كبير من الأموال الحرام.
التمس كابتن «وينتربوتوم» العذر ل «إيكيدي» .. إنه رجل من عشيرة أخرى، ويعتبرونه أجنبيا، ولكن كيف يغفر لرجل من نفس الدم.
كانت القسوة العنصرية تجعل أصحاب البلد الأصليين غير قادرين على فهم الرجل الأبيض كما يجب أن يفهموه.
عندما بدأ الكابتن «وينتربوتوم» في التحقيق كان من الصعب اتهام الملاحظ «إيكيدي»؛ فقد كان رجلا ذكيا، ولم يستطع الكابتن في ذلك الحين النيل منه، ولكنه كان واثقا من النيل منه في يوم ما وإصدار حكم عليه بالعقوبة ثمانية عشر شهرا.
كان «وينتربوتوم» متأكدا من أن الملاحظ «إيكيدي» لم يزل فاسدا ومرتشيا، بل إنه أصبح أكثر مهارة وذكاء عما قبل؛ فلقد جعل الناس تعامله كملك، حتى إنهم كانوا ينادونه «إيكيدي الأول» .. ملك «أوكبيري» .. حدث هذا بين قوم يكنون الكراهية للملوك. وهكذا كانت الإدارة البريطانية تصنع كثيرا من الملوك الوهميين.
واصل كابتن «وينتربوتوم» قراءة المذكرة .. هناك ما يستطيع عمله لإيقاف ذلك الانحراف .. لقد ضحى بفرصته في الترقية من أجل ضميره، حتى أصبحت كل دفعته من الضباط في قائمة الرؤساء، بينما لم يصل هو بعد إلى ضابط المقاطعة الرئيسي .. سيحاول البحث عن الكاهن، الشاهد الوحيد الذي سانده في أحقية إعطاء الأرض ل «أوكبيري» ونطق بالحقيقة .. ترى هل ما زال على قيد الحياة؟
تذكر كابتن «وينتربوتوم» أنه شاهده مرة ثانية أو مرتين أثناء جولاته الروتينية في «أوموارو» .. نعم، لكن ذلك كان منذ سنتين.
الفصل السادس
كان «إيزولو» أول من اعترف بخطورة ما ارتكبه ابنه إزاء الثعبان المقدس، ولم يكن يضايقه هذا التصرف من ابنه بقدر ما ضايقه الجيران والأقارب، وخاصة تلك الرسالة الوقحة التي جاءته من كاهن «إيديميلي»، التي كان لها أثر كبير في قراره بالتصدي لهم جميعا.
قال «إيزولو»: إن ما حدث شيء طيب؛ فها نحن قد استطعنا أن نعرف ما يفكر فيه أصدقاؤنا وجيراننا. إننا لا نستطيع رؤية أرداف الدجاجة دون أن تهب الريح.
أرسل في طلب زوجته وسألها: أين ابنك؟
ضمت ذراعيها فوق صدرها ولم تجب بشيء .. كانت في اليومين الماضيين مستاءة من زوجها؛ لأنه أرسل «أودوش» إلى الكنيسة رغم معارضتها، فلماذا يلومه الآن وقد فعل ما علموه في الكنيسة. - هل تسمعينني؟ - أنا لا أعرف مكانه.
ضحك بافتعال وسخرية وهو يقول: لا تعرفين؟ .. هو .. هو .. هو .. كان من الأجدر لك أن تقولي إن من يأتي بكومة من الذباب إلى بيته لا يجب أن يشكو إذا قامت بزيارته السحالي .. أنت على حق، وهذا أفضل من القول بأنك لا تعرفين مكان ابنك. - هل أصبح الآن ابني؟
تجاهل سؤالها وقال مستطردا: أنت تكذبين لأنك تعرفين مكانه. عليك باستدعائه من حيث قمت بإخفائه؛ فأنا لم أقتل أحدا من قبل، ولن أبدأ بابني. - على ألا يذهب إلى الكنيسة مرة أخرى. - هذه أكذوبة أخرى .. لقد قلت أن يذهب وسوف يذهب. وإذا لم يرغب أي شخص في ذلك فعليه أن يأتي ويقفز فوق ظهري.
عاد «أودوش» في المساء، وبدا كالدجاجة التي غرقت تحت الأمطار، وسارع بتقديم التحية لأبيه وهو خائف، لكن «إيزولو» تجاهله تماما، ورحبت به المرأة بفتور، بينما تجمع الأطفال الصغار حوله، وخاصة «أوبياجيلي»، وراحوا يتفحصونه عن قرب خوفا من كونه قد تغير بشكل ما.
لم يشأ «إيزولو» أن تظهر عليه علامات التعب حتى لا يشفق عليه أحد، لكنه لم يتجاهل الدافع الديني لما فعله «أودوش» .. لقد فكر كثيرا في هذه الحادثة ليلة وقوعها .. إنه لمن عادات «أوموارو» أن ينظموا جنازة مثل جنازة الإنسان للثعبان المقتول، ولكن لا يوجد شيء في عادات «أوموارو» عن الرجل الذي يضع ثعبانا في صندوق .. اعترف «إيزولو» بخطورة الحدث، لكنه لم يكن بهذه الدرجة من الأهمية والخطورة حتى يبعث له كاهن «إيديميلي» تلك الرسالة البذيئة، التي اعتبرها «إيزولو» من نوع الإهانات الخاصة بالإله .. كان الاحتفال الجديد بأوراق القرعة بعد أيام قليلة، وعلى «إيزولو» أن يصلح الأمر قبل موسم الزرع.
بعد عودة «أودوش» بوقت قصير حضر أحد أقرباء «إيزولو» من «أوموجوجو» للزيارة، وكان هو «أونوزوليجبو»، الذي جاء من قبل في أحد مواسم الزرع للإصلاح بين قريبه وبنت «إيزولو».
قال «إيزولو»: يبدو وكأن موتي قد أوشك! - لماذا يا قريبي .. هل أبدو مثل الموت؟ - عندما يرى الإنسان شيئا غير مألوف يكون الموت قادما في الطريق. - أنت على حق يا نسيبي .. لقد مضى وقت طويل منذ جئت لزيارتك آخر مرة، لكن صغار الفئران لا تجرؤ على فتح أعينها حين يقتلون أمهم، أما إذا كان كل شيء على ما يرام فإننا نأمل أن نعود ونتبادل الزيارات كما يجب أن يفعل الأقرباء.
أرسل «إيزولو» ابنه «وافو» لإحضار جوزة الكولا من عند أمه، وذهب نحو الطاسة الخشبية الصغيرة المليئة بالطباشير، فقال للضيف: ها هي قطعة من الطباشير.
تناول الضيف قطعة الطباشير، ورسم بين قدميه على الأرض ثلاثة خطوط رأسية وخطا مائلا يصل بينهما ثم رسم أحد أصابع قدمه الكبيرة وأعاد الطباشير إلى «إيزولو» الذي ألقى به بعيدا.
تناولا جوزة الكولا، ثم قدم «أونوزوليجبو» الشكر ل «إيزولو» قائلا: هل زوجتنا بخير؟ - زوجتكم؟ .. نعم، إنها بخير ولا ينقصها شيء سوى مشاهدتكم .. «وافو»، اذهب وأحضر «أكيوك» لتحية قريب زوجها.
عاد «وافو» بسرعة وقال: كانت في طريقها إلى هنا.
قدمت التحية لأبيها، وصافحت «أونوزوليجبو» قائلة: كيف حال زوجتك «إيزنما»؟ - إنها اليوم بخير، أما عن الغد فلا أستطيع أن أتكهن. - وأطفالها؟ - كل شيء على ما يرام.
عادت «أكيوك»، ثم قال «أونوزوليجبو» ل «إيزولو»: جئت لأخبرك أنهم يرغبون في زيارتك صباح الغد.
فقال «إيزولو» سيجدونني؛ فلن أهرب من بيتي. - لن نحاربك، وإنما سنأتي من أجل التشاور مع نسيبنا وقريبنا.
أصبح «إيزولو» فرحا لهذه الزيارة بعد أسبوع مليء بالمتاعب والغضب، ثم أرسل في طلب زوجته الأولى «ماتيفي»، وقال لها: كوني مستعدة لإحضار الطعام غدا لأقربائي. - أي أقرباء؟ - زوج «أكيوك» وأهله. - لا يوجد مينهوت
1
في كوخي، واليوم ليس يوم سوق.
سألها «إيزولو»: وماذا تريدينني أن أفعل؟ - لا شيء، ولكن ربما تحتفظ «أكيوك» ببعض المينهوت. - يجب أن أضع حدا لجنونك هذا؛ فأنت تطلبين مني أن أحضر لك المينهوت .. ماذا تفعل به «أكيوك»، هل هي زوجتي؟ قلت لك مرارا إنك امرأة شريرة، ولا تفعلي شيئا عن طيب خاطر إلا إذا كان هذا الشيء لنفسك أو لأطفالك، لا تجعليني أفكر فيما يجب أن أفعله بشأنك.
توقف عن حديثه ثم أضاف: إذا شئت أن يتسع هذا البيت لكلينا فاذهبي وافعلي ما قلت لك .. أنت تعلمين جيدا لو أن أم «أكيوك» ما زالت تعيش لما فرقت بين أطفالها وأطفالك .. ابتعدي من هنا قبل أن أنهض على قدمي.
كان «إيزولو» قلقا لعودة «أكيوك» إلى زوجها، ولم يستطع أن يخفي قلقه، فقال لزوج ابنته وأهله: إنه لمن حق الرجل؛ أي رجل، أن يعيد زوجته لبيته؛ ولكنني أود أن أذكركم بأنها تعيش معي منذ بدأنا زرع المحاصيل؛ أي منذ عام مضى، فهل أحضر لكم اليام أو جوز اليام أو المينهوت لإطعامها هي وأطفالها؟
ثم نظر إلى زوج «أكيوك» وقال مستطردا: أم أنك تعتقد بأنهم ما زالوا يعيشون على الإفطار الذي تناولوه في بيتك في العام الماضي؟
شعر «أيب» وأهله بالغموض، وعلت صيحات الاعتذار.
قال «إيزولو»: ما أريد معرفته هو كيف أنكم ستعوضونني عن الاهتمام بزوجتكم طوال عام كامل؟
أجاب «أونوزوليجبو»: نسيبي .. إنني أفهمك جيدا، وأرجوك أن تترك كل شيء لنا؛ فأنت تعرف أن ديون الرجل تجاه حماه لا يمكن تجاهلها، عندما نشتري الماعز أو بقرة فإننا ندفع ثمنها لتصبح ملكا لنا، أما حين نتزوج امرأة فإننا نواصل الدفع حتى الموت. إذن فنحن مدينون لك، ونعرف بأن ديوننا أكبر بكثير مما تقول، لكننا نطلب منك بعض الوقت.
قال «إيزولو»: أوافقك، ولكنني لست مقتنعا.
كان «إيدوجو» و«أوبيكا» أكبر أبناء «إيزولو» موجودين إلى جانب أخيهما الأصغر الذي يدعى «أوكيك أونيني»، ولم يكن «أوكيك» قد تحدث إلا قليلا، فقرر أخيرا أن يتكلم وقال: أقربائي، أحييكم .. أنا لم أقل شيئا لأن أحدا لم يدعني للكلام، لكنني كنت أصغي جيدا لما تقولون، ويؤسفني أنكم لم تقولوا شيئا مهما .. إن اختلاف أسباب الزواج من اختلاف الناس، كما أن جميعنا نتزوج من أجل الأطفال الذين نريدهم ونحبهم، لكن بعض الرجال يتزوج من أجل أن تعد لهم المرأة طعامهم، والبعض لكي تساعده زوجته في المزرعة، وآخرون يريدون امرأة من أجل ضربها، وما أريد سماعه الآن من أفواهكم الإجابة على هذا السؤال: هل جاء قريبي لأنه لم يجد من يضربه عندما كان يستيقظ من نومه في الصباح؟
وعد «أونوزوليجبو» أمام أهله بأن أحدا لن يضرب «أكيوك» في المستقبل، ثم أرسل «إيزولو» في طلبها وسألها؛ هل تريدين العودة لزوجك؟
ترددت قليلا ثم قال: نعم، أريد، إذا كنت أنت راضيا.
قال «إيزولو»: أقربائي، أحييكم .. ستعود «أكيوك»، ولكن ليس اليوم؛ فسوف تحتاج بعض الوقت لتكون جاهزة .. اليوم هو «أوي»، وستعود إليكم في مثل هذا اليوم بعد أسبوعين، ولتتعاملوا معها بشكل حسن؛ فليس من الشجاعة في شيء أن يضرب الرجل زوجته .. أعرف أن الرجال دائما يتشاجرون مع زوجاتهم، ولا عيب في ذلك؛ فالإخوة والأخوات يتشاجرون، تشاجروا ولكن ليس إلى حد القتال .. هذا كل ما في الأمر.
تقدم «إيزولو» بالشكر العميق ل «أولو»؛ لأنه كان سببا في الإصلاح بين «أكيوك» وزوجها .. كان «إيزولو» متأكدا أن «أولو» فعل ذلك حتى يتفرغ لتطهير القرى الست قبل موسم الزرع.
جاء مساعدوه الستة، فأرسل كل منهم إلى قريته، للإعلان عن عيد أوراق القرعة، الذي سيكون يوم «كوا» القادم.
كانت «أوجوي» تقوم بإعداد طعام العشاء ما زالت، ودائما ما كانت تتأخر في تجهيز الطعام مثل «ماتيفي»، التي كثيرا ما وبخها «إيزولو»، إلا أن «أوجوي» تستحق أكثر من التوبيخ، غير أنها كانت أكثر حكمة من الزوجة الأولى.
كانت ابنتها «أوبياجيلي» و«كيتشي» أخت «أكيوك» تقصان الحكايات، وكان «وافو» جالسا فوق المقعد الطيني الصغير عند ركن الكوخ يراقبهن.
قلبت «أوجوي» الشوربة فوق النار، وقامت بتذوقها وهي تقول: اهدءوا يا أولاد، ودعوني أسمع ذلك الصياح.
جوم، جوم، جوم، جوم، أورا أويودو .. استمعوا .. أخبرنا «إيزولو» أن نعلن لكم أن يوم «كوا» القادم هو يوم الاحتفال بأوراق القرعة .. جوم، جوم، جوم، أورا أويودو .. أخبرنا «إيزولو» أن ...
توقفت «أوبياجيلي» فجأة عن سرد حكايتها، فتمكنت أمها من سماع الرسالة بينما كانت تنتظر الانتهاء من الطعام بنفاد صبر، وراحت تلعق المغرفة حتى جفت.
قال «وافو»: إن هذه اللعقة هي التي تمنع نمو ذقن المرأة.
فسألته: «أوبياجيلي»: وأين ذقنك أنت أيها الرجل الكبير؟
حشود من القرية كانت تردد: جوم، جوم، جوم، جوم، .. لقد أخبرني رئيس كهنة «أولو» أن أعلن لكل رجل وامرأة أن الاحتفال بأوراق القرعة سيكون يوم سوق «كوا» القادم .. جوم، جوم، جوم، جوم.
انخفض صوت المنادين فور وصولهم إلى الطريق الرئيسي ل «أومواشالا».
قالت «كيتشي»: نعود إلى البداية.
فاستطردت «أوبياجيلي»: نعم .. سقطت فاكهة الكوا الكبيرة فوق رأس «واكا ديمبولو» وقتلته .. والآن سوف أغني وترددين ورائي.
اعترضت «كيتشي» قائلة: ولكنني كنت أردد وراءك آخر مرة، والآن هو دوري أنا في الغناء. - أنت هكذا تفسدين كل شيء؛ فأنت تعرفين أن القصة لم تكن قد اكتملت قبل أن يصيح المنادون.
قال «وافو»: لا توافقي يا «كيتشي» .. هي تريد أن تخدعك لأنها أكبر منك. - لم يسألك أحد المشورة يا صاحب الأنف الكبير. - يبدو أنك راغبة في البكاء. - لا تسمعي كلامه يا «كيتشي» .. سيأتي دورك في الغناء، وسأردد خلفك.
وافقت «كيتشي»، وبدأت «أوبياجيلي» في الغناء مرة أخرى: «من سيعاقب هذا الماء من أجلي؟» .. إيه .. «واكا ديمبولو». «ستجفف الأرض هذا الماء من أجلي.» .. إيه .. «واكا ديمبولو». «من سيعاقب هذه الأرض من أجلي؟»
قاطعتها «كيتشي» قائلة: لا .. لا .. لا.
قال «وافو»: وماذا يمكن أن يحدث للأرض أيتها الفتاة الحمقاء؟
أجابت «أوبياجيلي»: قلت إنه من أجل اختبار «كيتشي». - إنها أكذوبة قديمة مثلك؛ فأنت لا تعرفين أن تروي الحكايات. - إذا كنت متضايقا فتعال واقفز فوق ظهري أيها الأنف الكبير.
قال «وافو»: أمي .. إذا أساءت لي «أوبياجيلي» مرة أخرى فسوف أضربها. - إذا كنت شجاعا فالمسها فقط كي أجلدك هذه الليلة.
قالت «أوبياجيلي»: لنسرد حكاية أخرى؛ لأن هذه الحكاية لا نهاية لها.
الفصل السابع
كان السوق مزدحما بالرجال والنساء من كل الأماكن، وكانت النساء يلبسن أحسن الثياب ويتحلين بزينات من العاج والخرز كل منهن حسب ثروة زوجها، أو حسب قدرة كل منهن على التدبير .. حمل الرجال النبيذ فوق رءوسهم في أوان يتدلى شريط من أحد جوانبها، واحتلوا أماكنهم تحت ظلال الأشجار، ثم بدءوا في الشراب مع أصدقائهم وأقربائهم وذويهم. أما من جاءوا بعد ذلك فقد جلسوا في العراء حيث كان الجو معتدلا.
كان الاحتفال في ذلك العام عظيما، وبدت «أوموارو» متماسكة كما لم تكن من قبل .. كان العداء بين «أومونيورا» و«أومواشالا» عنيفا؛ إذ كان ينظر رجال كلتا القريتين إلى بعضهما بحذر وشك، لكنهم اليوم يتبادلون النبيذ بدون حذر وخوف؛ إذ لا يستطيع أحد في هذا الاحتفال أن يدس السم للآخر.
وضعت زوجة «إيزولو» الصغرى المرآة بين فخذيها وراحت تمشط شعرها، ولم يساورها أي شك في أن شعرها أحسن من شعر «أكيوك». كانت تبدو فرحة لتلك الخطوط الصفراء في فستانها، ودائما ما كانت في السنوات السابقة أول من تصل إلى السوق سعيدة ومبتهجة، لكنها هذا العام بدت متثاقلة؛ لأن ما فعله «أودوش» قد أثر على خطواتها، وكان عبئا ثقيلا ظل يؤرقها. قررت أن تصلي لتطهير ما ارتكبه «أودوش» من دنس .. أخذت النساء أماكنهن وسط الجميع، ورحن يتعانقن، لكنها لم تفعل مثلهن؛ إذ بدد ذلك العبء سعادتها .. أثار سوارها المصنوع من العاج حسد وغيرة «ماتيفي ».
كانت تقوم بتلميع العاج عندما خرجت «ماتيفي» إلى سوق «كوا»، وقبل أن تبادر بالخروج سمعت من يقول: هل أم «أوبياجيلي» مستعدة؟
أجابت: لا .. سوف نتبعكم فلا تنتظرونا.
فرغت تماما من إعداد نفسها، ثم ذهبت «أوجوي» إلى كوخها .. التقطت أوراق القرعة التي زرعتها خصوصا بعد سقوط الأمطار، ثم قطعت أربعا من الأوراق وربطتها معا بحبل، ثم وضعت الأوراق فوق الكرسي، واتجهت ناحية أحد أدراج البامبو لرؤية إناء الشوربة والفوفو الذي ستتناوله «أوبياجيلي» و«وافو» عند الظهر.
انحنت «أكيوك» أمام العتبة، وظلت تصفر، ثم قالت «أوجوي»: هل أنت مستعدة الآن؟ وما هذه الجلبة الصادرة من عندك وكأن فرخة تبحث عن عشها؟ يجب أن تسرعي وإلا فلن نجد أحدا في السوق.
دخلت «أكيوك» بعد ذلك إلى الكوخ حاملة عنقود أوراق القرعة .. تبادلتا الإعجاب بملابسهن، ولم تستطع «أكيوك» أن تخفي انبهارها بالعاج.
قالت «أكيوك» وهن في طريقهن للخروج: ألا تعرفين السبب في غضب «ماتيفي» هذا الصباح؟ - يجب أن تسألي نفسك .. أليست هي زوجة أبيك؟ - كان الغضب باديا فوق وجهها .. هل سألتك عن استعدادك للذهاب؟ - نعم .. ولكن بصوت خفيض.
قالت «أكيوك»: لم أعرف شخصا مثلها .. إنها تشعر بالمرارة والغضب منذ أن طلب منها أبي أول أمس إعداد الطعام لزوجي وأهله.
كان الناس ما زالوا يتدفقون إلى السوق من كل الأنحاء، التحقت «أوجوي» و«أكيوك» بالناس، وكانت كل امرأة من «أوموارو» تحمل عنقودا من أوراق القرعة في يدها اليمنى، أما بقية النساء من القرى المجاورة فقد جئن فقط لرؤية الاحتفال دون أن يحملن العناقيد في أياديهن، وكانت الأحاديث والثرثرات تملأ السوق.
بدأت زوجات «واكا» الخمس في الظهور، وقد أحدثن جلبة كبيرة، وكانت كل واحدة منهن تتحلى بالعاج من أول القدم حتى الركبة، وترتدي القطيفة الملونة. ولم يكن هذا بالشيء الجديد في «أوموارو» لكنه لم يحدث من قبل أن تظهر مثل تلك الأشياء بهذه الوفرة من بيت رجل واحد.
كان «أوبيكا» وصديقه «أوفيدو» جالسين بصحبة ثلاثة من شباب «أومواجو» فوق حصيرة قذرة مصنوعة من شجرة الأوجبو يتوسطهم إناءان أسودان من النبيذ وإناء ثالث بالقرب منهم .. أصبح أحدهم مخمورا وبدا «أوبيكا» و«أوفيدو» وكأنهما لم يشربا شيئا بعد.
قال أحد الرجال: هل حقيقة يا «أوبيكا» أن زوجتك الجديدة لم ترجع بعد.
أجاب «أوبيكا» بهدوء: نعم يا صديقي .. إنني دائما مختلف عن الآخرين، فإذا شربت الماء فإنه يقف بين أسناني.
قال «أوفيدو»: لا تشغل نفسك كثيرا .. إن أمها مريضة، وقد طلب والدها أن تبقى للاعتناء بها بعض الوقت. - آه، ها، أعرف أن ما سمعته ليس حقيقيا؛ فكيف تستطيع العروس الشابة أن تتردد أمام شاب وسيم مثل «أوبيكا»؟
كان أحدهم مخمورا بعض الشيء، فقال: آه يا صديقي، لا، ليس الأمر هكذا .. ربما لم تكن في حجم عضوك.
أجاب «أوبيكا»: لكنها لم تشاهده أبدا. - لم تشاهده؟ ها، ها، أتتحدث إلى أولاد صغار؟
أوشك رئيس الكهنة على الوصول؛ حيث كان الصياح عاليا في السوق، وسارع الناس بشرب نبيذهم.
لم ينقطع الهتاف وكانوا ينادون بأسماء القرى وأسماء آلهتهم، وفي بعض الأحيان كان ممكنا سماع ذوي الشأن في «أوموارو»، مثل «واكا» و«سيسي» و«أودوزو»، واستقر الأمر في النهاية على تحية «أولو»، الإله الأكبر ل «أوموارو».
كان «أوبيوزو إيزيكولو» رجلا عجوزا لكن مهارته في دق الطبول لم يكن لها نظير، وفي شبابه كانت القرى الست تدعوه «أوزو» لتفوقه في هذا المضمار. كانت دقاته تحرك قلوب أقربائه بقوة أيام الحروب، وتشعل فيهم الحماسة، غير أنه اليوم بعد أن صار عجوزا لا يستطيع أن يكون متفوقا كما كان .. تجمعوا حول طارق الطبول القديم، وقام أحد معارفه بتحيته، وأثنى عليه.
قال العجوز: ليس من الصواب أن نصف المرأة التي تأتي لترقص رقصتها المعتادة بأنها عجوز.
ضحكوا جميعا، وفي تلك الأثناء بدأ رسل «إيزولو» يظهرون وسط السوق المزدحم، بينما كان الناس يتقاتلون من أجل الفوز بمكان في المقدمة .. راحوا ينظمون حلقة كبيرة، وكانت أوراق القرعة التي تحملها النساء سببا في عرقلة النظام .. ظل الرجال خارج الحلقة فلم يكونوا في حاجة للمقدمة.
دقت الطبول لتحية رئيس الكهنة، ولوحت النساء بأوراقهن من جانب إلى آخر أمام وجههن، ثم رحن يصلين إلى «أولو»، الإله القادر على الموت والحياة.
كان الترحيب ب «إيزولو» هائلا .. تقدم للأمام، ثم توقف فجأة أمام طارق الطبول، وقال: استمر، «إيزولو» يسمع.
ثم بدأ في الرقص.
كان يرتدي الرافيا من خصره إلى ركبتيه، وكان النصف الأيسر من جسده ملونا بالطباشير الأبيض وربطة من الجلد حول رأسه مزينة بريش النسر في الخلف. وكان يحمل الأوفو في يده اليمنى وقضيبا طويلا من الحديد في يده اليسرى، كان يضرب نهايته بالأرض .. أبصر أحد أصدقائه واقفا في الخلاء فركض نحوه مسرعا .. مد ذراعه ولوح بالقضيب الحديد جهة اليمين واليسار .. سمع الناس ارتطام قضيب «إيزولو» الحديدي بقضيب الرجل الآخر، الذي لا يعرفه أحد.
ضرب «إيزولو» بعصاه المعدنية فوق الأرض، وظل يرقص قليلا على دقات الرجل العجوز الذي لم يتوقف منذ ظهور الكاهن، بينما النساء كن يلوحن بأوراق القرعة أمامه، ثم راح يتطلع إلى كل رجال ونساء «أوموارو» من حوله دون أن يقصد رؤية شخص معين، ثم شد العصا المعدنية من الأرض وقفز للأمام حاملا العصا في يده اليسرى والأوفو في يده اليمنى، وراح يركض حول السوق.
النساء كن يلوحن بأوراق القرعة، ويقذفن بها فوق «إيزولو» كلما مضى في أي مكان بالسوق، فبدا وكأن آلافا من الحشرات العملاقة تحتشد فوق رأسه.
عند اقتراب «إيزولو» من الدائرة التي تقف عندها «أوجوي» اندفعت حتى أصبحت في المقدمة .. كانت تتمتم بالدعاء مرة بعد أخرى وهي تقول: «أولو» العظيم، يا من له القدرة على الموت والحياة، أتوسل إليك أن تطهر بيتي من كل الدنس الذي بدر مني أو رأيته بعيني أو سمعته بأذني، أو الذي تسبب فيه أولادي أو أصدقائي وأقربائي.
كان العنقود الصغير على شكل دائرة، فلوحت به حول رأسها، وألقت به بقوة نحو رئيس الكهنة، الذي كان قادما نحوها.
كان الرسل الستة بالقرب من الكاهن، فانحنى أحدهم بسرعة، والتقط أحد عناقيد الأوراق. وكانت الطبلة تواصل دقاتها بشدة حين أوشك رئيس الكهنة على الانتهاء من رقصاته .. توقفت دقات الطبول فجأة، فانحنى الرسل نحو قدم «إيزولو»، وساد السكون لحظة قصيرة عرفوا بعدها أن رئيس الكهنة قد دفن ستة من عناقيد الأوراق، وهذا يعني أنه قد دفن في أعماق الأرض كل خطايا «أوموارو».
خرجت نساء «أومونيورا» من الحلقة، وبدأن الركض في السوق، ثم بدأ الجميع في الركض تباعا، فامتلأ الفضاء بسحابة من الرمال .. لم يستطع كبار السن وأولئك الذين امتلأت أقدامهم بالعاج من اللحاق بهم إلا مؤخرا، وسارعت نساء «أومواجو» في الخروج من الحلقة الكبيرة.
تفرق الجمع مرة ثانية إلى مجموعات من الأصدقاء والأقرباء، وكانت «أكيوك» تبحث عن أختها الكبرى «آديز» التي جرت مع نساء «أوموزيني» .. كانت «آديز» طويلة وذات جلد برونزي، ولو أنها رجل لأصبحت شبيهة بأبيها أكثر من «أوبيكا» .. لم تبحث «أكيوك» بعيدا وهي تقول لنفسها: لا بد أنها وسط إحدى المجموعات.
قالت «آديز»: كنت أعتقد أنك ذهبت للبيت .. لقد قابلت «ماتيفي» الآن وسألتها عنك فأخبرتني أنها لم تشاهدك أبدا. - وكيف تستطيع أن تشاهدني؟ أنا لست كبيرة بما فيه الكفاية حتى يمكنها رؤيتي. - هل تشاجرتما مرة أخرى؟ لقد رأيت شيئا في وجهها .. ماذا فعلت بها؟ - أختي .. اتركي «ماتيفي» ومتاعبها جانبا، ولنتحدث فيما هو أهم.
لحقت بهن «أوجوي» قائلة: كنت أبحث عنك في كل مكان بالسوق.
ثم قامت باحتضان «آديز».
قالت «آديز»: كيف حال الأولاد؟ هل تعلمينهم حقا أكل الثعبان؟
صاحت «أوجوي» من كل قلبها: هل تعتقدين أنه مجرد شيء لإثارة الضحك .. لا عجب إذن في أنك الوحيدة في «أوموارو» التي لم تأت لتسأل عما حدث. - هل حدث شيء؟ لم يخبرني أحد بأي شيء، هل شب حريق أم أن أحدا قد مات؟
قالت أختها: لا تشغلي بالك يا «آديز». إن «أوجوي» مثل والدها، وهل يكون والد النمر مختلفا عن النمر؟
ساد الصمت لحظة ولم يجب أحد. - لا تغضبي مني يا «أوجوي»؛ فلقد سمعت كل شيء، ويجب أن تعلمي أن أعداءنا وأولئك الذين تتملكهم الغيرة يتوقون لرؤيتنا متفرقين، لكن «آديز» لن تساعدهم، نعم، لن أجعلهم يشعرون بالرضا .. لقد جاءت عندي تلك المرأة المجنونة «أكويني وزيزي» كي تشفق علي، تلك المرأة التي يرتكب أهلها كل الفضائح والاضطرابات في «أوموارو».
قالت «أكيوك»: هل ستأتين معنا؟ - نعم، يجب أن أرى الأطفال، كما أنني قلقة؛ لأن «أوجوي» و«ماتيفي» لا تحسنان العناية بأبي.
صرخت «أوجوي» بخوف مصطنع: من فضلك أيتها الزوجة، أتوسل إليك .. إنني أفعل كل ما عندي. إنه والدك الذي يسيء معاملتي.
ثم قالت بجدية: عندما تتحدثين إليه اعرفي منه كيف أنه في مثل عمره هذا يجري كالظبي، في حين أنه في العام الماضي لم يستطع بعد الاحتفال أن ينهض، وظل راقدا عدة أيام.
اختلست «أكيوك» النظر للتأكد من عدم وجود أحد الرجال بالقرب منهن، ثم قالت وهي تخفض صوتها: هل تعرفين أنه في أيام شبابه كان مثل «أوبيكا» الآن. - أنتما اللتان شجعتماه وهو يصدق نفسه، هو يحب أن يصدق بأنه أقوى من كل شباب اليوم .. لو أنه أبي لأخبرته بالحقيقة.
قالت «آديز»: أليس هو زوجك؟ أفلا تضعين الرماد في أواني الطهي لمدة سبعة أسواق إذا مات في الغد؟ هل أنت أم أنا التي سترتدي الخيش طول عام كامل؟
سألت «أكيوك» وهي تغير موضوع الحديث: ماذا كنت أقول لك؟ آه، إن زوجي وأهله جاءوا في اليوم الثاني. - ولماذا جاءوا؟ - وهل يوجد شيء آخر يأتون من أجله؟ - لقد سئموا الانتظار؛ فقد كانوا يتمنون لو أنك حملت النبيذ وتوسلت إليهم.
قالت «أكيوك» متظاهرة بالغضب: لا تخطئي في حق أهل زوجي، وإلا فسوف نتشاجر. - سامحيني إذن؛ فأنا لم أكن أعرف أنكما أصبحتما فجأة حبيبين مرة أخرى .. متى ستعودين إليه؟ - في يوم السوق القادم بعد «أوي».
الفصل الثامن
كان السيد «رايت» يشرف على الطريق الواصل بين «أوكبيري» و«أوموارو»، والذي كان مخططا له الانتهاء منه قبل موسم المطر، لكنه الآن في مراحله الأخيرة، وعلى وشك الانتهاء .. فكر السيد «رايت» في زيادة عدد العمال، فلم يوافق الكابتن «وينتربوتوم» لعدم إمكانية ذلك، ثم اقترح «رايت» تقليل أجور العمال إلى بنسين في اليوم بدلا من ثلاثة بنسات، رغم أن ذلك سيعمل على إضعاف قوة العامل، فراح يفكر مرة ثانية في معاملة العمال معاملة خشنة، لكن ذلك أيضا لن يحقق النتيجة المطلوبة .. كان الكثير من رؤساء العمال كسولين، ولكنهم يعملون بجد ونشاط عند طلبهم للعمل، وكانوا مخلصين كالكلاب الأليفة، ويملكون قدرة هائلة في ارتجال الأغاني .. عندما عرفوا أجرهم في اليوم الأول راح رئيسهم يغني:
Lebula Toro Toro
وكان الأخرون يرددون خلفه:
A day
كانت الأغنية تساعدهم في العمل، وظلوا يغنونها طوال أيام عديدة،
حتى باللغة الإنجليزية:
Lebula Toro Toro
A day
Lebula Toro Toro
A day
كان على السيد «رايت» أن ينتهي من العمل في ذلك الطريق قبل يونيو، ولم يجد أمامه سوى اختيار واحد، وجد نفسه مضطرا لاستخدام عمال بدون أجر، فطلب تصريحا بذلك، ثم وافق الكابتن «وينتربوتوم» لبعض الاعتبارات قائلا في رسالته: إن سياسة الإدارة تفرض الرجوع إلى تلك الطريقة، وإنما فقط في ظروف استثنائية، ولكن من اليسير اعتبار القوميين استثناء في ظل المبدأ القائل بأن العامل مساو لمستأجره.
كان السيد «رايت» قد جاء من المعسكر الذي يبعد خمسة أميال لتلقي هذا الرد .. حدق في الورقة، ثم طبقها بدون عناية، ووضعها في جيب بنطاله الكاكي القصير.
قرر رؤساء «أوموارو» عندما علموا بالطريق الجديد أن يقدموا المساعدة، فعقدوا اجتماعا لاختيار مجموعتين من أصغر الأجيال، واقترحوا تسمية المجموعة الأولى «أوتاكاجو» والمجموعة الأخرى «أوموماوا»، ولم تتفق كلتا المجموعتين إحداهما مع الأخرى أبدا، وكانتا مثل أخوين ناجحين دائما ما يتشاجران، وكان اجتماعهما يتسم دائما بالعداء وكأنه لقاء بين النار والبارود، كما كان طريقهما مختلفا، واتفقتا على العمل بالتناوب في أيام «إيك»، مما اضطر الرجل الأبيض أن يغير نظام الدفع الذي كان منتظما.
التحق «موسى أوناشوكو» النجار بالمجموعتين رغم كبر سنه، وكان هذا لمعرفته لغة الرجل الأبيض، فعمل على تنظيمهما وتلقي الأوامر من الرجل الأبيض؛ لكن السيد «رايت» ارتاب منه في البداية كما يرتاب من كل القوميين، لكنه سرعان ما اكتشف أهميته حتى فكر في تقديم جائزة له بعد الانتهاء من الطريق.
ارتفع اسم «أوناشوكو» عاليا في سماء «أوموارو»؛ فقد كان الوحيد الذي يتحدث بلغة الرجل الأبيض. وانتشرت القصة في القرى الست، وصار الجميع يتحدث عن «أوناشوكو». غير أن «إيزولو» شعر بأسف شديد؛ لأن رجلا من «أومونيورا» ينال كل هذا التقدير، لكنه سرعان ما تذكر أن ابنه سيحصل قريبا على نفس هذا الشرف العظيم.
كان «أوبيكا» بن «إيزولو» وصديقه «أوفيدو» ينتميان إلى مجموعة «أوتاكاجو»، التي كان دورها في العمل اليوم التالي للاحتفال بأوراق القرعة .. كانا قد شربا كثيرا من النبيذ ليلة الاحتفال، وحين ذهبت المجموعة إلى العمل كان «أوبيكا» و«أوفيدو» نائمين .. فشلت أم «أوبيكا» وأخته في إيقاظه؛ فقد عاد - كعادته دائما - إلى البيت عند الفجر مترنحا.
كان «أوبيكا» و«أوفيدو» يشربان النبيذ في يوم الاحتفال مع ثلاثة رجال آخرين في السوق حين صمم أحد الرجال أن يتحداهم، وتحدث عن كمية النبيذ التي يستطيع الرجل السكير أن يشربها دون أن يفقد وعيه.
قال أحد الرجال: إن ذلك يرجع إلى نوعية النبيذ.
فقال صديقه «مادوكا»: نعم، نوعية النبيذ.
وقال «أوفيدو»: لا، ليس كما تقولون، بل يرجع إلى الرجل الذي يشرب؛ فلو أنك أحضرت أي نوع من النبيذ في «أوموارو»، فإنني سأواصل الشراب منه بلا انقطاع حتى تنتفخ بطني، ثم سأعود إلى البيت يقظا.
قال «أوبيكا» مؤكدا كلام صديقه: يوجد فعلا نوع من النبيذ أقوى من الآخر، لكن السكير الجيد يشرب أي نوع مهما كان قويا دون أن يلف رأسه. - هل سمعت عن شجرة النبيذ «أوكبوساليبو» التي في قريتي؟ أجاب «أوبيكا» و«أوفيدو»: لا. - من لم يسمع بهذه الشجرة، ولم يشرب من نبيذها، فهو يخدع نفسه إذا زعم أنه سكير.
قال آخر: صواب ما قاله «مادوكا». إن خمر هذه الشجرة لا يباع أبدا في السوق، ولا أحد يستطيع أن يشرب ثلاثة أقداح منه دون أن يضل طريقه إلى بيته. - هذه «الأكبوساليبو» شجيرة قديمة جدا، وقد تشاجر اثنان من الإخوة شجارا عنيفا ذات يوم وكأنهما غرباء، حين شربا قدحين من نبيذها، ومنذ ذلك اليوم أطلقوا عليها اسم مفرقة الأقارب.
قال «أوبيكا» وهو يملأ قدحه: احك لنا قصة أخرى، ربما قد أضافوا شيئا إلى ذلك النبيذ، أما إذا كان بدون إضافات فإنني أكرر بأن تحكي لنا قصة أخرى.
قال «مادوكا» متحديا: ليس من اللائق أن تتكلم كثيرا؛ فالشجرة ليست ببعيدة. إنها هنا في «أوموارو». دعنا نذهب إلى أرض «وكافو»، ونطلب منه أن يبيع لنا من هذه الشجرة .. أعرف بأن نبيذها باهظ الثمن، ولكنني سأدفع بشرط أن يشرب كل منكما ثلاثة أقداح. وإذا عرفتما بعد ذلك طريقكما إلى البيت فإنني سأخسر راضيا ما دفعته. أما إذا فقد كلاكما وعيه وأصبح مخمورا، فيجب أن تردوا لي ما دفعت عندما تفيقان.
لعبت الخمر برأسيهما، وناما حيث كانا جالسين، فرفعهما «مادوكا» في الليل، ثم ذهب لينام، لكنه عاد مرتين في الليل، فوجدهما ما زالا في نوم عميق، وعندما استيقظ في الصباح لم يجدهما .. تمنى لو شاهدهما وهما يرحلان، لكنهما على أية حال لن يتكلما مرة ثانية عن النبيذ.
كانت الشمس متلألئة حين استيقظ «أوفيدو»، الذي كان أحسن حالا من «أوبيكا». هرع إلى بيت «إيزولو» لاستدعاء «أوبيكا»، الذي استيقظ بصعوبة، بعد أن صب «أوفيدو» إناء من الماء البارد فوق وجهه.
أسرعا للحاق بمجموعتهم من أجل العمل في الطريق الجديد، وكانا مثل زوج من أقنعة الليل في وضح النهار.
كان «إيزولو» ممددا فوق الفراش، وكان مجهدا من احتفال الأمس، سمع أصواتا بالداخل نهض على إثرها، ثم سأل «وافو» عن سبب تلك الضوضاء، فأخبره أنهم كانوا يوقظون «أوبيكا» .. التزم «إيزولو» الصمت وصر أسنانه؛ فلقد كان «أوبيكا» دائما يمثل عبئا ثقيلا فوق رأس والده.
قال «إيزولو» لنفسه: يجب أن تأتي عروس «أوبيكا» الجديدة. إذا كانت أمها قد شفيت فلا بد أن تعود لترى ذلك الرجل الذي لا يستطيع رؤية قبعته في الليل، ذلك الرجل الغارق في الخمر حتى أذنيه .. أين الرجولة في مثل هذا الزوج السكير الذي لا يستطيع حماية زوجته إذا طرق اللص بابه في الليل .. الرجل الذي توقظه النساء في الصباح؟
بصق الكاهن العجوز ولم يستطع أن يتحمل مزيدا من القرف والنكد.
لم يسأل «إيزولو» عن التفاصيل، لكنه كان مدركا أن «أوفيدو» وراء ما حدث .. لقد قال مرارا إن «أوفيدو» هذا ليس إنسانا، ولا يستحق أن يكون رفيقا لابنه، وكثيرا ما قال ل «أوبيكا» إن مثل ذلك الشخص ليس صديقا مناسبا لأي إنسان يريد أن يفعل شيئا في حياته. لكن «أوبيكا» لم يكترث، وظل متمسكا بصداقة «أوفيدو»، حتى أصبح الاختيار بينهما كالاختيار بين جوز النخيل الغض والجرن المكسور.
كانا يمشيان في هدوء في طريقهما للحاق بالمجموعة حين شعر «أوبيكا» بضربات في رأسه، كان رأسه كأنه مخدر بندى الليل، لكن الحركة في المشي جعلته في حال أفضل بينما كان الإحساس بالخدر يعاوده من حين لآخر.
أبصر «أوبيكا» و«أوفيدو» بداية الطريق الجديد، الذي بدا مثل طلوع النهار بعد ليل حالك.
قال «أوفيدو»: ماذا يكون ذلك الشيء الذي قدمه لنا «مادوكا» بالأمس؟
كان هذا السؤال أول حديث بينهما عن حادثة الأمس، ولم يجب «أوبيكا»، ولكنه تأوه، فاستطرد «أوفيدو»: لم يكن نبيذا عاديا، وأعتقد أنه كان ممتزجا ببعض العشب .. لقد كنا أغبياء حين تبعنا ذلك الرجل الخطير إلى بيته .. هل تتذكر أنه لم يشرب قدحا واحدا؟
كان «أوبيكا» ما زال صامتا. - لن أدفع له ثمن ما شربنا.
قال «أوبيكا» مندهشا: ومن قال لك أن تدفع؟ .. إن كل ما حدث بالأمس كان مجرد كلمات على شرف الخمر.
وصلا إلى جانب من الطريق يبدو فيه المرء مفقودا، مثل حبة من الذرة في حقيبة فارغة من جلد الماعز، حين أمسك «أوبيكا» بالفأس في يده، بعد أن شعر بكامل يقظته.
لم يكن الطريق يؤدي إلى الجدول أو السوق، فلم يقابلا كثيرا من القرويين سوى بعض النسوة اللاتي يحملن حطب الوقود، وعند اقترابهما من شجرة الإيجبو القديمة البالية سمعا بعض الأغاني والثرثرات.
قال «أوبيكا»: ما هذا الذي أسمعه؟ - كنت على وشك أن أسألك .. إن أصواتهم تشبه تلك الأصوات التي يغنون بها في المآتم.
اقتربا من موقع العمل فلم يعد ثمة شك .. كانت النغمة حقا حزينة وجثة في طريقها للمدفن:
انظروا! الثعبان الكبير
انظروا! الثعبان الضخم
نعم .. إنه يتمدد عبر الطريق
تعرفا على المنشدين الذين كانوا من مجموعتهم فانفجرا في الضحك. كان أحدهم قد غير الأغنية، وحولها إلى أغنية غريبة غير مألوفة. وكان «أوفيدو» متأكدا أن «ويك أوكباكا» وراء ذلك التغيير السيئ.
أحدث قدوم «أوبيكا» وصديقه تغييرا مفاجئا بين العمال، توقفوا عن الغناء وراحوا يقطعون جذوع الأشجار، وتوقف من كان بينهم ينحني للأمام بفأسه لتسوية الأجزاء البارزة ثم نهضوا، وكانت أقدامهم مغروسة في الأرض ويغطيها لون الأرض الأحمر.
صاح «ويك أوكباكا»: كو .. كو .. كو .. كو.
فأجاب بقية الرجال: كووو .. أوه!
ثم ضحكوا جميعا.
غضب السيد «رايت» بشدة، فقبض على السوط في يده اليمنى، ووضع اليد الأخرى أعلى فخذه مهددا، وقد بدا بخوذته البيضاء أقصر مما كان. نظر بإمعان نحو «أوبيكا» و«أوفيدو» اللذين جاءا متأخرين، وكان «موسى أوناشوكو» في تلك اللحظة يتحدث إليه باهتمام، غير أنه بدا وكأنه لا يسمع شيئا. تعجب الآخرون لذلك الغضب الذي يملأ قسمات وجهه وكأنه غادر الفراش هذا الصباح من الجانب الأيسر .. كان دائما ما يحمل السوط، لكنه لم يكن يستخدمه إلا نادرا.
عرف «أوبيكا» أن الرجل غاضب، فراح يختال في مشيته، مما أثار الضحك وسط الرجال، ثم واصل نفس طريقة المشي أمام السيد «رايت»، الذي لم يعد يحتمل مزيدا من الغضب، فلوح بسوطه في عنف، ثم أمسك «أوبيكا» من أذنه. غضب «أوبيكا» وجن جنونه، ثم سارع بإلقاء فأسه، وأوشك أن يهجم على الرجل، لكن «موسى أوناشوكو» ألقى بنفسه بين الرجلين، وسارع اثنان من مساعدي السيد «رايت» بالإمساك «بأوبيكا»، فراح السيد «رايت» يضربه بالسياط فوق ظهره العاري. لم يبد «أوبيكا» أي مقاومة، لكنه كان يرتعش كقربان اليام، كما ارتعش «أوفيدو» أيضا، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها قتالا أمامه ولا يستطيع عمل شيء سوى المشاهدة فقط.
صاح «موسى أوناشوكو» في دهشة: هل جننت حتى تهاجم الرجل الأبيض؟ لقد سمعت أن عائلتك كلها من المجانين، ويبدو أن ما سمعته حقيقي.
شعر أحد رجال قرية «أوبيكا» أن صوت «أوناشوكو» يحمل في طياته حالة العداء بين «أومواشالا» و«أومونيورا»، فقال: ماذا دهاك يا رجل حتى تقول مثل هذا الكلام؟
كان بقية الناس يراقبون في هدوء، ثم انطلقوا مشاركين في الصراع القائم، وعلت صيحات التهديد من كل جانب، وهز أحدهم إصبعه في وجه الآخر .. لقد تفجر الصراع القديم بين القريتين، وكان المشهد غريبا.
صرخ السيد «رايت» قائلا: اخرسوا، أيها القردة السود، وانهضوا للعمل.
ساد الصمت لحظة، ثم قال ل «أوناشوكو»: أخبرهم أنني لن أسمح بأي تراخ في العمل.
ترجم «أوناشوكو» ما قال، ثم استطرد السيد «رايت»، وقال: أخبرهم أن هذا العمل يجب أن ينتهي في يونيو.
خاطب «أوناشوكو» الرجال قائلا: يقول الرجل الأبيض بأنكم ستعرفون أي نوع هو من الرجال إذا لم ينته العمل في الوقت المحدد له، فلتعملوا إذن بدون تأخير. - ماذا؟ - ماذا؟ .. ألا تستطيع أن تفهم الإنجليزية الواضحة البسيطة؟ أقول كفى تأخيرا، ويجب الانتهاء من هذا العمل في وقته المحدد. - أوه .. ها؛ أي إن على كل شخص أن يعمل بجد، ويتوقف عن أكل الخراء.
وقال «ويك أوكباكا»: أرغب في أن أسمع إجابة الرجل الأبيض على سؤالي.
سأله «أوناشوكو»: وما هو هذا السؤال؟
ثم تردد قليلا، وحك رأسه قائلا للسيد «رايت»: هذا الرجل يرغب في سؤالك يا سيدي. - لا أحد يسأل عن أي شيء. - نعم .. نعم.
ثم قال مخاطبا «ويك»: يقول الرجل الأبيض إنه لم يغادر منزله هذا الصباح ليأتي إلى هنا كي يجيب على أسئلتك.
تذمروا وساد الشغب، فصاح «رايت» مهددا بمعاملة قاسية إن لم يعودوا إلى العمل في الحال، ولم تكن كلماته في حاجة إلى ترجمة من «أوناشوكو»، كان التهديد واضحا.
بدءوا العمل من جديد، لكنهم راحوا يتفقون على تنظيم اجتماع بينما كانوا يقطعون الأشجار.
كان الاعتراض على وجود «موسى أوناشوكو» هو أول ما أثاره في الاجتماع؛ فقد رأى كثير من الناس، خاصة من قرية «أومواشالا»، ألا يحضر رجل من المجموعة الأخرى اجتماعهم. بينما أشار آخرون بأنه اجتماع خاص للمناقشة حول الرجل الأبيض، وسيكون من الحماقة عدم حضور القريب الوحيد الذي يعرف لغة الرجل الأبيض وأساليبه.
نهض «أوفيدو»، ووسط دهشة الجميع وافق على بقاء «موسى»؛ حيث قال: لكنني أوافق لسبب آخر، أريده أن يخبرنا جميعا بما قاله الرجل الأبيض عن عائلة «أوبيكا»، كما أننا نريد أن نعرف إذا ما كان حقا قد حرض الرجل الأبيض على جلد صديقنا بالسياط، وبعد أن يجيب على هذه الأسئلة عليه أن يذهب بعيدا عنا. وإذا ما سألني أحد عن ضرورة ألا يكون معنا بعد ذلك أقول له إن هذا الاجتماع لمجموعة «أوتاكاجو»، ودعوني أذكركم جميعا، وخاصة أولئك الذين يتمتمون ويقاطعونني، أنه ينتمي أيضا إلى دين الرجل الأبيض، وهذا ما لا أريد التحدث بشأنه الآن. إن كل ما أرغب في قوله هو أن على هذا ال «أوناشوكو» أن يجيب على أسئلتي، ثم يمضي بعيدا حاملا معه كل معرفته عن الرجل الأبيض وأساليبه .. لقد سمعنا حكايات كثيرة عن كيفية حصوله على هذه المعرفة. لقد سمعنا أنه عندما غادر «أوموارو» كان يعمل في مطبخ الرجل الأبيض كالنساء.
ساد التذمر مختلطا ببقية كلام «أوفيدو».
قال كثير من الناس: يجب أن يفتح فمه ويجيب على أسئلة «أوفيدو».
كان «موسى أوناشوكو» يتحدث ولكن دون أن يسمعه أحد، وحين ساد الهدوء بدا صوته مبحوحا وهو يقول: إذا شئتم أن أرحل فسوف أفعل ذلك في الحال. - لا تذهب. - نحن نسمح لك بالبقاء. - ولكنني إذا ذهبت فلن يكون ذلك بسبب هذا الكلام الذي سمعته. - كفى .. كفى. - لم نأت هنا كي نتهم أنفسنا.
اقترح شخص ما أن يذهبوا إلى كبار الرجال في «أوموارو» لإخبارهم بعدم قدرتهم على الاستمرار في العمل في ذلك الطريق، لكنهم جميعا اعترضوا على هذا الاقتراح، فقال «موسى»: يستطيع الرجل الأبيض حينئذ أن يلقي بالأولاد الكبار في سجن «أوكبيري»، وأنتم تعرفون العلاقة بيننا وبين «أوكبيري»، فإذا سجن أي رجل من «أوموارو» هناك، فهل تعتقدون أنه سيعود حيا؟ هل نسيتم أننا في أيام قمر الزرع؟ هل تريدون لزرعكم أن ينمو في السجن هذا العام وفي الأرض التي يدين لها آباؤكم ببقرة؟ أنا أتحدث إليكم كأخ أكبر، ولقد سافرت إلى «آلو» و«إيجبو»، وأفيدكم علما بأنه لا مفر من الرجل الأبيض الذي جاء ليبقى .. عندما تزداد الطرقات فوق بابك وتخبره بعدم وجود مقعد له فسوف يقول لك: لا تقلق. لقد أحضرت معي مقعدي الخاص.
هكذا هو الرجل الأبيض .. كنتم جميعا أطفالا صغارا عندما رأيت بنفسي ما فعله الرجل الأبيض في «آبام»، وربما لهذا أكرر بأنه لا مفر. وكما أن النهار يعقب الظلام فإن الرجل الأبيض سوف يقضي على عاداتنا .. إنني متأكد مما أقوله لكم الآن، وسوف ترون؛ فهو يملك قوة مصدرها إله حقيقي، قوة تحرق مثل النار. إنه الإله الذي نجتمع عنده في اليوم الثامن من كل أسبوع.
صاح خصوم «أوناشوكو» قائلين: هذا الاجتماع خاص بمجموعتنا، ولسنا في حاجة لأن تخبرنا بتلك الحماقة، التي تدعوها دينهم الجديد.
ارتفع أحد الأصوات قائلا: نحن نتحدث عن طريق الرجل الأبيض. - نعم، نتحدث عن الطريق الذي يمهده الرجل الأبيض، لكن سقوط أرضية وحوائط منزل ما يتبعها بالضرورة سقوط السقف .. الرجل الأبيض، الدين الجديد، الجنود، الطريق الجديد، كل ذلك يعد جزءا من نفس الشيء .. إن الرجل الأبيض يملك بندقية وفأسا وقوسا، ويحمل النار في فمه، ولن يحارب بسلاح واحد.
قال «ويك أوكباكا»: ثمة شيء مهم .. لقد نسي أولئك الراغبون في ذهاب «أوناشوكو» أن لا أحد غيره يفهم لغة الرجل الأبيض؛ ولذلك يجب أن ننصت إليه بانتباه .. ماذا سيفعل الكبار إذا أخبرناهم بأننا لن نعمل في طريق الرجل الأبيض؟ هل سيحملون فئوسهم ويخرجون للعمل بينما نحن جالسون في البيوت؟ أعرف أننا نكره الرجل الأبيض ونريد محاربته، لكن الرجل الأحمق فقط هو الذي يذهب لمنازلة النمر بيد عارية. إن الرجل الأبيض مثل الشوربة الساخنة التي يجب تناولها ببطء من حافة الطاسة .. إن «أوموارو» كانت هنا من قبل مجيء الرجل الأبيض من أرضه لكي يطلب أرضنا، كما أننا لم نتوسل إليه ليأتي في زيارتنا، بالإضافة إلى أنه ليس أحد أقربائنا أو هو نسيب لنا، نحن لم نسرق منه الماعز أو الدجاج، ولم نغتصب أرضه أو زوجته، ولا فعلنا أي شيء خطأ في حقه، ورغم ذلك يأتي لإثارة القلاقل بيننا .. إن الغريب لن يقتل مضيفه عند زيارته، وعندما يذهب فربما لا يذهب بظهر متورم، فلا يجب أن نمنحه الفرصة التي يسعى إليها كي لا يشعل الحريق؛ ولذلك سوف نستمر في العمل في هذا الطريق، وعندما ننتهي سنطلب منه مزيدا من العمل .. يعتقد الرجل الأبيض أنكم حمقى، وهذا اعتقاد جيد في بعض الأحيان .. يكفي أن يعرف أنكم تبدون حمقى من أجل السلام فقط .. سوف نسأله سؤالا واحدا أردت أن أتوجه به إليه هذا الصباح، ولكنه لم يستمع .. سوف نتوسل إلى «أوناشوكو» ليترجم لنا هذا السؤال: لماذا لا يدفع لنا أجورنا مقابل العمل في الطريق؟ فأنا أعرف، كما رأيت في «آلو» و«إيجبو»، أن الرجل الأبيض يدفع أجرا مقابل نفس هذا النوع من العمل .. فلماذا نكون نحن مختلفين؟
كان «أوكباكا» مقنعا في حديثه، فلم يستطع أحد أن يضيف شيئا، واتفقت مجموعة «أوتاكاجو» على أن يختار «أوناشوكو» اللحظة المناسبة ليسأل الرجل الأبيض عن السبب في عدم دفع النقود مقابل العمل في الطريق.
قال «أوناشوكو»: سوف أبلغ رسالتكم.
نهض «ووي أودورا» قائلا: إن الرسالة هكذا ناقصة؛ فالرجل الأبيض يعرف السبب الذي من أجله لا يدفع لنا، ونحن أيضا نعرف. كما أنه يعرف أيضا، بأن من يعملون نفس العمل في «أوكبيري» يتقاضون أجرا في مقابل عملهم.
صمت لحظة قصيرة، ثم أضاف: وإذن يجب أن يكون السؤال عن السبب في أننا لا نتقاضى أجرا بينما يتقاضى الآخرون أجرا مقابل القيام بنفس العمل، فهل نحن مختلفون؟ من الضروري، بل ومن الضروري جدا، أن تسألوه عما إذا كنا مختلفين!
وافقوا جميعا، ثم قال أحدهم موجها حديثه إلى «ووي أودورا» وهو يغادر السوق: إن كلامك جيد، وما قلته هو الصواب؛ فربما يخبرنا الرجل الأبيض بأننا قتلنا أباه أو أمه.
شعر «إيزولو» بعد الاحتفال بألم في قدمه وفخذه، وكان لعابه مر المذاق. بدأ في تدليك جسده بالمرهم عندما عاد إلى البيت، وأشعل النار في الخشب طوال الليل، بالقرب من سريره المنخفض المصنوع من شجر البامبو. خافت زوجته الصغرى لمرضه، لكن «إيزولو» لو علم بخوفها لضحك كثيرا؛ لأن «أوجوي» لو عرفته في شبابه لأدركت أن ما يشعر به من تعب بعد الاحتفال لا يعد شيئا بالنسبة لتقدمه في السن، وأنه نفسه يعتبر ذلك شيئا عاديا.
لم تهتم بناته كثيرا بقلق الزوجة وخوفها؛ لأنهن كن أكثر حكمة، وكن يدركن أن ذلك نتيجة طبيعية لما يحدث بعد الاحتفال، إنه جزء من التضحية، فهل يستطيع أن يدوس خطايا «أوموارو» في الرمال دون أن تنزف قدمه؟ .. ليس من اليسير أن يأمل أحد في ذلك. حتى بينما كانت المجموعة تعقد اجتماعها تحت ظلال شجرة الإيجبو في السوق، كانت قصة الرجل الأبيض الذي جلد «أوبيكا» قد انتشرت في كل القرى. وكانت زوجة «إيدوجو» التي عادت محملة بحطب الوقود فوق رأسها هي التي جاءت بالخبر إلى بيت «إيزولو»، الذي استيقظ من النوم على أثر بكاء أم «أوبيكا» وأخته. ألقى بالحصيرة بعيدا، وقفز على قدميه، وأحس أن أحدا قد مات، ثم سمع زوجة «إيدوجو» تتحدث بما يعني أن أحدا لم يمت، فجلس على حافة سريره ورفع صوته مناديا زوجة «إيدوجو»، التي جاءت على الفور وتبعها زوجها، الذي كان يصنع بابا لبيت أحد الرجال المرموقين، بعد أن عادت زوجته.
سأل «إيزولو» «آموج»: ماذا تقولين؟
سردت عليه القصة كما سمعتها، فقال «إيزولو» باندهاش وهو عاجز عن استيعاب ما سمعه: جلد .. سياط؟!
أجابت «آموج»: لم يقولوا شيئا عما ارتكبه.
فقال «إيزولو» مفكرا: ربما لأنه تأخر في الذهاب، ولكن الرجل الأبيض لا يجلد رجلا لهذا السبب، خاصة وأنه ابني، ربما يكون «أوبيكا» هو الذي بدأ بالضرب.
شعر «إيدوجو» بما أصاب والده، لكن «إيزولو» كان يحاول أن يبدو طبيعيا.
قال «إيدوجو»: سوف أذهب إلى «كو» حيث هم مجتمعون الآن؛ فأنا لا أجد معنى لهذه القصة.
ثم عاد إلى كوخه، وتناول سلاحه وخرج.
كان والده ما زال يحاول أن يفهم، فصاح مناديا «إيدوجو»، ونصحه بألا يكون مندفعا، ثم غير من لهجته قائلا: كيف أعرف أن أخاك لم يبدأ بالضربة الأولى، خاصة وأنه كان مخمورا عندما غادر البيت؟
ابتسم «إيدوجو» وسارع بالرحيل مرتديا شقة طويلة ورفيعة بين القدمين، وحزاما حول الخصر ذا نهايتين؛ إحداهما في الأمام، والأخرى في الخلف.
خرجت أم «أوبيكا» من البيت وهي تتنشق، وتضع ظهر قبضتها أمام عينيها، فقال «إيزولو»: إلى أين أنت ذاهبة؟ هل ستقاتلين الرجل الأبيض؟
ثم ضحك، واستدارت «ماتيفي» لتسمع ما كان يقول.
استطرد «إيزولو»: عودي إلى كوخك أيتها المرأة، لقد وصل «إيدوجو» إلى الطريق الرئيسي واتجه يسارا.
جلس «إيزولو» فوق لوح من الخشب ممددا ظهره على الحائط بحيث يستطيع رؤية القادمين، وراح يفكر كثيرا، ويحاول - دون جدوى - أن يفهم قصة الجلد والسياط، ثم تساءل قائلا: من هو يا ترى ذلك الرجل الأبيض الذي فعل ذلك، أعتقد أنه «وينتابوتا» صديقي محطم البنادق.
لكن «إيزولو» سرعان ما أصيب بخيبة أمل عندما عرف أنه رجل آخر، كان «وينتابوتا» طويلا ومنتصبا يمشي كرجل عظيم وله صوت كالرعد، أما الرجل الآخر فإنه سمين وقصير ذو شعر كثيف كالقرد.
أبصر «إيزولو» بعض القادمين نحوه فهز رأسه للأمام، لكنهم كانوا قد مضوا .. قرر آخر الأمر - إن لم يكن ابنه مخطئا - أن يذهب بنفسه إلى «أوكبيري»، ويشكو الرجل الأبيض إلى سيده، لكنه توقف فجأة عن التفكير إثر ظهور «أوبيكا» و«إيدوجو»، وكان خلفهما رجل ثالث لم يجد صعوبة في التعرف عليه. كان الرجل هو «أوفيدو»، الذي لا يستطيع «إيزولو» أبدا أن يقبله صديقا لابنه.
تجاهل «إيزولو» كلا من «أوبيكا» و«أوفيدو»، ثم توجه بالسؤال إلى «إيدوجو»: ما هو سبب الجلد؟
كانت أم «أوبيكا» والجميع قد أسرعوا إلى كوخ «إيزولو».
أجاب «إيدوجو»: كانا متأخرين عن العمل. - ولماذا تأخرتما؟
صاح «أوبيكا»: لم أعد إلى البيت لكي أجيب على أسئلة أحد. - لك الحرية في الإجابة أو عدم الإجابة، لكنني أقول لك إن ذلك مجرد بداية فقط لما سيلحق بك نتيجة لشرب النبيذ؛ فالموت الذي يفتك برجل دائما ما يكون شهيا في بدايته.
خرج «أوبيكا » وتبعه «أوفيدو».
الفصل التاسع
بنى «إيدوجو» منزله ملاصقا لأحد الجوانب الأربعة من بيت أبيه الكبير، ولم يكن يفصل بينهما سوى أحد الحوائط، وكان المنزل صغيرا ومكونا من كوخين؛ أحدهما ل «إيدوجو»، والآخر لزوجته «آموج». هكذا كانت منازل كثير من الأولاد البكر؛ لأنهم يرثون فيما بعد بيوت آبائهم.
كان منزل «أوبيكا» في جانب آخر من بيت أبيه، لكنه أكبر قليلا من منزل «إيدوجو»، ويتكون أيضا من كوخين؛ أحدهما له، والآخر لعروسه التي أوشكت على الحضور.
كان القادم من الطريق الرئيسي للقرية، في اتجاه بيت «إيزولو»، يستطيع أن يرى على اليسار منزل «إيدوجو»، وعلى اليمين منزل «أوبيكا».
كان «أوبيكا» قد ذهب مع صديقه، فعاد «إيدوجو» إلى ظل شجرة الإيجبو المواجهة للبيت الكبير، كي يستأنف عمله في الباب الذي كان يصنعه، لكنه وجد نفسه مضطرا لترك الباب قبل الانتهاء منه؛ لأن عملا آخر كان بانتظاره في المزرعة .. كم كان يحسد أصحاب الحرف من أمثال «أجويجبو»، الذي كان الأولاد يديرون مزرعته، لكن «إيدوجو» قد فقد طفله الأول بعد ثلاثة أشهر من ولادته، مما أصابه بفاجعة كبيرة تسببت في كراهيته للعالم وخصومته.
توقف عن التفكير فجأة إثر سماعه لصرخات طفله الثاني والوحيد «أميشي» الذي كان مختلفا، كان «أميشي» مليئا بالحياة، لكنه بعد ستة شهور تغير فجأة، وتوقف عن الرضاعة من ثدي أمه، وأصبح جلد بشرته مثل أوراق الكوكويام الذابلة.
قال شخص ما: ربما كان السبب في لبن الأم!
طلبوا من «آموج» بعض اللبن من ثديها، وقاموا بوضعه في طاسة صغيرة، وألقوا بحشرة داخلها، لكن الحشرة لم تمت، فعرفوا أن المشكلة ليست في لبن الأم.
اعتقد بعض الناس أن مصير «أميشي» سيكون مثل الطفل الأول، وكان «إيدوجو» و«آموج» يشعران بالقلق، غير أنهما لم يناقشا هذا الأمر أبدا، لكن «آموج» كانت خائفة جدا، وكانت تجلس في كوخها فوق مقعد منخفض حين تقدم الطفل الباكي نحو قدميها، وما هي إلا لحظة قصيرة حتى رفعت قدميها، ونهضت تاركة وراءها ما خلفه الطفل من ماء وبراز، تطلعت حول الحجرة ، ولم تكن تعرف ما تريد ثم صاحت: «وانكو»، «وانكو»، «وانكو».
اندفع الكلب الأسود إلى الداخل، وسارع نحو براز الطفل ثم ابتلعه بلسانه، وراح يهز ذيله على الأرض .. حركت «آموج» قدميها وطفلها مرة أخرى، وكانت هذه المرة نقطة خضراء صغيرة هي التي خلفها الطفل، لم يجد فيها «وانكو» سببا كافيا لنهوضه، واكتفى بمد رقبته ولعقها بلسانه، ثم انتصب في مكانه في انتظار المزيد، لكن الطفل كان قد انتهى.
توقف الطفل عن البكاء، ولم يعد «إيدوجو» يفكر فقط في الباب الذي يصنعه. وضع الشاكوش جانبا وأمسك بالأجنة في يده اليسرى بدلا من اليد اليمنى.
كان «إيزولو» يدس أنفه في كل شيء، وقد وافق الجميع على أن صداقة «أوبيكا» ب «أوفيدو» غير صحيحة، ولا تجلب سوى الشر، غير أن «أوبيكا» لم يعد طفلا. لكن «إيزولو» دائما ما كان يعامل أولاده الكبار معاملة الأطفال، كما أن أحدا لم يكن يستطيع أن يختلف معه كي لا يحدث شجار كبير بينهما، وهكذا كان الأبناء الكبار يشعرون بكراهية «إيزولو» لهم.
تذكر «إيدوجو» مدى حب والده له عندما كان صغيرا، وكذا حبه ل «أوبيكا» و«أودوش» و«وافو»، وكيف أن السنين غيرت من حبه هذا الذي لم يدم طويلا إلا مع «أوبيكا»، الذي كان يشبهه إلى حد كبير .. ماذا سيحدث لو أنجب الرجل العجوز طفلا آخر في الغد؟ هل سيفقد «وافو» محبته؟ ربما، قيل إن «وافو» شديد الشبه بوالد «إيزولو»، وكانوا يعلقون خرزة الكاهن في رقبة «وافو»، مما جعل «إيدوجو» يشعر براحة كبيرة، قال لنفسه بعدها بصوت عال: لا أريد أن أكون رئيسا للكهنة.
ثم تطلع حوله لئلا يكون أحد قد سمعه، أما عن «أوبيكا» فإن أشياء مثل الكهنوتية لم تخطر بباله قط. إنهما «أودوش» و«وافو» فقط المرشحان لذلك، رغم أن أحدا لم يتوقع أن يرسل «إيزولو» «أودوش» للالتحاق بالدين الجديد.
توقف «إيدوجو» فجأة عن التفكير؛ فقد حدثته نفسه بأن «إيزولو» أرسل «أودوش» عمدا لكي يتلقى تعاليم الرجل الأبيض والتدين بدينه الجديد، وبذلك لا يصبح من حقه الترشح لكهنوتية «أولو».
ألقى بالأجنة فوق الأرض، ولم يعد قادرا على العمل في الباب .. كان «إيزولو» يرغب في أن تكون الكهنوتية من نصيب ابنه الصغير المفضل، ولم يقتنع أحد بما قاله «إيزولو» بشأن رغبته في أن يكون أحد أبنائه عينا وأذنا له في ذلك العالم الجديد، لماذا إذن لم يرسل «وافو» الذي كان قريبا من أفكاره؟ لا، لم يكن ذلك هو السبب، لكنه أراد أن يختار وريثه بما يتناسب مع الإله.
اضطرب تفكير «إيدوجو»؛ فماذا يفعل لو أن «أولو» اختاره رئيسا للكهنة؟ هل سيكون سعيدا إذا أصبحت خرزة الكاهن من نصيبه؟ لا، لم يكن يعرف شيئا سوى أن هذه الفكرة لم تخطر بباله من قبل؛ لأنه كان يعرف أن «أولو» لا يريده .. تذكر ما قالته أمه قبل أن تموت. لقد قالت بأن «إيزولو» يحب دائما أن يتصرف الناس جميعا، بما فيهم زوجاته وأقرباؤه وأطفاله وأصدقاؤه، كما يتصرف هو، ومن يجرؤ على معارضته يصبح عدوا له. لقد نسي بذلك قول الأجداد الذي يفيد بأن الرجل الذي يبحث عن رفيق يفكر ويتصرف مثله تماما سوف يحيا في عزلة كاملة.
ذهب «أوبيكا» وكان «إيزولو» ما يزال جالسا في نفس المكان مستندا بظهره على الحائط، وهو يتطلع إلى الأمام حتى يستطيع رؤية القادمين، وكانت جلود الماعز متراصة فوق المقعد الديني الطويل على يساره، وكان سطح ذلك الجزء من الكوخ مائلا للوراء، مما جعل «إيزولو» قادرا على رؤية السماء لمشاهدة القمر الجديد، غالبا ما كان ضوء النهار يتسلل إلى الكوخ من ذلك الجزء.
جلس «وافو» فوق المقعد الطيني الطويل في مواجهة والده، وكان سرير «إيزولو» المنخفض المصنوع من شجرة البامبو في الجانب الآخر من الكوخ، وبجانبه كومة محترقة من الخشب.
كان «إيزولو» ما زال يحدق بثبات إلى الأمام، ثم قال موجها حديثه إلى «وافو»: إن الرجل الأبيض لا يقول شيئا لابنه سوى الحقيقة، تذكر ذلك دائما، أنت مجرد ولد صغير، ولم أكن أكبر منك عندما بدأ أبي يثق بي .. هل تسمع ما أقول؟
أجاب «وافو »: نعم. - أنت تعرف أن عروس أخيك سوف تأتي في خلال أيام قليلة، وعندئذ سوف يصبح رجلا، ولن يسأل الغرباء حينما يرونه قائلين: ابن من هذا؟
ولكنهم سيقولون: من هذا؟
وكذلك لن يقولوا عن زوجته: بنت من هذه؟
ولكنهم سيقولون: من تكون هذه الزوجة؟ هل تفهمني؟
أحس «وافو» بالارتباك، وامتلأ وجهه بالعرق، وكان شخص ما قادما نحو الكوخ حين فتح «إيزولو» عينيه بصعوبة وقال: من القادم؟
قفز «وافو» من المقعد الطيني إلى وسط الكوخ ليرى وقال: إنه «أوجبوفي أكيوبو».
كان «أكيوبو» واحدا من قليلين في «أوموارو» ممن يستمع إليهم «إيزولو»، بالإضافة إلى رجلين آخرين من نفس العمر.
اقترب «أكيوبو» ورفع صوته سائلا: هل صاحب هذا البيت ما زال حيا؟
قال «إيزولو»: من يكون هذا الرجل؟ لقد سمعنا أنك فارقت الحياة.
مضى «أكيوبو» إلى داخل الكوخ بعد أن عبر السقف المنخفض، وكان جسده منحنيا عند الخصر ويده اليمنى فوق ركبته. ظل محتفظا بانحناءته وهو يصافح رئيس الكهنة، ثم ألقى بجلد الماعز على الأرض، وجلس فوق المقعد الطيني.
قال «إيزولو»: كيف حالكم؟ - إنهم بخير.
هكذا كانت إجابته دائما حين يسأله أحد عن عائلته.
ثم توجه بالسؤال إلى «إيزولو»: وماذا عنكم؟ - إن أحدا لم يمت. - هل جلد الرجل الأبيض «أوبيكا» بالسياط؟
رفع «إيزولو» باطن يديه إلى السماء ولم يقل شيئا.
فاستطرد «أكيوبو»: إنها إساءة كبيرة ل «أوبيكا». - لنتحدث يا صديقي في أشياء أخرى؛ فلقد استغرق ذلك الحدث مني وقتا طويلا في التفكير، كما أنه أصابني بالحمى، ولكن ذلك كله قد انتهى.
ثم قال ل «وافو»: اذهب وأخبر أمك أن تأتيني بجوزة الكولا. - سمعتها تقول هذا الصباح إن جوزات الكولا قد انتهت. - اذهب وأخبر «ماتيفي» إذن.
ابتسم «أكيوبو» وقال: لا يجب أن تقلق بشأن جوزة الكولا؛ فأنا لست غريبا.
قال «إيزولو»: لم يعلمني أحد أن جوزة الكولا طعام للغرباء، كما أنه يعد أحمق من يعامل أخاه أسوأ من معاملته للغريب. أعرف ما تخاف منه؛ فلقد سمعت أنك فقدت كل أسنانك.
كانت الطاسة الخشبية بجوانبها الأربعة مثل رأس السحلية، تناول منها «إيزولو» كومة من الصلصال الأبيض، وقذف بها على الأرض في اتجاه «أكيوبو»، الذي التقطها ورسم بها على الأرض أربعة خطوط رأسية، ثم رسم الإصبع الكبير لقدمه اليمنى، وأعاد الصلصال إلى «إيزولو»، الذي وضعه في الطاسة الخشبية مرة ثانية.
جاء «وافو» مسرعا يحمل بين يديه طاسة أخرى بها جوزة الكولا، وقال لوالده: دع «أكيوبو» يراها.
قال «أكيوبو»: لقد رأيتها. - عليك بكسرها إذن. - لا، إن جوزة الكولا الخاصة بالملك لا يقربها سواه. - أهكذا ترى؟ - نعم.
تناول «إيزولو» الطاسة من «وافو»، ووضعها بين قدميه، ثم التقط جوزة الكولا بيده اليمنى، وبدأ في الصلاة، كان يهز يده للأمام وهو يتمتم بكل كلمة وكفاه مفتوحتان إلى أعلى وأصابع يديه ممسكة بجوزة الكولا. - «أوجبوفي أكيوبو»، ربما تعيش أنت وكل أهلك وأعيش أنا مع كل أهلي وشعبي، لكن الحياة بمفردها لا تكفي، ربما نمتلك نحن أسباب الحياة، لكن هناك نوعا من الحياة البطيئة الصعبة أسوأ من الموت. - الحقيقة ما تقول. - كل الناس سواء، فلتدع الغيرة تأكل صاحبها. - نعم، نعم. - قد يعم الخير أرض «إيبو» وقد يصل إلى بلاد النهر، وربما ..
توقف دون أن يواصل حديثه، ثم ضغط بقبضة يده على جوزة الكولا وكسرها، وألقى بالفصوص في الطاسة على الأرض، وراح يصفر ويقول: انظر، ها هي الأرواح تريد أن تأكل.
رفع «أكيوبو» رقبته ليرى، ثم قال: واحد .. اثنان .. ثلاثة .. أربعة .. خمسة .. ستة، حقا، إنهم يريدون أن يأكلوا.
تناول «إيزولو» واحدة من الفصوص، وألقى بها خارج الطاسة، ثم التقط واحدة أخرى، وقذف بها إلى فمه .. تقدم «وافو» للأمام، وأمسك بالطاسة متوجها بها ناحية «أكيوبو»، وحين ساد الصمت لحظة بين الرجلين أصبح صوت جوزة الكولا وهي تنكسر بين الأسنان واضحا.
ابتلع «إيزولو» اثنين من فصوص جوزة الكولا، ثم قال: غريب أمر هذه الكولا، لا أستطيع أن أتذكر آخر مرة رأيت فيها واحدة بستة فصوص. - إنها فعلا نادرة جدا، كما أن ذات الخمسة فصوص أيضا ليست شائعة .. كانت أول مرة أرى فيها واحدة بخمسة فصوص منذ سنوات، حين كنت مضطرا لشراء أربع أو خمس سلال مملوءة بجوزة الكولا لتقديمها كقربان.
أضاف مخاطبا «وافو»: اذهب إلى كوخ أمك، وأحضر إبريقا كبيرا من الماء البارد. إن الجو حار.
قال «إيزولو»: أعتقد أن هناك ماء في السماء. إنها الحرارة التي تسبق سقوط الأمطار.
ثم نهض، وسار خطوات قليلة إلى سريره المصنوع من شجرة البامبو، وتناول حقيبته المصنوعة من جلد الماعز. كانت الحقيبة مصنوعة بمهارة فائقة، حتى إنها كانت تبدو وكأنهم قد انتزعوا الماعز من داخلها، كما ينزعون القوقعة من المحارة، وكانت لها أربع أقدام قصيرة، ويبدو الذيل كما هو.
جلس «إيزولو» فوق مقعده، وراح يبحث في الحقيبة عن علبة النشوق، التقط علبة النشوق، ووضعها على الأرض، وبدأ في البحث عن الملعقة العاج الصغيرة التي سرعان ما عثر عليها، ثم ألقى بالحقيبة بعيدا .. رفع العلبة البيضاء إلى أعلى لرؤية ما تبقى من النشوق، وظل يهزها فوق ركبته، ثم فتحها وأفرغ قليلا من محتوياتها في كفه.
قال «أكيوبو» بعد أن تجرع الماء: أعطني قليلا من هذا الشيء كي يتوازن رأسي.
أجاب «إيزولو»: تعال وخذ ما تشاء، فلا تتوقع أن أمدك بالنشوق، وكذا لن أهبك زوجة وأبحث لك عن حصيرة لتنام عليها.
نهض «أكيوبو» ومال بجسده إلى الأمام واضعا يده اليمنى فوق ركبته، ولوح بكفه اليسرى في اتجاه «إيزولو»، وقال: لن أجادلك كثيرا؛ فلديك اليام، ولديك السكين.
ملأ «إيزولو» ملعقتين من النشوق، ووضعهما في كف «أكيوبو»، ثم أفرغ من العلبة لنفسه، وعندئذ قال «أكيوبو» وقد صارت إحدى فتحتي أنفه ذات لون بني من أثر النشوق: إنه نشوق جيد.
ثم تناول بإبهامه حفنة أخرى من يده اليسرى، ووضعها في فتحة الأنف الأخرى، وبعد ذلك ألقى برأسه للوراء، وظل يشم ثلاث أو أربع مرات، وبدا أثر النشوق واضحا في فتحتي الأنف، وفي تلك الأثناء كان «إيزولو» يستخدم الملعقة العاج بدلا من الإبهام.
قال «إيزولو»: ولهذا أنا أبيع نشوقي في السوق.
دخل «إيدوجو» ممسكا بقارورة النبيذ من الحبل المتدلي من رقبتها، وقدم التحية ل «أكيوبو » ووالده، وترك القارورة على الأرض.
قال «إيزولو»: لم أكن أعرف أنك تملك نبيذا. - لقد أرسله لي صاحب الباب الذي أصنعه. - ولماذا جئت به في وجود هذا الصديق؟ - إن «إيدوجو» لم يقل بأن النبيذ لك.
قال «إيدوجو»: إنه لكما أنتما الاثنين.
أخرج «أكيوبو» قدحا من حقيبته، وراح ينظفه بكف يده لإزالة الوسخ العالق به، وكذا تناول «إيزولو» قدحه من الحقيبة المجاورة، وتقدم به ناحية «أكيوبو» ليملأه، ثم تناول منه القارورة وملأ قدح «أكيوبو» .. قبل أن يبدأ الشراب جنح «أكيوبو» قليلا إلى الأرض، وتمتم بصوت خفيض، كان «أكيوبو» يتوجه بالدعاء إلى آبائه.
قال «إيزولو»: إن جسدي مليء بالرماد، ولا أعتقد أن النبيذ يصلح لي الآن.
شرب «أكيوبو» القدح الأول، ورنا بوجهه وكأنه كان في انتظار صوت ما داخل رأسه يخبره عما إذا كانت الخمر جيدة أم لا، ثم قال: لا .. ليس من الصواب أن تشرب نبيذا الآن.
تناول «إيدوجو» القدح من والده، وصب لنفسه حين جاء «أودوش»، وقدم التحية لأبيه ول «أكيوبو»، وجلس مع «وافو» فوق المقعد الطيني، كان يرتدي - كعادته منذ التحق بدين الرجل الأبيض - حزاما عند الخصر من قماش القطن بدلا من الشقة الرفيعة بين القدمين .. صب له «إيدوجو» قدحا لكنه لم يشرب.
قال له: ماذا بك؟
قاطعه «إيزولو» قائلا: متى ستذهب إلى «أوكبيري»؟
أجاب «أودوش»: بعد غد. - وكم من الوقت ستقضي هناك؟ - أسبوعين.
صمت «إيزولو» لحظة، وبدا كأنه يفكر في ذلك.
فقال «أكيوبو»: ومن أجل أي شيء تذهب إلى هناك؟ - يريدون أن نختبر معلوماتنا عن الكتاب المقدس.
هز «أكيوبو» كتفيه فقال «إيزولو»: لست متأكدا من ذهابك، ولكن دعني أفكر ثم أقرر.
لم يقل أحد أي شيء، والتزموا جميعا الصمت.
كان «أودوش» يعرف تماما أن أحدا لا يملك الجرأة على معارضة والده.
شرب «أكيوبو» قدحا آخر من الخمر وبدأ يصر بأسنانه، وعندئذ أعلن بأن الخمر جيدة، ثم ضرب بالقدح فوق الأرض مرات قليلة وهو يصلي قائلا: أطال الله في عمر الرجل الذي صنع هذه الخمر، وأطال أيضا في عمرنا نحن الذين نشربها. مسح أخيرا حافة القدح، ثم وضعه في حقيبته.
قال «إيدوجو»: فلتشرب قدحا آخر.
مسح «أكيوبو» فمه بظهر يده، وقال: إن العلاج الوحيد ضد الخمر هو أن تملك القوة لتقول لا.
عاد «إيزولو» قليلا بذاكرته إلى الوراء، وقال ل «أكيوبو»: قبل أن تأتي كنت أقول لهذا الولد الصغير إن الرجل دائما يقول الحقيقة لابنه، حتى لو كان ذلك الرجل من أكبر الكذابين.
قال «أكيوبو»: هو كذلك بالفعل؛ فالرجل يستطيع أن يقسم أمام الإله بما قاله له والده.
استطرد «إيزولو»: وإذا لم يكن الرجل متأكدا من الحدود بين أرضه وجيرانه، فإنه يقول لولده بأنه يعتقد، ولكنه ليس متأكدا.
أجاب «أكيوبو»: هو أيضا كذلك. - ولكن عندما يتحدث الرجل بالحقيقة، ويفضل أبناؤه الكذب ..
توقف لحظة، ثم ارتفع صوته، واهتز رأسه بقوة، ثم تمالك نفسه، واستطرد بهدوء: ولهذا يستطيع الغريب أن يجلد ابني دون أن يلومه أحد؛ لأن ابني لم يسمع كلامي، ولكن كان من الأجدر لذلك الغريب أن يتعلم بأنه اعتدى على «إيزولو»، وأن ذلك الاعتداء سيؤدي بالضرورة إلى أن تلعق الكلاب عينيه، وإلى أنني سأطيح برأسه.
قال «أكيوبو» متسائلا: هل «أوبيكا» هو الذي وجه الضربة الأولى؟ - كيف لي أن أعرف؟ كل ما أستطيع قوله أنه كان مخمورا بما فيه الكفاية عندما رحل في الصباح، وظل مخمورا حتى بعد عودته.
قال «إيدوجو»: قال إنه لم يسدد الضربة الأولى.
فسأله والده: هل كنت هناك؟ وهل تقسم أمام الإله؟ ليتني كنت متأكدا!
ثم قال ل «أوكيوبو»: لو كنت متأكدا لما جلست هنا الآن وتبادلت معك الحديث، بينما الرجل الذي وخز عيني ينام في بيته، كنت على الأقل قد أرسلت له بكلمات قليلة تجعل العرق يرشح من جبينه.
قال «أكيوبو»: حقا ما تقول، ولكنني أعتقد أنه من واجبنا اكتشاف ومعرفة الذي وجه الضربة الأولى .. هل هو «أوبيكا» أم ...
قاطعه «إيزولو» قائلا: ولماذا ينبغي أن أذهب لأكتشف وأعرف من الغرباء ما فعله ابني؟ - نعم، نعم، ولكن دعنا أولا نتعقب القطة الشرسة، ثم نلوم الدجاجة.
ثم قال ل «إيدوجو»: أين «أوبيكا»؟
قال «إيزولو»: يبدو أنك لم تسمع ما قلت .. أين ...
قاطعه «إيدوجو» مخاطبا «أكيوبو»: لقد خرج مع «أوفيدو»، خرج لأن أبي وبخه قبل أن يسأله عما حدث.
كان اتهاما غير متوقع، أحس «إيزولو» حياله وكأنه حشرة سوداء، لكنه تمالك نفسه من الغضب ووسط دهشة الجميع مال بظهره على الحائط، وأغلق عينيه ثم فتحهما، وبدأ يصفر في هدوء .. أومأ «أكيوبو» برأسه أربع أو خمس مرات في دهشة، وحرك «إيزولو» رأسه بخفة من جانب إلى آخر، ثم إلى أعلى وأسفل دون أن يتوقف عن الصفير.
قال «أكيوبو» موجها حديثه إلى «إيدوجو» والولدين الآخرين: إن الرجل دائما أكثر حساسية من أولاده.
كان من الواضح أنه قال ذلك لتهدئة «إيزولو»، رغم أنه لم يقل سوى الحقيقة، ثم استطرد: يعتقد أمثالكم أنهم أكثر حكمة من آبائهم، لكنكم نسيتم أن تلك الحكمة جاءت إليكم من آبائكم؛ ولهذا فمن الخطأ أن يحاول الولد مجادلة أبيه .. لماذا أتحدث هكذا إليكم؟ لأنني لست غريبا في كوخ والدكم ولست خائفا من قول الحقيقة، وأنا أعرف أن والدكم كثيرا ما توسل إلى «أوبيكا» أن يتنازل عن صداقته مع «أوفيدو»، لكن «أوبيكا» لم يهتم بتوسلاته .. لماذا؟ لأنكم جميعا، وكذلك الولد الصغير الذي هناك، تعتقدون أنكم على صواب، وأنكم تعرفون ما لا يعرفه أبوكم. إن أبنائي مثلكم تماما، لكنكم تنسون دائما أن المرأة التي تنتهي من إعداد الطعام قبل الأخرى فإنها تكسر مزيدا من الأطباق والأواني .. نحن الكبار لا نتحدث لأننا نرى بعض الأشياء التي لا تستطيعون أنتم رؤيتها. لقد تعلمنا من آبائنا أننا عندما نرى امرأة عجوزا تتوقف في رقصتها لكي تبدأ مرة ثانية وثالثة من نفس النقطة، فلا بد أن شيئا ما قد حدث منذ فترة طويلة قد أثر في حياتها .. عندما يعود «أوبيكا» أخبره يا «إيدوجو» بما قلت .. هل تسمعني؟
أومأ «إيدوجو» برأسه موافقا، وكان يتساءل بينه وبين نفسه عما إذا كان الرجل حقيقة لا يكذب على ابنه.
رفع «أكيوبو» أردافه، ودار بجسده حتى أصبح في مواجهة «إيزولو»، ثم قال: لقد تحدثت مع الأولاد، ولن أخاف من الحديث معك .. أعتقد أنك قاس جدا مع «أوبيكا» .. لقد باركك الناس جميعا كرئيس للكهنة، لكن الناس يختلفون؛ فهناك الطيبون والأشرار، الشجعان والجبناء، الأغنياء والفقراء، من يتقدمون بالنصائح الطيبة وأولئك الذين تملأ أفواههم أحاديث السكارى، ومن أجل هذا يا صديقي فمهما كانت النغمة التي تعزفها في الأرض فإن شخصا ما يستطيع دائما أن يرقص عليها .. أحييك.
الفصل العاشر
كان «توني كلارك» قد أمضى ما يقرب من شهر ونصف في «أوكبيري»، لكن كثيرا من أمتعته بما فيها الأواني الخزفية لم تصل إلا منذ أسبوعين فقط، قبل اليوم الذي قام فيه بجولة إلى الدغل؛ ولهذا لم يكن قادرا على تقديم الدعوة إلى كابتن «وينتربوتوم» لتناول الطعام في منزله.
شعر السيد «كلارك» باضطراب وقلق أثناء انتظاره لقدوم ضيفه؛ فقد كانت إحدى مشاكل العيش في مثل هذا المكان مع أربعة فقط من الأوروبيين؛ أن يكون ناجحا في استضافته لشخص مثل «وينتربوتوم»، خاصة وأن ثلاثة من الأوروبيين كانوا غير مسئولين .. لم يكن هذا لقاءه الأول مع «وينتربوتوم»؛ فقد تناولا الغداء معا منذ أيام قليلة، لكن «كلارك» لم يحسم معه وقتئذ كل الأشياء، كما أنه كان ضيفا بدون مسئولية تؤرقه. أما اليوم فهو المضيف، وعليه أن يدير النقاش بذكاء من خلال الطقوس الطويلة المملة للشراب والطعام والقهوة، وغالبا ما يمتد الشراب حتى منتصف الليل .. فكر في دعوة شخص ما وليكن «جون رايت»، الذي صار صديقا له أثناء جولته الأخيرة، لكنه تراجع وقال: لا، ليس من الصواب أن أفعل ذلك.
كان «كلارك» قد التقى ب «رايت» خارج «أوموارو»، وشاركه سقف القش الوحيد في الاستراحة ليلة واحدة أثناء جولته، ثم أمضى أسبوعين في النصف الآخر من الاستراحة التي كانت تتكون من حجرتين كبيرتين، كل منهما تحتوي على سرير يشبه أسرة المعسكرات وشبكة قديمة للناموس وطاولة خشبية وكرسي ودولاب. وكانت توجد بالخلف مظلة من القش يستخدمونها كمطبخ، وعلى بعد ثلاثين ياردة كان ثمة كوخ صغير به مقعد خشبي يستخدمونه كمرحاض ، ثم كوخ ثالث في نفس الاتجاه يأوي إليه الخدم والبوابون .. كانت الاستراحة محاطة بأوراق من الزرع غريبة لم ير «كلارك» مثلها في أي مكان آخر.
كان آخر شخص قد غادر المكان إلى الأدغال ومعه السريران، ومنذ ذلك الحين بدا المكان مهجورا وقذرا إلى أن أعادوا السريرين، لكنهم احتفظوا في الإدارة بمفتاح المبنى الرئيسي ومفتاح المرحاض، حتى إذا جاء أحد الأوروبيين في جولة وكان محتاجا للإقامة فعليه أن يأخذ المفتاح من البواب أو الخولي .. كان رئيس الكتبة القومي هو الذي يجيء بالمفتاح من مكتب الكابتن «وينتربوتوم»، وذات مرة نسي رئيس الكتبة أن يسلم المفتاح عندما كان ضابط البوليس السيد «واد» ذاهبا إلى «أوموارو»، فاضطر إلى السير ستة أو سبعة أميال في الليل لإحضار المفتاح، وكان من حسن حظه أن السيد «واد» لم ينزعج أبدا، وكان قد أرسل صبيانه من قبله لتنظيف المكان.
شعر «توني كلارك» أثناء تجواله حول الاستراحة والأراضي التابعة لها أن المسافة إلى مبنى الإدارة تقدر بمئات الأميال، وكان مستحيلا التصديق بأنها ليست سوى ستة أو سبعة أميال فقط، حتى الشمس كانت تبدو في اتجاهات مختلفة، ولا عجب في أن القوميين يعتبرون ستة أميال من المشي وكأنها سفر إلى بلد أجنبي.
ذات مساء متأخر جلس «كلارك» مع «رايت» في شرفة الاستراحة، يشربان الجن في ذلك المكان النائي بعيدا عن الجو القاسي لمبنى الحكومة، وقد استطاع «كلارك» أن يكتشف مدى محبته ل «رايت»، وعرف أيضا بقليل من الدهشة أنه يستطيع في ظروف معينة أن يشرب الجن أكثر من أي مشروب آخر معتق.
كانا قد التقيا من قبل للحظات قصيرة، لكنهما كانا يتحدثان وكأنهما أصدقاء قدامى .. اعتقد «كلارك» أنه رجل إنجليزي رقيق وشريف، ووجد متعة في الحديث معه.
قال «رايت»: ماذا تعتقد أن يقول الكابتن يا «توني» إذا عرف أن المسئول السياسي الشاب يبدو هكذا رقيقا مع المسئول عن الطريق؟ إن وجهه الأحمر الكبير يبدو كوجه طفل. - أوه، لا أعرف بالضبط، كما أنني لا أهتم بذلك كثيرا.
كان الجن قد لعب برأس «كلارك» فأضاف: سأكون سعيدا لو أنني استطعت أثناء خدمتي في أفريقيا أن أفعل شيئا، مثل الطريق الذي تشرف أنت على إنشائه. - شيء طيب أن تقول مثل هذا الكلام. - هل سنقيم احتفالا عند افتتاحه؟ - لم يوافق الكابتن على فكرة الاحتفال، ويقول إننا أنفقنا على إنشائه أكثر مما يستحق. - ما هذا الذي يحدث؟ - أتمنى لو أنني أعرف؛ فنحن ننفق مئات من الجنيهات في بناء أماكن للقوميين، في حين أنهم لا يحتاجونها. - إنه ليس خطأ الكابتن، بل هي سياسة الإدارة الصادرة من مركز القيادة، والتي لا يتفق معها الكابتن. - اللعنة على مركز القيادة. - قد يوافق الكابتن. - فعلا، إن الكابتن كما تعرف ليس شخصا سيئا على الإطلاق، وأعتقد أنه شخص مناسب، وعلى المرء أن يعرف أوقاته العصيبة. - هل تعني الترقية؟
قال «رايت»: لقد عاملوه معاملة سيئة هناك أيضا، ولكن لا، لم أكن أفكر في ذلك أبدا.
بل كنت أفكر في حياته العائلية. أوه، نعم فأنت تعرف أنه في أثناء الحرب كان يقاتل الألمان في الكاميرون حين اغتصب بعض أتباعه زوجته. - حقا؟! لم أسمع بتلك القصة من قبل أبدا. - هذا ما حدث وقد كان متأثرا للغاية. أحيانا أرى أنها كانت خسارة شخصية أثناء الحرب، وذلك ما يجعله يتمسك الآن بأعماله المضحكة.
قال «كلارك»: ربما .. إنه من ذلك النوع. أليس هو الذي هجر زوجته بطريقة سيئة؟ - تماما؛ لأن رجلا عنيدا مثله لا يستطيع أن يتعامل مع الأشياء كما هي.
عرف «كلارك» مع مضي الليل كل تفاصيل حياة «وينتربوتوم» الزوجية السيئة، وشعر بالأسف حقيقة على الرجل، وبدا «رايت» أيضا متعاطفا معه، ودون أن يشعر الرجلان كانا يذكرانه باسمه.
قال «رايت» بعد تفكير عميق: مشكلة «وينتربوتوم» الحقيقية أنه مغرم جدا بالنساء القوميات، ولا يمل من مضاجعتهن.
كانت بعض الأفكار الخاصة تراود «كلارك»، وقد نسي للحظة قصيرة كل شيء عن «وينتربوتوم»، وكثيرا ما كان يتساءل أثناء جولته الأخيرة عن مدى انتشار مضاجعة الرجال البيض للنساء القوميات، ويبدو أنه لم يكن يعرف أن المحافظين أيضا كانوا يتعاملون مع السيدات .
لعق شفتيه وقال: ليست المشكلة في أن أعرف أو لا أعرف. إنه رجل مسئول، وأحيانا هو رجل التبشير، وأعتقد أن أباه كان قسا لكنيسة إنجلترا بينما كان والدي كاتبا في بنك.
ضحك كلاهما كثيرا، وفي الصباح أدرك «كلارك» أنه شرب كمية كبيرة من الخمر جعلت كلامه مع مرءوسه مسليا. - أعتقد أنه على صواب فيما يخص أعمال التبشير، وأذكر بالمناسبة أنه في «كيزا» كان يقوم بجولته متأخرا مع الطبيبة المختصة بالتبشير، وبالطبع فإن أذواقنا جميعا تختلف، لكنني لا أعتقد أن الطبيبة المبشرة استطاعت أن تجلب السعادة والمرح للرجل في ذلك المكان الديني المهجور.
تمنى «كلارك» لو عرف المزيد عن النساء القوميات، هل هن أحسن من النساء ذوات البشرة البيضاء؟ وهل يملكن جاذبية خاصة؟ تمنى لو عرف تفاصيل أخرى كثيرة، لكنه لم يكن قادرا على البوح بأسئلته حتى تحت تأثير الجن، فبادر بتغيير الموضوع، وفقد فرصة عظيمة يندر تكرارها .. قرص شفتيه في أسف ثم قال: سمعت من «وينتربوتوم» في الإدارة أشياء توقعت على أثرها أن أرى بعض المهرجين. - أعرف .. إنها دعابة مبتذلة في «أنوجو»، أليس كذلك؟ - كلما ذهبت إلى «أوكبيري» كنت أسمعهم وهم يتساءلون عن الذي حدث مع العجوز «توم»، وكانوا ينظرون إلي بشفقة، وذات يوم سمعت كبير الضباط وهو يقول لشخص ما إن «توم» العجوز ظهر أول مرة في نيجيريا عام 1910م.
قال «رايت» وهو يتثاءب: حسنا، لكنني لا أستطيع القول بأن «توم» العجوز هو أعظم العمال الذين لم أر مثلهم أبدا.
وإذن فمن يكون؟ هكذا كان يفكر «كلارك» أثناء انتظاره لقدوم «وينتربوتوم»، وانتابه شعور بالذنب، لكنه لم يفعل شيئا سوى سعيه لمعرفة بعض التفاصيل القليلة عن حياة الرجل الذي شعر نحوه بالأسف.
دخل المطبخ للمرة العاشرة لرؤية ما يفعله الطباخ بالدجاج فوق نار الخشب .. سيكون الدجاج سيئا إذا كان كما أكله آخر مرة .. لكن الدجاج البلدي جامد وصغير جدا، ولا ينبغي على المرء أن يشكو .. إن الديك الكبير يكلف بنسين، فمن الأفضل إذن لو دفع المرء أكثر من بنسين قليلا من أجل دجاجة إنجليزية جيدة.
كان الطباخ قلقا لمتابعات «كلارك» ودخوله المطبخ كثيرا.
قال له «كلارك»: كيف الحال؟
دعك الطباخ عينيه المشتعلتين بساعده وقال: إنني أحاول.
نظر «كلارك» حوله بغموض، ثم عاد إلى شرفة بيته الخلوي حيث جلس وعاود النظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى السابعة إلا ربعا، ثم بدأ يفكر في الموضوعات التي سيتناقش بشأنها مع «وينتربوتوم» .. كانت جولته الأخيرة قد زودته بموضوعات شتى يمكنه أن يطرحها هذا المساء.
قال لنفسه: إنه لشيء مضحك!
لماذا يشعر بالقلق لأن «وينتربوتوم» قادم على العشاء؟ هل هو خائف من الرجل؟ لا، بالتأكيد لا، لماذا كل ذلك القلق والارتباك إذن؟ لماذا يهتم بلقاء «وينتربوتوم»؟ هل لأن «رايت» أخبره ببعض المعلومات القليلة عن الرجل، والتي لا تتعدى كونها معلومات شائعة؟
فكر «كلارك» مرة أخرى في طبيعة تلك المعلومات .. هل معرفة صديق تكون عائقا؟ ربما، وإذا كانت كذلك فكم يكون زائفا الادعاء الشائع بأن معظم الحقائق التي نعرفها عن الآخرين تكون من اختلاقنا .. ربما تسبب لك بعض الحقائق مأزقا كبيرا، وربما تجعلك تشعر بالأسف وأحيانا بالمسئولية.
نهض «كلارك» على قدميه، وظل يمشي جيئة وذهابا وقد انتابه شعور بالخجل .. ربما كان هذا هو الفرق الحقيقي بين الإدارات الاستعمارية البريطانية ونظيرتها الفرنسية .. إن الفرنسيين يقومون بتنفيذ ما يقررونه، أما البريطانيون فلا ينفذون شيئا قبل إرسال بعثات استكشافية لمعرفة كل الحقائق، وذلك هو السبب في تأخرهم.
جلس مرة ثانية قانعا بما فكر فيه.
سارت الأمور في المساء بشكل طيب، لكن مرتين أو ثلاث مرات شعر خلالهما «كلارك» بالضيق، وكانت إحدى تلك المرات عندما قال له الكابتن «وينتربوتوم» قبل العشاء: قرأت تقريرك أثناء جولتك، وأرى أنك تؤدي واجبك جيدا.
قال «كلارك» بتواضع: أتمنى أن ترى هذه المقاطعة تنمو وتزدهر تحت قيادتك.
ثم توقف لحظة وأضاف قائلا: قيادتك الحكيمة.
بدا «وينتربوتوم» وكأنه لم يسمع ما قاله «كلارك» ثم قال: شيء واحد يقلقني .. لقد قلت في تقريرك إنك لم تجد دليلا على جلد «رايت» للقوميين.
شعر «كلارك» بالارتباك؛ فقد كانت هذه هي الكذبة الوحيدة في التقرير .. كان قد نسي تماما القيام بأي تحقيقات حول ذلك الموضوع، ولم يكن يعرف كيف تكون البداية حول هذا التحقيق الذي تسبب له في قلق كبير، ثم قرر عدم مصداقية هذا القول لكونه لم يسمع ما يؤكد أن «رايت» يجلد القوميين .. كيف يحقق المرء في مثل تلك الأشياء؟ هل يذهب لسؤال أول من يقابله من القوميين عن حقيقة جلد «رايت» لهم؟ أم يكون السؤال موجها إلى «رايت» نفسه؟ إن «كلارك» من خلال معرفته للرجل لا يعتقد أنه من ذلك النوع.
استطرد «وينتربوتوم»: إن الخولي الذي يعمل معي من القوميين في «أوموارو»، كان في إجازة لمدة يومين ثم عاد، وأخبرني أن القرية بأكملها في حالة من الاضطراب؛ لأن «رايت» جلد رجلا ذا شأن.
اضطرب «كلارك» وقال بسرعة: عندما كنت هناك لم أسمع شيئا.
عندما سمعه «وينتربوتوم» يقول «كنت هناك» شعر وكأن ثلاث نحلات قد قرصته. لقد أمضى هناك أسبوعا فقط ويتحدث كأنه يمتلك المقاطعة، وكأن «وينتربوتوم» ولد جديد لا يعرف شيئا، أو كأنه مجرد أبله في الإدارة.
لم يهتم بذلك كثيرا؛ فقد كان مشغولا بالتفكير في اختيار اثنين من الرؤساء الجدد في المنطقة، وظل طوال العشاء دون أن يتحدث في شيء آخر، مما أصاب «كلارك» بالدهشة والقلق، فبدأ في مراقبته من خلال الطاولة، وأحس أنه مرهق جدا وعجوز، لكن «وينتربوتوم» سرعان ما عاود الحديث وقال: أعتقد أنني أخبرتك عن الكاهن الذي قال الحقيقة بشأن الأرض المتنازع عليها بين «أوكبيري» و«أوموارو». - نعم، أعتقد ذلك.
كان «كلارك» يراقب ضيفه بعصبية، ثم قال وهو ممسك بقطعة من الدجاج: هذه الطيور البلدية اللعينة. - حسنا، قررت الآن أن أعينه رئيسا ل «أوموارو»، لقد تذكرت الآن، أن الرجل يدعى «إيزولو» وكلمة «إيز» تعني الملك، فالرجل إذن كاهن للملك.
قال «كلارك»: وهذا يعني أن اختيارك له لن يكون غريبا بالنسبة له. - تماما.
كانا يتناولان الفاكهة الطازجة من الموز والبرتقال حين قال «وينتربوتوم»: لقد وجدت رئيسا مناسبا ل «أوموارو».
ثم ابتسم ابتسامته النادرة وقال مستطردا: وسوف يعيشون في سعادة، لكنني لست متفائلا بالنسبة لآبام.
أحس «كلارك» بالمرارة في طعم الفاكهة وقال: إنهم أولئك القوم الذين قتلوا «ماكدونالد». - نعم .. إنهم كذلك، لكنهم أصبحوا غير مزعجين .. إن بعثة التأديب قد علمتهم درسا لا يمكن نسيانه، لكنهم ما زالوا غير متعاونين، إنهم في كل مكان غير متعاونين.
بعد تناول القهوة والويسكي والصودا أصبح كابتن «وينتربوتوم» ضعيفا وقال: إن السياسات الخاطئة لإدارتنا كثيرة، كما أننا نعاني نقصا في صلابتنا .. أوه، لقد تمزق قلبي، نحن لا نعرف ما نفعل.
قال «كلارك» شيء مؤسف .. كنت أفكر في اهتمامنا بالتحقيق والاستعلام .. يبدو لي ذلك اختلافا جوهريا بيننا وبين الفرنسيين. إن الفرنسيين يعرفون ما يريدون ويقومون بتنفيذه بينما نحن ننتظر وننتظر حتى نكتشف كل الحقائق، كما لو أن الحقائق تعني أي شيء، كما أننا نتخيل بأن حصولنا على المزيد من الحقائق عن الأفارقة يجعل حكمهم يسيرا، ولكن الحقائق ...
قاطعه «وينتربوتوم»: إن الحقائق مهمة، والاستعلام مفيد، لكن فشل إدارتنا هو التعيين الخاطئ والثابت دون الاهتمام بنصيحة أولئك الذين أمضوا وقتا طويلا هنا.
شعر «كلارك» بالغضب لمقاطعة «وينتربوتوم» له، وعدم إعطائه الفرصة لإنهاء كلامه، الذي أعد نفسه كي يشير إليه بطريقة جميلة.
الفصل الحادي عشر
بعد الاحتفال بأوراق القرعة غادر «إيزولو» أرضه للمرة الأولى في زيارة لصديقه «أكيوبو»، الذي كان جالسا في كوخه على الأرض، مشغولا بإعداد بذور اليام التي استأجر عمالا لزراعتها. في الصباح التالي، كان «أكيوبو» جالسا بين كومتين من اليام ممسكا بسكين خشبية حادة. كانت الكومة الكبيرة فوق الأرض المنبسطة على يمينه والكومة الصغيرة داخل سلة طويلة، تناول من السلة واحدة من اليام، ونظر فيها بإمعان، ثم قام بتقشيرها بالسكين، ووضعها إلى يمينه فوق الكومة الكبيرة، فتناثرت فضلات القشور أمامه، وسط قشور أخرى كثيرة من اليام ذات لون بني.
تصافح الرجلان، وتناول «إيزولو» جلد الماعز الملفوف تحت ذراعه، ثم بسطه على الأرض وجلس .. سأله «أكيوبو» عن عائلته، ثم راح يواصل العمل في تقشير اليام.
أجاب «إيزولو»: إنهم بخير، وماذا عن أهلك ؟ - بخير أيضا. - إن بذور اليام هذه كبيرة وطازجة، هل جئت بها من الشونة التي تمتلكها أم من السوق؟ - ألا تعرف أن لي نصيبا في أرض «أنيتيتي»؟ نعم، إنها من حصاد تلك الأرض.
هز «إيزولو» رأسه قليلا: هي أرض عظيمة، ومثل تلك الأرض تجعل من الكسالى فلاحين مهرة.
قال «أكيوبو» مبتسما: تود لو تستفزني، لكنك لن تستطيع.
ألقى «أكيوبو» بالسكين فوق الأرض، وصاح مناديا ابنه «أوبيلو» الذي سارع بالمجيء، كان وجهه مليئا بالعرق، وقال مرحبا: «إيزولو». - ولدي.
ثم توجه «أوبيلو» إلى والده لتلقي رسالته، فقال له أبوه: أخبر والدتك أن «إيزولو» يبعث إليها بتحياته، وإذا كان لديها جوزة الكولا فعليها بإحضارها.
عاد «أوبيلو» من حيث جاء.
قال «أكيوبو» وكأنه يتحدث إلى نفسه: رغم أنني لم أتناول جوزة الكولا في آخر مرة ذهبت فيها إلى بيت صديقي.
ضحك «إيزولو» قائلا: ماذا نقول في الرجل الذي يأكل وينكر؟ - وكيف أعرف؟ - إنها تجعل مؤخرته تجف، ألم تخبرك أمك بذلك؟
كان «أكيوبو» يعاني ألما في خصره، فنهض ببطء شديد، ثم قال: يعتبر التقدم في السن نوعا من أنواع المرض.
بذل مجهودا كبيرا كي لا ينحني بيد واحدة فوق فخذه، وعندما انتصب إلى ثلاثة أرباع قامته اعترف بعجزه وقال: كلما جلست بعض الوقت يصبح لزاما علي الوقوف مرة ثانية لممارسة المشي وكأنني طفل صغير.
ابتسم وهو يدلف كالأطفال عابرا المدخل المنخفض من كوخه .. تناول طاسة خشبية وكومة من الطباشير بداخلها ثم قدمها إلى ضيفه.
التقط «إيزولو» الطباشير، ورسم خمسة خطوط على الأرض، ثلاثة خطوط رأسية وخط أفقي من أعلى وآخر من أسفل، ثم رسم أحد أصابع قدميه الكبيرة، وخطا أبيض حول عينه اليسرى.
واحدة فقط من زوجتي «أكيوبو» الاثنتين كانت بالمنزل، أسرعت في الدخول إلى الكوخ لتحية «إيزولو»، وأخبرته أن الزوجة الأولى قد ذهبت لرؤية شجرة النخيل وجني الفاكهة الطازجة.
عاد «أوبيلو» حاملا جوزة الكولا، ثم تناول الطاسة الخشبية من أبيه، ونفخ فيها لإزالة ما علق بها من رمال، ثم وضع جوزة الكولا بداخلها ، وقدمها ل «إيزولو».
قال «إيزولو»: شكرا لك، ولتناولها لأبيك كي يكسرها. - لا، أدعوك أنت لكسرها. - مستحيل؛ فنحن لا نتجاوز رجلا في بيته.
قال «أكيوبو»: أعرف ذلك، لكنك ترى أنني مشغول، وأطلب منك القيام بهذه الخدمة من أجلي. - لا يمكن للرجل أن يكون مشغولا بما يكفي بما يمنعه عن كسر أول جوزة للكولا في بيته، ضع اليام على الأرض فلن تهرب منك. - ليست أول جوزة للكولا هذا اليوم، لقد كسرت الكثير. - قد يكون ذلك، لكنك لم تكسر أيا منها في وجودي. إن وقت الصباح عند الإنسان هو الوقت الذي يستيقظ فيه.
أجاب «أكيوبو»: نعم، سأكسرها ما دمت ترى ذلك. - أرى ذلك حقيقة. إن العين ترى فقط ولا تسمع.
تناول «أكيوبو» جوزة الكولا بين يديه، وقال قبل القيام بتكسيرها: كلانا سوف يعيش.
كانت البندقية قد دوت بطلقتين فور وصول «إيزولو»، وها هي الطلقة الثالثة تدوي في الأفق.
تساءل «إيزولو»: ماذا يحدث هناك؟ هل ترك الرجال الغابة وجاءوا للصيد هنا؟ - أوه، ألم تسمع بأن «أوجبوفي أمالو» مريض جدا؟ - حقا! وإلى حد إطلاق النار؟!
انخفض صوت «أكيوبو» وقال: نعم .. ماذا كان يوم الأمس؟
أجاب «إيزولو»: «إيك». - نعم .. لقد كان يوم «إيك» حين كان عائدا إلى بيته من المزرعة، وكم كان يرتعد من البرد رغم حرارة الظهيرة! كما أنه لم يكن قادرا على حمل منجله، وكانت أصابعه ملتوية. - وماذا قالوا؟ - أعتقد كما رأيت بالأمس وهذا الصباح أنها ال
aru-mmo
1 - أرجوك لا تنطق بها مرة ثانية. - ولكنني لم أقل لك بأن أحدا أخبرني، لقد رأيت بعيني.
بدأ «إيزولو» يصر أسنانه، ثم استطرد «أكيوبو» قائلا: ذهبت لرؤيته هذا الصباح وكان يتنفس بصعوبة.
سأل «إيزولو»: ومن الذي جاء لعلاجه؟ - رجل يدعى «وديكا» من «أموفيا»، وكنت قد أخبرتهم هذا الصباح بالذهاب مباشرة إلى «أنينتا»؛ حيث يوجد طبيب يستطيع أن يمص المرض من بين إبهام يده وأصابعه. - وإذا كان مرض ال
aru-mmo
كما قلت فلن يكون له علاج إلا بالنار.
قال «أكيوبو»: هو كذلك، ولكننا لا نستطيع أن نضع أيدينا فوق أفخاذنا دون عمل شيء سوى مراقبة الرجل الأبيض لاثني عشر يوما. كان من الواجب أن نفعل شيئا، وهكذا أشرت إلى ذلك الطبيب في «أنينتا». - أعتقد أنك تتحدث عن «أجاديك» الذي يدعونه «أنيانافومو». - أنت تعرفه إذن، إنه هو. - أنا أعرف الكثير من الناس في «أولو» و«إيبو». «أجاديك» طبيب وعراف عظيم، لكنه لا يستطيع مجرد خوض معركة في بيت الإله الأكبر. - لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك.
دوت في الأفق طلقات الرصاص مرة أخرى.
قال «إيزولو»: إن طلقات البنادق هذه لا تتعدى كونها بعض الملامسات الحمقاء، كيف نستطيع بدوي البندقية أن نخيف الأرواح ونطردها بعيدا؟ إذا كان الأمر كذلك فإن أي رجل يملك نقودا كافية لشراء برميل صغير من البارود يستطيع أن يعيش ويعيش حتى ينبت الفطر في رأسه .. إذا كنت مريضا وجاءوا لي بالرجل المعالج، الذي يعرف عن الصيد أكثر من معرفته عن العشب والنبات، فسوف أطرده وأبحث عن آخر.
ساد الصمت لحظة قصيرة بين الرجلين، ثم قال «أكيوبو»: من خلال ما شاهدته هذا الصباح أستطيع القول بأننا سنسمع شيئا قبل حلول الفجر الآتي.
هز «إيزولو» رأسه إلى أعلى وأسفل عدة مرات، وقال: إنها قصة مؤسفة، ونحن لا نستطيع أن نشعل حريقا في العالم.
عاود «أكيوبو» عمله في تقشير اليام، فاستطرد «إيزولو»: هكذا يقول الناس عندنا، كما يقولون أيضا بأن زيارة رجل في مكان عمله تسبب له الاكتئاب.
دوت في الفضاء طلقات الرصاص مرة أخرى، فأثارت انفعال «إيزولو» الذي أضاف: سأذهب وأقول للرجل أن يقدم علاجا للمريض، وإذا لم يكن لديه ذلك العلاج فعليه أن يوفر البارود لاستخدامه في جنازته.
قال «أكيوبو»: ربما يعتقد أن البارود رخيص مثل رماد الخشب، لكن ما هو أكثر أهمية من ذلك هو ألا تقول شيئا إذا ذهبت إلى هناك؛ فقد يظنون أنك تبغي شرا بقريبهم، وقد يتساءلون بعد عودتك عن قيمة البارود بالنسبة لحياة رجل؟
لم يكن «إيزولو» في حاجة لرؤية المريض مرتين حتى يعرف أنه لن يتجاوز الاثني عشر يوما التي تهبه إياها الأرواح في صراعه مع المرض .. كان الرجل راقدا فوق سرير البامبو وقد لفوا جسده بقطعة من القماش المدهون بالمرهم، وأشعلوا قرمة من الخشب بجانب السرير، فامتلأ الهواء بالدخان، وكان صوته وهو يلتقط أنفاسه كصوت الخشب السميك لحظة انغلاقه.
قدم «إيزولو» التحية بعينيه فور دخوله الحجرة، لكن المريض لم يستطع التعرف على «إيزولو»، الذي سارع بالنظر إلى جانب السرير، وأطال النظر إليه في هدوء، ثم تقدم وشارك الأقرباء الجلوس.
كانوا يتحدثون بأصوات خفيضة جدا تشبه الهمس حين تساءل «إيزولو» قائلا: ماذا فعل الرجل كي يحدث له ذلك؟
أجاب أحد الرجال: نحن جميعا نسأل أنفسنا نفس السؤال، ولم نتوقع أبدا ما حدث. لقد استيقظنا ذات صباح فرأينا عظام الساق مشوهة.
كان الطبيب المعالج بالأعشاب جالسا بالقرب من الجماعة، ولم يقل شيئا .. تفحص «إيزولو» الحجرة بعينيه، وعرف كيف أن الرجل قام بتحصينها لمنع دخول الأرواح، كانت تتدلى من السقف ثلاث قرعات طويلة مغلفة بأوراق الموز الجافة، وقرعة رابعة منتفخة تستخدم عادة لحمل النبيذ معلقة فوق الرجل المريض مباشرة، وحول عنق القرعة حبل من الأصداف وعنقود من ريش الببغاء بداخلها، بدا وكأن شيئا يغلي حول أقدامهم كان يجبرهم على الدوران حول فم القرعة، وكان اثنان من رءوس فرخ الدجاج يتدليان إلى أسفل كقربان.
كان المريض هادئا إلا من أنفاسه المتقطعة، وفجأة راح يصدر صوتا كالزئير، ثم توقفوا جميعا عن الكلام.
كان الطبيب قد رسم بالطباشير الأبيض حول إحدى عيني المريض وأحد الجلود الكبيرة كانت تغطي الحجاب في خصره الأيسر، نهض الطبيب وسارع بالخروج، وكانت قاعدة البندقية عند العتبة على الأرض وماسورة البندقية تشير إلى الكوخ، فالتقطها، واتجه إلى الخلف، ثم قام بإطلاق النيران .. فزع الدجاج كما يفزع حين رؤيته حيوانا متوحشا.
كان المريض يتحدث بأشياء لا معنى لها حين عاد الطبيب إلى الكوخ وقال: أحضر لي الأوفو الخاص به.
تناول أحد إخوة المريض عصاه الخشبية القصيرة من شونة البيت، والتي كانت معلقة ومربوطة بالحبال في العارضة الخشبية، ثم التقطها منه الطبيب الجالس القرفصاء بجوار السرير ، وفتح يد المريض اليمنى وقال له: امسكها، اضغط بأصابعك حول العصا، واقبض عليها وقل لهم لا، هل تسمعني؟ قل لا.
شيئا فشيئا بدأت الأصابع تقبض على العصا ببطء مثل المخلب.
قال الطبيب وهو يبتعد بيديه تاركا ورق الأوفو في قبضة «أمالو»: صواب ما تفعل، قل لهم لا.
وفور أن ابتعد بيديه تماما اهتزت أصابع «أمالو»، وفتح يده، فتساقط الأوفو على الأرض.
تبادلوا جميعا نظرات ذات معنى ولم يقل أحدهم شيئا.
نهض «إيزولو» ثم قال: اعتنوا به جيدا.
أجاب الآخرون: تصحبك السلامة.
أصابت «أوبيكا» دهشة عظيمة لما جاءت العروس مع أهلها، وتساءل بدهشة عن قدرته في عدم الاقتراب منها أثناء زيارتها الأخيرة .. كان يعرف أن قليلا من أقرانه الشباب هم الذين استطاعوا السيطرة على مشاعرهم، والالتزام بذلك القيد الذي تتطلبه العادات القديمة، غير أن ما كان صوابا يظل صوابا .. انتابه الإعجاب بنفسه؛ فقد أصبح مؤيدا للعادات، ومثل السحلية التي تسقط من شجرة الإيريكو العالية شعر بالثناء على نفسه.
كانت العروس بصحبة أمها التي شفيت من المرض مؤخرا وعدد من قريناتها البنات وبعض صديقات أمها، كثير من النساء كن يحملن أشياء العروس فوق رءوسهن؛ أواني للطهي، طاسات خشبية، مكانس، هاونا، يد الهاون، سلالا، حصائر، مغارف، زجاجات زيت النخيل، سلالا من جوزة اليام، سمكا، منيهوت خمر، فول الصويا، ملحا وفلفلا، أقمشة ملفوفة، طبقين وإناء حديديا من منتجات الرجل الأبيض قاموا بشرائها من المركز التجاري الجديد في «أوكبيري».
امتلأ بيت «إيزولو» وبيوت أبنائه بالأقارب والأصدقاء انتظارا لقدوم العروس، التي جاءت وبرفقتها عشرون من الفتيات العذراوات المتزينات. وكانت العروس واقفة بينهن ولم تكن أطول منهن فقط وإنما أكثرهن لفتا للأنظار في هيئتها وزينتها. كانت قد سوت شعرها بطريقة تناسب انتقالها الوشيك إلى عالم النساء.
غنت البنات أغنية الأفيوما، وقلن: لقد جاء شيء جميل، فليأت كل شخص بكل ما يملك من أشياء جميلة ويقدمها للعروس.
تجمعوا حولها في دائرة، وراحت ترقص على نغمات الأغنية، وكذا فعل زوجها بينما اقتحم أعضاء عائلة «إيزولو» الدائرة، وراحوا يلصقون النقود فوق جبهتها .
كانت العروس تبتسم تاركة الهدايا تسقط إلى قدميها، بينما كانت إحدى البنات تلتقطها، وتضعها في طاسة.
كان اسم العروس «أوكواتا»، وكانت طويلة مثل أبيها المنحدر من جنس العمالقة، وذات وجه متسق منمق ذي تقاطيع مليحة، حتى إن بعض الناس كان يدعوها «أويليدي»؛ لأنها تشبه زوجها في الحسن والبهاء، كان ثديها منتصبا إلى أعلى في رقة وشعرها مصففا على طريقة «أوتيميلي» الجديدة، وثمانية من الأخاديد الصوفية كانت تتخلل القفا إلى مقدمة الرأس، تنتهي بعنقود مثل إكليل الزهور. وكانت ترتدي أكثر من خمسة عشر حبلا من ال «جيجيدا» حول خصرها، كثير منها بلون الدم فيما عدا اثنين أو ثلاثة بلون أسود. وكانت بعض الحبال ذات اللون الأحمر القاني بلون الدم تتزين بالدوائر والأقراص .. في الغد سوف تربط خصرها كالمرأة الناضجة، وعندئذ سيكون جسدها في مأمن من تحديق العامة.
كانت حبال ال «جيجيدا» تصدر أصواتا كالخشخشة أثناء قيامها بالرقص، وتعمل على إخفاء خصرها والجزء السفلي من أردافها. ومن الأمام كان أحد الحبال معقودا بحبل آخر من تحت سرة بطنها إلى رحمها، مغطيا الجزء الأكبر، ومتجنبا الظل المظلم لوقت قصير.
البنات الأخريات كن يرتدين نفس الزي، فيما عدا أن معظمهن كن يتحلين بحبال أقل قيمة من ال «جيجيدا».
واصلوا احتفالهم حتى غروب الشمس .. كانت أواني اليام والفوفو كثيرة وكذا شوربة الأوراق المرة، واثنان من أرجل الماعز المغلية، وطاستان من سمك الآسا المطهي، وبراميل صغيرة من النبيذ الحلو.
ما إن أبصرت النساء ذلك الطعام الشهي حتى ارتفع صوت المغنية مرددا تلك الأغنية القديمة عن الشكر والثناء:
كوا - كوا - كوا - كوا - كوا
كووو .. وه!
مرة ثانية سنبدأ في الأكل كما لم نفعل من قبل!
من يقدم المزيد؟
ما هذا؟
من يقدم المزيد؟
ما هذا؟ «أوبيكا إيزولو» يقدم المزيد.
آيو ... و... و... و... أوه.
رحلت أم «أوكواتا»، ورحل معها كل من جاء برفقتها من القرية. لقد عادوا إلى بيوتهم تاركين إياها.
شعرت «أوكواتا» باليتم، واغرورقت عيناها بالدموع، ثم اصطحبتها حماتها إلى الكوخ لتبقى حتى الانتهاء من تقديم القرابين عند مفترق الطرق.
استأجروا عرافا لممارسة الطقوس، التي بدأت في وجود الأخ الأكبر غير الشقيق وأمه والعروس دون «إيزولو»، الذي نادرا ما يغادر كوخه بعد الظلام .. رفض «أودوش» اللحاق بهم كي لا يسبب حرجا للواعظ.
بدءوا السير في الطريق العام المؤدي إلى «أوميوزيني»؛ حيث جاءت العروس، وكان الظلام قاتما ولا شيء يوحي بظهور القمر، غير أن ضوءا قليلا كان ينبعث من المصباح الذي تحمله أم «أوبيكا»، كانت تحيط بكفها فتيل المصباح لحماية اللهب من الرياح التي هبت مرتين، اضطرت خلالهما إلى الاختباء لإشعال المصباح داخل أرض «أنوسي» في المرة الأولى، ثم داخل كوخ أرملة «ميمبولو» في المرة الثانية.
كان «أنيبوكا» العراف يسير بهدوء أمام المجموعة، وعندما كان يبدأ في الكلام كان يرفع صوته وكأنه يتحدث إلى أحد الجيران من خلال الحائط.
لم يكن «أنيبوكا» واحدا من رجال الطب المعروفين في العشيرة، لكن اختياره كان من أجل صداقته مع أهل «إيزولو»، كما أن التضحيات والقرابين التي سيقوم بها لا تستدعي مهارة خاصة. كان الأطفال يعرفونه ويسارعون بالهرب فور اقترابه؛ لأنه قال ذات يوم بأنه استطاع تحويل شخص ما إلى كلب بصفعة فوق أردافه. كانوا يضحكون منه في غيابه؛ لأن إحدى عينيه تشبه صدفة البحر المتشققة بعد أن أصابها الضرر حين كان صغيرا، أثناء تلويحه في الهواء بإحدى النهايات الحادة من أفرع الموز ليعود من جديد لالتقاطها.
كانوا في طريقهم عبر الظلام يلتقون ببعض الناس الذين يتعرفون عليهم من أصواتهم عند القيام برد التحية. وكان ضوء المصباح الخافت يجعل من السهل على الآخرين رؤيتهم بأفضل مما هم يستطيعون.
كانت الحقيبة الجلدية الكبيرة التي يحملها «أنيبوكا» فوق كتفه تطقطق بأصوات ناعمة وثابتة. وكانت العروس تحمل في إحدى يديها طاسة من الطين المحروق ودجاجة في اليد الأخرى، ومرة إثر أخرى كانت الدجاجة تصرخ بصوت حاد كما تفعل الدجاجات عندما يهاجم الحظيرة مجهول في الليل. في الوسط تماما كانت «أوكواتا» تسير بمزيد من السعادة والخوف. وكان كل من «أوبيكا» و«إيدوجو» يقودان الطريق حاملين المنجل دون التوقف عن الحديث، غير أن «أوبيكا» كان في غفلة عن الحديث، كان مشغولا بمحاولة الإصغاء لصوت حبال ال «جيجيدا» التي تطوق عروسه، حتى استطاع أن يفرق بين خطواتها وخطوات الآخرين من خلفها، كان يعرفها من خطواتها. وكم كان قلقا من اللحظة التي سيأخذ فيها زوجته إلى كوخه بعد الانتهاء من تقديم القرابين! ترى هل سيجدها في البيت كما قالوا أم أنه سيعرف بأن أحدا قد اقتحم البيت وانطلق بجائزته؟ لا، إن الجميع يعرف رجاحة عقلها وتصرفاتها الطيبة.
كانت هدية «أوبيكا» لحماته ماعزا كبيرا إذا تبين أن زوجته عذراء. وقد ساوره القلق من عدم استطاعته تقديم هذه الهدية. وكان يحمل في يده اليسرى إناء صغيرا من الماء يتدلى من رقبته، بينما كان شقيقه من أم أخرى يمسك بعنقود من سعف النخيل المقطوع من قمة إحدى الأشجار.
وصلوا بعد عناء إلى مفترق الطريق العام المؤدي إلى قرية العروس؛ حيث ساروا مسافة قصيرة ثم توقفوا. اختار العراف مكانا في الوسط، وسأل «أوبيكا» أن يحفر حفرة في ذلك المكان، ثم قال لأم «أوبيكا»: ضعي المصباح هنا.
فعلت كما قال لها، وجلس «أوبيكا» القرفصاء بادئا في الحفر.
قال العراف: اجعلها أكثر اتساعا، نعم هكذا.
كان الرجال الثلاثة في وضع القرفصاء، وكل واحدة من النساء راكعة على ركبتيها وجسدها منتصب، وفي تلك اللحظة اشتد ضوء المصباح.
استطرد العراف قائلا: لا تحفر المزيد، هي عميقة الآن بما يكفي، تناول الرمال وألق بها خارج الحفرة.
راح العراف يتناول القرابين من حقيبته بينما راح «أوبيكا» يجرف الأرض الحمراء بكلتا يديه. كانت القرابين تتكون من أربعة قطع من اليام الصغيرة وأربع قطع أخرى من الطباشير الأبيض وزهرة الليل البرية. - أعطني ال «أومو»
OMU .
2
قدم له «إيدوجو» أوراق النخيل الرقيقة، واقتلع أربع وريقات صغيرة ووضع البقية جانبا، ثم قال العراف لأم «أوبيكا»: أعطني ال إيجو نانو
3
ego nano ، سارعت أم «أوبيكا» بفك عنقود الأصداف من جلبابها وناولته إياه، فقام على الفور بحساب عدد الأصداف بعد أن ألقى بها فوق الأرض بعناية، كما تفعل النساء عندما يشترين أو يبعن شيئا في السوق، كانت أربع مجموعات من الأصداف، فهز رأسه.
نهض واقفا على قدميه، وطلب من «أوكواتا» الجلوس بجوار الحفرة في اتجاه قريتها، على أن تركع على كلتا ركبتيها، ثم جلس في الوضع المضاد لها في الجانب الآخر من الحفرة والقرابين أمامه، بينما اصطف الآخرون في الخلف.
تناول العراف واحدة من اليام، وقدمها إلى «أوكواتا»، التي لوحت بها حول رأسها، ثم ألقت بها في الحفرة، وحدث نفس الشيء مع قطع اليام الثلاثة الأخرى، ثم قدم لها إحدى قطع الطباشير الأبيض، فسارعت بوضعها في الحفرة، وكذا فعلت مع أوراق النخيل وزهرة الليل البرية. وكانت إحدى مجموعات الأصداف هي آخر ما قدمه لها، فأغلقت عليها بكفها، ثم ألقت بها في الحفرة مع بقية الأشياء، وبعد ذلك مباشرة أعلن العراف المغفرة، وقال: «مهما كانت الشرور التي سوف ترينها بعينيك، أو تقولينها بفمك، أو تسمعينها بأذنيك، أو تطؤها قدمك، حتى لو تسبب فيها والدك ووالدتك، فإنني قد دفنتها كلها هنا.»
فور الانتهاء من آخر كلمة تناول طاسة الصلصال المحروق، ووضعها فوق بقية الأشياء في الحفرة، ثم قام بإعادة التراب إلى الحفرة، وقال: أين الماء؟
ناولته أم «أوبيكا» إناء الماء، وانحنت العروس بخصرها، وبدأت في غسل وجهها ويديها وذراعيها وقدميها حتى ركبتها. وبعد أن فرغت من ذلك قال لها العراف: تذكري بأنك لن تمري في هذا الطريق حتى الصباح، حتى لو ضربك أبطال «آبام» هذه الليلة، أو هجرت حياتك.
قالت حماتها: إن الإله الأعظم لن يتركها تهجر حياتها، لا اليوم ولا غدا.
وقال «أنيبوكا»: نحن نعرف بأنها لن تفعل، ولكن يجب أن نستمر في فعل الأشياء كما هي.
ثم اتجه نحو «أوبيكا» وأضاف: لقد فعلت كما أردت، وسوف تلد لك زوجتك تسعة أبناء.
قال «أوبيكا» و«إيدوجو» معا: شكرا.
التقط العراف حقيبته، ووضعها فوق أحد كتفيه وقال: هذه الدجاجة سترافقني إلى المنزل.
ربط قدمي الدجاجة بحبل من أوراق الموز، وأمسك بها، وكانت أعينهم تحدق في الدجاجة حين قال: سوف أتناولها بمفردي، ولا يجب أن يزورني أحد في الصباح؛ فلن أشارك أحدا فيها.
ضحك بصوت مدو مثل رجل مخمور وهو يضيف: الآن ودائما ينبغي مكافأة العرافين.
استطرد ضاحكا مرة أخرى: إن عازف الفلوت يتوقف عن العزف أحيانا لكي يمسح أنفه، أليس هذا ما قلناه؟
أجاب «إيدوجو»: نعم، ذلك ما قلناه.
ظل يتحدث بصوت عال طوال طريق العودة وقد سيطر عليه إحساس بالفخر بسبب اختياره من العشيرة، بينما كان الآخرون ينصتون بلا اهتمام، وقليلا ما كانوا يتحدثون، لكن «أوكواتا» كانت الوحيدة التي لم تفتح فمها بكلمة واحدة.
عندما وصلوا إلى «آلو آجبا سيوسو» غادرهم العراف، واتجه يمينا، وما إن أصبح بعيدا عن مدى السمع حتى سارع «أوبيكا» بالقول متسائلا: هل هي عادة العرافين أن يأخذوا الدجاج إلى منازلهم؟
قالت أمه: لقد سمعت أن بعضهم يفعل ذلك، لكنني لم أر مثل ذلك إلا اليوم. لقد دفنوا دجاجتي مع بقية القرابين.
وقال «إيدوجو»: لم أسمع قط عن ذلك. ويبدو لي أن الرجل يخطف كل ما يقع تحت بصره.
أضافت أم «أوبيكا»: كان يجب أن نضحي بالدجاجة. وها قد فعلنا. - وددت لو أسأله هو. - لا يا ولدي، كان من الأفضل أنك لم تفعل؛ فليس هذا وقتا للصراع والنزاع.
ذهب «أوبيكا» وزوجته «أوكواتا» لتحية «إيزولو» قبل أن يتوجها إلى منزلهم الخاص.
قال «أوبيكا»: أبي، هل يأخذ العراف عادة الدجاجة إلى منزله، الدجاجة التي كان ينبغي أن تقدم مع القرابين؟ - لا يا ولدي، وهل هذا ما فعله «أنيبوكا»؟ - نعم، ولقد أردت أن أسأله عن هذا، غير أن أمي أشارت لي بألا أقول له شيئا. - هي ليست عادة، ولكن فلتعرف أن كثيرا من الناس يتمتعون بنهم وشراهة، ومعظمهم من العرافين.
ارتسمت علامات القلق فوق وجه «أوبيكا» فاستطرد «إيزولو»: خذ زوجتك إلى البيت، ولا تجعل مثل هذه الأشياء تضايقك؛ فإن العراف إذا أراد أن يأكل أمعاء القرابين كالنسر فذلك شأنه الخاص، لقد قمت أنت بدورك.
رحل «أوبيكا» مع زوجته، وأحس «إيزولو» بسرور دافئ ملأ قلبه الذي لم يعرف السرور منذ أيام عديدة، ثم تساءل بينه وبين نفسه قائلا: هل تغير «أوبيكا» وصار شخصا آخر؟ لماذا جاء إلى والده ليسأله بمثل هذه الطريقة من الاهتمام؟ كثيرا ما قال «أكيوبو» بأن «أوبيكا» سيتغير سلوكه يوم أن تصبح له امرأة، ربما كان في طريقه للتغيير.
تذكر «إيزولو» أن «أوبيكا» كان في الماضي يراقب العراف حتى يجبره على دفن الدجاجة.
تذكر ذلك و... وابتسم.
الفصل الثاني عشر
ظهرت «أوكواتا» عند الفجر مرتبكة وخجولة، كانت ترتدي ستار عورتها غير المألوف، لكن خجلها كان ممتزجا بالكبرياء، ودون استحياء تقدمت لتحية والد زوجها، الذي كان يقوم - في نفس اللحظة - بإعداد الماعز وبعض الهدايا الأخرى لإرسالها إلى أمها في «أوميوزيني»؛ لأنها أهدته عروسا عذراء .. شعرت «أوكواتا» بارتياح شديد؛ لأن الخوف كثيرا ما سيطر عليها منذ أن كانت تلعب مع «أوبيورا».
ظلت «أوكواتا» لسنوات عديدة خائفة؛ لأن كل البنات تعرف حكاية «أوجبانج أومينيني»، التي أخطأت عند الشجيرة في الطريق العام، وأرسل زوجها طالبا المنجل من والدها لقطع تلك الشجيرة.
في الصباح كانت الزوجة الجديدة في طريقها إلى الجدول، فأراد كل الأطفال في بيت «إيزولو» أن يذهبوا إلى هناك من أجل الماء، وكذلك «أوبياجيلي» الصغيرة، التي أسرعت بإظهار إناء الماء الخاص بها رغم كراهيتها للجدول؛ لأن الطريق المؤدي إليه مليء بالأحجار الحادة، لكنها لم تستطع أن تتوقف عن البكاء عندما أخبرتها أمها أن تبقى للاعتناء بطفل «آموج».
كانت «أوجيوجو» أخت «أوبيكا» الصغرى تروح وتجيء في لياقة وحشمة كمن له الحق الخاص في العروس؛ ذلك أن أصغر الأطفال في أرض الرجل يعرف كوخ الأم من بقية الأكواخ الأخرى، وكذلك كانت «ماتيفي» أم «أوجيوجو» تتصرف بنفس اللياقة، ولكن بتأن شديد وتحت قيود مدروسة، ولم تكن في حاجة لأن تقول لزوجة زوجها الصغيرة بأنها كانت تريد زوجة لابنها، أو أن تثبت لها أن زوجة للابن لأكثر شرفا من امتلاك العاج وتجويع الأطفال.
بصقت على الأرض وقالت لابنتها وزوجة ابنها: عليكما بسرعة العودة قبل أن يجف هذا البصاق من فوق الأرض.
قال «وافو»: سنتأخر فقط من أجل الاستحمام، وقد نستخرج بعض الماء ونستحم في وقت آخر.
قالت أمه التي تظاهرت بتجاهل زوجة زوجها الصغيرة: أنت مجنون، وإذا شئت أن تعرف بأنني أكثر جنونا منك فلتعد من الجدول بجسدك كما فعلت بالأمس.
قالت ذلك بحدة وغضب يوحيان بأن ما قاله «وافو» كان سبب غضبها، لكن عدم مشاركته في الاضطراب المثير الذي حدث في الكوخ الآخر كان هو السبب الحقيقي وراء غضبها.
قالت لابنتها: ماذا يعني زحفك كالدودة؟ هل لا بد أن تذهبي للجدول.
ارتدى «أودوش» ستار عورته المخطط والصديري الأبيض الذي يرتديه عادة عند ذهابه للكنيسة أو المدرسة، فشعرت أمه بمزيد من الغضب، لكنها نجحت في الاحتفاظ بهدوئها.
عادت «أوبياجيلي» مسرعة إلى كوخ «إيزولو» بعد الانتهاء من حفلة الماء عند الجدول، وكانت تحمل طفل «آموج» فوق ظهرها، وكان واضحا أنها أصغر من أن تحمله؛ لأن إحدى قدميه كانت تلامس الأرض.
قال «إيزولو»: مجانين هؤلاء الناس، من الذي ترك الطفل المريض معك؟ عودي به في الحال إلى أمه.
قالت «أوبياجيلي»: لكنني أقدر على حمله. - من منكم يحمل الآخر؟ .. اذهبي به إلى أمه.
أجابت «أوبياجيلي» وهي تنط بأصابع قدميها محاولة الحفاظ على عدم سقوط الطفل من فوق ظهرها: لقد ذهبت إلى الجدول وها أنا ذا أستطيع أن أحمله كما ترى.
قال «إيزولو»: أعرف أنك تستطيعين ولكنه مريض، ولا ينبغي أن يهتز كثيرا، خذيه إذن إلى أمك.
أومأت «أوبياجيلي» برأسها، ودلفت إلى الداخل، وكان «إيزولو» متأكدا أنها ما زالت تحمل الطفل الذي بدأ في الصراخ.
اجتهدت «أوبياجيلي» كثيرا، وحاولت باستخدام صوتها الرقيق أن توقف الطفل عن البكاء، وراحت تغني له كي ينام: «قل للأم إن طفلها يصرخ.
قل للأم إن طفلها يبكي.
ثم جهز حساء ال «أوزيزا»،
وأيضا حساء ال «أوزيزا»،
واصنع شوربة الماء بالفلفل؛
فإن الطيور الصغيرة التي تشربها
سوف تهلك جميعا.
إن ماعز الأم في الشونة،
ولن تكون اليام في أمان.
إن ماعز الأب في الشونة،
وسيأكلون كل اليام.
هل تستطيعين رؤية ذلك الغزال الذي يقترب؟
لقد لدغه الثعبان!
إنه ينسحب!
جا - جا - جا - كولو كولو!
الصقر المسافر،
مرحبا بك في بيتك.
جا - جا - جا - كولو كولو!
ولكن أين قطعة القماش التي اشتريتها؟
جا - جا - جا - كولو كولو!»
صاح «إيزولو»: «وافو» .. «وافو»!
أجابت أمه من داخل كوخها: ذهب «وافو» للجدول!
هتف «إيزولو»: ماذا عن «وافو»؟
اضطرت «أوجوي» أن تدخل الكوخ بنفسها، وقالت: لقد ذهب إلى الجدول بمحض اختياره، ولم يطلب منه أحد الذهاب.
أجاب «إيزولو» بسخرية مقلدا صوت الأطفال: إن أحدا لم يطلب منه الذهاب. ألا تعرفين أنه يكنس كوخي كل صباح؟ أم أنك تتوقعين أن أكسر جوزة الكولا وأستقبل الناس في كوخ قذر؟ هل يكسر والدك جوزة الكولا الصباحية فوق رماد خشب الأمس؟ كل القلاقل التي تثيرونها أيها الناس في هذا المنزل سوف تقع فوق رءوسكم .. إذا كان «وافو» قد أصبح أكبر من أن يستمع إليك، فلماذا لم تطلبي من «أودوش» أن يأتي وينظف كوخي؟ - ذهب «أودوش» مع بقيتهم.
لم يجد «إيزولو» مزيدا من الكلام للقول، لكن زوجته سارعت بالخروج وعادت مسرعة وهي تحمل مكنستين، نظفت الكوخ بتلك المصنوعة من أوراق النخيل، وواجهة الكوخ بالأخرى المصنوعة من حزمة أوراق الأوكباكبا الأكثر طولا ومتانة. وكان «أوبيكا» في تلك الأثناء قادما من كوخه وهي تكنس في الخارج فقال: هل تكنسين هذه الأيام؟ أين «وافو»؟
أجابت بعبوس ونغمات صوتها تزداد شيئا فشيئا: لا أحد يولد بمكنسة في يده.
أجادت استخدام المكنسة والإمساك بها وكأنها كانت تتعامل مع مجداف قصير.
ابتسم «إيزولو» وقد جمعت القاذورات في كومة واحدة، وحملته إلى جانب من الأرض على اليمين؛ حيث ستقوم بزراعة الكوكويام في ذلك الموسم.
كان «أكيوبو» في نفس اللحظة يعد نفسه لزيارة «إيزولو» بعد الإفطار، لتهنئته على زوجة ولده الجديدة، غير أن ثمة أشياء أخرى مهمة كانت السبب في قيامه بالزيارة مبكرا. كان راغبا في التحدث إلى «إيزولو» قبل أن ينهال عليه الزوار الآخرون ويملئوا المكان طلبا للنبيذ. لم تكن تلك الأشياء التي يريد «أكيوبو» التحدث عنها جديدة؛ فلقد تحدثا فيها كثيرا من قبل، لكن «أكيوبو» قد أصيب بقلق كبير في الأيام القليلة الماضية، لما سمعه عن «أودوش» الذي ذهب ليتعلم أسرار سحر الرجل الأبيض.
كان «أكيوبو» مدركا لخطأ «إيزولو» منذ البداية، لكن «إيزولو» كثيرا ما أقنعه، وكان أعداء «إيزولو» يعملون في تلك الأيام على تلطيخ اسمه، ويقولون: إن رئيس كهنة «أولو» أرسل ابنه إلى أولئك الناس الذين يقتلون الثعبان المقدس ويأكلونه ويرتكبون الشرور، فماذا يتوقع من الرجال والنساء العاديين أن يفعلوا؟ هل تتوقع السحلية التي تنشر الفوضى في شعائر جنازة أمها أن يحمل الآخرون عبء موتها؟
شاركهم ابن «إيزولو» الأول في خصومة والده حين ذهب إلى «أكيوبو» في اليوم السابق، وطلب منه كصديق حميم ل «إيزولو» أن يتوجه إليه ويتحدث معه.
قال «أكيوبو»: ماذا حدث؟
أجاب «إيدوجو»: يجب على المرء أن يتمسك بأرضه ويحافظ عليها، وألا يكون سببا في الفتنة والخصام بين أبنائه.
كان «إيدوجو» يشعر بخطورة ما يقول، وكان يتلعثم كثيرا في حديثه، فقاطعه «أكيوبو»: إنني أصغي. - إن «إيزولو» قد أرسل «أودوش» إلى أولئك الناس والالتحاق بدينهم الجديد ليمهد له الطريق حتى يصبح رئيسا للكهنة. - من قال هذا؟
قبل أن يجيب «إيدوجو» أضاف «أكيوبو»: أنت تتحدث عن «وافو» و«أودوش»، فماذا عنك وعن «أوبيكا»؟ - إن «أوبيكا» لا يفكر في مثل هذه الأشياء، وكذلك أنا. - لكن «أولو» لا يسأل عما يفكر فيه الإنسان؛ لأنه لو شاء أن تكون أنت رئيسا للكهنة فسوف تكون، وإذا أراد شخص الالتحاق بالدين الجديد فلن يمنعه بشيء.
قال «إيدوجو»: هذا حقيقي، لكن ما يقلقني أن أبي جعل «وافو» يعتقد أن الاختيار سيكون له. وإذا ما اختار «أولو» شخصا آخر كما تقول فثمة نزاع لا بد أن يحدث في العائلة حين لا يكون أبي موجودا، وعندئذ سأكون أنا المسئول، وسوف تتدمر رأسي. - ما تقوله صواب، ولا ألومك؛ لأنك تريد أن تنزح ذلك الماء قبل أن يرتفع إلى ركبتيك.
فكر «أكيوبو» قليلا، ثم أضاف: ولكنني لا أعتقد أن نزاعا سيحدث في العائلة: إن «وافو» و «أودوش» من امرأة واحدة؛ أي إنهما شقيقان، ومن حسن الحظ أنك أنت و«أوبيكا» لم تفكرا في ذلك.
قال «إيدوجو»: لكنك تعرف أن «أوبيكا» .. ربما يستيقظ غدا صباحا ويغير رأيه.
تحدث الرجل العجوز مع ابن صديقه مدة طويلة، كان «إيدوجو» قد أعلن خلالها عزمه على الانصراف ثلاث مرات أو أربعا، وعندما نهض في المرة الأخيرة وعده «أكيوبو» بالتحدث إلى «إيزولو» وقد شعر بالشفقة وقليل من الازدراء حيال الشاب .. لماذا لا يجرؤ على القول بأنه كان يريد أن يصبح كاهنا بدلا من التخفي وراء «أودوش» و«أوبيكا»؟ ألهذا لم يفكر به «إيزولو» وتمنى فقط أن يدعوه الوحي في يوم ما.
فكر «أكيوبو» وقال: لم يكن يتطلب وحيا لكي يعرف أنه ليس بالرجل الذي يصلح رئيسا للكهنة .. إن الذرة الناضجة يمكن التعرف عليها بمجرد النظر.
هكذا كان «أكيوبو» يشعر بالأسف تجاه «إيدوجو»، وكان يعرف أن الابن الأول للرجل يسير للوراء، ويأتي الابن الأصغر في المقدمة لينال الشرف.
كان الصباح، وكانوا في طريقهم إلى الجدول .. لم تكن العروس قد شاهدت كثيرا ذلك الصديري الأبيض الذي يرتديه «أودوش»، فراحت تراقبه في اهتمام، وتفكر في ذلك الدين الجديد الذي يمده بمثل تلك المعجزات، حين لاحظت «أوجوجو» اهتمامها همست في أذنها قائلة: إن المتحمس لذلك الدين قتل الثعبان الكبير وأكله.
كانت العروس مثل كل الناس في «أوموارو» قد سمعت عن مغامرة «أودوش» مع الثعبان، ثم سألت بقلق: هل قتله؟ .. قالوا لنا بأنه فقط وضعه في الصندوق!
كان لسوء الحظ أن «أوجوجو» واحدة من القوم الذين لا يستطيعون أبدا أن يهمسوا بصوت خفيض، فتناهى إلى أسماع «أودوش» كل ما قالته، ثم اندفع بسرعة إلى «أوجوجو»، وكما قال «وافو» إنه صفعها فوق وجهها، لكن «أوجوجو» ألقت بإنائها على الأرض، وهاجمت «أودوش» بالخلخال المعدني الذي ترتديه في رسغها لتقوية ضرباتها، فبادلها «أودوش» بصفعات قوية، وضربها في بطنها ضربة قاسية بركبته، وكانت تلك الضربة الأخيرة بمثابة اتهام ل «أودوش» من قبل الناس الذين تجمعوا للمساعدة في فض النزاع ، لكن «أوجوجو » صاحت في وجه أخيها غير الشقيق قائلة: اقتلني، يجب أن تقتلني، هل تسمعني يا من كنت تأكل الثعابين؟ يجب أن تقتلني.
حاول الناس الإمساك بها فضربت أحدهم وخدشت آخر، فقالت إحدى النساء في سخط: اتركها وشأنها، إذا أرادت أن تموت فدعها تموت.
وقالت امرأة أخرى: لا تتكلمي هكذا، ألم تر كيف ركلها بقوة في بطنها حتى كاد يقتلها؟
وقالت امرأة ثالثة: ألم تضربه هي؟
أجابت المرأة الثانية: لا، لم تفعل. إنه أحد أولئك الذين يصبحون شجعانا عند رؤيتهم امرأة.
أيد بعضهم «أوجوجو»، واعتقد آخرون بأنها انتقمت لنفسها، وطلب أولئك الآخرون من «أودوش» أن يمضي بعيدا نحو الجدول، وألا يستمع إلى إساءات «أوجوجو»، أو حتى محاولة الرد عليها.
قالت «أويليدي» التي ضربتها «أوجوجو»: إن نسل الصقر لا يفشل في التهام فرخ الدجاج .. إنها تشبه أمها في عنادها.
كانت «أوجينيكا» ذات وجه عبوس، وعلى خلاف قديم مع «أويليدي»، فأجابت قائلة: أكان يجب أن تشبه أمك؟
وقال الناس إن «أوجينيكا» برغم مظهرها القاسي، فإن قوتها تتمثل فقط في فمها، وإن طفلا يبلغ من العمر سنتين لقادر على إسقاطها ميتة على الأرض.
قالت «أويليدي»: لا تفتحي فمك القذر أمامي، هل تسمعينني؟ وإلا فسوف أضرب بذور الأوكرو خارج فمك، أم أنك لا تتذكرين؟
صاحت «أوجينيكا»: اذهبي وتناولي الخراء.
وقفت كلتاهما على أصابع قدميها، كل واحدة في مواجهة الأخرى، وقد وجهت كل واحدة منهما صدرها للأمام.
سألت امرأة أخرى: ماذا حدث مع هاتين المرأتين؟ ابتعدا عن الطريق واتركاني أمر.
عادت «أوجوجو» إلى المنزل وكانت تبكي ما تزال، وكان «وافو» و«أودوش» قد رجعا مبكرين عن العادة، لكن أم «أوجوجو» لم تسألهما عن الآخرين، وعند رؤيتها «أوجوجو» تساءلت قائلة: ماذا حدث؟
تزايد مخاط «أوجوجو»، وساعدتها أمها في تنزيل إناء الماء وهي تسأل مرة ثانية: ماذا حدث؟
دخلت «أوجوجو» الكوخ، ثم جلست على الأرض، ومسحت دموعها، وراحت تقص حكايتها. تطلعت «ماتيفي» إلى وجه ابنتها، ورأت بصمات أصابع «أودوش» الخمسة، فارتفع صوتها احتجاجا وهي تنتحب بصوت عال .
كان «إيزولو » في طريقه لدخول البيت وهو يمشي على مهل قدر استطاعته، سأل عن كل تلك الجلبة، فارتفع نحيب «ماتيفي»، ثم قال لها بصيغة الأمر: أغلقي فمك.
زعقت «ماتيفي» وقالت: تقول لي بأن أغلق فمي وقد ضرب «أودوش» ابنتي عند الجدول حتى الموت، كيف أغلق فمي عندما تعود ابنتي جثة؟ اذهب وانظر إلى وجهها. - قلت لك بأن تغلقي فمك، هل أنت مجنونة؟
توقفت «ماتيفي» عن الصراخ، ثم تأوهت وقالت: لقد أغلقت فمي ولكن لماذا أغلق فمي؟ هل لأن «أودوش» هو ابن «أوجوي»؟ نعم .. فلتخرس «ماتيفي» إذن.
كانت الزوجة الأخرى جالسة في كوخها لا تبالي، فهرعت من كوخها وصاحت قائلة: لا تجعل أحدا يذكر اسمي.
ثم أضافت مؤكدة ما قالته: قلت بألا يذكر اسمي أحد على الإطلاق.
قال لها «إيزولو»: أنت .. أغلقي فمك؛ فلم يذكر اسمك أحد. - ألم تسمعها وهي تذكر اسمي؟ - حتى لو فعلت، اذهبي واقفزي على ظهرها إذا استطعت.
تذمرت «أوجوي»، وتأوهت، ثم عادت إلى كوخها. - «أودوش»! - أ ... ي ... ه. - تعال هنا.
خرج «أودوش» من كوخ أمه، فسأله «إيزولو»: لماذا كل هذا الصخب؟ - اسأل «أوجوجو» وأمها. - إنني أسألك أنت ولا تعلمني إلى من أتوجه بسؤالي، وإلا فإن الكلب سيلعق عينيك هذا الصباح .. متى تعلمتم أيها الناس أن تقذفوا بالكلام في وجهي؟
ثم تغيرت طريقة «إيزولو» في الكلام، وأصبح كالنمر الجاثم حين قال: إذا فتح أحدكم فمه مرة ثانية فسوف أعلمه ألا يتحدث عندما تتحدث الأرواح ذات الأقنعة.
تطلع حوله مرة أخرى لئلا يتجرأ أحد على فتح فمه، لكن أحدا لم يتفوه بأي كلمة، وساد الصمت، فاستدار «إيزولو» عائدا إلى كوخه، وكان الغضب الذي انتابه قد أفقده اهتمامه بما حدث.
كان الموسم قفرا، وكثير من الأجران كانت فارغة إلا من بذور اليام، فانتهز الجميع الفرصة للفوز بلقمة أو كسرة أو شراب قرعة في منزل «إيزولو» .. كان «أكيوبو» يعرف بأن كثيرا من الناس سيأتون، فحاول الانتهاء من موضوع «أودوش» في وقت قصير، مما تسبب في عدم إصدار حكم سليم، وكان من الأفضل له أن ينتظر يوما آخر يتبادل فيه الحديث مع «إيزولو».
استمع إليه «إيزولو» في هدوء وهو يفرك كلتا يديه من الانفعال، ثم قال ل «أكيوبو» عندما توقف عن الحديث: هل انتهيت؟ - نعم .. لقد انتهيت.
لم يكن «إيزولو» ينظر إلى ضيفه، وإنما كان يتطلع بغموض ناحية العتبة حين قال: إنني أحييك، ولا أستطيع إلقاء اللوم عليك لأنك لم تقل شيئا، وكان بإمكاني أن ألومك لو أنك قلت شيئا، إنني لست أعمى ولا أخرس، وأعرف أن «أوموارو» منقسمة وتعاني اضطرابا شديدا، وأنها في حالة من عدم الاستقرار، كما أعرف أن بعض الناس يعقدون اجتماعات سرية للقول بأنني أنا السبب فيما يحدث من متاعب، ولكن لماذا أجد نفسي غير قادر على النوم؟ مثل تلك الأشياء ليست جديدة بل هي موجودة حيث يوجد الناس .. عند سقوط الأمطار القادم ستكون قد مضت خمسة أعوام على ذلك الاجتماع السري الذي عقده الرجل في بيته، وقال فيه إن «أولو» قد فشل في حربهم المخجلة، وإنهم كانوا سيسقطونه عن عرشه، وها نحن ما نزال ننتظر .. «أولو»، وإنا ما زلنا ننتظر أن يأتي هذا الرجل ويسقطنا. وما يقلقني أن ذلك البدين المنتفخ ذا الخصية المتدلية الفارغة قد نسي نفسه عندما امتلك ثروة دخلت بيته بطريق الخطأ .. لا، إن ما يقلقني هو ذلك الإله الجبان ل «إيديميلي»، الذي يختفي خلفه ويساعده على المضي.
قال «أكيوبو»: إنها الغيرة! - الغيرة! من أي شيء؟ إنني لست أول «إيزولو» في «أوموارو»، وهو ليس أول «إيزيديميلي»، لم يكن والده أو جده وكل الآخرين غيورين من آبائي فلماذا هو كذلك؟ لا، إنها ليست غيرة ولكنها حماقة؛ فهو من النوع الذي يضع رأسه داخل الإناء. وإذا كانت هي الغيرة فدعه يمضي في طريقه؛ فالذبابة التي تحط فوق رابية من الروث تستطيع أن تتبختر حول الرابية كما تشاء، ولكنها لا تستطيع أن تحرك الرابية.
قال «أكيوبو»: الجميع يعرفون هذا، ونعرف بأنهم إذا عرفوا الطريق إلى «أني مو» لتشاجروا مع أجدادنا من أجل إعطاء منصب كاهن «أولو» إلى «أوموشالا» وعدم إعطائه لقريتهم الخاصة .. لا، ليس هذا ما أعنيه، لكن ما تقوله العشيرة هو ما يقلقني. - ومن قال للعشيرة ما يقولون؟ ماذا تعرف العشيرة؟ أنت يا «أكيوبو» تجعلني أضحك، لقد كنت أنت هنا أو إنك لم تكن قد ولدت بعد، عندما خاضت العشيرة حربا ضد «أوكبيري» من أجل قطعة من الأرض هي ليست ملكا لنا، ألم أقف حينئذ لأقول ل «أوموارو» ما حدث؟ ومن كان على صواب في النهاية؟ وهل حدث ما قلته أم لم يحدث؟
لم يجب «أكيوبو» بشيء، فاستطرد «إيزولو» قائلا: كل ما قلته قد حدث.
قال «أكيوبو»: أنا لا أشك في ذلك.
وفي نوبة من الملل المفاجئ أضاف: لكنك نسيت شيئا واحدا، لا يوجد رجل مهما كانت مكانته يستطيع أن يكسب العدالة ضد العشيرة، أنت تعتقد أنك فعلت ما فعلت بشأن الأرض المتنازع عليها، ولكنك على خطأ. إن «أوموارو» دائما ستردد بأنك كنت خائنا لهم أمام الرجل الأبيض، وسيقولون بأنك تخونهم اليوم مرة ثانية؛ لأنك أرسلت ابنك للمشاركة في تدنيس الأرض.
لم يكن «أكيوبو» متأكدا من إجابة «إيزولو»، ولكنه لم يتوقع أبدا تلك النوبة من الضحك التي انتابته، فأصبح خائفا وقلقا، كمن يواجه رجلا مجنونا يضحك في طريق منفرد .. كان شعورا غريبا من الخوف ذلك الذي تملك «إيزولو» ولم يتمكن من معرفته؛ فالكاهن لا سبيل إلى معرفته، وحتى أبناؤه لا يعرفونه.
قال «إيزولو» مرة أخرى: لا تجعلني أضحك، هكذا قد خنت «أوموارو» لصالح الرجل الأبيض؟ دعني أسألك سؤالا واحدا .. من الذي جاء بالرجل الأبيض إلى هنا؟ هل كان «إيزولو»؟ لقد حاربنا إخوتنا في الدم من «أوكبيري» لأجل قطعة من الأرض ليست ملكا لنا، وأنت تلوم الرجل الأبيض لدخوله هذه الأرض، ألم تسمع بأن أخوين قاتلا رجلا غريبا كان يجني حصاده؟ كم عدد الرجال البيض الذين اشتركوا في تدمير «آبام» هل تعرف؟ خمسة، ستة ...
رفع يده اليمنى إلى أعلى مشيرا بأصابعه الخمسة ثم استطرد: خمسة. وهل تعتقد الآن بأن خمسة من الرجال - حتى لو أن رءوسهم تصل إلى السماء - يستطيعون اكتساح قبيلة بأكملها؟ مستحيل، حتى لو استخدم الرجال البيض كل قوتهم وسحرهم، فلا يستطيعون أن يقهروا كل «أولو» و«إيبو»، إلا لو حدث ذلك بمساعدتنا نحن .. كيف عرفوا الطريق إلى «آبام»؟ إنهم لم يولدوا هناك فكيف إذن عرفوا الطريق؟ نحن قد ساعدناهم في معرفة الطريق وما زلنا نساعدهم، وهكذا يا صديقي لا يجب على أي شخص أن يأتي لي كي يشكو من أن الرجل فعل هذا أو فعل ذلك .. إن الرجل الذي يدخل كوخه بحزمة من الحطب مليئة بالنمل لا يجب أن يتذمر عندما تزوره السحالي!
قال «أكيوبو»: لا أستطيع مجادلتك فيما تقول، لقد أخطأنا كثيرا في الماضي، ولا ينبغي أن نستمر في ممارسة الأخطاء .. نعرف الآن أخطاءنا ونستطيع إصلاحها، كما نعرف من أين بدأت تتساقط علينا الأمطار.
قال «إيزولو»: لست متأكدا تماما، ولكن يجب ألا تنسى أبدا أننا بأنفسنا قد ساعدنا الرجل الأبيض في معرفة الطريق إلى بيتنا، ثم قدمنا له مقعدا ليجلس عليه، وإذا أردنا له اليوم أن يرحل بعيدا، فعلينا أن ننتظر حتى يتعب من زيارته، أو يجب علينا أن نعمل على طرده، فهل تعتقد أنك قادر على طرده بإلقاء اللوم على «إيزولو»؟ عليك بالمحاولة، وحين أسمع في يوم ما أنك نجحت فسوف أقدم لك التحية، وسأضع يدي في يدك، أما أنا فلدي طريقتي الخاصة التي أتبعها .. أنا أستطيع رؤية الأشياء في نفس اللحظة التي يصاب فيها الآخرون بالعمى؛ ولذلك فإنني معروف، أو فوق معرفة البشر؛ حيث لا سبيل إلى معرفتي. أنت يا «أكيوبو» صديقي الذي يعرف إن كنت أنا لصا أو مجرما أم أنني رجل شريف، لكنك لا تستطيع معرفة نوع قرعات الطبول التي يرقص عليها «إيزولو»، إنني أستطيع رؤية الغد. وهكذا يمكنني أن أشير إلى أهل «أوموارو» بأن يفعلوا الأشياء التي تعود عليهم بالفائدة. لقد كنت تعرف والدي الذي كان كاهنا من قبلي، وتعرف أيضا جدي حتى لو كانت معرفة قليلة.
هز «أكيوبو» رأسه بالموافقة، فأضاف «إيزولو»: ألم يضع جدي نقطة فاصلة في «أوموارو » حين نهض بكل هيبته، وأعلن بأننا لن نحتاج إلى مزيد من تقسيم الوجوه؟!
قال «أكيوبو»: لقد فعل ذلك. - وبماذا أجابت «أوموارو»؟ .. لقد لعنوه وقالوا بأن رجالهم يشبهون النساء، وتساءلوا عن كيفية أن يضع الرجل قوة احتماله تحت الاختبار، واليوم من يسأل نفس هذه الأسئلة؟
وافق «أكيوبو» موافقة كاملة على كل ما قاله «إيزولو»، مما جعله لا يخاف من معارضته، فقال: لا شك فيما تقول، ولكن إذا كان حقيقة هو ما تقول فإن جدك لم يكن وحيدا في ذلك الصراع؛ فلقد قيل إن عدد الذين كانوا في «أوموارو» ضد تلك النقطة الفاصلة كانوا أكثر. - هل أخبرك والدك بالقصة هكذا؟! .. لقد سمعت عكس ذلك. وعلى أية حال فإن الشيء المهم هو أن رئيس الكهنة كان يقودهم وكانوا هم يتبعونه، وإذا كانوا قد قالوا الكثير في ذلك الشأن فماذا عن الأحداث التي وقعت في عهد أبي؟ .. أنت مثلا لم تكن طفلا عندما قضى أبي على تلك العادة، التي كانت تجعل من أي طفل يولد من أرملة عبدا إلا إذا ... - لست أنا بالرجل الذي يجادلك في أي من تلك الأمور التي تتحدث فيها يا «إيزولو». إنني صديقك ويحق لي أن أتحدث معك كما أحب .. يجب أن أتذكر دوما أن نصفك إنسان والنصف الآخر روح، وما تقوله عن جدك وأبيك حقيقي تماما، لكن ما حدث في عصرهما وما يحدث اليوم هما ليسا نفس الشيء وليس بينهما تشابه من أي نوع. إن جدك وأباك لم يفعلا ما فعلاه من أجل راحة الرجل الأبيض.
شعر «إيزولو» بغضب حاد، لكنه ظل متماسكا وهو يقول: لا تجعلني أضحك مرة أخرى، ما قولك في شخص جاء إليك وأخبرك أن «إيزولو» أرسل ابنه للالتحاق بدين غريب من أجل راحة رجل آخر؟ قلت لك ألا تضحكني وهل لا بد أن أخبرك عن سبب التحاق ابني بدينهم؟ فلتستمع إذن.
إن المرض الذي لا يعرفه أحد من قبل لا يمكن معالجته بالأعشاب التي نستخدمها كل يوم، عندما نريد عمل حجاب فإننا نبحث عن حيوان يكون دمه مساويا لقوته، فإن لم تكن الدجاجة فإننا نبحث عن الماعز أو كبش الضأن، وإن لم يكن ذلك كافيا فإننا نرسل في طلب ثور، ولكن أحيانا يكون الثور أيضا غير كاف فنبحث عندئذ عن إنسان، هل تعتقد أن ما نريد سماعه هو صوت صرخات الموت وهو يكركر داخل الدم؟ لا يا صديقي، إننا نفعل ذلك لأننا قد وصلنا إلى النهاية الأكيدة للأشياء، كما نعرف أنه ليس الطعام ولا الماعز ولا حتى الثور. لقد أخبرنا آباؤنا بأنه قد يحدث لجيل ما أن يندفعوا فيما وراء نهاية الأشياء فتتكسر ظهورهم ويعلقوا فوق النار، وإذا ما حدث ذلك فربما يضحون بدمائهم، ذلك ما كان حكماؤنا يعنونه عندما قالوا بأن الرجل الذي لا يملك مكانا يضع فيه يده مؤيدا فإنه يضعها فوق ركبته، هكذا عندما كان يندفع أجدادنا فيما وراء نهاية الأشياء لم يكونوا يضحون بالغريب، بل بأنفسهم، وكانوا يصنعون علاجا عظيما يدعونه «أولو».
طرقع «أكيوبو» أصابعه، وحرك رأسه إلى أعلى وأسفل وهو يتمتم مع نفسه: هكذا تكون التضحية! وهكذا كان «إيدوجو» على حق رغم أنه كان يبدو أحمق في وقتها.
توقف لحظة، ثم استطرد بصوت مسموع: وماذا يحدث لو أن هذا الولد الذي تضحي به أصبح مختارا من «أولو»؟ - دع هذا للإله؛ فعندما يحين ذلك الوقت فإن «أولو» لن يكون في حاجة إلى نصيحتك أو مساعدتك. وإذن فلا تقلق كثيرا طوال الليل من أجل ذلك. - أنا لا أقلق، ولماذا أقلق؟ إن أرضي غارقة في مشاكلها الخاصة، فلماذا أحمل معي مشاكلك التي لن أجد لها مكانا أو وقتا لأفكر فيها؟ ولكن يجب أن أكرر ما قلته من قبل، وإذا لم تكن راغبا في الاستماع فعليك بإغلاق أذنيك. عندما تحدثت عن رفضك الحرب ضد «أوكبيري» لم تكن بمفردك؛ فأنا أيضا كنت رافضا لتلك الحرب، وكذلك كان آخرون، ولكنك عندما ترسل ابنك للغرباء كي يشترك في تدنيس الأرض فإنك ستكون بمفردك. ضع علامة على هذا الحائط من أجل أن تتذكر أنني قلت لك هذا الكلام .
كان «إيزولو» متعجرفا وهو يقول: من الذي يتحدث عن تدنيس أرض «أوموارو»، أنت أم أنا؟ وفيما يتعلق بأنني سأكون بمفردي أفلا تعتقد بأنه شيء مألوف بالنسبة لي مثل الأجساد الميتة بالنسبة للأرض؟ صديقي، لا تضحكني!
عندما دخل «وافو» كوخ والده كان «أكيوبو» يقول إن «إيزولو» نصف رجل ونصف روح، فلم يفهم «وافو» عندئذ الخلاف القائم بين الرجلين، غير أنه أبصر تلك النظرات الخطيرة المتبادلة بينهما. كانت نظرات متبادلة ومتساوية لم تسفر عن شيء. وهكذا أصابته الدهشة لما طلب منه «إيزولو» أن يأتي بزيت النخيل من عند أمه .. وضع «إيزولو» سلته المستديرة أمامه، وشيء ما كان يتدلى من غطاء السلة الموضوعة فوق قرمة من الخشب المحترق. وكان قميص «إيزولو» الرسمي المصنوع من قماش الرافيا وإناءان وقليل من أعواد الذرة ذات النوع الجيد قد أصبحت جميعها سوداء من الدخان.
فتح «إيزولو» السلة المستديرة، وتناول أرجل الماعز المغلية، وقدم ل «أكيوبو» قطعة كبيرة وأخرى صغيرة جدا لنفسه.
قال «أكيوبو»: أعتقد أنني سأحتاج لشيء ما أطوي فيه هذه القطعة الكبيرة.
أرسل «إيزولو» ابنه «وافو» لإحضار قطعة من أوراق الموز ووضعها فوق الخشب المحترق بلا لهب حتى ذابت وفقدت طراوتها، ثم مررها إلى «أكيوبو» الذي قسم اللحم إلى نصفين، وطوى النصف الأكبر في ورق الموز ووضعه جانبا في حقيبته، ثم شرع في تناول النصف الآخر غامسا إياه في زيت النخيل المتبل بالفلفل.
قدم «إيزولو» قطعة صغيرة من نصيبه إلى «وافو»، وألقى ببقيتها في فمه. ظلا يأكلان فترة طويلة في صمت. وعندما بدآ يتحدثان من جديد كان الحديث عن أشياء أقل شأنا وأخف وطأة.
اقتلع «إيزولو» عودا من المكنسة المجاورة له على الأرض، ثم أعادها مائلة إلى الحائط، وكان من اليسير عليه في مكانه هذا رؤية كل من يقترب من أرضه وأرض ولديه. وهكذا كان أول من لاحظ وصول رسول البلاط وحراسه.
اقترب الغريبان من عتبة «إيزولو»، فصفق الحارس بيديه قائلا: هل أصحاب البيت موجودون؟
ساد صمت قصير قبل أن يجيب «إيزولو»: ادخل وسوف ترى.
انحنى الحارس وهو يعبر رفرف السطح المنخفض ودخل ثم تبعه الآخر. رحب بهما «إيزولو»، وطلب منهما الجلوس، جلس رسول البلاط فوق السرير الطيني، وظل حارسه واقفا ثم قدم تحياته ل «إيزولو»، وأخبره أنه ابن «وديكا» في «أوميونيورا».
قال «أكيوبو»: وهكذا بدا لي فور دخولك أنني رأيت وجه والدك.
وقال «إيزولو»: تماما، إن أي شخص يملك عينين يعرف على الفور بأنه يرى «وديكا»، لكن صديقك يبدو قادما من بعيد. - نعم، نحن قادمان من «أوكبيري».
سأل «إيزولو»: هل تعيش إذن في «أوكبيري»؟
أجاب «أكيوبو»: نعم، ألم تسمع عن بعض شبابنا الذين يعيشون مع الرجل الأبيض في «أوكبيري»؟
كان «إيزولو» قد سمع بذلك، لكنه تظاهر بعدم معرفته، ثم تساءل: حقا؟ أنا لا أسمع عن أشياء كثيرة هذه الأيام، أنت إذن جئت كل هذا الطريق من «أوكبيري» هذا الصباح، وها أنت هنا الآن؟ شيء جميل أن تكون قويا وشابا، كيف حال أقرباء أمي؟ أنت تعرف أن أمي من «أوكبيري». - عندما رحلنا كان كل شيء على ما يرام، السعادة والضحك وما حدث لا أستطيع قوله. - ومن يكون رفيقك؟ - إنه المبعوث الرئيس للرجل الأبيض الكبير، محطم البنادق.
طرقع «إيزولو» أصابعه، وأومأ برأسه قائلا: إذن فهو مبعوث «وينتابوتا» .. هل هو رجل «أوكبيري»؟
قال الحارس: لا، لكن «أوموارو» هي قبيلته. - هل كان «وينتابوتا» بخير عندما رحلت؟ لم نعد نراه في هذه الأنحاء منذ وقت طويل. - إن هذا الرجل المبعوث هو عينه التي يرى بها هنا.
لم يكن المبعوث الرئيس بينه وبين نفسه سعيدا ببداية الحوار، وكان غاضبا من هذا الرجل الذي يتظاهر بالكبرياء والألفة مع ضابط المقاطعة، وقد بذل مجهودات يائسة لإثبات أهميته.
قال «إيزولو»: أيها الغريب، مرحبا بك، ما اسمك؟
أجاب الحارس: إنه «جيكوبو»، وكما قلت فإن أحدا لا يستطيع رؤية محطم البنادق دون موافقته، لا أحد في «أوكبيري» يجهل اسم «جيكوبو». ولقد سألني محطم البنادق أن أصحبه في هذه الرحلة؛ لأنه غريب على هذه المنطقة.
حدق «إيزولو» تحديقا ذا معنى في اتجاه «أكيوبو»، ثم قال : نعم، هذا ما كان يجب أن يكون. إن الرجل الأبيض يرسل رجلا من «أوموارو» بصحبة رجل من «أوموارو» كي يبين الطريق للرجل الذي هو من «أوموارو».
ضحك «إيزولو» مستطردا: ماذا قلت لك يا «أكيوبو»؟ حكماؤنا كانوا على حق عندما قالوا بأن الكيفية التي دبرت بها الأرواح موت الرجل لا تهم.
تبادل الرجلان النظرات في حيرة، ثم قال ابن «وديكا»: هو كذلك، لكننا لم نأت في مهمة موت. -لا، أنا لم أقل ذلك، لكنها فقط طريقة في الحديث، كنا نقول إن الحية لا تكون أبدا أطول من العصا التي نقيسها بها، وأنا أعرف أن «وينتابوتا» لا يرسل إلى «إيزولو» مهمة موت؛ فنحن أصدقاء، وإنما ما قلته هو ذلك الغريب الذي لم يستطع أن يأتي إلى «أوموارو» بدون أن يبين له الطريق أحد أبناء هذه الأرض.
قال الحرس: هذا حقيقي وها نحن قد جئنا ...
قاطعه المبعوث الرئيس: صديقي، لقد قمت الآن بواجبك الذي أرسلوك من أجله، أما البقية فهي لي، فضع لسانك داخل الجراب إذن. - سامحني، ها أنا ذا خارج الموضوع.
أرسل «إيزولو» «وافو» لإحضار الكولا من عند «ماتيفي» في نفس اللحظة التي دخل فيها كل من «أوبيكا» و«إيدوجو». كانا قد سمعا بذلك الرسول القادم من عند الرجل الأبيض، وعرفا بأنه موجود في كوخ أبيهم.
أحضر «وافو» جوزة الكولا، وتم توزيعها على الحاضرين، الذين قاموا بتكسيرها، فقال «إيزولو»: هل عاد أولئك الذين أرسلتهم إلى السوق من أجل النبيذ؟
أجاب «أوبيكا»: لا. - كنت أعرف أنهم لم يعودوا. إن الرجل الذي يريد شراء النبيذ لا يظل في البيت حتى يباع كل النبيذ في السوق.
كان «إيزولو» ما يزال مائلا بظهره على الحائط، وممسكا بقدم واحدة بعيدا عن الأرض قليلا، ويداه متشابكتان فوق ذقنه.
خلع مبعوث البلاط طربوشه، وألقى به فوق ركبته، فتلألأ رأسه الحليق من العرق، وخلفت حافة الطربوش دائرة حول الرأس، ثم تنحنح وتكلم لأول مرة: أحييكم جميعا.
ثم تناول من جيبه كتابا صغيرا جدا، وفتحه بطريقة الرجل الأبيض، وقال: من منكم يدعى «إيزولو »؟
كان متطلعا في الكتاب ما يزال، ثم رفع عينيه متطلعا حول الكوخ غير أن أحدا لم يتحدث. كانت الدهشة قد أصابت الجميع، وكان «أكيوبو» أول من أفاق من دهشته حين قال: انظر حواليك، وعليك أن تحصي أسنانك بلسانك. اجلس يا «أوبيكا» ويجب أن تتوقع بأن الغرباء يتحدثون من أنوفهم.
سأله «إيزولو»: قلت بأنك رجل من «أوموارو»؟ هل لديكم كاهن ورجال كبار هناك؟ - لا بد أنك فهمت السؤال بطريقة خطأ، إن الرجل الأبيض له طريقته الخاصة في عمل الأشياء؛ فهو قبل كل شيء يسألك عن اسمك.
قال «أوبيكا» بقليل من الإحساس: كان يجب أن تعرف بأنك لست في بيت الرجل الأبيض، ولكنك في «أوموارو»، وفي بيت كبير كهنة «أولو». - كفى يا «أوبيكا»، لقد سمعت «أكيوبو» يقول الآن إن الغرباء يتحدثون من أنوفهم. هل تعرف أنهم كان لديهم رئيس للكهنة في أرضهم، أو في أرض الرجل الأبيض؟ - أخبروا هذا الشاب أن يحذر وهو يتحدث معي. إذا لم يستمع لي فعليه أن يسأل هؤلاء الذين يستمعون. - اذهب وتناول الخراء.
قال «إيزولو» بصوت كالزئير: كفى، اصمت، لقد جاء هذا الرجل كل هذا الطريق من أرض أمي إلى بيتي، وأرفض أن يسيء إليه أحد، بالإضافة إلى أنه مجرد مبعوث، وإذا لم تعجبنا رسالته، أو لم نقبل ما جاء بها، فإن صراعنا لن يكون معه، ولكن مع الرجل الذي أرسله.
قال «أكيوبو»: تماما.
وقال الحارس: ولا شيء أكثر من هذا.
استطرد «إيزولو» موجها حديثه إلى المبعوث: لقد سألت سؤالا وسوف أجيبك الآن. إنني أنا «إيزولو» .. هل أنت راض الآن؟ - شكرا، الكل هنا رجال، لكننا لا نعرف الرجال من الأولاد إلا حين نفتح أفواهنا. لقد تحدثنا كثيرا بفائدة وبغير فائدة، وكانت بعض الكلمات توحي بسلامة العقل وبعضها الآخر كان يوحي بحالة من السكر الشديد، ولقد آن الأوان للحديث عن سبب مجيئي. إن الضفدعة لا تمشي بالنهار إلا إذا كان ثمة شيء وراءها، وأنا لم أقطع كل هذا الطريق من «أوكبيري» من أجل أن أمدد قدمي . إن الحارس قريبكم أخبركم بأن الكابتن «وينتابوتا» قد كلفني بكثير من شئونه، وهو كما تعرفون رئيس لكل الرجال البيض في كل هذه الأجزاء، وأنا أعرفه منذ أكثر من عشر سنوات، وكل الرجال البيض يرتعشون أمامه.
ابتسم في سخرية وهو يستطرد: عندما أرسلني إلى هنا لم يخبرني أن له صديقا في «أوموارو»، ولكن إذا كان ما تقوله صوابا فسوف نرى غدا عندما تصحبني لرؤيته.
قال «أكيوبو» محذرا: عن أي شيء تتحدث؟
كان مبعوث البلاط مبتسما ما يزال، وكانت ابتسامته توحي بالتهديد حين قال: نعم، إن صديقك «وينتابوتا» (نطق الاسم بطريقة غريبة) يأمرك بالمثول أمامه غدا صباحا.
تساءل «إيدوجو»: أين؟ - في أي مكان تعتقد سوى مكتبه في «أوكبيري»!
قال «أوبيكا»: إن التابع لرجل مجنون. - لا يا صديقي وإنما أنت هو المجنون، وعلى أية حال فإن «إيزولو» يجب أن يعد نفسه في الحال، ومن حسن الحظ أن الطريق الجديد يجعل الكسيح متعطشا للمشي. لقد رحلنا هذا الصباح عند الفجر، وبسرعة وصلنا إلى هنا. - قلت إن هذا الرجل مجنون .. من ...
قال «إيزولو»: إنه ليس مجنونا، لكنه مجرد رسول، وعليه أن يقول رسالته كما هي، فلتتركه حتى ينتهي.
قال الرسول: لقد انتهيت، ولكنني أسأل كل من يعرف هذا الشاب أن يقدم له النصيحة لصالحه. - هل أنت متأكد بأنك انتهيت من رسالتك كاملة؟ - نعم، إن الرجل الأبيض لا يطيل الكلام مثل الرجال السود.
قال «إيزولو»: أحييك، وأرحب بك مرة ثانية.
أضاف مبعوث البلاط. شيء صغير نسيت أن أخبرك به، إن كثيرا من الناس ينتظرون لرؤية الرجل الأبيض فربما تضطر للانتظار في «أوكبيري» ثلاثة أو أربعة أيام قبل أن يأتي دورك، لكنني أعرف أن رجلا مثلك لا يرغب في قضاء أيام كثيرة خارج قريته، فإذا تعاملت معي بلباقة فسوف أسعى لمساعدتك كي تراه غدا؛ فأنا أستطيع عمل كل شيء، فإذا قلت للرجل الأبيض أن يراك فسوف يراك، سيخبرك قريبك عن الطعام الذي أتناوله.
ابتسم بعد الانتهاء من كلامه، ثم ارتدى طربوشه من جديد، وعندئذ قال «إيزولو»: ذلك شيء يسير ، ولن يسبب خلافا؛ فلست أعتقد أن ما سوف تضعه داخل هذا البطن الصغير سيكون أكثر من قدرتي، وإذا كان كذلك فإن أقربائي هناك للمساعدة.
شعر المبعوث بالغضب على إثر تلميح «إيزولو» بأنه صغير الحجم. توقف «إيزولو» عن الحديث وبدا كأنه مستمتع بغضب المبعوث، ثم استطرد: على أية حال يجب أولا أن تعود وتخبر الرجل الأبيض أن «إيزولو» لا يغادر كوخه، وإذا أراد أن يراني فعليه أن يأتي إلى هنا، إن ابن «وديكا» الذي جاء معك لتعرف الطريق يستطيع أيضا أن يأتي معه.
قال المبعوث في دهشة توحي بعدم التصديق: هل تعرف ما تقول يا صديقي؟
فسأله «إيزولو»: أأنت مبعوث أم لا؟ .. عد من حيث جئت، وأخبر سيدك برسالتي.
شعر «أكيوبو» بالخطر، فتدخل بسرعة لإنقاذ الموقف: علينا بألا نتشاجر من أجل ذلك، ويجب أن نتناقش في هدوء.
قال «إيزولو» ساخطا: عن أي شيء نتناقش في هدوء؟ لقد أبلغت رسالتي، وهذا كل ما في الأمر.
استجاب المبعوث لما قاله «إيزولو»، وبادر بالخروج حين قال له «أكيوبو»: فقط، امنحنا بعض الوقت.
ثم قال للحارس: من الأجدر أن تخرج معه.
لم يشترك «إيزولو» فيما عقب ذلك من مشاورات، وعندما عادوا إلى الكوخ كان «أكيوبو» هو الذي اقترح إرسال «إيدوجو»، وافق «إيزولو» على إرسال ابنه على أن يعود إليه بالرد؛ فليس من العادة في «أوموارو» أن يرفضوا النداء، وإنما قد يرفضون ما يطلبه النداء. إن «إيزولو» لا يريد أن يرفض نداء الرجل الأبيض، وها هو يرسل ابنه.
قال مبعوث البلاط: هل هذا هو ردك؟
أجاب «أكيوبو»: نعم، هو كذلك. - لن أحمل هذا الرد.
فقال «أوبيكا»: إذن فعليك بالذهاب هناك إلى الدغل لتتناول الخراء، هل ترى إلى أين يشير إصبعي، هناك عند ذلك الدغل.
قال «أكيوبو»: لا أحد سيأكل الخراء.
وأضاف قائلا للمبعوث: لم أسمع قط عن مبعوث يختار نوع الرسالة التي يحملها، اذهب وأخبر الرجل الأبيض ما قاله «إيزولو»، أم أنك أنت الرجل الأبيض نفسه؟
تحرك «إيزولو» قليلا، وابتعد عن الآخرين، وراح مرة ثانية ينظف أسنانه بعود المكنسة.
الفصل الثالث عشر
غادر المبعوث وحارسه كوخ «إيزولو» عائدين إلى «أوكبيري»، فسارع الكاهن بإصدار أوامره إلى قارع الطبول العجوز لدعوة الكبار إلى اجتماع عاجل عند غروب الشمس، فبدأ على الفور في تبليغ الرسالة إلى القرى الست .. سمع الكبار وذوو الشأن بالرسالة في كل مكان، واستعدوا للاجتماع وهم يتساءلون: إن طارق الطبول لا يمارس عمله إلا في المواسم والحالات الطارئة فقط، فهل هو التهديد بالحرب؟ لا، إن أحدا لا يتحدث عن الحرب في ظل وجود الرجل الأبيض .. كانت الدعوة عاجلة.
بدأ الاجتماع عندما عادت الطيور إلى أعشاشها، أحضر الأطفال الكراسي لآبائهم، وظلوا يلعبون عند ضواحي السوق، في انتظار نهاية الاجتماع، ليحملوا الكراسي مرة أخرى إلى بيوتهم؛ فلم يكن مسموحا لأي شخص باصطحاب أبنائه إلى اجتماع ليلي .. حمل الذين يعيشون بجوار السوق مقاعدهم بأنفسهم، وحمل آخرون تحت أذرعهم حقائبهم المصنوعة من جلد الماعز.
تدفق إلى السوق كبار الرجال وذوو الشأن من كل القرى في «أوموارو»، وكان «إيزولو» و«أكيوبو» أول القادمين، جلسا بصعوبة، وكان كل رجل بعد ذلك يقوم بتحية من جاء قبله حتى ساد الزحام، فأصبح القادم يقوم بالتحية لجاره فقط، ويصافح قليلا من الناس.
كان الاجتماع تحت شجرة الإيجبو العتيقة، التي أصدر الأجيال تحتها كثيرا من القرارات ذات الشأن .. تبادل «إيزولو» حديثا سريعا مع الجالسين إلى جواره، فوافقوا جميعا على أن الوقت قد حان لإخبار «أوموارو» عن سبب هذا الاجتماع.
نهض الكاهن على قدميه، ثم غير من وضع ردائه، وقدم التحية التي كانت بمثابة نداء إلى كل «أوموارو» بأن يتحدثوا بصوت واحد: «أوموارو» وينو! - هيم! - وينو! - ويزينو! - هيم؟ - أشكركم جميعا لأنكم غادرتم أماكنكم المختلفة استجابة لندائي؛ فإن الرجل أحيانا يوجه نداء دون أن يلبي أحد النداء، وعندئذ يكون هذا الرجل كمن يحلم أحلاما مزعجة، أشكركم لأن ندائي لم يكن بلا جدوى.
تطلع «إيزولو» حواليه فأبصر «واكا» القادم من «أومونيورا» .. توقف لحظة عن الحديث، ثم ناداه باسمه: «أجبوفي واكا»، أحييك.
شرع «واكا» في الحديث لكنه توقف ، فاستطرد «إيزولو »: كنت أشكركم على ما فعلتم؛ فإنك - كما يقول شعبنا - إذا تقدمت بالشكر لرجل ما عما فعل، فإنه سوف يفعل المزيد، لكنني أطلب منكم الغفران والسماح؛ إذ يجب على الرجل حين يدعو «أوموارو» للاجتماع أن يضع أمامهم - على الأقل - إناء من النبيذ.
ثم حكى لهم باختصار عن زيارة رسول البلاط له، وقال: أقربائي، لقد استيقظت مبكرا هذا الصباح، وكان معي «أجبوفي أكيوبو» حين جاءني ذلك الرسول، ولقد فكرت بعمق ولوقت طويل، ثم قررت أن تشاركني «أوموارو» فيما رأيت وسمعت؛ إذ ربما يتساءل الرجل عندما يرى أفعى بنفسه عما إذا كانت أفعى عادية أم أنها ثعبان مقدس، وهكذا قررت أن أستدعي أهل «أوموارو» غدا لإخبارهم بما حدث، لكنني ترددت بشأن الغد لأن لا أحد يدري بما قد يحدث أثناء الليل، أو في الفجر وقبل حلول الغد، وعندئذ كان من الضروري دعوتكم معا بالرغم من أنني لا أملك نبيذا لأضعه أمامكم، لكن هناك وقتا كافيا للنبيذ إذا كان لنا بقية من حياة، وعندما يأتي يوم الصيد فسوف نصطاد في الفناء .. أحييكم جميعا.
مضى وقت طويل لم يبادر أحد من حكام «أوموارو» بالرد فيما عدا تلك المحادثات العامة، والتي كانت تبدو أحيانا كاللغط .. جلس «إيزولو» في مقعده محدقا في الأرض حتى إنه لم يجب على «أكيوبو» حين أخبره بأنه قال كل ما يجب أن يقال.
نهض «واكا» القادم من «أومونيورا» وقال: «أوموارو» وينو! - هيم! - «أوموارو» وينو! - هيم! - ويكوانو أوزو! - هيم!
كان رداؤه الرسمي غير مرتب عند الكتف الأيسر، فراح يعدل من وضع الرداء، وقال: لقد سمعنا جميعا ما قاله «إيزولو»، وكم كانت كلماته طيبة، وأود أن أتقدم له بالشكر لاستدعائنا وتبادل الحديث معنا .. هل أخاطب عقل «أوموارو»؟
أجاب الرجال: استمر.
فاستطرد «واكا»: عندما يستدعي الأب أبناءه فإنه لا يقلق بشأن تقديم النبيذ لهم، ومن الأجدر أن يأتوا هم بالنبيذ له. مرة أخرى أتقدم بالشكر إلى كاهن «أولو»، الذي رأى ضرورة استدعائنا وإخبارنا بتلك الأشياء التي تنم عن تقديره العظيم لنا، وهكذا نقدم له امتناننا ، لكن شيئا واحدا يظل غامضا بالنسبة لي قد يكون واضحا لدى الآخرين، وإذا كان كذلك فليبادر أحد بتفسيره لي .. لقد أخبرنا «إيزولو» أن الحاكم الأبيض أرسل في طلبه، وعليه أن يذهب ل «أوكبيري» والآن لست أدري الخطأ من الصواب .. ما الخطأ أن يسأل الرجل صديقا لزيارته؟ ألا نرسل نحن لأصدقائنا في القبائل الأخرى عندما نحتفل بالعيد لمشاركتنا؟ ألا يرسلون هم أيضا في طلبنا لمشاركتهم احتفالاتهم.
إن الرجل الأبيض يعد صديقا ل «إيزولو» وقد أرسل في طلبه، فأين وجه الغرابة في ذلك؟ إنه لم يرسل في طلبي أو طلب «أودوزو»، ولم يرسل في طلب كاهن «إيديميلي» أو «إيرو» ولا كاهن «أودو» أو «أجوجو» لرؤيته، ولكنه أرسل فقط ل «إيزولو»، لماذا؟ لأنهم أصدقاء، وهل كان «إيزولو» يعتقد بأن صداقتهما ستكون عائقا لزيارة بعضهما بعضا؟ أم أنه يريد صداقة الرجل الأبيض بكلمة من الفم فقط؟ ألم يخبرنا أسلافنا بأننا ما إن نمد أيادينا للأبرص حتى يسارع بطلب العناق؟ .. لقد مد «إيزولو» يده للرجل ذي الجسد الأبيض.
همس البعض همسات خفيضة تنم عن الاستحسان، وضحك آخرون وأردف «واكا»: إن الجذام دائما يدعى باسمه المهذب (جسد أبيض)، مثله مثل كل الأشياء ذات الشأن التي ينفر منها الناس ويفزعون.
اختلط التصفيق والضحك بالتحية، وانتظر «واكا» حتى انتهوا من ضحكاتهم، ثم استطرد: فلتضحكوا كما تشاءون، أما أنا فلا أستطيع.
كان «إيزولو» جالسا بنفس الطريقة التي جلس بها فور انتهائه من الكلام.
قال «واكا»: أريد القول إن الرجل الذي يأتي بحزمة من الحطب داخل هذا الكوخ لا بد أن يتوقع زيارة السحالي، وإذا قال لنا «إيزولو» الآن بأنه سئم صداقة الرجل الأبيض فسوف نقول له إنه هو الذي ربط العقدة ويجب عليه أن يفكها، كما أنه هو أيضا الذي ألقى بالخراء وعليه أن يحمله بعيدا، ومن حسن الطالع أن التخلي عن جاذبية الشر التي جاءت إلينا ليس بالأمر الصعب، لقد عرفت وسمعت أنه مما يخالف عادات كاهن «أولو» أن يسافر أحد بعيدا عن كوخه، ولكن هل هذه هي المرة الأولى التي يرغب فيها «إيزولو» الذهاب إلى «أوكبيري»، وإذن من الذي شهد مع الرجل الأبيض في تلك السنة التي حاربنا فيها من أجل أرضنا وخسرنا؟
توقف «واكا» إلى حين انتهاء التذمر الذي ساد، ثم أضاف قائلا: لقد انتهيت، أحييكم.
تبادل آخرون الحديث واحدا تلو الآخر، لكن أحدا لم يتحدث بقسوة مثلما فعل «واكا»، وحدث أن اعترض اثنان على طريقة تفكيره، وربما اعترض آخرون لكنهم لم يعبروا عن اعتراضاتهم، بينما قال عدد كبير بأنه من التهور والطيش تجاهل نداء الرجل الأبيض، فهل نسوا ما حدث للقبيلة التي تشاجرت معه؟
حاول «وكيك نابيني» أن يهدئ من روع الكلمات قائلا: يجب اختيار ستة من الكبار للذهاب مع «إيزولو».
صاح «واكا»: يمكنك الذهاب معه إذا كانت قدماك متعطشة للمشي.
كرر «وكيك» اقتراحه بذهاب ستة من كبار «أوموارو» مع كبير الكهنة إلى «أوكبيري»، ثم خاطب «واكا» قائلا: «أجبوفي واكا» أرجوك ألا تتدخل فيما أقول؛ فلقد وقفت أنت وتحدثت بما يكفي دون أن يقاطعك أحد.
نهض «إيزولو» عندئذ وكان وجهه متلألئا من النار المشتعلة بجواره، وعندما شرع في الحديث ساد الصمت، لم تكن كلماته تحمل ضغينة في صدره، ولم يكن غضبه بسبب العداء الواضح في كلمات «واكا»، وإنما بسبب تلك الكلمات الرقيقة من بعض الناس مثل «نابيني» .. تطلعوا إليه كالفئران التي تخترق حذاء النائم وتقرضه، ثم يهب الهواء فوق الجرح ليرطبه، فتهدأ الضحية وتعود للنوم.
قدم التحية ل «أوموارو»، وبدأ حديثه بمرح وخفة روح: لم يكن ندائي لكم واجتماعي بكم لأنني بائس أو تائه أو لأن عيني شاهدت أذني، وإنما أردت فقط أن أعرف الطريقة التي ستتناولون بها حكايتي، وقد فهمت الآن طريقتكم، وها أنا ذا راض وقانع .. حين نقدم قطعة من اليام إلى طفل فإننا نرجوه أن يعطينا منها قطعة صغيرة، ليس لأننا حقا نريد أن نأكلها، وإنما لاختبار طفلنا؛ أي أننا نريد معرفة ما سوف يكون عليه طفلنا حين يكبر، هل سيكون من ذلك النوع من الرجال الذين يوزعون ما يملكون ، أم أنه سيقبض على كل شيء ويحتويه في صدره .. أنتم تعرفون «إيزولو» وتعلمون إذا كان هو ذلك الرجل الذي يهرع لمجرد أن الرجل الأبيض أرسل في طلبه .. إنني لم أسرق الماعز الخاص به، ولم أقتل أخاه أو اغتصبت زوجته، وإلا لكنت اقتحمت الشجيرة عند سماع صوته، لكنني لم أعمل على الإساءة إليه أبدا.
استطرد «إيزولو» قائلا: وفيما يتعلق بما سوف أفعله، فلقد قررت قبل أن أطلب من «إيكولو» مساندتكم، لكنني على يقين بأنني إذا ما فعلت أي شيء بدون التحدث إليكم أولا لقلتم: لماذا لم يخبرنا؟
صمت لحظة قصيرة، ثم أضاف: وها قد أخبرتكم؛ ولذلك فأنا أشعر بسعادة كبيرة .. ليس هذا وقت الكلمات الكثيرة، وعندما يحين موعد الكلمات فسوف نتحدث جميعا حتى يصيبنا التعب، وربما نكتشف عندئذ أن هناك خطيبا آخر في «أوموارو» إلى جانب «واكا»، والآن أحييكم لأنكم استجبتم للنداء. «أوموارو» وينو! .. هيم!
كان «أوكيك أونيني» ذلك العراف الشهير والأخ الأصغر غير الشقيق ل «إيزولو» هو الذي تبعه تلك الليلة إلى المنزل، وطلب منه الذهاب معه إلى «أوكبيري» في الصباح، لكن «إيزولو» رفض طلبه مثلما رفض الجميع بما فيهم صديقه «أكيوبو»، فقد قرر الذهاب بمفرده، ولم يكن في نيته العدول عن قراره، ورغم قطرات المطر الثقيلة التي بدأت تتساقط، فقد نهض «أوكيك أونيني» معتزما الخروج فسأله «إيدوجو»: هلا انتظرت قليلا، ألا ترى السماء؟
أجاب «أوكيك أونيني» متظاهرا بخلو البال: لا يا بني.
ثم أضاف: إن الذين يحملون الدواء الشرير في أجسادهم هم فقط من يخافون المطر.
بادر بالخروج في اتجاه العاصفة القادمة، وكان الأفق ملبدا بالظلام، وثمة أضواء منتظمة كانت قوية وثابتة في بعض الأحيان، ومرفرفة في أحيان أخرى، تنطفئ وتتلألأ وكأن ريحا مندفعة كانت تهز اللهب.
ارتفع صوت «أوكيك أونيني» بقوة لاعنا الرياح والرعد، وكان يصفر ويغني لمساعدة نفسه على احتمال الظلام.
لم يقل «إيزولو» أي شيء لإغرائه بالبقاء وعدم خروجه في المطر، ولم يكن لديه ما يقوله، لكنه كان يفكر في أشياء أخرى، وبعد فترة طويلة قال : هذا المطر هو نذير القمر الجديد.
لكن أحدا لم يفهم ما يقول.
لم تكن العلاقة قوية بين «إيزولو» وأخيه غير الشقيق، وكان «إيزولو» معروفا بكراهيته للعرافين، وكثيرا ما كان يردد بأن معظمهم دجالون وجشعون، وأن العلاج الحقيقي قد انتهى بانتهاء جيل أبيه، والذين يمارسون مهنة الطب هذه الأيام ليسوا سوى مجرد أقزام.
كان والد «إيزولو» عرافا وساحرا عظيما قام بالعديد من المعجزات، وكان الناس يتحدثون كثيرا عن قدرته على الاختفاء، مثلما فعل أثناء الحرب بين «أوموارو» و«أنينتا»؛ حيث لم يكن أحد يجرؤ من إحدى القبيلتين على وضع قدمه في القبيلة الأخرى، لكن كبير الكهنة كان يفعل ذلك كلما أراد، ودائما ما كان يذهب مع ابنه «أوكيك أونيني» الصغير، وذلك بإعطائه مكنسة صغيرة يمسكها في ذراعه الأيسر دون التحدث، ودون تقديم التحية إلى أي شخص يمر بالقرب منهما، وكان عليه أن يسير فقط بالقرب من الحافة اليمنى للطريق أمام أبيه دون أن يغيب عن ناظره. كان أي شخص يمر بالقرب منهما يتوقف فجأة، ويبدأ في التلويح بورق الشجيرة عند الجانب الآخر من الطريق، ويواصل التلويح حتى يمر الولد ومن خلفه أبوه.
تعلم «أوكيك أونيني» الكثير من طرق العلاج والسحر من والده، لكنه لم يتعلم قط ذلك السحر الخاص الذي يدعى
OTI-ANYO-OFU-UZO . كان «إيزولو» الأخير أحد الكهنة القلائل في «أوموارو» الذين يمارسون الطب والسحر، ولأنهم كذلك فقد كانوا يتمتعون بقوة غير محدودة، حتى إن «أوكيك أونيني» دائما ما كان يردد أن السبب في ضعف العلاقة وعدم القبول بينه وبين «إيزولو» هو ذلك الفرق في القوة بينهما. وكان يقول أيضا بأن «إيزولو» لا يعرف بأن كل ما يتعلق بالعشب والنبات يكون أحيانا منقوشا في خطوط باطن الكف، وهو يعتقد أن «إيزولو» الأب أخذها منه عمدا وأعطاها له.
قال أيضا ذات مرة: هل سمعني أشكو لحصوله على الكهنوتية؟
كانت الفجوة التي صنعها «إيزولو» بينه وبين أخيه «أوكيك أونيني» هي التي جعلت بعض الناس لا يحبونه، وكانوا يشيرون إلى غيرته من سمعة أخيه الحميدة في عالم الطب والدواء.
ثمة آخرون مثل «أكيوب» ممن يعرفون «إيزولو» جيدا قال بأن شيئا ما فعله «أوكيك أونيني» ل «إيزولو» لم يكن معروفا، لكنه ليس مجرد شيء يحدث بين الإخوة حتى لا يمكن التسامح من أجله، ولم يجد المؤيدون ل «إيزولو» والمدافعون عنه ما يقولونه سوى بعض الظنون والتخمينات.
قال البعض إن «أوكيك أونيني» قد ربط رحم زوجة «إيزولو» الأولى بعد أن أنجبت ثلاثة أطفال فقط.
وأجاب آخرون: ذلك مستحيل، نحن جميعا نعرف العرافين الأشرار في «أوموارو»، ونعرف أن «أوكيك أونيني» ليس أحدهم؛ فهو من نوع الرجال الذين لا يوقعون اللعنة بامرأة لم تسبب لهم أي أذى، خاصة وأنها زوجة أخيه.
وقال آخرون: لكنك نسيت أن «أوكيك أونيني» يحمل حقدا كبيرا تجاه «إيزولو»، وأن الأب - في طفولتهم - جعل «أوكيك» يعتقد بأنه سيصبح كاهنا بعد وفاته.
وقال البعض الآخر: لا أحد أبدا اتهم «أوكيك أونيني» بربط رحم زوجة أخيه؛ فهؤلاء العرافون الذين يداومون على مثل تلك الأعمال الدنيئة كمن يحسون بلذة تناول اللحم البشري، لم يفلحوا أبدا في إنجاب أطفال، وإذا ما ألقينا نظرة سريعة إلى بيت «أوكيك» فسنجده مليئا بالأولاد والبنات.
انتهت المناقشات دون الوصول إلى شيء محدد، خاصة حين الإشارة إلى أن «إيدوجو» - وهو ابن المرأة التي قيل بربط رحمها - صديق عزيز ل «أوكيك»، وكانت هذه العلاقة بين «إيدوجو» وعمه تثير سخط «إيزولو»، الذي قال في الحال: هذان الاثنان، جرن مهمل وبذور نخيل متعفنة.
ظل الكابتن «وينتربوتوم» طوال يومين أو ثلاثة أيام يشعر بتعب وإرهاق شديدين، وكانت السماء تنذر بمزيد من الأمطار، وكانت لثة أسنانه أكثر شحوبا من أي وقت مضى، وقدماه باردتان، فهل هي نوبة الحمى أم أنها مجرد علامات؟ لم يكن خائفا كالأطفال؛ فالحمى ليست سوى أحد الأعباء التي تتطلب إجازة قصيرة، هذا كل ما في الأمر.
قال «توني كلارك» بتأثر ملحوظ: يجب أن نذهب للطبيب. - طبيب؟! يا إلهي! طبيب من أجل الحمى؟ -لا، يا ولدي، إن «ماكميلان» المسكين لم يكن مهتما بما يكفي بالرغم من تحذيراتي ، كما أن الحمى تصيبني منذ عشر سنوات مرة كل سنة، وعندما تصيبك فإنك غالبا ما تتوقف عن إبداء أية ملاحظات، لا، إن بعض التغيير هو كل ما أحتاجه ولو لمدة أسبوع مثلا، وبعد عودتي ستجدني في صحة جيدة مثل الزهور، والرحلة القصيرة إلى «إنوجو» ستعمل على ذلك.
كان «وينتربوتوم» يزعم الذهاب لمركز القيادة خلال يومين، وللأسباب السابقة رأى أن ينظم عمل القائم بأعمال المنطقة في «أوموارو» قبل مقابلة أفراد المركز، لكنه لم يستطع الانتهاء من كل شيء في خلال يومين، لكنه بدأ في الخطوات الأولى، ولأنه مؤمن بأهمية التغيير بعيدا عن المنزل لبضعة أيام يعود بعدها مرة ثانية، فقد كتب ملاحظات كثيرة إلى «توني كلارك» تشمل اقتراحه بما يجب أن يفعله «توني» بشأن رئيس «بارامونت»؛ حيث قال: «أرسلت اليوم مبعوثين إلى «أوموارو» لإحضار «إيزولو» للمناقشة التمهيدية.»
كان كابتن «وينتربوتوم» يستمتع بحيرة الأوروبيين الآخرين عندما يتحدث بلغة الإيبو التي درج على التحدث بها بإتقان.
عاد المبعوثان من «أوموارو» حاملين ردا مليئا بالإهانة من «إيزولو»، ذلك الكاهن المعبود، مما أصاب كابتن «وينتربوتوم» بالغيظ والسخط، فقام على الفور بتوقيع طلب بالقبض عليه، وأصدر تعليماته لاثنين من رجال البوليس أن يذهبا إلى «أوموارو» في الصباح وإحضاره، ثم قال ل «كلارك»: اسجنه فور وصوله في حجرة الحراسة؛ فلست راغبا في رؤيته حتى أعود من «إنوجو». وأثناء ذلك الوقت سيتعلم أساليب جيدة في التعامل مع القيادة، كما سيعرف المواطنون جميعا كيفية التعامل معنا.
في الصباح الباكر عندما قبض اثنان من رجال البوليس على «إيزولو» تدهورت صحة الكابتن «وينتربوتوم»، وراح في نوبة هذيان، ولم يكن مفهوما مما يقول سوى أن قدميه باردتان، طلب إناء من الماء الساخن فسارع الخولي بتسخين بعض الماء، ووضعه في زجاجة من البلاستيك فوق قدم الرجل.
صرخ «وينتربوتوم» قائلا: إنها ليست ساخنة بما يكفي.
صب الخولي الماء المغلي، غير أن ذلك أيضا لم يكن ساخنا بما يكفي، فراح يغير الماء بين الحين والآخر، لكن الكابتن لم يتوقف عن الشكوى.
لم يكن «توني كلارك » يعرف قيادة السيارات، فاتصل ب «واد» لمصاحبة الكابتن في سيارته الفورد القديمة إلى المستشفى الذي يبعد ستة أميال .. ازدادت حالة القدمين سوءا، ولم يكتشف أحد ذلك إلا في اليوم التالي في المستشفى.
كان «كلارك» و«واد» مندهشين، وأصابهما الارتباك عند رؤية «ماري سافاج»، تلك الطبيبة الصارمة التي تعمل لحساب المستشفى، وقد انهمرت منها الدموع، وأصابها الذعر عند وصول كابتن «وينتربوتوم»، وكانت تردد: توم .. توم.
كانت تتصرف وكأنها غير طبيبة، ولم يتملكها الذعر مدة طويلة؛ إذ سرعان ما تمالكت نفسها وسيطرت على الموقف .. كانت الطبيبة «سافاج» معروفة لدى الممرضات القوميات والخدم في المستشفى وفي القرية بأنها «أوميسيك»؛ أي تلك التي تمثل القوة، ولم يكن من المتوقع أبدا أن تبكي أمام مريض حتى لو كان هذا المريض هو زوجها كابتن «وينتربوتوم».
استمر هذيان «وينتربوتوم» ثلاثة أيام، لم تغادره فيها «سافاج» إلا نادرا حتى إنها أرجأت العمليات التي تقوم بها كل أربعاء .. كان يوم الأربعاء معروفا في أرجاء القرية بيوم تقطيع الأمعاء ودائما ما كان يتسم بالحزن .. كانوا يقيمون سوقا خارج أبواب المستشفى لإمداد المرضى بما يحتاجون، وكان عدد النساء في ذلك السوق يفوق عددهن بقية الأيام، ومن الملاحظ أيضا أن السماء في يوم الموت ذلك كانت تبدو وكأنها حزينة وكئيبة.
تفحصت «سافاج» قائمة العمليات، وسعدت بعدم وجود حالات عاجلة، ثم قررت تأجيل كل الحالات إلى يوم الجمعة. كانت حالة الكابتن «وينتربوتوم» تتحسن ببطء شديد، وكان الأمل ضعيفا، وكل شيء يتوقف على مهارة التمريض لمساعدته في التغلب على حالته الحرجة، التي سيتم التعرف على نتيجتها في اليوم التالي أو الذي يليه.
كان الكابتن مقيما في جناح خاص بمفرده، ولم يكن مسموحا لأحد بزيارته سوى الطبيبة «سافاج» وأختها الأوروبية الوحيدة.
أقسم «جون وديك»، خولي الكابتن «وينتربوتوم»، بينه وبين نفسه ألا يذهب إلى عشيرته مرة أخرى كمبعوث من الرجل الأبيض، كما فعل آخر مرة لاستدعاء «إيزولو»، لكن عليه الآن أن يرافق رجلي البوليس وقد عرف أن أحدهما يحمل قيدا لليدين للقبض على كاهن «أولو»، فازداد إصراره على عدم الذهاب، لكنه لا يستطيع أن يقول لا لسيده، وافق على الذهاب وهو يفكر في خطة ما، تبع رجلي البوليس قبل صياح أول ديك في الفجر، وكان يرتعش ويدثر نفسه بتلك البطانية التي أهداها له كابتن «وينتربوتوم»، عندما أنجبت زوجته طفلا منذ أربعة شهور مضت.
ظل يتطلع إلى الرجلين ويهمس وفور وصولهم إلى «أوموارو» قال: إن أي طفل رضيع يستطيع أن يدلكم على منزل «إيزولو».
دخل الشرطيان «أوموارو» أثناء وقت الإفطار، والتقوا برجل يحمل إناء من النبيذ سرعان ما استوقفوه، فقال القائد البدين «ماثيو ويك»: أين منزل «إيزولو»؟
حدق الرجل بريبة إلى الغرباء، وأجاب بعد وقت طويل وكأنه كان يستجمع ذاكرته: «إيزولو»؟ أي «إيزولو»؟
فسأله البدين بغضب: كم «إيزولو» تعرف؟
قال الرجل مرددا: كم «إيزولو» أعرف؟ أنا لا أعرف أي «إيزولو». - ولماذا سألتني ما دمت لا تعرف أيا منهم؟ - لماذا سألتك ...؟
صاح الشرطي بالإنجليزية: اخرس أيها الأحمق. - قلت بأنني لا أعرف أي «إيزولو»؛ فأنا غريب هنا.
وكذلك كان الأمر مع رجلين آخرين لم يتحدثا بأكثر أو أقل من ذلك، وقال أحدهما إن «إيزولو» الوحيد الذي يعرفه هو رجل «أوموفيا».
أصيب الرجلان بالدهشة، وكانت إثارة الخوف هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الناس يتكلمون، لكن الضابط الأوروبي حذرهما من استخدام العنف والتهديد، وخاصة عدم استخدام القيود إلا في حالة المقاومة، لكنهما كانا على يقين بعدم العثور على منزل «إيزولو» بدون استخدام بعض العنف، وأنهما سيظلان في أرجاء «أوموارو» حتى غروب الشمس إذا لم يظهرا كثيرا من الردع، وعندما جاء رجل وحاول الهرب والمراوغة قاما على الفور بصفعه، وجعلاه يشاهد القيود، وهكذا تحققت النتيجة المطلوبة، فسألهما الرجل أن يتبعاه، ومضى في اتجاه الأرض التي يبحثان عنها، وأشار عليهما قائلا: ليس من عادتنا أن نبين لأحد من الجيران الدائنين الطريق إلى كوخه؛ ولهذا لن أستطيع الدخول معكم.
أطلق الشرطيان سراحه، فجرى بأقصى سرعته.
دخل الشرطيان فشاهدا امرأة عجوزا تمضغ اللبان، تطلعت إليهما بفزع ولم تفهم أيا من الأسئلة التي وجهت إليها، كما بدت وكأنها لا تتذكر حتى مجرد اسمها .. دخل ولد صغير يمسك بشقفة صغيرة لإحضار فحم محروق لأمه كي تشعل النار، وكان هذا الولد هو الذي قاد الرجلين إلى مكان «إيزولو»، وفور خروجه معهما التقطت العجوز عصاها وحركتها بسرعة مدهشة في اتجاه كوخ أمه لتبين ما فعله الولد، ثم عادت إلى كوخها ببطء شديد وهي تنحني مستندة إلى عصاها المستقيمة، كان اسمها «وانيك»، وكانت أرملة بلا أطفال .. سمعت الولد «أوبيلو» يبكي.
كان الشرطيان في ذلك الوقت قد وصلا إلى كوخ «إيزولو»، ولم يكونا في حاجة إلى المراوغة، فراحا يتحدثان بغضب وبشكل مباشر ثم تساءل البدين: أي منكم يدعى «إيزولو»؟
سأل «إيدوجو»: أي «إيزولو»؟ - لا تسأل مرة ثانية عن أي «إيزولو»، وإلا فسوف أستخرج بذور الأكرو من فمك .. من الذي يدعى «إيزولو» هنا؟ - أي «إيزولو»؟ أم أنك لا تعرف عمن تبحث؟
كانوا أربعة آخرين في الكوخ ولم يقل أحد شيئا .. ازدحم الأطفال والنساء عند الباب المؤدي للكوخ، واكتست الوجوه بالخوف والقلق.
قال البدين بالإنجليزية: حسنا، أي «إيزولو»!
ثم قال بالإنجليزية أيضا:
Gimedatting .
كانت هذه الكلمة الأخيرة الموجهة إلى رفيقه، الذي سارع بإخراج القيود من جيبه.
كانت القيود في نظر القروي من أسلحة الرجل الأبيض الأقل رهبة وشأنا، فبدا لهم الرجل بذلك القفل الحديدي عاجزا وحقيرا؛ لأن تلك الطريقة هي التي يتعاملون بها مع المعتوهين والخطرين فقط.
تحرك الشرطي ذو السحنة القاسية صوب «إيدوجو» ممسكا بقيوده الحديدية، فتقدم «أكيوبو» للأمام بصفته كبير البيت، وناشد الشرطيين ألا يغضبا من «إيدوجو» وقال: إنه يتحدث كما يفعل الشباب، وأنتم تعرفون أن الشباب دائما متهور، لكن الرجل العجوز يسعى للمصالحة.
ثم أخبرهم أن «إيزولو» وابنه قد رحلا إلى «أوكبيري» في الصباح الباكر، لتلبية نداء الرجل الأبيض. نظر الرجلان كل منهما للآخر، وتذكرا بأنهما فعلا قد قابلا رجلا بصحبة آخر يبدو أنه ابنه، وقد كانا أول من قابلا من الرجال .. نعم إنهما يتذكران، وكان الرجل وابنه يسيران في الاتجاه المضاد، وكانا أيضا متنكرين تماما.
قال البدين: ماذا يشبه؟ - إنه طويل كشجرة الأيروكو، وذو بشرة بيضاء كالشمس؛ فقد كان يدعى في شبابه «وانيانو»
Nura-anyanwu . - وماذا عن ابنه؟ - مثله تماما .. لا يوجد اختلاف.
أبدى الشرطيان - على لسان الرجل الأبيض - إعجابهما العظيم بالقرويين.
قال البدين: قابلنا شخصين في الطريق.
وقال رفيقه: لكننا لن نعود هكذا!
كان البدين يفكر في نفس الشيء، وهو واثق بأنهم لم يقولوا سوى الحقيقة، لكن إثارة بعض الرعب في نفوسهم كان ضروريا، فخاطبهم بلغة الإيبو قائلا: ربما كنتم تكذبون، ويجب علينا أن نتأكد، وإلا فإن الرجل الأبيض سيعاقبنا، وذلك بالقبض على اثنين من رجالكم، واصطحابهما إلى «أوكبيري»، وإذا ما وجدنا «إيزولو» هناك فسوف نطلق سراحهما، أما إذا لم ..
توقف لحظة، ثم استطرد بحركة جانبية من رأسه: أي اثنين سنأخذ؟
تطلع بعضهم إلى بعض، وتبادلوا الحديث فيما بينهم بقلق، ثم قال «أكيوبو» متوسلا: ما الحكمة في خداع مبعوث الرجل الأبيض؟ وإذا كنا كاذبين فإلى أين سنذهب؟ إذا لم تجدوا «إيزولو» في «أوكبيري» فبمقدوركم العودة للقبض علينا جميعا وليس على اثنين فقط.
فكر البدين فيما قاله «أكيوبو»، ثم وافق، وقال: لكننا لا نستطيع المجيء والعودة دون عمل أي شيء؛ فعندما تزورك الروح المقنعة تكون مضطرا لإخماد بصماتها بتقديم الهدايا، والرجل الأبيض في هذه الأيام هو الروح المقنعة.
قال «أكيوبو»: حقا، إن الروح المقنعة في أيامنا هذه هو الرجل الأبيض ومبعوثوه.
طلبوا من زوجة «إيزولو» الكبيرة أن تجهز اليام بالدجاج للرجلين، فتناولا طعامهما، وشربا النبيذ، ثم استراحا قليلا، واستعدا للذهاب، ثم قدم «أكيوبو» الشكر لزيارتهما، وأخبرهما بأنهما لو قابلا صاحب البيت لعرفا أكثر كيف يكون كرم الضيافة.
قدم لهما قطعة صغيرة من الكولا وقال: هذه نيابة عن صاحب البيت، فهل تقبلونها؟
ثم وضع أمامهما دجاجتين، وتبعه «إيدوجو» بوضع طاسة خشبية بداخلها شلنان .. قدم البدين الشكر وهو يكرر تحذيره: إذا تبين أنكم تكذبون بشأن «إيزولو»، فإن الرجل الأبيض سيجعلكم ترون آذانكم بعيونكم.
كان التدهور المفاجئ الذي أصاب الكابتن «وينتربوتوم» في اليوم الذي أرسل فيه الشرطيين للقبض على كاهن «أوموارو» له دلالته الواضحة، وكان «جون وديكا » الخولي الثاني للكابتن «وينتربوتوم» هو أول من أشار إلى ذلك بقوله: لقد أصابه الكاهن؛ فالقوة لم تزل في مكانها المعتاد.
وسأل بقية الخدم بعد ذهاب سيدهم إلى المستشفى: ألم أقل لكم؟ وهل كان رفضي مصاحبة الشرطيين من أجل لا شيء؟ .. قلت لهم إن كاهن «أوموارو» ليس مجرد حساء يستطيعون لعقه في عجلة من أمرهم.
اتسم صوته بالفخر والكبرياء وهو يستطرد: يرى سيدنا أن العراف لا يستطيع أن يلمسه طالما هو رجل أبيض.
عند قدوم الخولي الخاص ب «كلارك» غير لغته من الإنجليزية إلى لغة الإيبو التي لا يعرفها الخولي.
انتشرت في أرجاء القيادة الحكومية قصة القوى السحرية ل «إيزولو» مرتبطة بقصة التدهور الغامض للكابتن «وينتربوتوم».
عند عودة السيد «كلارك» من المستشفى سأله الخولي عن حالة السيد الكبير، فأجاب «كلارك» وهو يهز رأسه: إنه في حالة سيئة، وأنا خائف.
قال الخولي بقلق شديد: آسف.
كان «كلارك» يحس بالإجهاد، ولم تكن حالته تسمح له بتبادل الحديث مع الخولي فقال: اذهب وجهز الحمام.
وهكذا فقد الفرصة لسماع السبب في مرض الكابتن، الذي انتشر في كل «أوكبيري» وليس في الإدارة فقط، لكن «كلارك» لم يعرف إلا حين أخبره «رايت» بعد يومين.
انتظر الخدم الآخرون الخولي في مطبخه لسماع آخر الأخبار، فقال لهم أثناء طريقه لإعداد الحمام إنه ليس ثمة أمل لأن «كلارك» خائف.
عاد «كلارك» و«واد» مرة ثانية في المساء إلى المستشفى، ولم يتمكنا من رؤية المريض ولا الطبيب، فقالت الممرضة «وارنر»: لا يوجد أي تغيير.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها «توني كلارك» بالقلق، ثم عاد في هدوء، وكان رسول البلاط خارج منزله حين عاد.
قال الرجل: مساء الخير.
أجاب «كلارك»: مساء الخير. - يوجد عراف قادم من «أوموارو». إنه خائف من أجل الجدري الزاحف إلى القرية. - ماذا تقول؟
أخبره الرجل بمزيد من التفاصيل، وعندئذ فقط أدرك «كلارك» بأنه يتحدث عن «إيزولو»، فبادر بالدخول وقال: احجزه في غرفة الحراسة حتى الصباح. - هل أضعه في غرفة الحراسة يا سيدي؟
صاح «كلارك»: هذا ما قلت، هل أنت أخرس؟ - لا .. لست أخرس يا سيدي ولكن ... - اخرج من هنا.
أرسل الرجل بعض الناس للعمل على نظافة غرفة الحراسة، ووضع حصيرة نظيفة تصلح لإقامة الضيوف، ثم توجه إلى «إيزولو» الجالس مع «أوبيكا» في غرفة البلاط، وقال له بلطف: إن السيد الكبير مريض، والآخر يرحب بكم، ويخبركم أن الوقت متأخر، وسوف يراكم في الصباح.
لم يجب «إيزولو» بشيء، وتبعه إلى غرفة الحراسة المظلمة، وجلس على الحصيرة، وكذا فعل «أوبيكا» .. تناول «إيزولو» من جيبه زجاجة النشوق.
قال رسول البلاط: سنرسل في طلب مصباح لك.
وما هي إلا لحظات قليلة حتى جاء «جون وديكا» مع زوجته حاملة فوق رأسها شيئا صغيرا سرعان ما وضعته على الأرض، فإذا به كمية هائلة من المنيهوت (النشا) وطاسة من حساء الورق المر. صنع «جون وديكا» كرة الفوفو، وألقى بها في الحساء، ثم بلعها ليؤكد عدم وجود سم بها.
قدم «إيزولو» له ولزوجته الشكر، وقد تبين أن زوجته هذه هي ابنة صديقه في «أومواجو»، لكنه رفض أن يأكل، وقال: ليس الطعام هو ما يشغلني الآن.
قال ابن «وديكا»: أستحلفك بالله أن تأكل ولو قليلا، قضمة واحدة فقط.
ولم يكن من اليسير إغراء الرجل العجوز كي يأكل، فقال: «أوبيكا» سيأكل نيابة عني.
قال الآخر: إن الطير لا يأكل في بطن الماعز.
لكن «إيزولو» لم يتنازل عن رأيه، وظل رافضا للطعام.
عاد المبعوث بالمصباح، فشكره «إيزولو».
عاد «ماثيو ويك» من مهمته في «أوموارو» بصحبة الشرطي الآخر، فوجد زوجاته يبكين وجمعا غفيرا من الناس مزدحمين في غرفته، فاحتار في أمره وانتابه القلق، وفكر في ابنه الصغير المصاب بالحصبة، ثم اندفع تجاه الحصيرة التي يرقد عليها ابنه، وتحسسه، فوجده يقظا وسليما وعندئذ سأل: ماذا حدث؟
لم يجب أحد، فتوجه بالسؤال مباشرة إلى أحد رجال الشرطة في الحجرة، تنحنح الرجل وأخبره بعدم توقعهم أن يعود هو ورفيقه أحياء، خاصة وأن الرجل الذي ذهب للقبض عليه موجود هنا.
دخل «جون وديكا» فسأله «ماثيو»: لكنك لم تكن على ما يرام في الصباح؟! - وهذا ما جئت لأخبرك به؛ فالمرض كان تحذيرا من كبير الكهنة.
ثم قال لهم «جون» بأن الكاهن كان يعرف كل شيء عن مرض الكابتن.
تساءل شخص ما وربما كانوا شخصين: وماذا قال؟ - إذا كان مريضا فسوف يبرأ .. ولم أكن أعرف ما يعني غير أن صوته كان يحمل بعض السخرية.
لم يكن «ماثيو ويك» أو «كوبل» كما كانوا يدعونه قلقا بما يكفي؛ فلديه الحماية الشخصية التي صنعها له «ديبيا» العظيم في قريته، لكنه بعد سماع المزيد عن «إيزولو» بدأ إيمانه بتلك الحماية يقل، وعندئذ تشاور مع الشرطي الذي كان بصحبته في «أوموارو»، وقرر كل منهما - نحو مزيد من الأمان - أن يتوجها مباشرة إلى «ديبيا» .. كانت الساعة تقترب من العاشرة مساء حين وصلا منزل الرجل الذي يدعونه في القرية «الرمح المنطلق نحو السماء».
سألهما عن الموضوع الذي جاءا من أجله فور وصولهما، ثم قال: خيرا فعلتما بالحضور عندي مباشرة لأنكما في الحقيقة هاجمتما فم النمر، ولا يوجد شيء أكبر من النمر، ومن أجل هذا أرحب بكما لأنكما هنا في الملجأ الأخير.
أخبرهما بعدم تناول أي شيء أحضراه من «أوموارو»، ووجوب إحضار الدجاجتين والنقود كقربان، ثم قدم لهما شيئا ما لشربه وخلطه في ماء الحمام.
الفصل الرابع عشر
كان «أوبيكا» يتناول المنيهوت المجروش وحساء الورق المر عندما أبصر والده يعاني قلقا ما، لكنه لم يستطع أن يسأله عن حالته؛ لأنه وحتى في أفضل الأوقات لا يتحدث إلا عندما يريد لا عندما يسأله أحد.
نهض «إيزولو» ومضى، في اتجاه الباب الضيق، ثم بدا وكأنه عدل عن فكرته أو كمن تذكر شيئا. عاد إلى حقيبته المصنوعة من جلد الماعز، وتناول منها زجاجة النشوق، ثم اتجه مرة ثانية إلى الباب وهو يقول: أنا ذاهب للتبول.
طوال فترة بقائه في «أوكبيري» قرر عدم الاهتمام بالقمر الجديد، لكن العين شغوفة وجشعة جدا، وقد تسرق النظر إلى شيء ما لا يرغب صاحبه في رؤيته، كانت عيناه - وهو يتبول خارج غرفة الحراسة - تبحث عن القمر الجديد، وكان وجه السماء غريبا بحيث لا يستطيع أي شخص أن يشير إلى المكان الذي سيبزغ منه القمر.
خاف «إيزولو» لحظة قصيرة، ثم فكر قليلا، ولم يجد سببا لذلك الخوف، وقال لنفسه: لماذا يجب أن تكون سماء «أوكبيري» مألوفة لدي؟ إن كل أرض لها سماؤها الخاصة بها.
رأى «إيزولو» جده في الحلم مع كبار «أوموارو» الذين قابلهم منذ أيام قليلة ماضية؛ حيث نهض الجد للحديث فرفضوا الاستماع إليه، وصاحوا معا قائلين: لن يتحدث، ولن نستمع إليه، ثم رفع كبير الكهنة صوته، وتوسل إليهم أن يستمعوا، لكنهم رفضوا مرة ثانية قائلين: يجب نزح الماء عندما يصل إلى المفصل.
قال «واكا»: لماذا ينبغي أن نثق فيه ليخبرنا بموسم العام، هل لا يستطيع أي شخص هنا أن يرى القمر في أرضه ومكانه الخاص؟ وما هي قوة «أولو» اليوم؟ إنه الذي أنقذ آباءنا من محاربي «آبام»، لكنه لا يستطيع إنقاذنا من الرجل الأبيض، فدعونا إذن نلقي به بعيدا كما فعل جيراننا في «أنينتا»، وحرقوا «أوجبا» عندما تخلى عن دوره، وقتل الناس في «أنينتا» بدلا من أعدائهم.
ثم أوقف الناس كبير الكهنة، وراحوا يدفعونه من مجموعة إلى أخرى، وبصق البعض في وجهه قائلين: إنه كاهن الإله الميت.
استيقظ «إيزولو» بعد ذلك الحلم، وبدا كمن سقط من ارتفاع شاهق، ثم سارع بسؤال «أوبيكا» في الظلام: ما هذا؟ - لا شيء .. هل قلت شيئا؟ - كنت تتشاجر مع شخص ما، وتريد أن ترى أيكما سيهزم الآخر. - أعتقد بأنه ربما كان عنكبوتا في العارضة الخشبية.
كان جالسا فوق حصيرته، ولم يكن ما رآه حلما وإنما رؤية، كان جده المعروف بعيون الطفل يلوح له مرة ثانية في صورة ضعيفة ومبهمة.
عاد «أوبيكا» للنوم، فأصبح «إيزولو» وحيدا، ووضع قليلا من النشوق في أنفه ليساعد نفسه على التفكير، وراح يفكر مرة أخرى في البحث العقيم عن مطلع القمر الجديد، الذي يبدو غريبا حتى في قرية أمه التي اعتاد أن يذهب إليها بانتظام، حين كان صغيرا وشابا، والتي تلي «أوموارو» مباشرة، ويعرفها أكثر من أي قرية أخرى، ها هو يشعر بفقدان مكانته ككبير للكهنة، وها هو يشعر - بعيدا عن «أولو» - كأنه طفل هجره والداه العبوسان إلى رحلة، لكنه شعر بسعادة غامرة حين تذكر ذلك التفكير بالانتقام الذي انتابه فجأة عندما كان يستمع إلى «واكا» في السوق.
تماسك «إيزولو» أخيرا من ذلك الكابوس وتلك الأفكار اللاهية، ولاحت في رأسه فكرة واحدة هي صراعه الضعيف مع الرجل الأبيض. لقد حذر «أوموارو» كثيرا بألا تقودهم الغيرة إلى الدغل لكنهم لم ينصتوا، وراحوا يثرثرون بأشياء خطيرة بعيدة عن الموضوع، تاقت عضلات «إيزولو» للحرب، فليعتقله الرجل الأبيض إذن ليس فقط ليوم واحد، وإنما لعام كامل، لن يتوجه فيه إلى «أوموارو» بالأسئلة.
طبقا لتعليمات الكابتن «وينتربوتوم» باعتقال «إيزولو»، كي يتعلم كيفية أن يكون مهذبا مع الإدارة، رفض السيد «كلارك» رؤيته في اليوم التالي كما وعده المبعوث، كما رفض رؤيته أيضا لأربعة أيام.
في الصباح التالي كان «كلارك» و«واد» يقودان السيارة في طريقهما للمستشفى في «كيزا»، حين شاهدا مصادفة في جانب الطريق قربانا، كانا يشاهدان القرابين كثيرا على جانبي الطريق دون أن يتوقفا، لكن ذلك القربان أدهشهما بوفرته غير العادية، فأوقف «واد» السيارة، وتوجها صوب القربان الذي لم يكن مجرد فرخ الدجاج الأبيض العادي، وإنما زوج من الديوك الكبيرة، إلى جانب بقية الأشياء العادية، كسعف النخيل المائل للاصفرار، والمقطوع من قمة الشجرة وطاسة من الطين تحوي اثنتين من بذور الكولا، وقطعة من الطباشير الأبيض، لكن العملة الإنجليزية هي التي أثارت انتباههما فقال «واد»: حسنا، إنني أبدأ. - شيء غريب جدا، قربان بالغ في الإسراف، وإنني لأتعجب.
قال «واد» بهدوء: ربما يكون لأجل شفاء ممثل الملك.
ثم استطرد بجدية وكأن شيئا ما قد لدغه: لا أحب النظر إلى تلك الأشياء، ولا يهمني إذا ما استخدموا عملاتهم وورق المانيلا، لكن رأس جورج الخامس هي التي تهمني.
ضحك «كلارك» ضحكا مكتوما، ثم توقف في الحال، بينما تناول «واد» بيده اليسرى قطعة الفضة من الطاسة، وراح ينظفها بأوراق الشجر، ووضعها في جوربه الطويل ثم داخل جيبه. - يا إلهي، ماذا تظن أنك فاعل؟
أجاب «واد» ضاحكا: لا أريد أن يحمل ملك إنجلترا ال جوجو
Juju
1
متنكرا.
أصاب «كلارك» قلق كبير؛ فلقد كان يعد نفسه لاستئناف عبء الإدارة في حالة وفاة «وينتربوتوم»، وكان عليه عندئذ أن يدافع عن القوميين ضد الأفعال الحمقاء التي يمارسها الرجال البيض، مثل «واد»، كانتهاكه لحرمة القربان.
ذلك الصباح طلب «إيزولو» من «أوبيكا» الذهاب إلى «أوموارو»، لإخبار عائلته عن كيفية سير الأمور، وإحضار زوجته الصغرى كي تصنع له الطعام، لكن «جون وديكا»، أحد أفراد عشيرتهم، لم يوافق وقال: ليس ضروريا، إن زوجتي هي ابنة صديقك القديم، ولن تسمح لك بطلب امرأة أخرى، أعرف بأننا لن نستطيع إمدادك بنوع الطعام الذي تتناوله في البيت، ولكن إذا كان لدينا اثنتان من بذور النخيل فإننا سنقدم لك واحدة وكوبا من الماء يساعد على الابتلاع.
كان لدى «إيزولو» بعض التحفظات تجاه ابن «وديكا»، إلا أنه لم يستطع أن يرفض الطلب عند عرضه بهذه الطريقة، كما أنه لا يرغب في الإساءة إلى ابنة صديقه «إيجونوان»، الذي مات منذ سنوات ثلاث بعد الحصاد، طلب من «وديكا» عدم إحضار «أوجوي» وإنما كميات كبيرة من اليام وبعض الطعام الآخر، كما كانت لديه أيضا الأسباب اللائقة لكراهية ابن «وديكا»، الذي جاء من قرية قريبة في «أوموارو» كثيرا ما كان يراها «إيزولو»، وكان يعمل بغسل الأطباق في مطبخ الرجل الأبيض في «أوكبيري»، ومثل ذلك الشيء يعد مهانة كبيرة لابن من «أوموارو»، كما أن «جون وديكا» هو الذي جاء بالمبعوث الوقح للرجل الأبيض إلى بيت «إيزولو».
في نهاية يومه الأول في «أوكبيري» بدأ «إيزولو» في ملاطفة الرجل ليبين له أن أحد أفراد العشيرة حتى لو كان عدوا يصبح صديقا في بلد غريب؛ إذ إن «أوكبيري» التي تقع فيها مركز القيادة الحكومية تعد بلدا غريبا بالنسبة ل «إيزولو»؛ فهي ليست «أوكبيري» التي عرفها صبيا وشابا، كانت قرية أمه، فلا بد أن أجزاء كثيرة من «أوكبيري» قد تغيرت، لكن «إيزولو» لا يستطيع بسهولة أن يفتش عن تلك الأجزاء في ذلك الوقت الحرج، فأين هي العين التي ينظر بها إلى المواقع والوجوه الجديدة؟ كان ذلك أفضل من القول بأنه كان سجينا ولم يستطع التحرك كيفما شاء.
أثناء تناوله وجبة المساء سمع أصوات أطفال يرحبون بقدوم القمر الجديد: أنوا .. آتو .. أوه .. أوه!
Anwa ato - o - o - o ! انتشرت أصوات الأطفال عبر المكان، والتقطت أذن «إيزولو» الحادة ثمة أصواتا تغني بلهجة غريبة، لم يفهم منها شيئا سوى كلمة القمر .. لا شك أنهم أطفال أولئك الناس الذين يتحدثون لغة الإيبو من أنوفهم.
تدفق قلب «إيزولو» عند سماعه لصوت الأطفال رغم توقعه ذلك، غير أنه لم يكن متأهبا، وكان لا بد للإله الخاص به أن يسأل الآن عن مكان القمر، وكان على «أوموارو» أن تجيب.
ساد القلق بيت «إيزولو» في اليوم الأول والثاني لغيابه، وبالرغم من موسم الزرع فإن أحدا لم يذهب للعمل، غادرت «أوكواتا» عروس «أوبيكا» كوخها المنفرد، وتوجهت إلى حماتها، وذهب «إيدوجو» إلى كوخ أبيه؛ حيث دخل الجيران والمارون بالقرب، وسألوا: ألم يعودوا بعد؟
عاد «أوبيكا» في منتصف اليوم التالي، ولم يجرؤ أحد في البداية أن يسأل عن أي شيء، شرعت بعض النسوة في البكاء، وكان «أوبيكا» يرتدي قناعا عبارة عن فسقية من الطين عند وصوله إلى الكوخ، مشى باسترخاء وبطء على الأرض وكأنه جاء من «أوكبيري» جريا على الأقدام، ثم طلب ماء باردا سارعت أخته بإحضاره فشرب، ووضع الإناء جانبا، ثم بادره «إيدوجو» بالسؤال الأول: أين الشخص الذي ذهبت معه؟
لم يستطع «أوبيكا» أن يمزح، لكنه توقف قليلا، ثم قال: كان بخير عندما تركته.
اختفت ملامح الرعب من فوق الوجوه. - ولماذا أرسل الرجل الأبيض في طلبه؟ - أين تركته؟ - متى يعود؟
حاول «أوبيكا» استعادة توتره القديم دون جدوى وهو يقول: أيا منكما سأجيب؛ فأنا لست بسبعة أفواه. وعلى أية حال فإن الرجل الأبيض لم يقل شيئا حتى اللحظة التي غادرت فيها هذا الصباح، ولم نشاهده؛ لأنه مريض وعلى شفا الموت، وكان مرضه ذلك مثار القليل من الاضطراب؛ لأن المرض لا يصيب الرجل الأبيض مثل بقية الناس. نعم ، إنه نصف ميت، وكان من المفروض أن يأتي أخوه الأصغر لتبليغ رسالته إلى «إيزولو»، لكنه كان قلقا بشأن مرض أخيه، فنسي أن يأتي لرؤيتنا، ثم قال لي «إيزولو»: استعد للذهاب إلى المنزل كي لا يعتقدوا أننا جئنا لإثارة المتاعب؛ ولذلك فقد عدت.
قالت «أوجوي»: من الذي يقدم له الطعام؟
أجاب «أوبيكا»: هل تتذكرين ابن «وديكا» الذي جاء بمبعوث الرجل الأبيض إلى هنا؟ إن زوجته ابنة صديق قديم ل «إيزولو» في «أومواجو»، وهي التي كانت تعد لنا الطعام منذ الأمس، وتقول بأنها طالما هي على قيد الحياة فلا ينبغي أن يرسل «إيزولو» في طلب امرأة أخرى.
قال «أكيوبو» الذي لم يتحدث كثيرا: هل سمعتك جيدا؟ أعني، هل قلت بأن زوجة رجل من «أومونيورا» تقدم الطعام ل «إيزولو»؟ - نعم؟ - أرجوك لا تخبرني بمثل هذه القصة مرة ثانية.
نهض «إيدوجو» استعدادا للرحيل وهو يقول: نحن ذاهبون إلى «أوكبيري».
قال «أنوسي» الجار: إن «إيزولو» ليس طفلا صغيرا. - هل تسمع ما أقول يا «إيدوجو»؟ كن مستعدا؛ فسوف أذهب للبيت لإحضار حاجياتي.
قال «أوبيكا»: أنا لا أمنعك من الذهاب، ولكن لا تتحدث وكأنك وحدك الذي تفهم، لم نتفوه أنا و«إيزولو» بأي كلمة، وقد رفض «إيزولو» في الليلة الماضية تناول طعامه حتى بعد أن تذوقه ابن «وديكا»، لكنه رأى هذا الصباح الكثير من حكمة الرجل، وتأكد من عدم وجود حقد أو كراهية.
لم يتأثر «أكيوبو» بما قاله الآخرون؛ فهو يعرف الكثير عن رجال «أومونيورا» وعن نفوسهم المليئة بالمرارة والحقد، وتفوق معرفته لذلك الرجل معرفة أطفاله وزوجاته له، قد تكون يدا ابن «وديكا» نظيفتين، ولكن ينبغي على المرء ألا يخشى الإساءة إليه؛ فمن ذا الذي يرغب في ابتلاع البلغم خوفا من الإساءة للآخرين؟ كم يكون ابتلاع السم أخف وطأة!
لم ينتبه أحد لرأي «أنوسي» جار «إيزولو»، فالتزم بصمته، لكنه قال مرة أخرى وبطريقة مختلفة: أعتقد أن «أكيوبو» على صواب فيما قال، فليذهب مع «إيدوجو» لإرضاء نفسه، والتأكد من أن كل شيء على ما يرام، بشرط أن تذهب «أوجوي» معهما حاملة اليام وأشياء أخرى. وهكذا لن تسيء الزيارة لأحد.
سأل «أكيوبو» بنفاد صبر: ولماذا كل هذا الخوف من الإساءة؟ إنني لست ولدا صغيرا، وأعرف كيف أقطع بدون دم، كما أنني لن أخاف من الإساءة لرجل من «أومونيورا» إذا تعلق الأمر بحياة «إيزولو».
قال «أنوسي» موافقا: حقا، تماما، لقد اعتاد أبي القول بأن الخوف من الإساءة يجعل الرجال يبتلعون السم؛ فعندما تدخلون بيت رجل سيئ ويقدم لكم جوزة الكولا، ولا تروقكم الطريقة التي قدمها بها، تفكرون في عدم تناولها، ولكنكم تخافون الإساءة إلى مضيفكم فتبتلعونها، وهكذا فأنا أوافق «أكيوبو».
ربما كان «وافو» أكثر المتأثرين بغياب «إيزولو»، وها هي أمه أيضا تذهب، لكن ذهاب «إيدوجو» كان له تأثير كبير في التخفيف من حدة تأثره .. انتهز «إيدوجو» فرصة غياب «إيزولو»، وأعلن غضبه لمحبة الرجل العجوز، ولكونه الابن الأول فقد كان يرى أحقيته في البقاء في كوخ أبيه انتظارا لحين عودته، مما جعل «وافو» - الذي نادرا ما يغادر الكوخ - يشعر بعداوة لأخيه غير الشقيق.
ورغم أن «وافو» هو الولد الصغير الوحيد فإنه يتسم بعقلية الشباب، وكان بمقدوره معرفة الشخص بمجرد النظر إليه .. أخبره «إيدوجو» بالأمس أن يذهب إلى كوخ أمه، فخرج «وافو» باكيا وكانت هي المرة الأولى في حياته التي يجد نفسه فيها منبوذا في كوخ أبيه.
ظل «وافو» طوال اليوم بعيدا عن الكوخ إلى أن عاد «أوبيكا»، ودخل كل الناس والجيران لسماع الأخبار، جلس جلسته المعتادة في تحد وجرأة، ولم يقل له «إيدوجو» أي شيء، وبدا أنه لم يشعر بوجوده.
بكت «أوبياجيلي» أخت «وافو» بعد ذهاب أمها مع الآخرين إلى «أوكبيري»، ولم ينجح «أودوش» في التخفيف عنها، رغم أنه وعدها بإحضار ال «أوشوكو» وال «أودالا» لها. وأخيرا هددها «أوبيكا» باستدعاء الروح المقنعة المخيفة التي تدعى «إيشيل»، فالتزمت «أبياجيلي» الصمت، وجلست في أحد الأركان تتنشق في هدوء.
اقترب الليل وبدأ «وافو» يفكر مرة ثانية ويقول: ماذا حدث للقمر الجديد؟ كان «إيزولو» يتوقع ظهوره قبل أن يرحل، فهل تبعه إلى «أوكبيري» أم أنه ينتظر عودته ؟ وإذا ما ظهر في «أوكبيري» فبأي ناقوس معدني سوف يستقبله «إيزولو»؟
تطلع «وافو» إلى ال
Ojene
2
المستندة على الحائط، وأضاف قائلا: من الأفضل أن ينتظر القمر عودته غدا.
ثم جلس في الظلام حيث كان يجلس والده دائما، وما هي إلا لحظات قليلة حتى رأى قمرا صغيرا رفيعا، كان القمر رقيقا جدا وكئيبا، أمسك بالعصا وشرع في ضرب القمر، لكن يديه توقفتا من الخوف.
جاء ابن «وديكا» بالعشاء إلى «إيزولو» الذي لم يزل يستمع إلى أصوات الأطفال، وكالعادة تناول ابن «وديكا» كرة من الفوفو وغمسها في الحساء ثم ابتلعها .. تناول «إيزولو» طعامه بشهية، بالرغم من أنه لا يحب كثيرا حساء ال
egusi
لكنه كان مصنوعا بطريقة جيدة، كان السمك طازجا بداخله، وكان الفوفو مصنوعا بطريقة جميلة؛ فلا هو بالخفيف جدا أو الثقيل جدا، ولا شك أن المنيهوت كان مخففا بالموز الأخضر.
لم يكن «إيزولو» قد انتهى من تناول وجبته حين وصل ابنه وزوجته وصديقه، دخلوا بصحبة الرجل الذي يعتني بالمعتقلين في غرفة الحراسة، ففزع «إيزولو» من رؤيتهم، وحدثته نفسه بأن شيئا سيئا قد حدث بالمنزل، لكنه أبصر اليام الذي أحضروه معهم فاطمأن، وقال: لماذا لم تنتظروا حتى الصباح؟
أجاب «أكيوبو»: لم نكن نعرف بأنك ستعود في الصباح إلى البيت.
ضحك «إيزولو» قائلا: البيت! من يتحدث عن البيت؟! أنا لم أر الرجل الأبيض الذي أرسل في طلبي، قالوا بأنه على شفا الموت، وربما يريد كبير الكهنة ليقدم القرابين في جنازته.
قال «أكيوبو»: إن أرض «أوموارو» تمنع ذلك.
سأل «إيزولو»: وهل نحن الآن في «أوموارو»؟
وقال «إيدوجو»: إذا كان الرجل مريضا ولم يترك لك رسالة، فينبغي إذن أن تذهب إلى بيتك، وتعود مرة أخرى عندما يكون في حالة جيدة. - إنها ليست رحلة أقوم بها مرتين، لأني سأظل هنا حتى أرى أهم شخص وأقلهم شأنا. - هل تدري كم سيطول مرضه؟ ربما تكون هنا ... - سأنتظر حتى لو ظل مريضا إلى أن تنضج الفاكهة في طرف سعفة النخيل ... كيف حال الناس في البيت يا «أوجوي»؟
بدت رقبتها قصيرة من جراء ما تحمله فوق رأسها وهي تقول: كانوا بخير عندما غادرناهم. - وماذا عن الأطفال وزوجة «أوبيكا» والآخرين؟ - الجميع بخير.
ثم نظر إلى «أكيوبو»: والناس في بيتكم؟ - كانوا على ما يرام عندما تركتهم، لا يوجد مرض وإنما هو الجوع.
قال ابن «وديكا»: هذا شيء بسيط؛ فالجوع أفضل من المرض.
ثم خرج وهو يتمخط وعاد يدعك أنفه بمؤخرة يده، واستطرد: «ويجو»، اجمعي الأواني واذهبي لإحضار طعام لهؤلاء الناس.
تناولت زوجته ما فوق رأس «أوجوي»، وذهبت المرأتان لإعداد وجبة أخرى، وسارع «أكيوبو» بالحديث تجنبا لضياع الوقت: أخبرنا «أوبيكا» كيف أن ابن «وديكا» وزوجته يهتمان بك.
أجاب «إيزولو» وفمه مليء بالسمك: لقد رأيت بعينيك.
قال «أكيوبو» ل «جون وديكا»: أشكرك.
وقال «إيدوجو»: أشكرك. - لم نفعل أي شيء يستحق الشكر .. ماذا يستطيع رجل فقير وزوجته أن يفعلا؟ نحن نعلم أن «إيزولو» لديه اللحم والسمك في بيته، ولكننا هنا نشاركه جوزة النخيل؛ فالمرأة لا تستطيع أن تمد أكثر من طول قدمها فوق زوجها. - عندما أخبرنا «أوبيكا» قلت في نفسي إنه لا يوجد شيء مثل الترحال.
قال «إيزولو»: حقا، ينبغي أن أسافر أكثر في بلد أمي.
فقال «أكيوبو»: من المؤكد أنك تغيرت، عندما عرفت بأن رجلا من «أومونيورا» يعتني بك لم أصدق، فكيف يمكن أن نتخيل الحرب التي خضناها في بلدنا؟
قال ابن «وديكا»: كانت الحرب من أجل الناس، لكنني لا أحملها معي حين أسافر، وقد قال حكماؤنا إن المسافر إلى أماكن بعيدة لا ينبغي أن يكون له أعداء.
قال «أكيوبو» متعجبا: صواب ما تقول.
وبعد وقفة قصيرة قرر أن يشج جوزة الهند بضربة واحدة من المنجل، كما يفعل الناس في «سوجب»، واستطرد: إن رحلتنا لها هدفان؛ أولهما هو مجيء «أوجوي» لتخفيف العبء على زوجة «وديكا». والهدف الثاني، هو تقديم الشكر إلى «وديكا» نفسه، وإخباره بأن يغض النظر عما يفعله أقرباؤه في «أوموارو»، وهو اليوم أخ ل «إيزولو» وعائلته.
كان «أكيوبو» أثناء حديثه يبحث في حقيبته عن شيء حاد لتكسير جوزة الكولا، وراح هو و«إيزولو » يرقبان «إيدوجو» و«جون وديكا» وهما يتناولان فصوص جوزة الكولا الممتزجة بدم كليهما، كان رباط الدم بينهما واضحا أثناء فترة الصمت.
قال «أكيوبو»: كيف جئت للعمل في خدمة الرجل الأبيض؟
تنحنح ابن «وديكا»: كيف! إنه قدري، لم أكن في ذلك الوقت أعرف أي شيء عن الرجل الأبيض وعن لغته أو عاداته، ثم جئت أنا ورفاقي من «أومونيورا» إلى «أوكبيري» بعد ثلاث سنوات من موسم الجفاف لنتعلم الرقصة الجديدة. وكان أحد رفاقي هو صديقي «إيكيميزي»، كنا دائما نتبادل الزيارات وكانت دهشتي عظيمة حين اكتشفت أن صديقي لم يعد موجودا بين الراقصين في «أوكبيري» وحين رحت أبحث عنه وسط جموع الناس التي خرجت ترحب بنا لم أجده، فاصطحبني صديق آخر يدعى «أوفودايل» إلى منزله، وسمعت منه أن «إيكيميزي» ذهب للعمل في خدمة الرجل الأبيض، وعندئذ لم أستطع التعرف على حقيقة مشاعري، وكأنهم قالوا لي إن صديقي قد مات، حاولت أن أعرف المزيد من «أوفودايل» عن العمل عند الرجل الأبيض، لكن «أوفودايل» لم يكن من النوع الذي يروي الحكاية إلى نهايتها.
صمت لحظة قصيرة، ثم استطرد قائلا: وفي اليوم التالي جاء «إيكيميزي» لرؤيتي، وقادني إلى مركز القيادة، وأخبرني بأنه لا ينبغي على المرء أن يواصل صيد القوارض بينما يمارس زملاؤه لعبة كبيرة، كما قال لي أن أترك الرقص وأشارك في سباق نقود الرجل الأبيض، دعاني «إيكيميزي» باسم «وابوز» فتملكتني الدهشة، وقلت نعم إنه اسمي، ثم قال بأن سباق النقود هذا لا ينتظر حتى الغد أو إلى حين نكون مستعدين للحاق به؛ لأن الفأر إذا لم يعد بسرعة كافية فإنه يمهد طريقا للسلحفاة، وقال بأن أولئك القادمين من القبائل الصغيرة، والذين اعتدنا على احتقارهم، هم جميعا الآن في حالة جيدة ونحن لا نعرف.
كان الرجال الثلاثة يستمعون بهدوء و«أكيوبو» يلعب بأصابعه قائلا لنفسه: فهمت الآن السر المفاجئ في ولع «إيزولو» به، إنهما يفكران بنفس الطريقة، كانت هي المرة الأولى التي يستمع فيها «إيزولو» لرأي «وديكا» في الرجل الأبيض، ووافق على كلامه ، لكنه لم يعلن موافقته ورضاه.
استطرد ابن «وديكا»: هكذا جئت يا أخوتي للعمل في خدمة الرجل الأبيض، الذي كلفني في البداية بتنقية الحشيش في أرضه، ثم استدعاني بعد عام ونقلني إلى العمل داخل بيته، وحين سألني عن اسمي أجبت: «وابوز».
استطرد وقال: لم يستطع أن يلفظ الاسم، وقال بأنه سيدعوني «جون»، وضحك لهذا الاسم ضحكة خفيفة، أعرف أن بعض الناس يشيعون بأنني أقوم بالطهي للرجل الأبيض، لكنني لم أر حتى دخان ناره، إنني أقوم بترتيب الأشياء في المنزل فقط لتكون جاهزة؛ فالرجل الأبيض - كما تعرفون - ليس مثلنا؛ فلو وضعت هذا الطبق هنا فسوف يغضب إذا وجده هناك؛ ولذلك فإنني أتجول كل يوم للتأكد من أن كل شيء في مكانه الصحيح. وأستطيع القول بأنني لا أهدف إلى أن أموت خادما؛ لأنني أطمح في البدء بتجارة صغيرة للدخان بمجرد أن أجمع قليلا من المال، إن الناس من أماكن أخرى يجمعون كثيرا من الثروة في هذه التجارة وتجارة الملابس، والناس من «ألوميلو» و«أنينتا» و«أومونيا» و«باينو» يتحكمون في السوق الكبير الجديد، فهل يوجد رجل واحد من «أوموارو» بين أولئك الأثرياء؟ لا أحد. وإنني لأشعر أحيانا بالخجل حين يسألني الآخرون عن المكان الذي جئت منه، نحن لا نشارك في السوق ولا في مكتب الرجل الأبيض ولا في أي مكان آخر؛ ولذا كانت فرحتي عظيمة عندما استدعاني الرجل الأبيض، وأخبرني عن رجل حكيم في قريتي اسمه «إيزولو»، وقلت له نعم، فسألني عما إذا كان على قيد الحياة فأجبت بنعم، ثم قال: اذهب مع المبعوث، وقل له بأنني أرغب في توجيه بعض الأسئلة إليه تتعلق بعادات شعبه لأنني أعرف أنه رجل حكيم، حينئذ قلت في نفسي: هذه فرصتنا في مواجهة الرجل الأبيض، ولم أكن أعرف أن الأمر سيغدو هكذا.
انحنى برأسه للأمام، ونظر إلى الأرض في أسف.
قال «أكيوبو»: ليس خطأك؛ فالأشياء دائما تحدث هكذا.
قال ابن «وديكا» بحزن: إنني ألوم نفسي.
رد «إيزولو»: أنت شخص مليء بالشكوك.
ذهب الآخرون لقضاء الليلة عند ابن «وديكا»، تاركين «أكيوبو» و«إيزولو» في غرفة الحراسة الصغيرة. - أنا لست ضد موت الرجل إذا كان ذلك قدره. - لكن الرجل ليس سيئا، بالرغم من أنه جاء من «أومونيورا».
هز «أكيوبو» رأسه قائلا: لا أعرف، إن كل سحلية مسئولة عن بطنها، فلا نستطيع القول أي من السحالي تشعر بالمغص. - لا، إن ابن «وديكا» لا يخدعني؛ فأنا أستطيع أن أشم الرجل السيئ، كما أستطيع أن أشم الأبرص.
كان «أكيوبو» ما يزال يهز رأسه بينما تحرك «إيزولو» في ضوء المصباح الخافت، وراح يستطرد: ألم تلحظه عندما تحدثت أنت في مسألة روابط الدم؟ إذا كانت لديه أية أفكار شريرة لأمكنك أن ترى ذلك في منتصف جبهته، لا إن الرجل ليس خطيرا لكنه يتصرف كرجال العصور القديمة؛ حيث كان الناس بعضهم يحبون بعضا على عكس أيامنا هذه؛ حيث يوجد كثير من الحكماء لكنها ليست تلك الحكمة التي يتشدقون بها، وإنما هي من ذلك النوع الذي يشوه صاحبه، ويملأ الأنف بالسواد.
لوح «أكيوبو» بمنفضة طرد الذباب، وقال: كيف للمرء أن ينام في وجود كل ذلك البعوض؟ - لم تر شيئا بعد، انتظر حتى نطفئ النور، كنت سأسأل ابن «وديكا» أن يأتي لي بعنقود من أوراق الأريب لطردهم، لكن حضورك جعلني أنسى كل شيء، لقد نالوا منا في الليلة الماضية.
ثم سأل «إيزولو» محاولا تغيير مجرى الحديث: هل قلت إن أهلك كلهم بخير؟
أجاب «أكيوبو» متثائبا ورأسه إلى الخلف: كانوا جميعا بخير. - وما هي حكاية «أودينو»، إن الفرصة لم تسنح لتخبرني كل شيء عنها.
قال «أكيوبو» باهتمام بالغ: أوه، أخدع نفسي لو قلت لك إنني كنت سعيدا مع «أودينكو»، نعم هي ابنتي، وقد قلت لها مرارا أن المرأة التي يقف رأسها فوق رقبة متصلبة - كما لو أنها تحمل إناء من الماء - لا تعيش طويلا مع أي زوج، لم أسمع ما قاله نسيبي، ومن خلال ما قالته «أودينكو» أستطيع القول بأن سبب الشجار تافه وصغير؛ فقد أشار زوجها إلى أحد الديوك، وطلب من الأطفال أن يمسكوه ويربطوه جيدا لتقديمه كقربان، ثم تبين أنه ديك «أودينكو»، فبدأت في الشجار.
استطرد «أكيوبو» وقال: هكذا قالت لي، فسألتها إذا كانت تقبل بذهاب زوجها إلى السوق لشراء ديك بينما تحتفظ هي بالدجاج.
أجابتني حينئذ وقالت: ولماذا ينبغي أن يكون دائما ديكي، وماذا عن الزوجة الأخرى؟ أم أن الأرواح لا تأكل إلا من طيور «أودينكو»؟
قلت لها: كم مرة أخذ الديك الخاص بك؟ وكيف لرجل أن يعرف الديوك التي تخص كليكما.
لم تجب، وكل ما كانت تعرفه أن نسيبي يتذكرها كلما أراد قربانا. - أهذا كل شيء؟ - كل شيء.
ابتسم «إيزولو» وقال: وكأن أقرباءنا يقدمون القرابين في كل سوق! - هذا بالضبط ما قلته لها، غير أنها كما قلت مثل أمها، إن غضبها الحقيقي يتمثل في أن زوجها لم يضع جبهته في الأرض كي يتوسل إليها.
التزم «إيزولو» الصمت لحظة، وبدا كأنه يستعيد الحدث، ثم قال: كل رجل له طريقة خاصة في معاملة أهل منزله، فإذا أردت أنا شيئا كهذا فإنني أستدعي إحدى زوجاتي، وأقول لها بأنني أريد ذلك الشيء كقربان فاذهبي وأحضريه، رغم أنني أستطيع الحصول عليه دون استدعاء أي واحدة منهن، ولكنني أطلب منها أن تذهب وتحضره بنفسها.
أضاف «إيزولو» وقال: عندما كنت صغيرا أخبر أبي صديقه بأن إحدى عادتنا ألا يتوقع الرجل الركوع على ركبتيه وضرب جبهته على الأرض أمام زوجته، طالبا منها الغفران، أو أملا في معروف، لكن الرجل الحكيم يعرف أن الحاجة بينه وبين زوجته قد تصل إلى حد أن يعتذر لها في السر؛ فعند حدوث مثل تلك الأشياء لا يجب أن يعرف أحد، ولا يجب للمرأة أن تتفاخر بذلك، أو تفتح فمها بالحديث، كان هذا ما قاله أبي لصديقه، فلم يخطئ أبدا في بيته، ولم أنس قط تلك الكلمات.
وافق «أكيوبو» وقال: صواب ما قلت، وليت نسيبي سمع مثل هذه الكلمات، وفيما يتعلق بابنتي فلا أريد لها أن تحمل طفلها الصغير فوق ظهرها، وتمسك بالأكبر منه في يدها عائدة إلي كلما زجرها زوجها، إن أمي لم تكن تتصرف هكذا، ولكن «أودينكو» تعلمت ذلك من أمها التي هي زوجتي، وسوف تعلم أطفالها نفس الشيء؛ فعندما تأكل أنثى البقر العشب الكبير فإن وليدها يراقب فمها.
في اليوم الرابع ل «إيزولو» في «أوكبيري» تلقى استدعاء مفاجئا لمقابلة السيد «كلارك»، فتبع الرسول الذي جاء بالأمر إلى الردهة المؤدية لمكتب الرجل الأبيض؛ حيث كان بعض الناس يجلسون فوق أريكة طويلة والبعض الآخر فوق الأرضية الأسمنتية، ترك الرسول «إيزولو» في الردهة ودلف إلى الحجرة الملاصقة؛ حيث يعمل كثير من الناس فوق مكاتب مختلفة في خدمة الرجل الأبيض، شاهد «إيزولو» الرسول من خلال النافذة وهو يتحدث إلى رجل يبدو أنه رئيس أولئك الموظفين، وأشار الرسول في اتجاه «إيزولو»، فتبعه الرجل الآخر بعينيه ورأى «إيزولو»، ثم أومأ برأسه، وعاد للكتابة في دفتره الكبير، وبعد انتهائه من الكتابة فتح الباب الذي يصل إلى الردهة بالحجرة، واختفى في حجرة أخرى سرعان ما خرج منها، ثم أشار إلى «إيزولو» الذي تبعه إلى الرجل الأبيض، والذي كان أيضا يكتب بيده اليسرى .. قال المترجم بعد أن تحدث الرجل الأبيض: هل اسمك «إيزولو»؟
كانت إهانة كبيرة بالنسبة ل «إيزولو»، لكنه حاول أن يبدو هادئا. - ألم تسمعني؟ الرجل الأبيض يريد أن يعرف اسمك. - قل للرجل الأبيض أن يسأل أمه وأباه عن اسميهما.
تبادل الرجل الأبيض ومترجمه الحديث، قطب الرجل الأبيض وجهه، ثم ابتسم وشرح الأمر للمترجم الذي أخبر «إيزولو» بأن السؤال لم يكن يبعث على الإهانة، وإنما هي طريقة الرجل الأبيض .. تطلع الرجل الأبيض إلى وجه «إيزولو» بشيء من العبث، وحذره من عدم إظهار الولاء لأوامر الحكومة، وأنه إذا أظهر مثل هذا الازدراء مرة أخرى فسيكون عقابه شديدا.
قال «إيزولو» للمترجم: قل له بأنني ما زلت في انتظار سماع رسالته.
لم يقل المترجم ذلك، لوح الرجل الأبيض بيده غاضبا، وارتفع صوته، ولم يكن «إيزولو» في حاجة لأن يقول له أحد إن الرجل الأبيض قال بألا يقاطعه أحد مرة ثانية، أصبح الرجل الأبيض بعد ذلك هادئا، وتحدث عن مزايا الإدارة البريطانية حديثا لم يكن يرغب في التفوه به ؛ لأنه يعتبره مجاملة إذا ما تحدث به شخص آخر، غير أنه لم يستطع أن يمنع نفسه في مواجهة عدم الاهتمام الذي يبديه ذلك الكاهن المعبود، الذي كان على وشك إسداء معروف كبير له بإعلائه فوق كل أتباعه .. لم يتقدم «إيزولو» بالشكر، لكنه أظهر مزيدا من الاحتقار.
لم يعرف «كلارك» ماذا يضيف .. كان الحديث يزيده غضبا، لكنه في النهاية وبفضل انضباطه الذاتي الجدير بالاعتبار، ومن خلال اللحظة القصيرة التي تبادل فيها الحديث مع المترجم استطاع أن يمزح ويخاطر بنفسه، ثم قدم اقتراحا ل «إيزولو».
لم تتغير تعبيرات وجه الكاهن عندما واتته الأخبار، وظل صامتا، ثم عرف «كلارك» أن اقتراحه يتطلب بعض الوقت حتى يستقر في عقل «إيزولو» فقال: حسنا، هل وافقت على العرض أم لا؟ أنا .. أعرف .. أن .. ذلك .. خارج .. نطاق .. الإحسان.
قل للرجل الأبيض إن «إيزولو» ليس كبيرا لكهنة أي إله سوى «أولو».
صاح «كلارك»: ماذا؟ هل التابع مجنون؟
قال المترجم: أعتقد ذلك.
قال «كلارك» بغضب: في هذه الحالة يجب أن يعود للسجن، يا لها من وقاحة! إن العراف يخدع الإدارة البريطانية.
الفصل الخامس عشر
انتهى اليوم الأول والثاني والثالث دون خبر يفيد بوفاة الكابتن «وينتربوتوم»، وتضاربت الأقوال في الإدارة الحكومية عن سمعة «إيزولو»، كما أن رفضه لقبول عرض الرجل الأبيض أن يكون رئيسا لديه قد تسبب في كثير من الكلام والتأويلات؛ لأن مثل هذا الفعل لم يحدث أبدا في أي مكان من أرض «الإيبو».
ربما كانت حماقة من الرجل أن يرفض لقمة الحظ التي وضعت في فمه، إن لم تكن هذه اللقمة مرتبطة بأن يكون الرجل مضطرا إلى إظهار الاحترام.
كان «إيزولو» راضيا عن الطريقة التي سارت بها الأمور، والتمس لنفسه هدنة مع الرجل الأبيض، واستطاع أن ينساه في ذلك الوقت، راح يستعيد أحداث الأيام القليلة الماضية؛ فلم يكن من اليسير نسيانها تماما، وتذكر بأن الرجل الأبيض «وينتابوتا» هو الذي أعلن منذ سنوات قليلة أنه رجل الحقيقة في كل من «أوكبيري» و«أوموارو»، وهو أيضا الذي نصحه بإرسال أحد أبنائه ليتعلم حكمة بني جنسه، وكل ذلك يفيد بأن الرجل الأبيض يضمر ارتياحا خاصا وشعورا طيبا ل «إيزولو»، ولكن ما قيمة هذا الارتياح والشعور الطيب الذي يقوده إلى هذا العار وتلك الإهانة؟ إن الزوجة التي تشعر بفراغ الحياة تصرخ قائلة: أترك زوجي يكرهني ما دام يزودني باليام كل مساء.
قال «إيزولو» لنفسه: ينبغي أن يجيب «وينتابوتا» على أفعال مبعوثيه. قد يجد الرجل طريقه بمهارة في زحام السوق، لكن ملابسه قد توقعه وتحطم البضائع الأخرى، وفي مثل هذه الحالة فإن الرجل - وليس ملابسه - يعمل على علاج ما أصابه.
ورغم كل شيء فإن شعور «إيزولو» السائد الآن هو تضامنه مع الرجل الأبيض، وحتى هذه اللحظة لم يقل له كلمته الأخيرة. إن صراعه الحقيقي الآن مع شعبه، أما الرجل الأبيض فهو صديقه وحليفه.
شعر بضيق ورغبة في القتال طوال فترة بقائه محتجزا في «أوكبيري».
قليل من الناس في «أوموارو» الذين صدقوا قصة رفض «إيزولو» لعرض الرجل الأبيض في أن يصبح الرئيس المفوض بينما سأل أعداؤه: كيف له أن يرفض ذلك الشيء الكبير الذي طالما خطط له طوال هذه السنوات؟
انتشرت القصة في كل أرجاء «أوموارو» عن طريق «أكيوبو» وآخرين، وسرعان ما انتشرت في كل القرى المجاورة.
تحدث «واكا» من «أومونيورا» عن القصة بازدراء، ولما لم يعد بمقدوره احتمال عدم تصديقها توقف عن تفسيرها، وقال: إن الرجل فخور إلى حد الجنون، وهذا يؤكد ما قلته مرارا أنه ورث جنون أمه.
كان كل ما يقوله «واكا» عن «إيزولو» نابعا من الحقد، إلا أن واقعة الجنون هذه تحوي قدرا من الحقيقة؛ فقد كانت «وانيك» أم «إيزولو» تعاني بالفعل من هجمات تشنجية حادة، وكانت تهذي باستمرار.
رغم «واكا» والأعداء الآخرين الذين يكنون حقدا ل «إيزولو»، فإن كثيرا من الناس كانوا يعرفون «إيزولو»، وأقدم على زيارته في «أوكبيري» كثير من الناس كانوا في يوم واحد تسعة أشخاص، أحضر بعض منهم ل «إيزولو» اليام وبعض الهدايا الأخرى.
تم شفاء الكابتن «وينتربوتوم» بعد قضائه أسبوعين في مستشفى «كيزا »، وسمحوا ل «توني كلارك» برؤيته لمدة خمس دقائق، كانت الطبيبة «سافاج» واقفة عند الباب ممسكة بساعة جيب، وبدا الكابتن رغم ابتسامته كالجثة، وكان لون بشرته شديد البياض حين سأل قائلا: كيف تسير الأمور؟
بصعوبة توقف «كلارك» عن الإجابة، ثم اندفع شارحا قصة رفض «إيزولو» لمنصب الرئيس، وكأنه أراد تلخيص الإجابة قبل أن ينغلق فم «وينتربوتوم» للأبد. - اتركه في غرفة الحراسة حتى يتعلم التعاون مع الإدارة.
اندست «سافاج» بينهما بسرعة، وقالت بابتسامة مزيفة: لا تتكلم كثيرا.
أغلق الكابتن «وينتربوتوم» عينيه، وكان يبدو في حالة سيئة، فشعر «توني كلارك» بالذنب، وخرج بسرعة وهو يفكر .. في طريق عودته لمقر الإدارة تذكر بإعجاب السهولة التي استطاع بها «وينتربوتوم» العثور على الكلمات الصحيحة حتى في لحظات مرضه (رفض التعاون مع الإدارة).
حاول «كلارك» مرة أخرى عن طريق رئيس الكتبة إغراء «إيزولو» بالموافقة، لكنه فشل، وهكذا أصبح الموقف غير محتمل تماما .. هل يتحفظ عليه داخل السجن أم يطلق سراحه؟ إذا أطلق سراحه فإن سمعة الإدارة سوف تنحدر إلى الأرض خاصة في «أوموارو»، حيث العداء القديم للإدارة والمسيحية. وطبقا لما سمع «كلارك» فإن «أوموارو» قد هيأت نفسها أكثر من أي قبيلة أخرى في المقاطعة لمزيد من المقاومة السرية من أجل التغيير، فكيف سيكون التأثير على مثل هذه البلدة في حالة عودة ذلك العراف الذي تحدى الإدارة.
ليس «كلارك» بالإنسان الذي يسجن رجلا بدون تهمة محددة، خاصة وأنه يبدو بأنهم يمارسون العدالة رغم أنهم ليسوا كذلك .. عرف «كلارك» الآن أن شكوكه حقيقية، بعد أن كانت تبدو واهنة وغير مؤكدة، وأصبح قلقا بشأن الاحتفاظ بالرجل في السجن؛ لأن ذلك يعد إهانة له في حال عدم توفر أسباب لائقة .. كانت كل الأسباب واهية لا يمكن الاستناد عليها، وها هو «وينتربوتوم» الآن يقدم له سببا لائقا، ألا وهو رفض التعاون مع الإدارة .. إن الأكبر دائما يكون أكثر حكمة ممن يصغره، وإن لم يكن كذلك فهو على الأقل يملك الدهاء، وهذا ما لا يمكن تجاوزه.
ساءت حالة الكابتن «وينتربوتوم» بعد أن تماثل للشفاء، ولم يعد مسموحا لأحد برؤيته لمدة أسبوعين آخرين، وانتشر الخبر في أرجاء الإدارة بين الخدم والموظفين الأفارقة .. قيل إن الجنون قد لحق به، ثم تحدثوا عن إصابته بالشلل، ومع تلك الشائعات ارتفع صيت «إيزولو»، الذي أصبح السبب في سجنه معروفا لدى الجميع، وأصبح مستحيلا عدم التعاطف معه.
قال «جون وديكا»: إن «إيزولو» مثل الأفعى النافخة التي لا تلدغ أبدا قبل أن تكشف أولا عن مخالبها السبعة المميتة واحدا بعد الآخر، والتي تلوم نفسها فقط إن لم تجد الوقت المناسب الذي تجري فيه من أجل حياتها.
حذر «إيزولو» الرجل الأبيض كثيرا طوال فترة بقائه في السجن أربعة أسواق متتالية، فلم يستطع أن يلومه أحد، وها هو اليوم الثاني والثلاثون منذ القبض عليه .. أرسل الرجل الأبيض بالمبعوثين ليتوسلوا إليه أن يغير رأيه دون جدوى، حتى لم يعد بمقدورهم مواجهته وجها لوجه. وانتشرت القصة في «أوكبيري»، وذات صباح كان سوق «إيك الثامن» منذ القبض على «إيزولو» جاء خبر بإطلاق سراحه، مما أصاب المبعوث الرئيسي ورئيس الكتبة بالدهشة.
انفجر «إيزولو» ضاحكا، وقال: إذن فالرجل الأبيض قد أصابه الملل؟
ابتسم الرجلان وأعلنا موافقتهما. - كنت أعتقد أن بداخله الكثير.
قال رئيس الكتبة: هكذا هو الرجل الأبيض. - لكنني أفضل التعامل مع رجل يعرض رأسه لسقوط الحجر الذي ألقى به عاليا، وليس مع ذلك الذي يصيح من أجل القتال، ثم يرتعش ويتبرز على نفسه عندما يأتي القتال.
كان الرجلان يبدوان وكأنهما وافقا على ذلك أيضا.
ثم سأل «إيزولو»: هل تعرف بأي شيء يدعونني أعدائي في بلدنا؟
وعندئذ دخل «جون وديكا» ليعبر عن سروره، فاستطرد «إيزولو» وقال: اسأله .. سوف يخبرك، إنهم يدعونني صديق الرجل الأبيض، ويقولون بأن «إيزولو» هو الذي جاء بالرجل الأبيض إلى «أوموارو»، أليس كذلك يا ابن «وديكا»؟
أجاب: هذا حقيقي.
ثم بدت عليه علامات الاضطراب لتأييده شيئا لم يسمع بدايته.
حطت الذبابة فوق ذقن «إيزولو» فقتلها، وسقطت على الأرض، ثم نظر إلى ورقة النخيل التي ضربها بها، ودعكها في الحصيرة لإزالة ما لحق بها، وظل ينظر إليها قائلا: يقولون إنني أخونهم لصالح الرجل الأبيض.
ثم بدا وكأنه يحدث نفسه: لماذا أقول هذه الأشياء للغرباء؟
التزم الصمت، وقال «جون وديكا»: لا يجب أن نفكر كثيرا في ذلك، كم من أولئك الذين سخروا منك يستطيع أن يواجه الرجل الأبيض كما فعلت؟
ضحك «إيزولو»: هل تدعو ذلك مواجهة؟ لا يا قريبي؛ فنحن لم نتواجه، وإنما فقط كنا نتعرف على بعضنا، سوف أعود مرة أخرى، وقبل عودتي أريد مواجهة شعبي الذي أعرفه ويعرفني، أنا ذاهب إلى بلدي لأتحدى كل أولئك الذين أقحموا أصابعهم في وجهي.
قال «جون وديكا» بطفولية: إنه تحدي «إينينك تولوكبا» للإنسان والطيران والحيوان.
قال «إيزولو» بسعادة: هل تعرفه؟
بدأ «جون وديكا» يغني الأغنية التي تحدى بها الطائر «إينينك» ذات مرة كل العالم.
ضحك الغريبان: إنه تماما مثل «وديكا».
وقال «إيزولو» بعد الانتهاء من الأغنية: إن من يوقع الآخر على الأرض سوف يجرده من خلخاله.
كان إطلاق سراح «إيزولو» المفاجئ هو أول قرار كبير يقوم به «كلارك» الذي ازداد ثقة في نفسه، لكونه أصبح قادرا على اتخاذ القرارات.
جاء البريد بخطابين كان يبدو أحدهما مخيفا ومختوما بالشمع الأحمر، من ذلك النوع من الخطابات الذي يشير إليه ضباط السياسة بأنه «سري للغاية»، تفحصه جيدا فعرف بأنه ليس موجها إلى «وينتربوتوم»، فأحس بأهميته وقدرته على الخوض في أسرار المجتمع المهمة، ثم ألقى برزمة الخطابات جانبا لقراءة الخطاب الصغير أولا، الذي لم يكن يحمل سوى برقيات وكالة رويتر، التي أرسلها ضمن بقية الخطابات العادية من أقرب مكتب تلغراف، على بعد خمسين ميلا، والتي كانت تحمل أخبارا تفيد بثورة الفلاحين الروس ضد النظام الجديد الذي رفض تنمية المحاصيل .. قرر أن يذهب بالخبر في نهاية اليوم إلى لجنة الملاحظة، في المكان الذي يتجمع فيه الضباط لتناول الطعام، ثم نهض وتناول الرزمة الأخرى.
كان التقرير من سكرتارية الشئون القومية للحكم غير المباشر في غرب «نيجيريا»، وذكرت الملاحظة المصاحبة للتقرير من ملازم الحكومة بأن التقرير قد تمت مناقشته كاملا في الاجتماع مع كبار الضباط في «أنوجو »، ومما يؤسف له عدم حضور الكابتن «وينتربوتوم» بسبب مرضه.
لم يكن ثمة ما يشير إلى تغيير في السياسة، لكن التقرير كان يطلب من «وينتربوتوم» أن يتناول الأمر بحصافة؛ فالإدارة لا تفسد عقول الوطنيين، أو تخلق انطباعا من التردد والحيرة.
استطاع «كلارك» بعد أيام أن يخبر «وينتربوتوم» عن ذلك التقرير، وعن خطاب ملازم الحكومة الذي أظهر عدم الاهتمام.
كان الكابتن ما يزال متأثرا من الحمى فلم يقل شيئا، ولكنه راح يتمتم قائلا: اللعنة على ملازم الحكومة.
الفصل السادس عشر
قرر «إيزولو» العودة إلى بلده بمفرده، فتوسل إلى «جون وديكا» أن يبقى ولكن دون جدوى .. كان موسم المطر حين رحل مع رفيقه، وكان الصباح جافا وموحيا بالأمل.
قال «جون وديكا»: إنها رحلة طويلة لا يستطيع رجل مثلك القيام بها بمفرده، وإذا كنت مصرا على العودة اليوم فيجب أن أذهب معك، وإلا فعليك أن تنتظر موعد زيارة «أوبيكا» غدا.
أجاب «إيزولو»: لا أستطيع الانتظار ليوم آخر؛ فأنا كالسلحفاة التي تم اصطيادها في حفرة من الروث طوال سوقين كاملين، وعندما جاء أحد لشدها في اليوم الثامن قالت له أن يسرع؛ لأنها لم تعد قادرة على الوقوف وسط تلك الرائحة الكريهة.
رحل «إيزولو» مرتديا المئزر، ومن فوقه رداء التوجا الأبيض، الذي يمر عبر الإبط الأيمن، ونهايته ملقاة فوق الكتف الأيسر، الذي يحمل فوقه حقيبته المربوطة بالقشاط، كان ممسكا بعصاه الطويلة في يده اليمنى ورمح ذي نهاية مدببة يحمله كل الرجال ذوي الشأن في المناسبات المهمة، وفوق رأسه كان يرتدي كاب الأوزو الأحمر المربوط بعقد من الجلد، يتدلى منه إلى الوراء ريش النسر، بينما كان «وديكا» يرتدي قميصا بنيا فوق بنطلونه الكاكي.
ظل الطقس جميلا حتى منتصف الطريق بين «أوكبيري» و«أوموارو»، ثم بدأ المطر يتساقط بشدة، وكأنه يشير لهما بانتهاء الوقت الذي يمكنهما فيه العثور على مأوى.
قال «جون وديكا»: لنحتم بعض الوقت تحت الشجرة حتى تنتهي تلك العواصف والأمطار. - من الخطر الوقوف تحت الشجرة أثناء العاصفة، دعنا نواصل السير فنحن لسنا ملحا ولا نحمل شرا في أجسادنا، أنا على الأقل لن أقف.
التصقت الملابس بجسديهما، وامتلأت حقيبة «إيزولو» بالماء، وفسد النشوق بداخلها، وكذا الكاب الأحمر فوق رأسه، وانتاب «إيزولو» ذلك الشعور بالزهو الذي يحسه مع الأمطار الغزيرة، والذي يحسه الأطفال فيخرجون مع المطر ويغنون.
كان زهو «إيزولو» ممتزجا ببعض المرارة؛ فمثل تلك الأمطار هي جزء من المعاناة التي تعرض لها، وكان يفكر في متعة الانتقام وبعض المضايقات الأخرى ليصبها على الآخرين.
مرر إصبع يده اليسرى عبر حاجبيه وعينيه ليمسح الماء الذي يعوق الرؤية، كان الطريق فسيحا مثل المستنقع الأحمر المتحرك، ولم تعد عصا «إيزولو» تضرب الأرض ضربات قوية، توقفت الأمطار فجأة وساد السكون، فأصبح من اليسير رؤية الأشجار العملاقة، غير أن ذلك السكون لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما اكتسحت الأفق أمواج جديدة من الأمطار الغزيرة، كانت الأمطار غزيرة بلا حدود، وكان سقوطها المستمر يجعل الجسد يشعر بالبرودة، مما جعل أصابع «إيزولو» تمسك بالعصا كالمخالب الحديدية.
تنحنح «جون وديكا» وقال بصوت غليظ: إنني قلق عليك! - أنا! لماذا يقلق أي شخص على رجل عجوز؟ .. لا يا ابني، إنها رحلة صغيرة جدا إذا ما قورنت بما أفكر فيه بعد نهايتها؛ فحيثما يذهب اللهب فسأضع الشعلة بعيدا.
هبت رياح أخرى محملة بالمطر، فتوقف «جون وديكا» عن الإجابة.
دخل «إيزولو» مرتعشا فأصيب أهله بقلق كبير، ثم سارعوا بإشعال النار، وبادرت زوجته «أوجوي» بإحضار المرهم، لكنه كان أولا في حاجة لبعض الماء ليغسل قدميه المليئتين بالطين الأحمر حتى نهاية جوربه القصير، تناول المعجون من رف جوزة الهند، وظل يدعك صدره بينما كان «إيدوجو» يدعك ظهره، بدأت «ماتيفي» في إعداد حساء الأوتازي، فتناوله «إيزولو» ساخنا، وبدأ تدريجيا يحس بجسده.
توقفت الأمطار تماما فور دخوله بيته، وبعد أن شرب حساء الأوتازي أرسل «وافو» لكي يخبر «أكيوبو» بعودته .. كان «أكيوبو» يطحن النشوق، ولم ينتظر حتى الانتهاء من عمله، فأمسك بشفرة سكين رفيعة، ونقل بها النشوق إلى زجاجة صغيرة، ثم كنس الذرات الناعمة بالريش إلى منتصف حجر الجلخ، ونقلها إلى الزجاجة ، وهكذا حتى انتقلت البودرة كلها إلى الزجاجة، ثم وضع الحجرين بعيدا، واستدعى إحدى زوجاته، ألقى بملابسه فوق كتفه، وقال لها: أنا ذاهب إلى «إيزولو»، وإذا جاء «أوزينج» لاستعارة الحجارة فقولي له بأنني لم أنته بعد.
توجه بعد ذلك إلى كوخ «إيزولو»، فوجد كثيرا من الناس والجيران الذين جاءوا لتحيته .. لم يتحدث «إيزولو» كثيرا، وكان يبادلهم التحية بعينه أو بإيماءة من رأسه؛ حيث إن وقت الكلام لم يأت بعد .. يجب أن يعاني أولا بما فيه الكفاية من كل المضايقات تاركا أعداءه يدوسون فوق جسده، يجب أن ينتظر قبل أن يكشف عن مخالبه السبعة واحدا تلو الآخر، وعندئذ يستطيع أن يقول لهم: ها أنا ذا!
فشلت كل محاولاتهم في استدراج «إيزولو» للحديث إلا في حدود ضيقة، وعندما تحدثوا عن رفضه أن يكون رئيسا عند الرجل الأبيض ابتسم فقط، ليس لكراهيته الناس من حوله أو لما كانوا يتحدثون بشأنه، وإنما لأنه كان مستمتعا بكل شيء، كان راغبا في بقاء ابن «وديكا» ليحكي لهم عن كل شيء، لكنه سيعود إلى قريته لقضاء الليلة، قبل عودته إلى «أوكبيري» في الصباح.
رفض ابن «وديكا» أن يغسل قدميه من الطين، وقال: إنني خارج إلى المطر مرة أخرى؛ فلا جدوى من غسل قدمي، وإلا كان ذلك بمثابة غسل المؤخرة قبل التبرز.
قال أحد الزائرين وكأنه يعرف كيف يفكر «إيزولو»: لقد قابل الرجل الأبيض ندا له، لكن شيئا واحدا لا أستطيع أن أفهمه في تلك القصة، ألا وهو الدور الذي لعبه ابن «وديكا» في «أومونيورا».
قال «أنوسي»: أوافقك.
وقال «أكيوبو» وكأنه يتحدث بلسان «إيزولو»: لقد فسر ابن «وديكا» الأمر، لقد كان يساعد «إيزولو».
ضحك الرجل الآخر: هكذا! يا له من رجل بريء! لقد وضع طاسته المليئة بالفومو في خياشيمه، من الأفضل أن تخبرني بقصة أخرى.
وأضاف «أنوسي» جار «إيزولو»: لا تثق في رجل من «أومونيورا»، لو أخبرني أحدهم أن أتوقف فسوف أجري، وإذا قال لي اجر فسوف أقف حيث أكون.
قال «أكيوبو»: إنه مختلف، ولقد تغير من كثرة السفر والترحال.
ضحك «إيفيم»: هي .. هي .. هي .. لقد أضاف فقط خدعا أجنبية إلى تلك التي تعلمها من أمه، أنت تتحدى كصبي صغير يا «أكيوبو».
وقال «أنوسي»: هل تدري لماذا ظل المطر اليوم طوال بعد الظهر؟ لأن ابنة «أودينو» تواصل التبول، إنهم لا يكرهون الآخرين فقط وإنما يمقتون أنفسهم أكثر، إن السوء الذي يضمرونه يرتدي قبعة. - حقا، إنها حامل، وترضع الأطفال في نفس الوقت. - نعم، إنهم قوم أمي، وكل ما أفعله هو اختلاس نظرة خائفة إليهم.
نهض «إيفيم» استعدادا للانصراف، وكان قصيرا، وقوي البنية، ويتحدث دائما بأعلى صوته، كما لو أنه في شجار دائم، صاح بأعلى صوته فسمعته كل الأكواخ: يجب أن أذهب يا «إيزولو»، ونحن نشكر الإله الكبير، ونشكر «أولو» لعدم إصابتك بأي سوء في رحلتك، لا شك أنك فكرت في عدم زيارتي لك هناك. لقد فكرت كثيرا في زيارتك، خاصة وأنه لا يوجد خلاف بين «إيزولو» و«إيفيم»، وكنت أقول لنفسي بأنني سأذهب غدا، لكن شيئا ما كان يحدث كل يوم فيؤجل زيارتي.
قال «أنوسي»: نفس الشيء حدث معي، وكنت أقول بأنني سأذهب غدا، سأذهب غدا.
كان «إيزولو» مستندا بظهره على الحائط حين تحرك وأبدى اهتماما كبيرا بحفيده «أميشي»، الذي كان يجاهد لفتح قبضة الرجل العجوز المطبقة. لم يتوقف «إيزولو» عن متابعة الحديث من حوله، ولم يتحدث إلا قليلا عندما كن مضطرا للكلام، تطلع حوله لحظة، ثم قدم الشكر إلى «إيفيم» لزيارته.
ازداد قلق «أميشي»، وعاوده البكاء من جديد، حتى بعد أن فتح «إيزولو» قبضته. - تعال يا «وافو» وخذه إلى أمه، لقد حان وقت نومه.
انحنى «وافو» على ركبتيه، وقدم ظهره ل «أميشي»، الذي توقف عن البكاء دون أن يتسلق ظهر «وافو»، ثم أطبق قبضته الصغيرة، وفجأة ارتقى ظهر «وافو»، فأثار ضحك الجميع، وراح يتطلع إلى الجالسين باكيا. - إذن .. ابتعد أنت يا «وافو»؛ فهو لا يحبك، ويريد «أوبياجيلي».
تسلق «أميشي» ظهر «أوبياجيلي» بدون متاعب.
نهضت «أوبياجيلي» بصعوبة، وانحنت بخفة، واهتزت فجأة بخصرها، فأصبح الطفل في الوضع المناسب فوق ظهرها، ثم مضت فقال اثنان أو ثلاثة معا: هل رأيت!
قال «إيزولو»: تمهلي.
أجاب «أنوسي»: لا تقلق نفسك؛ فهي تعرف ما تفعل.
خرجت «أوبياجيلي» في اتجاه أرض «إيدوجو» وهي تغني: «إن طفل الأم يبكي .. إنه يبكي.
جهز طعام الأوزيزا .. وأيضا طعام الأوزيزا.
واصنع حساء الفلفل؛ فالطيور الصغيرة التي تشربه سوف تهلك من الضعف.
إن ماعز الأم يوجد في الجرن .. ولن تكون اليام في أمان.
إن ماعز الأب يوجد في الجرن .. وسوف يلتهمون اليام.
هل تستطيع رؤية ذلك الغزال القادم؟ .. انظر .. إنه يغمس قدمه في الماء.
الثعابين تلدغه! .. إنه ينسحب.
يا .. يا .. يا كولو كولو!»
طوال فترة المنفى كان من اليسير أن يفكر «إيزولو» في «أوموارو» بشكل عدائي، وذلك ما لم يعد بمقدوره أن يراه هنا .. إنهم حيثما يسيروا يرحبوا به، وإذن فهم ليسوا أعداء، لكن بعضا منهم، مثل «أنوسي»، بلا أهمية أو تأثير، لكنه مغرم فقط بالثرثرة وأحيانا بالحقد .. إنهم مختلفون عن الأعداء الذين شاهدهم وهو يحلم في «أوكبيري».
في اليوم الثاني أصبح عدد الزائرين سبعة وخمسين، بالإضافة إلى النساء .. كان ستة منهم يحملون النبيذ، وأحضر نسيبه «إيب» والقادمون معه إناءين كبيرين من أجود أنواع النبيذ وديكا، وكان ذلك اليوم بمثابة مهرجان في كوخ «إيزولو»، حضره أيضا اثنان أو ثلاثة من قرية العدو (أومونيورا).
كان «أوجبوفي أوفاكا» هو آخر زائر في اليوم الثالث، وهو أحد أفضل الرجال في «أومونيورا»، ولم يكن من قبل دائم الزيارة ل «إيزولو»، كان معروفا بحكمته ولم يكن أحد أولئك الذين يمتدحون رجلا لمجرد أن يقدم لهم النبيذ، ألقى بقدحه في حقيبته، ووضعها فوق ظهره، ثم قال: جئت لأقول لكم لا، ولأقدم شكري وامتناني ل «أولو» و«شوكو» لعودتكم سالمين، أريد أن أقول لك إن «أوموارو» كلها تنهدت عندما وضعت قدمك في كوخك مرة ثانية، لم يرسلني أحد لقول ذلك، فلماذا أقوله إذن؟ لأنني أعرف كيف تفكرون.
توقف لحظة، ثم مد رقبته ناحية «إيزولو» بنوع من التحدي، وأضاف: لقد كنت مع «واكا» عندما تحدث عن ضرورة ذهابك لمواجهة الرجل الأبيض ، وإذا أردت ألا أضع قدمي في منزلك مرة ثانية فيجب أن تخبرني بما حدث فور الانتهاء من حديثي، أريدك أن تعرف - إذا لم تكن تعرف بالفعل - أن كبار «أوموارو» لا يقفون بجانب «واكا» ضدك؛ فنحن جميعا نعرفه، ونعرف الرجل الذي يقف خلفه، ولا أحد يستطيع أن يخدعنا، فلماذا إذن نقف معه ونوافقه؟ هل لأننا مضطربون؟ هل تسمعني؟ إن كبار «أوموارو» مضطربون، ويمكنك القول إنني أخبرتك بذلك، نحن مضطربون، ونحن كما يقول المثل كالكلب الصغير الذي حاول أن يلبي نداءين في وقت واحد فكسر فكه، أنت يا «إيزولو» الذي قال لنا منذ خمس سنوات مضت بأنه لمن الحماقة أن نتحدى الرجل الأبيض، ولم نستمع لك وخرجنا نتحداه، فأخذ بنادقنا وحطمها فوق ركبته، وهكذا نعرف بأنك كنت على صواب، وما كدنا نتعلم هذا الدرس حتى غيرت رأيك، وها أنت تطالب بالذهاب لتحدي نفس الرجل الأبيض، فماذا كنت تتوقع أن نفعل؟
توقف عن الحديث ليمنح «إيزولو» الفرصة كي يجيب، لكنه لم يفعل، فاستطرد «أوفوكا»: يجب ألا أرفض الاستماع إلى أعدائي إذا تحدثوا بالحقيقة لمجرد أنهم أعدائي، وما قاله «واكا» كان حقيقة؛ فهو الذي طالب بأهمية الذهاب إلى الرجل الأبيض لأنه يعرفك .. ألم تكن تلك حقيقة؟ .. نعم لقد تحدث بحقد لكنه قال الحقيقة؛ فلا أحد من بيننا استطاع أن يواجه الرجل الأبيض كما فعلت أنت؟ .. مرة أخرى، لا، إذا لم يرقك كلامي فأبلغني بعدم الحضور إلى منزلك مرة ثانية، إنني ذاهب.
حسم «أوفوكا» كل الأفكار التي كانت تدور برأس «إيزولو» في الأيام الثلاثة الماضية، وربما لو تحدث «أكيوبو» بنفس الكلمات لما اتسمت بمثل هذه القوة، ولكنها وقد صدرت من رجل ليس هو بالصديق أو العدو جعلت «إيزولو» يصل إلى ما يريد.
نعم، إنه لمن الصواب أن يواجه كبير الكهنة الخطر قبل أن يصل إلى شعبه، إنها مسئولية الكهنوتية، كما حدث يوم أن اجتمعت القرى الست وقالوا لجد «إيزولو»: سوف تتحمل الألوهية من أجلنا.
كان خائفا في البداية؛ فأي قوة في جسده تلك التي يتحمل بها مثل ذلك الخطر الكبير؟ لكن أهله وشعبه وقفوا من خلفه مساندين إياه، وبدءوا يعزفون الفلوت.
استدعى «إيزولو» ابنه «أودوش» وسأله: ماذا تفعل؟ - إنني أنسج السلة. - اجلس.
جلس «أودوش» فوق السرير الطيني في مواجهة والده، وبعد وقفة قصيرة بدأ «إيزولو» في الحديث مباشرة مذكرا «أودوش» بأهمية أن يعرف ما يعرفه الرجل الأبيض؛ حيث قال: أرسلتك لكي تخبرني بكل ما يحدث هناك، ألا تستمع لما يقوله الناس، الناس الذين لا يعرفون يمينهم من يسارهم، قلت لك من قبل إن الرجل لا يكذب على ابنه، وإذا سألك أي شخص عن سبب ذهابك وتعلمك تلك الأشياء الجديدة، فأخبره بأن على الرجل أن يرقص الرقصة السائدة في عصره.
حك رأسه، واستطرد بصوت فيه استرخاء: عندما كنت في «أوكبيري» رأيت شابا أبيض من النوع القادر على الكتابة بيده اليسرى، واستطعت أن أعرف من خلال تصرفاته عدم خبرته وقلة إحساسه، لكنه كان قويا واستطاع أن يصيح في وجهي، إنه يستطيع أن يفعل ما يريد، لماذا؟ لأنه قادر على الكتابة بيده اليسرى، ولقد استدعيتك لهذا السبب؛ فأنا أريدك أن تتعلم وتتفوق على ذلك الرجل تفوقا ملحوظا، كما يجب أن تتعلم حتى تكتب بيدك اليسرى، هذا كل ما أردت أن أقوله لك.
عادت الحياة إلى طبيعتها تدريجيا، بعد أن ساد القلق والحزن لغياب «إيزولو» لأكثر من قمر كامل، وفرح الأطفال، وقالت «أوبياجيلي» لأمها «أوجوي»: أخبرينا بالقصة. - هل أحكي لك القصة والأواني قذرة هكذا؟
سارع «وافو» و«أوبياجيلي» إلى العمل، وقاما بتحريك الجرن الصغير المخصص لطحن الفلفل، ووضعوا الأواني الصغيرة فوق عارضة البامبو، ثم غيرت «أوجوي» بنفسها الشمعة الصغيرة بأخرى جديدة.
التهم «إيزولو» كل العشاء الذي أعدته له «أوجوي»، وذلك ما يجعل أي امرأة تشعر بسعادة كبيرة، لكن هناك دائما ما يفسد سعادة المرء، إنها «ماتيفي» الزوجة الأولى التي تشعر بالغيرة من أي شيء تفعله «أوجوي»، فإذا كانت وجبة «أوجوي» متواضعة فإن «ماتيفي» تتهمها بتجويع أطفالها لشراء أساور من العاج، وعندما يكون الطعام جيدا مثل هذه الليلة فلا بد أنها تتطلع إلى رضاء زوجها وطلب شيء ما منه، لم تكن «ماتيفي» تقول أي شيء من ذلك مباشرة إلى «أوجوي»، لكن كل ما كانت تثرثر به كان يوحي بذلك.
كان «أودوش» يتناول حساء الدجاجة من فوق النار، فسال لعاب «ماتيفي».
تم إعداد الحجرة، وافترش «وافو» و«أوبياجيلي» الحصيرة بجوار مقعد أمهما المنخفض. - أي قصة تريدين سماعها؟
قالت «أوبياجيلي»: أونويرو.
فقال «وافو»: لا، لقد سمعناها كثيرا، فلتخبرينا إذن عن ...
قاطعته «أوبياجيلي»: حسنا، احكي لنا عن «إينيك تولوكبا».
تفحصت «أوجوي» ذاكرتها وقالت: في سالف الزمان كان يوجد رجل متزوج من امرأتين، وكان لدى الزوجة الأولى كثير من الأطفال، بينما الزوجة الصغرى لم تنجب سوى ولد واحد، وكانت الزوجة الأولى شريرة وحسودة، ذهب الرجل للعمل مع عائلته في المزرعة التي يمتلكونها، والواقعة على الحدود بين أرض الرجل وبين أرض الأرواح.
كانت «أوجوي» تجلس مع «أوبياجيلي» و«وافو» بالقرب من المطبخ ومن مدخل غرفة النوم، وكان «أودوش» ممسكا بكتابه الجديد تحت ضوء الشمعة، فحرك شفتيه بهدوء وكأنه كان يتدرب على الكلمات الأولى من الكتاب، وفي تلك الأثناء كان «إيزولو» يفكر في الصراع القادم وإمكانية التصالح، أو على الأقل في تضييق مساحة الصراع، وكان يعرف وهو يفكر أن الحرب لن تبدأ قبل وقت الحصاد؛ أي بعد ثلاثة أقمار أخرى، وإذن فثمة فسحة من الوقت، ولا داعي للعجلة.
صاح «أولو» في أذنه كما تفعل الروح في أذن طفل وقح: من أخبرك أن هذه حربك الخاصة؟
ارتعش «إيزولو» ولم يقل شيئا، لكنه ظل يحدق في الأرض. - أقول بأن هذه ليست حربا خاصة بك حتى تنظم الطريقة التي تناسبك، أنت تريد إنقاذ أصدقائك الذين أحضروا لك النبيذ، احترس فأنت لا تقف بيني وبين ضحيتي، وإلا فسوف تتلقى الضربات التي لا ذنب لك فيها، ألا تعرف ما يحدث عندما يتشاجر فيلان؟ اذهب للبيت ونم واتركني أفكر في صراعي مع «إيديميلي»، الذي تؤدي غيرته إلى التطلع لتدميري، والآن أخبرني كيف لك أن تهتم بذلك؟ أقول لك بأن تذهب للبيت وتنام ؛ فأنا و«إيديميلي» سوف نتقاتل حتى النهاية، والذي يلقي بالآخر على الأرض سوف يجرده من خلخاله.
هكذا لم يعد ثمة ما يقال، فمن يكون «إيزولو» كي يقول لإلهه عن قتال الطائفة الغيورة؟ إنها حرب الآلهة، و«إيزولو» ليس أكثر من سهم في قوس ربه، شعر «إيزولو» بنشوة كبيرة لذلك، كما لو أنه شرب أجود أنواع النبيذ.
لماذا سجن «أودوش» الثعبان في صندوقه؟ إنه دين الرجل الأبيض، وتلك مسئوليته، هل ذلك هو السبب الحقيقي؟ وماذا لو أن الولد كان أيضا سهما في يد «أولو»؟ وماذا أيضا عن دين الرجل الأبيض وعن الرجل الأبيض نفسه؟ أوه، إن «إيزولو» الآن في حالة تسمح له بالتفكير في كل تلك الأشياء، نعم، ماذا عن الرجل الأبيض؟ لقد كان ذات مرة إلى جانب «إيزولو» ومرة أخرى، كان قريبا منه عندما تم نفيه، وهكذا قدم له السلاح الذي يحارب به أعداءه.
لو أن «أولو» اعتبر الرجل الأبيض حليفا منذ البداية لأصبح تفسير كثير من الأشياء يسيرا، مثل قرار «إيزولو» بإرسال «أودوش» ليتعلم وسائل الرجل الأبيض، رغم أن «إيزولو» كان لديه تفسيرات أخرى، إن نصفه كان رجلا والنصف الآخر روح تتلون باللون الأبيض في اللحظات الدينية المهمة، أما الروح فقد كانت تقوم بعمل الأشياء التي لم يفعلها قط.
الفصل السابع عشر
أثناء منفى «إيزولو» وبعد عودته كانت تسود «أوموارو» حالات من القلق، وأحس الناس بضرورة التوقف عن الحديث بشأن تلك الحالات .. كانت الأحداث كبيرة، وها هو موعد السوق الثاني يقترب، ولا بد إذن أن يتوقف الحديث عن تلك الأحداث التي لم يكن الناس يتحدثون في شيء آخر سواها، راحوا تدريجيا يتناولون حكايات أخرى في القرى الست، أو هكذا توهموا.
استقرت الأحداث مرة أخرى في أسرة «إيزولو»، وأصبحت زوجة «أوبيكا» حاملا، وكانت «أوجوي» و«ماتيفي» تتصرفان بحماقة مثل أي من الزوجات الغيورات، عاد «إيدوجو» إلى عمله بالنحت الذي تركه في موسم الزرع، وأظهر «أودوش» تقدما ملحوظا في عقيدته الجديدة، وكذا في القراءة والكتابة، عاد «أوبيكا» إلى شرب النبيذ بكثرة بعد أن توقف فترة قصيرة حين عرف بأن كثرة النبيذ تقلل من قوته أثناء المضاجعة، أما الآن وقد صارت «أوكواتا» حاملا فلم يعد في حاجة لمضاجعتها.
كذلك «إيزولو» بدا كما لو أنه طرح جانبا كل مضايقاته التي لم تقصه عن عاداته اليومية، مثل تقديم جوزة الكولا والنبيذ إلى آبائه، والتي لم تمنعه من ممارسة طقوسه البسيطة التي يقوم بها مع مطلع كل قمر جديد .. فكر في زوجته الصغرى التي مات طفلها الأخير منذ أكثر من عام، فقرر أن يمنحها بعض الوقت كي تنجب طفلا جديدا، بدأت في تلبية ندائه، لكن علاقتها ب «ماتيفي» التي سبقتها في الحمل ظلت علاقة غير طيبة.
تمت الأعياد والمهرجانات الصغيرة في موعدها، وحدث بعضها في القرى الست معا وبعضها الآخر في كل قرية على حدة، كما احتفلت «أومواجا» بعيد
Mgba Agbogho
1
واحتفلت «أومونيورا» بعيدها السنوي احتفاء ب «إيديميلي» صاحب الثعبان المقدس، وتم تأجيل الانسحاب الهادئ الذي يدعى «أوزو وانادي» من قبل القرى الست لتهدئة أرواح الأقرباء المستاءة التي قتلت في الحرب، أو قتلت بأي طريقة أخرى في سبيل «أوموارو».
كان الطقس جافا كالعادة بعد أن توقفت الأمطار، وبالرغم من أوراق اليام الكثيرة الخصبة، فإنها في مثل ذلك الطقس لا تنتج درنات كبيرة .. صارت الحياة طبيعية وكأن شيئا لم يحدث، أو كما لو أن شيئا لم يكن في طريقه للحدوث.
قبل مهرجان العام الكبير (عيد اليام الجديد) وفي نهاية موسم الأمطار احتفلت «أومواشالا» قرية «إيزولو» بعيد واحد صغير، كانوا يسمونه احتفال «أكورو» الذي يتسم بممارسة قليل من الشعائر، ولا يحدث فيه شيء أكثر من تقديم الأرامل بعض القرابين التذكارية لأزواجهن الراحلين. في مساء ذلك الاحتفال جهزت كل أرملة في «أومواشالا» الفوفو وحساء جوزة النخيل ووضعته خارج كوخها، وعند الصباح كانت الطاسات فارغة؛ لأن زوجها الراحل قد جاء وتناول الطعام.
كان احتفال ال «أكورو» في ذلك العام متميزا؛ لأن مجموعة «أوبيكا» قدمت قناع الأسلاف الجديد إلى القرية، وكان تقديم قناع جديد يعد دائما مناسبة مهمة لما له من مكانة عالية.
في الأيام القليلة الماضية انضم عدد كبير إلى مجموعة «أوتاكاجو»، وكان البعض منهم يقوم بدور في الاحتفال، وكان من الطبيعي أن يكنوا حقدا وحسدا، ولم يتوقفوا عن ممارسة السحر الوقائي، مما جعل الآخرين يقومون بعمل بعض الإجراءات الدفاعية.
انتهى العمل في كل التنظيمات بطريقة سرية لأجل الاحتفاظ بغموض أرواح الأسلاف، كانوا في «أوموارو» خلال السنوات الحاضرة يفكرون بالحاجة إلى تقوية الدفاعات حول ذلك الغموض، وصار واضحا بالنسبة للكبار أنه ليس من الصعوبة لأي امرأة أن تعرف الرجل الذي خلف القناع، بالرغم من أن إحداهن لا تجرؤ على الحديث بصراحة. كانوا يتطلعون حول القناع لمعرفة صاحبه .. تكبدت مجموعة «أوتاكاجو» في «أومواشالا» عناء الطريق إلى «أوموجوجو» لاختيار الرجل الذي يرتدي القناع، وكان ذلك الرجل يدعى «أموميجبو»، وكان موجودا في «أومواشالا» أثناء الترتيبات، لكن وجوده ظل محاطا بالسرية الكاملة.
كان «إيدوجو» و«أوبيكا» مهتمين بشدة بالقناع الذي يخص مجموعة «أوبيكا»، بالإضافة لاختيار «أوبيكا» كأحد اثنين لذبح كبش الضأن في وجوده، وكان «إيدوجو» هو الذي نحت القناع.
جلس «أوبيكا» في كوخه عند منتصف النهار، وكان يفكر فاردا قدميه فوق الحجر الذي يشحذ به منجله، تسربت من وجهه قطرات من العرق وهو يعمل، فأمسك شفته السفلى بأسنان فكه العلوي، وظل يرش قليلا من عصير الليمون فوق الحجر من وقت لآخر، وكانت بعض الفاكهة توجد بجوار البحر، ظل «أوبيكا» يعمل في منجله الجديد طوال الأيام الثلاثة الماضية في فترات الراحة، وها هو المنجل الآن حاد بما يكفي لحلاقة الشعر، نهض وسارع بالخروج لرؤيته في الضوء، وبسطه أمام عينيه ولف قبضته فتلألأ المنجل مثل المرآة في الشمس، فبدت على وجهه علامات الرضا، ثم عاد إلى كوخه ووضع المنجل جانبا، اتجه بعد ذلك إلى الداخل، فأبصر زوجته تنقل الماء من الإناء الكبير خارج الكوخ إلى الطاسة، نهضت بضجر ثم بصقت كما تفعل دائما هذه الأيام.
قال «أوبيكا» باستفزاز: أيتها المرأة العجوز.
قالت وهي تبتسم: دائما تأتي لإفساد ما أفعله.
سمعت القرية بعد قليل أصوات ستة من الشباب كانوا يتجولون في مناطق مختلفة وهم يدقون الطبول باحثين عن القناع، ولم يعرف أحد في «أومواشالا» مصدر الأصوات، ظلوا فترة طويلة يصغون السمع، وكانت أصوات الأقدام والناقوس المعدني قد جعلت القرية كلها في حالة من الحذر، وما إن هدأت حدة الشمس حتى بدأت القرية في الخروج.
كانت شجرة «الأودالا» الكبيرة، والتي تشبه كل أشجار «الأودالا» في «أوموارو»، مقدسة بالنسبة لأرواح الأسلاف، وكان كثير من الأطفال يلعبون تحتها في انتظار سقوط الفاكهة الطازجة، وجائزة ما كانت تمنح لأسرع العدائين، أو للطفل الأكثر حظا، وهو الذي تقع الفاكهة بالقرب منه. ولم يكن مسموحا لأي شخص، سواء كان شابا أو كهلا، بالتقاط الفاكهة من تلك الشجرة المليئة بالفاكهة المغرية. وإذا ما حاول أي شخص فعل ذلك فلا بد أن تزوره كل الأرواح المقنعة في «أوموارو»، وينبغي عليه عندئذ كي يزيل خطواتهم أن يقدم القرابين الثمينة.
احتشد الناس عند وصول «إيزولو» و«أكيوبو» اللذين بكرا بالحضور، وبدأ كل شخص في «أومواشالا» يتخذ طريقه للحضور، وتدفق كثير من الناس من بقية القرى الأخرى في «أوموارو»، نساء وفتيات، شباب وصبية تجمعوا كلهم في حلقة كبيرة، فصارت الحلقة مزدحمة، وسادت الضوضاء. لم يكن هناك شباب ممن يحملون السياط لتنظيم الزحام؛ لأن ذلك لا يحدث إلا عند وصول القناع.
من أحد أركان الزحام ساد هياج واضطراب سرعان ما انتشر في المكان بأكمله، وحين تساءل الناس عما حدث أشاروا إلى شيء ما، ثم أشارت آلاف الأصابع في نفس الاتجاه، كان «أوتاكيكبلي»، المعروف في «أوموارو» كساحر وعراف، جالسا في أحد الأركان الهادئة بعيدا عن الآخرين، مما يوحي بأنه لم يأت مصادفة لرؤية القناع الجديد؛ فلقد اعتاد السحرة في مثل تلك المناسبات تجربة قوتهم السحرية ومنافسة قوة الآخرين .. كانت الحكايات التي يتداولونها عن الأقنعة في مكان ما مليئة بالشكوك، وسرعان ما تنتهي بعدم التصديق.
كانت أكثر الأشياء التي استدعت الشكوك في «أوتاكيكبلي» هي الطريقة التي يجلس بها، كان جالسا كما يجلس الأعرج أو الكسيح وكلتا قدميه ملفوفة تحته، كما يفعل الخنزير البري حين يستعد للقتال لحظة اقتراب النمر منه.
كانوا جميعا يراقبون «أوتاكيكبلي» باستهجان شديد ولم يقدم أحد على أن يتحداه تجنبا للمخاطرة، رغم أن كثيرا من الناس كانوا شغوفين لرؤية ذلك التحدي، سيكون من الخطأ أن تكشف مجموعة «أوتاكاجو» القناع الجديد دون تدريب كاف، رغم أن كثيرا من تلك المعارك لا تثمر نتائج واضحة؛ فالقوى المتصارعة تملك مناجل متساوية، أو لأن الهدف أقوى من المهاجم.
اقترب القناع فتبعثر الأطفال والنساء، وتلاشوا في اتجاهات مختلفة صارخين من الخطر، وسرعان ما عادوا؛ لأن القناع لم يظهر، وإنما فقط أمكن سماع أوجين
Ogene
وغناء أتباعه، ارتفعت الأصوات ورنين الجرس المعدني شيئا فشيئا، وتطلع الحاضرون بعضهم لبعض لمعرفة الطريق المؤدي للهروب.
كان ثمة فرار آخر عندما اندفع المبشرون بالقناع من الممر الضيق، كان أولئك الشباب يرتدون ملابس الرافيا، وكانت مناجلهم تشع بالضوء كلما رفعوها إلى أعلى، أو كلما قام أحدهم بتحية الآخر بالمنجل، من الشمال إلى اليمين ثم من اليمين إلى الشمال، كانوا يجرون في كل الاتجاهات، وكان أحدهم يجري أحيانا بأقصى سرعته في اتجاه واحد، وفي النهاية تفرق الجميع.
اقتربت الأصوات ورنين الجرس، لكن ضجيج الجماهير جعل من الصعب سماعها، وبدا وكأن القناع قد توقف للحظة، أو أنه على وشك الظهور، واستمر الحاضرون في أغنيتهم.
كان المشهد الأول مع قدوم «أوبيكا»، وكان عازف الفلوت واقفا على كعب حذائه يغني أحسن ما عنده، هتف الحاضرون وتهللوا وبخاصة النساء، لكن «أوبيكا» كان أكثر الشباب وسامة في «أومواشالا»، وربما في كل أرجاء «أوموارو»، حتى إنهم أطلقوا عليه اسم «أوجوناشوما».
أبصر «أوبيكا» فور دخوله الكوخ «أوتاكيكبلي» الجالس فوق أردافه، ودون تفكير طويل اتجه سريعا ناحيته ثم توقف تماما، وصاح في العراف وأمره بالنهوض والذهاب إلى بيته في الحال، ابتسم الرجل ونسي الجميع كل ما يتعلق بالقناع، ثم ابتعدت «أوكواتا» عن منطقة الصراع خوفا لأنها حامل، أغلقت عينيها وتمايلت الأرض من حولها.
أشار «أوبيكا» إلى «أوتاكيكبلي»، ثم أشار إلى صدره، وقال للرجل: إذا أردت عمل شيء مفيد من أجل حياتك فعليك بالنهوض.
لم يكن من الرجل سوى الاستمرار في الضحك، فعاود «أوبيكا» التقدم نحوه ببطء، وظل يطوف بالمكان كالنمر الأرقط حاملا منجله في يده اليمنى، وحجابا مربوطا بالجلد في ذراعه الأيسر، بينما راح «إيزولو» يقضم شفتيه ويفكر، ها هو «أوبيكا» المتهور، «أوبيكا» الأحمق، لقد شاهد بقية الشباب «أوتاكيكبلي» وتجاهلوه، لكن «أوبيكا» لم يتجاهله، «أوبيكا» ...
توقف «إيزولو» عن التفكير عندما أسقط «أوبيكا» منجله كومض البرق واندفع إلى الأمام، ثم بحركة واحدة رفع «أوتاكيكبلي» من الأرض وألقى به بالقرب من الشجيرة .. ساد هرج وصياح بين الجماعة بينما كان «أوتاكيكبلي» يصارع من أجل الوقوف، وهو يشير بضعف إلى «أوبيكا» الذي أعطاه ظهره .. فتحت أوكواتا عينيها مرة أخرى وزفرت بتنهيدة.
وصل القناع بمصاحبة رنين الأجراس وأصوات الخشخشة الصادرة من الخصور فتفرق الجمع في حالة من الفزع .. كانت الملابس الجديدة المشرقة باللون الأحمر والأصفر تغطي جسد القناع، وبدا الوجه قويا ومثيرا للفزع، كانت الأسنان مكشوفة بحجم إبهام رجل كبير، والعيون كتجويف كبير مثل قبضة اليد، وقرنان مشوهان فوق رأس القناع كانا يشيران إلى أعلى وإلى الداخل، وكان القناع يحمل حجابا من الجلد في اليد اليسرى ومنجلا ضخما في اليد اليمنى.
كو - كو - كو - كو - كو - كو - أوه!
هكذا كان يغني مثل صوت المعدن المتشقق، فيجيب أتباعه بنغمة رتيبة وعميقة كالزئير: ها آم - ها آم - ها آم - كو - كو - كو - كو - كو - كو - آوه - آوه - أويويو - أوه - ها آم - ها آم.
لم تكن الأغنية تحمل كثيرا من الكلمات لأن «أجابا» ليس قناعا للأغنية والرقص، وإنما هو قناع القوة وكفاح الشباب .. واصل تقدمه وهو يشدو بأغنيته التي تغيرت عند اقترابه من مركز الكوخ كي لا يغضب قناع الأسلاف، وقدم تفاصيل دقيقة لما قد يحدث لأي شخص يجهل هذه النصيحة كي لا يصير منبوذا بدون أصابع لليد أو أصابع للقدم، وحتى لا يعيش طيلة حياته في كوخ منفر معلقا حقيبة المتسولين تحت كتفه، وبكلمات أخرى كي لا يبدو مصابا بالجذام.
كلما حاول أن يتحرك بسرعة أكثر كان اثنان من أتباعه يشدانه بقوة الحبل القوي الملفوف حول خصره، وإذا ما غضب القناع كما حدث ذات مرة، فإنه يرمي المنجل ناحية الرجلين، فيسارعان بعيدا من أجل حياتهما، أما هذه المرة فقد كان صياح الجماهير المحتشدة والمبعثرة هنا وهناك يحمل رعبا حقيقيا، فلم يترك الرجلان القناع طليقا لمدة طويلة.
ألقى أحد الشباب بمنجله وفشل بالإمساك به في الهواء، فأطلق الناس صيحة كبيرة دائما ما يصيحون بها في مثل تلك الحالات من الفشل.
التقط «أوبيكو يلو» منجله مرة أخرى محاولا تغطية فشله بحركة رشيقة، لكن ذلك لم يجلب سوى مزيد من الضحك.
تقدم القناع عندئذ لتحية بعض الكبار، وقال: «إيزولو» .. دو .. دو .. دو .. دي.
أجاب كبير الكهنة: أبانا .. إن يدي فوق الأرض. - «إيزولو» .. هل تعرفني؟ - كيف للمرء أن يعرفك وأنت فيما وراء معرفة الإنسان؟
قال وهو يغني: «إيزولو» إن قناعك يحييك.
وراح أتباعه يغنون: إيجي .. يا .. ما .. ما .. ما .. إيجي .. يا .. ما .. ما. - أورا .. أودو .. «أجابا» يحييك. - إيجي .. يا .. ما .. ما .. ما .. إيجي .. يا .. ما! - هل سمعت أغنية العنكبوت؟ - إيجي .. يا .. ما .. ما .. ما .. إيجي .. يا .. ما!
توقف فجأة، ثم استدار وجرى مسرعا، وعندئذ تفرق الجميع وتبعثروا.
كان بمقدور «إيدوجو» أن يجلس بأحد المقاعد الخلفية في الكوخ، لكنه اختار أن يقف مع الناس لرؤية القناع من جوانبه المختلفة؛ فعند انتهائه من نحت الوجه والرأس انتابه إحساس قليل بالخيبة؛ فثمة شيء في الأنف جعله يحس عدم الرضا، وهكذا اختار أن يرى القناع وهو يتحرك لمعرفة إذا ما كان جيدا أم سيئا، وهكذا وقف مع بقية الناس.
بدت نقاط الضعف وقد تلاشت بعد أن تحرك القناع .. تسلل «إيدوجو» بين الناس لعل أحدهم يعقد مقارنة يود سماعها، لكن أحدا لم يفعل، أثنى الكثير من الناس على القناع الجديد، لكن أحدا لم يقارنه مع «أجابا» الشهير في «أومواجا»، وكم كان «إيدوجو» سيسعد كثيرا لو أن أحدا فعل؛ فهو لم يعلن بعد أنه يفوق أعظم نحات في «أوموارو»، لكنه يأمل أن شخصا ما يعقد مقارنة بينهما ، وبخ نفسه لعدم الجلوس في الكوخ؛ حيث كان باستطاعته بين الكبار أن يستمع إلى ما كان يريد، لكن الوقت قد فات.
كان ذبح الضأن في نهاية المساء، وفي منتصف الكوخ كان القناع جالسا في هدوء فوق المقعد، بينما اثنان من الأتباع كانا على جانبي المقعد يلوحان بالمروحة .. قادا كبش الضأن وتلمس القناع رقبته بمنجله، ثم تقدم مسافة قصيرة دون الابتعاد عن رؤية الروح المشرف عليها، ساد هدوء تام إلا من صوت الفلوت الرقيق المعتاد وأنغامه الجميلة المتقطعة .. تقدم «أوبيكا» للأمام وألقى بمنجله في الهواء بشكل دائري فتلألأ ضوء المساء فوق شفرة المنجل، كرر ذلك مرتين وفي كل مرة كان يمسك المنجل بمهارة في منتصف الهواء، ثم تقدم للأمام وبضربة محكمة قطع رأس الكبش، فهتف الناس بقوة، وراح أحد الأتباع يلتقط الرأس الذي تمرغ في الرمال، وكان القناع يحدق بملامح ثابتة.
ساد الهدوء بعض الوقت، ثم جاءوا بالكبش الثاني، فتحسسه القناع عند رقبته، وتقدم «أوبيكو يلو» للأمام، وكان غاضبا لعدم قدرته على الإمساك بمنجله في الهواء، ألقى به في الهواء للمرة الثالثة وأمسك به بمهارة، ثم تقدم للأمام أكثر ورفع المنجل وضرب الكبش كما لو كان يضرب صخرة .. حاول كبش الضأن أن يهرب فصاح الناس وضحكوا.
كان «أوبيكو يلو» سيئ الحظ في ذلك اليوم؛ فقد حرك كبش الضأن رأسه في اللحظة الأخيرة، نظر القناع دون قلق، وحاول «أوبيكو يلو» مرة أخرى، ونجح في محاولته، لكن نجاحه جاء متأخرا؛ حيث كان الضحك قد غطى على أصوات الهتافات القليلة المتأخرة.
الفصل الثامن عشر
فكر «إيزولو» كثيرا، ثم أعلن عن عزمه على مواجهة «أوموارو» بشأن عيد اليام الجديد، الذي يعد نهاية للعام القديم وبداية للعام الجديد، ويمكن فيه للمرء أن يقدم قليلا من اليام إلى بيته ليدفع الجوع عن عائلته، لكن أحدا لا يحصد المزارع الكبيرة، ولا أحد من الكبار يأكل اليام الجديدة مهما كان مصدرها قبل الاحتفال بالعيد الجديد، الذي تتذكر فيه القرى الست مدى تضامنها في الأيام القديمة، وكم هم مدينون دائما ل «أولو» الذي أنقذهم من خراب «آبام»!
في كل أعياد اليام الجديدة يتم الإعلان عن حضور القرى الست معا، ويقدم كل شاب في «أوموارو» كمية مناسبة من بذور اليام إلى مزار «أولو»، وذلك بوضعها في كومة، بالنيابة عن قريته، بعد أن يلفها في دائرة حول رأسه، ثم يتناول بعض الطباشير بجانب الكومة ويرسم به على وجهه. يعرف الكبار من تلك الكومات عدد الرجال في كل قرية، فإذا زاد العدد عن العام الماضي فإنهم يقدمون قربانا ل «أولو» عرفانا بالجميل. وإذا كان العدد ناقصا يبحثون عن السبب عند العرافين .. اختار «إيزولو» ثلاث عشرة من تلك اليامات لحساب العام الجديد.
كان عيد اليام الجديد أكثر الاحتفالات أهمية في «أوموارو»، كما كان يوما لكل الآلهة الصغيرة في القرى الست، والتي ليست لها أعياد خاصة. كانت كل تلك الآلهة الصغيرة تأتي بصحبة حراسها وتقف في خط خارج مزار «أولو»، ليتمكن أي رجل أو امرأة من تقديم شيء لها. وكان ذاك هو اليوم الوحيد الذي تظهر فيه تلك الآلهة الصغيرة. وكان الحرس الخاص بها يطوف بهم في السوق حاملا إياهم فوق الرءوس أو الأكتاف وهم يرقصون، ثم يقفون جنبا إلى جنب عند مدخل مزارة «أولو». كانت وجوه الآلهة القديمة جدا تحمل نفس سمات الرجال الذين صنعوها. ومنذ وقت مضى منع جد «إيزولو» تلك العادة. كان المهرجان حافلا بالآلهة الصغيرة والرجال؛ فهو التجمع الوحيد في «أوموارو» الذي يجد المرء فيه جاره على يمينه، وإذا ما تطلع عن يساره فسوف يرى إلها صغيرا قد يكون «آجو» إله الجنون أو «جين» إله النهر.
جاء مساعدو «إيزولو» الستة لرؤيته، فأخبرتهم «ماتيفي» بأنه ذهب لزيارة «أكيوبو»، قرروا انتظاره في كوخه، وكان الوقت قريبا من المساء عندما عاد «إيزولو»، الذي تظاهر بالدهشة رغم معرفته بسبب مجيئهم.
قدم التحية وقال: هل كل شيء على ما يرام؟ - على ما يرام.
ساد صمت مشوب بالقلق، ثم تحدث «وزيسي» نائب قرية «أوموجوجو» المعروف بصراحته، وقال: سألتنا عما إذا كان كل شيء على ما يرام، فأجبناك بأنه كذلك، لكن الضفدعة لا تجري في النهار إلا إذا تعقبها شيء ما، وها نحن قد جئنا إليك من أجل حدث بسيط. إنه اليوم الرابع منذ أن ظهر القمر الجديد في السماء، وها هو قد كبر بما يكفي! لكنك لم ترسل في طلبنا كي تخبرنا بيوم عيد اليام الجديد.
نهض «أوبيسيلي» وقال: وحسب تقديرنا فإن القمر الحالي هو الثاني عشر منذ آخر عيد.
كان «أوبيسيلي» دائما متحدثا عديم الكياسة، فساد صمت ثم تنحنح «إيزولو»، ورحب بضيوفه مرة أخرى، مؤكدا أن أحدا لم يضايقه، ثم قال: لقد فعلت ما كان يجب أن تفعله ولا يستطيع أي شخص الادعاء بأنك فشلت في أداء واجبك؛ لأن الرجل الذي يسأل لا يضل طريقه، ذلك ما تعلمناه من آبائنا، وإذن فالصواب هو ما فعلت عندما جئت لتسألني عن هذا الأمر الذي يقلقك، لكن شيئا ما لا أقدر تماما على إدراكه، وهو قولك بأنه حسب تقديركم كان يجب أن أعلن عن عيد اليام الجديد فور ظهور آخر قمر جديد! - نعم، قلت ذلك. - لم أصدق أذني، وتصورت أنني لم أسمعك جيدا، منذ متى بدأت تقدر وتحسب العام الجديد ل «أوموارو»؟
لم يكن «أوبيسيلي» يجيد استخدام ألفاظه، فقال «شكولوب»: نحن لا نحسب عيد «أوموارو»؛ فليس من بيننا من يمثل كبير الكهنة، ولكننا اعتقدنا في احتمال أن يكون قد خانك الحساب بسبب غيابك في الأيام القليلة الماضية.
صاح «إيزولو» قائلا: ماذا؟! هل أصابك خلل ما أيها الشاب؟ كل شيء يمكن سماعه هذه الأيام! خانني الحساب! خانني الحساب! هل أخبرك أبوك أن كبير كهنة «أولو» يعجز عن حساب القمر؟ لا يا بني.
استطرد «إيزولو» بنبرة هادئة ومدهشة: لا، إن «إيزولو» لا يعجز عن حساب القمر، وأنت لا ريب هو الذي يخطئ؛ لأنك تعد على أصابعك ثم تنسى أي الأصابع حسبت عليه آخر قمر، وعلى أية حال فإنني كما قلت في البداية إنكم فعلتم الصواب عندما جئتم لتسألوا، والآن عودوا إلى قراكم وانتظروا رسالتي؛ فلن أكون قط في حاجة لأن يخبرني أحد بواجبات الكهنوتية.
غادر الرجال، وكان حضور أي شخص إلى كوخ «إيزولو» يصيب صاحبه بالدهشة؛ فقد كان وجه الكاهن متوهجا بالسعادة، كما بدت عليه سمات الشباب والوسامة، تحركت شفتاه بهمسات خافتة، وسرعان ما اقتحمت أذناه بعض الأصوات، فتوقف عن الهمس، وراح يستمع باهتمام، كان «وافو» و«أوبياجيلي» يتلوان شيئا خارج كوخه.
كانا يقولان مرة إثر أخرى: «إيك كوي أوني أوكا».
وظل «إيزولو» يستمع بمزيد من الاهتمام، لم يكن مخطئا فيما سمع. «إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا».
صرخت «أوبياجيلي»: انظر .. إنه يجري بعيدا.
وراح الاثنان يضحكان بقوة. «إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا» .. «إيك كوي أوني أوكا».
صاح «إيزولو»: «وافو»!
أجاب «وافو» بفزع: نا. - تعال هنا.
دخل «وافو» بخطوات بطيئة متحسسا الأرض بينما العرق يتصبب من رأسه ووجهه، بينما اختفت «أوبياجيلي» لحظة سماعها نداء «إيزولو». - ماذا كنتم تقولون؟
لم يجب «وافو» بشيء وراحت جفونه ترتعش.
هل أنت أخرس؟ ماذا كنتم تقولون؟ - كانوا يقولون عن تخويف الثعبان وهروبه بعيدا. - لم أسألك عما كانوا يقولون، وإنما عما كنتما تقولان أم أنك تريدني أن أنهض من هنا قبل أن تجيب. - كنا نقول أيها الثعبان، اجر! يوجد مسيحي هنا. - وماذا يعني هذا الكلام؟ - قال لنا «أكوبا» بأن الثعبان يجري بعيدا فور سماعه هذه الكلمات.
ضحك «إيزولو» ضحكات طويلة وصاخبة، فأشرق وجه «وافو». - وهل جرى الثعبان عندما قلتم ذلك؟ - جرى بعيدا مثل ثعبان عادي.
انتشرت في أرجاء «أوموارو» أنباء رفض «إيزولو» الإعلان عن عيد اليام الجديد بسرعة هائلة، وكأنهم أعلنوا عن رفضه بدقات الطبول، فتسللت الدهشة إلى الناس، ثم بدءوا في إدراك المغزى ببطء؛ لأن مثل ذلك لم يحدث من قبل أبدا.
مضى يومان ثم جاء عشرة رجال من الكبار وذوي الألقاب لرؤية «إيزولو»، كان أقلهم شأنا يحمل ثلاثة ألقاب، وكان أحدهم «إيزيكويسيلي أزوكانما» يحمل اللقب الرابع، الذي يعد أعلى الألقاب، والذي لا يحمله سوى اثنين آخرين في كل أرجاء «أوموارو»؛ أحدهم عجوز جدا لا يستطيع الحضور ، والآخر هو «واكا» من «أومونيورا» الذي يعد غيابه عن هذا الجمع عقبة في تهدئة «إيزولو» وإقناعه.
دخلوا معا، وألقى كل منهم بعصاه الحديدية خارج الكوخ وهو يخلع كابه الأحمر.
أراد «أنوسي» أن يتحدث إلى «إيزولو» عن الأزمة التي ألمت به، فحمل معه النشوق في يده اليسرى، لكنه توجه إلى جار آخر عندما رأى الكابات الحمراء والعصي الحديدية، ولم يكن ثمة أحد بالقرب من الكوخ.
قدم «إيزولو» كومة من الطباشير إلى زائريه، ورسم كل منهم على الأرض شعاره الخاص في خطوط رأسية وأفقية، كما رسم بعضهم إصبع قدمه الكبيرة، وقام آخرون بالرسم على وجوههم، ثم جاءهم «إيزولو» بثلاث قطع من جوزة الكولا في طاسة خشبية، ولفترة قصيرة بدءوا في محادثة رسمية سرعان ما انتهت، تناول «إيزولو» واحدة من جوزة الكولا، وأمسك «إزيكويسيلي» بالثانية والتقط «أوينتي نانيلوجو» الثالثة، وراح يتنقل بينهم بالطاسة بالتناوب، وفي البداية كانوا يقدمون كل الفصوص، وكانوا يصلون صلاة قصيرة كسر بعدها كل منهم جوزته، كان «وافو» يتنقل بالطاسة قبل أن يختار واحدة من جوزة الكولا.
قال «إزيكويسيلي» بعد أن مضغوا وابتلعوا جوزاتهم: «إيزولو»، إن زعماء «أوموارو» المجتمعين هنا طلبوا مني أن أبلغك امتنانهم لتقديم جوزة الكولا، نشكرك كثيرا، ولعل مخزونك قد سد النقص.
شاركه الآخرون في القول: شكرا، لعل مخزونك قد سد النقص. - قد تستطيع أن تعرف سبب مجيئنا، جئنا من أجل أشياء معينة سمعناها، وفكرنا أنه من الأفضل أن نعرف الحقيقة من الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يخبرنا؛ فلقد سمعنا بعدم اتفاق بشأن الاحتفال بعيد اليام الجديد، وكما قلنا نحن لا نعرف إذا كان ذلك حقيقيا أم لا، لكننا نعرف تماما أن ثمة فزعا وقلقا في «أوموارو»، وإذا ما ساد ذلك القلق فسوف يتسبب في الفساد، ولا يمكننا الانتظار حتى يحدث ذلك؛ فالشاب المراهق لا يقدر على الجلوس أمام الماعز وهي مربوطة إلى عمود تعاني آلام المخاض، يا كبار «أوموارو»، هل حديثي هذا هو ما ترغبون؟ - نعم .. هو كذلك.
توجه «إيزولو» بالنداء إلى «إزيكويسيلي»، فأجاب الرجل ولم يكن قد توقف عن الحديث: أي.
فقال «إيزولو»: أرحب بكم، ولقد سمعتك جيدا، «أجونوان». - أي. - «نانيلوجو». - أي.
ثم قدم «إيزولو» التحية إلى كل واحد باسمه، وقال مستطردا: أرحب بكم جميعا، إن مهمتكم نبيلة، وأشكركم، لكنني لم أسمع بعدم اتفاق بشأن عيد اليام الجديد؛ فقد قال لي المساعدون منذ يومين إن الوقت ملائم للإعلان عن يوم الاحتفال القادم، وأخبرتهم بعدم جدوى أن يذكرني أحد.
انحنت رأس «إزيكويسيلي» برفق، وراح يدعك صلعته بينما تناول «أوفوكا» زجاجة نشوقه من حقيبته البيضاء المصنوعة من جلد الماعز، وأفرغ منها فوق كفه الأيسر، وكان «نانيلوجو» الجالس بالقرب منه يدعك كفيه معا لتنظيفهما، كي يقدم الكف اليسرى ل «أوفوكا» دون أن يتكلم، ألقى «أوفوكا» ببعض النشوق من يده إلى يد «نانيلوجو» وأفرغ لنفسه المزيد.
استطرد «إيزولو»: أنا لست في حاجة لأن أتحدث معكم بالألغاز؛ فأنتم جميعا تعرفون عاداتنا، أنا لا أدعو للاحتفال الجديد إلا عند توفر أحد اليامات من الاحتفال الأخير، واليوم يوجد ثلاث يامات، وهكذا فإن الوقت لم يأت بعد.
حاول ثلاثة أو أربعة من الزائرين أن يتحدثوا، لكن بقيتهم أتاحوا الفرصة ل «أونيني نانيلوجو»، الذي قدم التحية إلى كل شخص باسمه، ثم قال: أعتقد بأن «إيزولو» تكلم كما يجب، ولقد سمعت جيدا كل ما قاله، نحن جميعا نعرف العادات، ولا أحد يستطيع القول إن «إيزولو» أساء إلى عاداتنا، لكن الحصاد ناضج في التربة، ويجب جمعه الآن قبل أن تأكله الشمس وينخره السوس، أخبرنا «إيزولو» في نفس الوقت أنه ما زال يملك ثلاث يامات مقدسة من العام الماضي، وإذن فماذا سنفعل؟ كيف تحمل رجلا بخصر مكسور؟ نحن نعرف لماذا لم تنته اليامات المقدسة، إنه الرجل الأبيض، وهو ليس هنا الآن ليتنفس معنا الهواء الذي لوثه، نحن لا نستطيع الذهاب إلى «أوكبيري» لنسأله المجيء لتناول اليامات التي تقف حائلا بيننا وبين الحصاد، فهل سنجلس حتى نرى حصادنا يفسد وأطفالنا وزوجاتنا يموتون جوعا؟ لا، أنا لست كاهن «أولو»، لكنني أستطيع القول بأن الإله لا يريد الهلاك ل «أوموارو »؛ فنحن ندعوه المنقذ، وإذن فعليك يا «إيزولو» أن تجد حلا حتى لو أمكنني الذهاب الآن لتناول اليامات المتبقية، لكن لست كاهن «أولو»، إنه شأنك يا «إيزولو» لإنقاذ حصادنا.
تمتم الآخرون استحسانا. - «نانيلوجو». - أي. - خيرا ما قلت، لكن ما تريدني أن أعمله لا يمكن عمله؛ لأن هذه اليامات ليست طعاما، والرجل لا يأكلها لكونه جوعان، كأنك تسألني أن أتناول الموت.
قال «أنيتسيبي أودوزو»: نعرف أن مثل هذا الشيء لم يحدث من قبل، كما لم يحدث قط أن استدعى الرجل الأبيض كبير الكهنة خارج أرضه، فلتنظر حول هذه الغرفة، ماذا ترى؟ هل تعتقد بوجود «أوموارو» أخرى خارج هذا الكوخ؟
قال «إيزولو»: لا، أنتم «أوموارو». - نعم .. نحن «أوموارو»، فاستمع إذن لما سأقول، إن «أوموارو» تطلب منك اليوم أن تتناول تلك اليامات المتبقية، ثم عليك بتحديد موعد الحصاد القادم، هل تسمعني جيدا؟! قلت بأن تتناول اليامات اليوم وليس غدا، وإذا غضب «أولو» لارتكابنا شيئا بغيضا فعليه برءوسنا نحن العشرة، لن تكون مسئولا لأننا طلبنا منك ذلك؛ فالشخص الذي يشير إلى الطفل بإمساك الفأر يجب أن يجد له الماء الذي سيغسل به يده من الرائحة التي التصقت به، ونحن سوف نجد لك الماء، «أوموارو» هل أقول الصواب؟ - لقد قلت كل شيء، سوف نتحمل العقاب. - يا رجال «أوموارو» الكبار، أنا لا أستهين بما تقولون، ولا أرغب في ذلك، ولكنكم لم تستطيعوا القول بأن أفعل ما لا ينبغي عمله وأنكم ستتحملون اللوم، إنني كبير كهنة «أولو»، وما قلته لكم هو إرادته وليست رغبتي، ولا تنسوا بأنني أيضا أملك حقولا لليام، وكذلك أبنائي وأقربائي وأصدقائي الذين أنتم منهم. إنها ليست رغبتي في مضايقة كل أولئك الناس، ليست رغبتي أن أتسبب في معاناة أصغر رجل في «أوموارو»، إن الآلهة الصغيرة تستخدمنا أحيانا كسياط. - ألم يخبرك «أولو» عن سبب إزعاجه؟ وألا يوجد قربان لإرضائه؟ - لن أخفي شيئا عنكم، قال «أولو» بأن قمرين جديدين مضيا دون أن يكسر أحد جوزة الكولا من أجله، والتزمت «أوموارو» الصمت دون أن تفعل شيئا.
سأل «أوفوكا» المتحمس قليلا: وأي شيء كان يتوقع أن نقول؟ - لا أعرف يا «أوفوكا»، لقد سألني «نانيلوجو» سؤالا فأجبت. - لكن إذا «أولو» ... - «أوفوكا»، لا داعي لأن نتشاجر من أجل ذلك، لقد سألنا «إيزولو» عن سبب غضب «أولو» فأجابنا، ومهمتنا الآن هي كيفية إرضائه، فلنستأذن «إيزولو» أن نعود لنخبر الإله بأننا سمعنا عن غضبه، وأننا نعد أنفسنا الآن للإصلاح؛ فإن لكل خطأ أو إساءة قربانا خاصا من العملات القليلة، دعنا ننتظر الإجابة. - إذا سألتموني العودة إلى «أولو» فسوف أفعل، ولكن يجب أن أحذركم بأن الإله الذي يطلب فرخ الدجاج كقربان، قد يرفع القربان إلى الماعز إذا توجهتم بالسؤال مرة ثانية.
قال «أوفوكا»: لا تقل بأنني مغرم بالأسئلة، ولكنني شغوف لمعرفة الجانب الذي تقف فيه يا «إيزولو»، وأنا أتذكر قولك بأنك ستصبح السوط الذي سيجلد به «أولو» «أوموارو».
قال «إزيكويسيلي»: فلتستمع لي يا «أوفوكا» دون أن نتشاجر، لقد أوشكنا على إنهاء مهمتنا، وعلينا الآن انتظار كلمة «إيزولو» الموجهة إليه من «أولو»، لقد زرعنا اليام في مزرعة أناباتي.
وافق الآخرون، وبمهارة تحدث «نانيلوجو» في أشياء أخرى، وأشار إلى أمثلة عديدة من العادات التي تغيرت في الماضي، ثم تحدثوا جميعا عن تلك العادات التي انتهت في ظل ازدهارها، وأحيانا قبل أن تبدأ، أشار لهم «نانيلوجو» إلى التغيير الذي طرأ في الحصول على الألقاب، مذكرا إياهم باللقب الخامس، الذي كان يوجد في «أوموارو»، وكان اسمه لقب الملك، وكيف كان شروط الحصول عليه قاسية جدا لدرجة أن أحدا لم يحصل عليه؛ فقد كان أحد تلك الشروط أن يدفع الرجل ديون كل رجل وامرأة في «أوموارو».
ظل «إيزولو» طوال ذلك الحديث صامتا ولم يقل شيئا.
عاد «إيزولو» في الصباح إلى مزار «أولو»، كما وعد كبار «أوموارو»، ودخل الحجرة المكشوفة، ونظر حواليه دون أن تظهر على وجهه أي تعبيرات، ثم أسند ظهره على باب الحجرة الداخلية، والتي لا يجرؤ مساعدوه على دخولها. فتح الباب وهو يضغط بجسده، كان يرشد نفسه بأن يتلمس بيده اليسرى فوق جانب أحد الحوائط. وعند وصوله إلى نهاية الحائط كان يتحرك خطوات قليلة إلى اليمين، ثم وقف مباشرة في مواجهة الرابية التي تمثل «أولو». كانت الشجرة محاطة من كل الجوانب بعوارض تحمل كل جماجم كبيري الكهنة السابقين. وكان البرد يتسلل إلى المزار حتى في أشد الأيام حرارة، لوجود تلك الأشجار العملاقة بالخارج، التي تتلاقى رءوسها معا فتحجب الشمس، وكذلك بسبب ذلك النهر الذي يتدفق تحت أرض المزار. وهكذا كانت كل الأماكن القريبة من المزار باردة طوال العام، وكانت ثمة قطرات تتساقط من قمة الأشجار العتيقة.
كان جرس الكنيسة يدق لما كان «إيزولو» يلقي بحبل الأصداف، فانتابته الحيرة لحظة قصيرة لتلك النغمة الحزينة، التي تبدو أكثر قربا من الأذن بالمقارنة بسماعها في أرضه.
أعلن «إيزولو» أن مباحثاته مع الإله لم تثمر شيئا، وأن على القرى الست أن تتحمل مدة قمرين آخرين، فأثار ذلك الإعلان قدرا كبيرا من الخوف لم يعرفه أحد من قبل في «أوموارو».
لم يكن الاختلاف جديدا على «أوموارو»؛ فقواعد وأحكام العشيرة غالبا ما تؤدي إلى الشجار والنزاع المتكافئ الذي يتلاشى في النهاية، ودائما ما كانت توجد خلافات أخرى أقل أو أكثر قليلا، لكن لا شيء من تلك الخلافات يعادل الأزمة التي هي ليست بالنزاع الغريب، الذي يمكن التغلب عليه بطريقة أو بأخرى دون أن يترك آثاره. لقد شعر الأطفال في بطون أمهاتهم بهذه المشكلة.
كان «وافو» بالأمس يتصارع مع صديقه «أوبيلو»، عندما ذهب كلاهما لرؤية الفخ الذي يصطاد به الطيور فوق قمة شجرة الإيشيكو، اصطاد فرخ «أوبيلو» طائرا صغيرا جدا بينما كان فخ «وافو» فارغا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى، مما جعل «أوبيلو» يعتز بمهارته، فقال «وافو» بسخط: «ليس ثمة جفاف في الأنف».
لكن «أوبيلو» لم يهتم بتلك التسمية؛ لأن أنفه مستقيم ونطاق فتحة أنفه أحمر، وكان يدعو «وافو» بصاحب الأنف الغريب، لكنه لم يستطع أن يحولها إلى أغنية كما يفعل الآخرون، فوضع اسم «إيزولو» في الأغنية التي يغنيها الأطفال عند رؤيتهم كبش الضأن الخاص بالإله «أودو»، كانت الأغنية المصاحبة للتصفيق تتوسل إلى كبش الضأن أن يزيل الكومات القبيحة، فيجيب المغنون نيابة عن كبش الضأن مرددين: كيف لأحد أن يزيل درنات اليام؟
كان الطلب والإجابة عنه على شكل أغنية يتمان في وقت واحد مع التلويح بالدرنات، وكان «أوبيلو» يغني «إيزولو»، فلم يستطع «وافو» إيقاف ذلك، فتوجه إلى صديقه بضربة في فمه، سال على إثرها الدم من أسنانه الأمامية.
كان العداء تجاه «إيزولو» واضحا في عيون الجميع طوال الليل، وواجه أولاده صعوبة في طريقهم إلى الجدول، كما عانت زوجاته من نفس العداء في السوق، وفي اليوم التالي لسوق «كوا» ذهبت «ماتيفي» لشراء سلة صغيرة من «أوجنيكا»، زوجة «دولو»، كي تضع فيها الكسافا الجاهزة، كانتا تعرفان بعضهما تماما، وكثيرا ما اشترت منها «ماتيفي» وباعت لها، لكن «أوجنيكا» تحدثت معها هذه المرة وكأنها غريبة من قبيلة أخرى.
قالت «ماتيفي»: سوف أدفع لك
ega nata . - قلت لك إن الثمن
ega Aese . - أعتقد بأنها تساوي
ega ؛ فهي ليست سوى سلة صغيرة.
ثم التقطت السلة لتبين أنها صغيرة، بينما بدت «أوجنيكا» وكأنها نسيت وجود «ماتيفي»، وراحت تنظم أشياءها فوق الحصيرة. - ماذا تقولين؟ - ضعي السلة على الأرض حالا.
ثم غيرت «أوجنيكا» نبرات صوتها وقالت باستهزاء: أتريدين أخذها بدول مقابل، انتظري حتى تفسد اليامات وتعالي لشراء سلة الكسافا بثماني عشرة صدفة.
لم تكن «ماتيفي» من النوع الذي يقبل توبيخا من امرأة أخرى، فأعطت «أوجنيكا» أكثر مما قالت. وعندما وصلت المنزل بدأت تفكر في ذلك العداء الواضح، ثم قالت لابنتها «أوجوجو»: اذهبي وأحضري معك «أوبيكا».
كانت تجهز بعضا من جوزة اليام لوضعها في الشوربة عندما جاء «أوبيكا»، وجلس فوق الأرضية المكشوفة، واستند بظهره على العمود الخشبي عند منتصف المدخل. كان يرتدي شقة رفيعة من الملابس تتدلى بين القدمين والأرداف ومفتوحة عند الخصر. جلس متثاقلا كمن يشعر بالتعب، وكانت أمه تواصل تجهيز جوزة اليام. - قالت «أوجوجو» بأنك تريدينني!
أجابت وهي تواصل عملها: نعم. - هل تريدينني من أجل رؤيتك وأنت تعدين جوزة اليام؟
ظلت تواصل عملها، فأضاف «أوبيكا»: ماذا حدث؟ - أريدك أن تتحدث مع والدك. - في أي شيء ؟ - أي شيء؟! في ... هل أنت غريب في «أوموارو»؟ .. ألا ترى المتاعب التي تنهال علينا؟ - وماذا تتوقعين أن يفعل؟ أيعصي أمر «أولو»؟
أجابت بكل أسف وخيبة أمل: كنت أعرف أنك لن تسمعني. - وكيف أستمع إليك وأنت تشاركين الناس بالخارج على أن يضع زوجك رأسه في إناء الطهي.
قال «أوجبوفي أوفوكا»: أوشك أحيانا على موافقة أولئك الذين يقولون بأن الرجل قد لحقه بعض الجنون من أمه، لكنني عندما قمت بزيارته، بعد عودته من «أوكبيري»، كان حديثه معي حديث رجل سليم العقل، وقد أخبرته بمقولته الشهيرة، التي تقول بأن الرجل يجب أن يرقص الرقصة السائدة في عصره.
قال «أكيوبو» الذي كان في زيارة لقريبه: كانت لدي نفس الأفكار، وأنا أعرف «إيزولو» جيدا، إنه رجل فخور بنفسه، ومبعوثوه هم أعظم الأشخاص العنيدين الذين تعرفهم، لكنه لا يخالف قرار «أولو»، وإذا فعل فإن «أولو» لن يصفح عنه أو يستبقيه؛ ولذلك فإنني لا أعرف. - لم أقل بأن «إيزولو» يكذب باسم «أولو» أو لا يكذب، وإنما أتساءل عن عدم تناوله اليامات بعد أن أخبرناه بأننا سنتحمل عاقبة ما يحدث، لماذا؟ لأن القرى الست سمحت للرجل الأبيض أن يأخذه بعيدا، هذا هو السبب، وهو يحاول أن يرى قدرته على معاقبة «أوموارو»، وها قد واتته الفرصة، إن البيت الذي يخطط له كي يدمر به أمسكت فيه النيران، ووفر عليه عمال البناء. - لا شك أن الأزمات كثيرا ما ألمت به فترات طويلة، وحسب تقديري أنها لم تكن مثل هذه المرة، تذكر أن لديه حقولا من اليام مثلنا. - ذلك ما قاله لنا يا صديقي، لكن رجلا بمثل كبريائه عندما يريد أن يحارب فإنه لا يهتم إذا ما كان رأسه أيضا داخل الصراع، كما أنه نسي أن يذكر أننا سنواصل تقديم اليام إلى «أولو»، سواء تم إفساد حصادنا أو لم يتم. - لا أعرف. - دعني أخبرك بشيء، إن كاهنا مثل «إيزولو» يقود الإله إلى تدمير نفسه، حدث هذا من قبل. - أوه، ربما إله مثل «أولو» هو الذي يقود الكاهن إلى تدمير نفسه.
كان «جون جاجا جود كنتري»، راعي كنيسة القديس ماركز ب «أوموارو»، شاهدا على تصاعد الأزمة، وكان منزله في دلتا النيجر، التي هي على اتصال بأوروبا والعالم لمئات من السنين. أمضى «جود كنتري» عاما واحدا فقط في «أوموارو»، استطاع خلاله أن يظهر تقدما ملحوظا في كنيسته ومدرسته، فكان كثير من المدرسين والقساوسة يتباهون به .. ظلت حلقته الدراسية تنمو وتكبر حتى وصلت إلى ما يقرب من الثلاثين من الشباب والأولاد، بعد أن كانت تضم أربعة عشر فقط، وكان ذلك غريبا ومدهشا في بلد «الإيبو».
واجه «جود كنتري» خلال أسابيع من إقامته في «أوموارو» حربا صغيرة خاصة بالثعبان الملكي ضد «موسى أوناشوكو»، ذلك المسيحي المهم في «أوموارو»، ولم يتعمد معاداة «أوناشوكو» بقدر ما كان ينوي الوصول إلى هدفه، كان «جود كنتري» دعامة قوية في الكنيسة، ولم يكن من اليسير تغييره، فراح «أوناشوكو» يتحداه على الملأ بأسئلة عن الثعبان الضخم، لكن السيد «جود كنتري» لم يكن يهتم كثيرا بالأمر، ولم تكن لديه فكرة عن الشخص الذي يتعامل معه.
أقنع «أوناشوكو» كاتبا في «أوكبيري» بكتابة طلب إلى الأسقف في النيجر، نيابة عن كاهن «إيديميلي»، كان الطلب مليئا بالتهديد، وقد حذر فيه الأسقف بضرورة أن يترك أتباعه في «أوموارو» الثعبان الملكي وشأنه، وإلا فسوف يندمون على اليوم الذي وطئت فيه أقدامهم أرض القبيلة.
كان الأسقف يعاني من موقف خطير في جزء آخر من الأبرشية بسبب ذلك الثعبان، حين قاد مشرع شاب نشيط شعبه لحرق المزار وقتل الثعبان. وما كان من القرويين بعد ذلك إلا أنهم تعقبوا كل المسيحيين وأحرقوا بيوتهم، لكن الإدارة لم تتدخل بفرقتها، فكتب الضابط الحكومي خطابا شديد اللهجة إلى الأسقف بوقف تحركات أولاد بلده، كما كتب الأسقف خطابا شديد اللهجة أيضا إلى «جود كنتري» مؤكدا له أن راعي الأبرشية سوف لا يتدخل بشأن الثعبان، ولكنه في نفس الوقت يصلي من أجل أن يأتي ذلك اليوم قريبا، الذي يتحول فيه الكاهن وشعبه من عبادة الثعابين والأصنام إلى اعتناق الدين الحقيقي.
كان ذلك الخطاب من القس الكبير الأبيض تعزيزا لوجهة النظر، وقد برهن على أن الطريقة الصحيحة في التعامل مع الرجل الأبيض هو وجود قليل من الناس مثل «موسى أوناشوكو»، ممن يعرفون ما يعرفه الرجل الأبيض، وهكذا بدأ كثير من الناس، وبعضهم من ذوي الشأن، في إرسال أولادهم إلى المدرسة، وحتى «واكا» أرسل ابنه الذي كان يبدو بين أولاده أنه سيصبح فلاحا ماهرا.
تطورت مدرسة وكنيسة السيد «جود كنتري»، وراح يبشر بالإنجيل، ويعلم تعاليم النصرانية، حتى أصبح نموذجا طيبا أمام سياسة الأسقف الاسترضائية، وكتب تقريرا عن النجاح المدهش للإنجيل في «أوموارو»، في مجلة «كنيسة غرب أفريقيا».
رأى السيد «جود كنتري» أن الفرصة مناسبة للتدخل في الأزمة الحالية الخاصة بعيد اليام الجديد، فشارك في رأس المال لبناء مكان للعبادة أكثر استحقاقا للإله ول «أوموارو»، يقدمون فيه الشكر إلى الله واهب كل الأشياء الجميلة، إنها ساعة الرب لإنقاذهم من الدمار الذي يهددهم، وعندئذ يستطيعون أن يحصدوا محاصيلهم بدون خوف من «أولو».
سأل عضو جديد في لجنة كنيسة «جود كنتري»: أنستطيع إذن أن نخبر إخواننا الوثنيين أن يأتوا بيامة واحدة إلى الكنيسة بدلا من تقديمها ل «أولو»؟ - تماما، ولكن ليس يامة واحدة، دعهم يأتوا بأي عدد يرغبون فيه طبقا لما سيعود عليهم من الله القدير، وليس اليام فقط، ولكنهم يستطيعون تقديم أي نوع من المحاصيل أو الدواجن أو المواشي أو النقود، أي شيء، أي شيء.
لم تتضح علامات الرضا على وجه الرجل الذي طرح السؤال، وظل يهرش رأسه. - ألم تفهم بعد؟ - بل فهمت، ولكنني كنت أفكر في كيفية إخبارهم بأن يأتوا بأكثر من يامة واحدة، خاصة وأنهم - كما تقتضي العادة - لا يقدمون إلا يامة واحدة ل «أولو».
أجاب «موسى أوناشوكو»: إذا كان «أولو» ذلك الإله الزائف يستطيع أن يأكل يامة واحدة، فإن الإله الحي الذي يملك كل هذا العالم يحق له أن يأكل أكثر من واحدة.
انتشرت الأنباء، ولم يستطع أي شخص أن ينتظر حتى يرى حصاده وقد فسد، فسارعوا بتقديم قربانهم لإله المسيحيين، الذي سيحميهم من غضب «أولو ».
في أوقات أخرى كان لمثل هذه القصة أن تثير الضحك، لكن نفوس الناس قد فرغت تماما من الضحك.
الفصل التاسع عشر
كانت عائلة «أجبوفي أمالو» - الذي مات في موسم المطر - أكثر الناس الذين عانوا من تأجيل الحصاد، كان «أمالو» يملك ثروة، وفي الأوقات الطبيعية كانت طقوس الدفن ومراسم العزاء تستمر يومين أو ثلاثة أيام بعد الموت، لكن «أمالو» كان يعرف أن موته سيحين في وقت المجاعة، فاستدعى ابنه الأكبر «أنيتو»، وأخبره بتوجيهات الدفن، قائلا: عليك بعمل يوم أو يومين بعد أن يتم دفني، وليس بمقدورك أن تنظم مراسم دفني بلعابك، يجب إذن أن تنتظر حتى يتوفر اليام مرة أخرى.
كان يتحدث بصعوبة بالغة وهو يتنفس بالكاد، و«أنيتو» راكع بكلتا ركبتيه إلى جوار سرير البامبو، محاولا سمع همسات الرجل المتلاشية أمام ذلك التنفس القادم من تجويف صدر الرجل المريض الذي أضاف: ولكن لا تتأخر أربعة أقمار بعد وفاتي، ولا تنس أن تذبح ثورا.
لم يكن «أجبوفي أمالو» مثل ذلك الرجل الذي طلب من ابنه أن يقدم الماعز قربانا له، فذهب الابن إلى أحد العرافين، وقال: اسأل أبي إذا كان قد ترك أكثر من دجاجة! إن الجميع يعرفون أن «أمالو» كان يستحق أربعمائة ثور، ولم يطلب من ابنه أكثر مما يستحق من الوفاء.
اختار «أنيتو» وإخوته وأنسباؤه يوم ذكرى «أمالو» أثناء الانتظار باحتفال عيد اليام الجديد، ثم أعلنوا عن ذلك اليوم في كل «أوموارو» ولأقربائهم في القرى المجاورة، وكانوا في حيرة من أمرهم، هل يقومون بمراسم الدفن دون تقديم، مخاطرين بغضبهم، أم يرجئوا ذلك فيغضب «أمالو»؟ كان الاختيار الثاني يبدو مناسبا أكثر وأقل خطورة، ولكي يتأكدوا ذهب «أنيتو» إلى «آفا» ليترك الاختيار بين يدي والده، وعند وصوله إلى العراف اكتشف أنه لم يكن سوى اختيار واحد، ولم يجرؤ أن يسأل والده عن قبوله مراسم دفن رجل فقير أم أن بمقدوره تأخير الطقوس إلى حين تتوفر اليام في «أوموارو».
أجاب «أمالو» بالنفي، فدعا «أنيتو» أقرباءه للاجتماع، وأخبرهم بما قاله والده ، ولم يبد أحد علامات الدهشة، وتساءلوا: من يلوم «أمالو»؟ إن الخطأ عند «إيزولو»، لقد تصور أن أقرباء «أمالو» سيبددون ثروتهم في شراء اليام من القبائل المجاورة عندما تجف محاصيلهم، تلك القبائل التي أصبح أهلها أثرياء عن طريق إحضار اليامات الجديدة إلى «أوموارو»، وبيعها في سوق «كوا» وكأنها خلاخيل من العاج، كانت النسوة وكذا الأطفال والبسطاء من الرجال يأكلون تلك اليامات الأجنبية، وحين اشتدت المجاعة اضطر أيضا ذوو الألقاب وكبار «أوموارو» إلى تناول تلك اليامات القادمة من أرض غريبة. لم يكن أحد هناك عندما استخرجوها، وإذن فلا أحد يستطيع أن يقسم أنها يامات جديدة، وهكذا كان الناس يضحكون بجانب واحد من وجوههم، حتى إن ذوي الألقاب كانوا حريصين على تناول تلك اليامات دون أن يراهم أحد.
اشتدت حدة الورطة التي تعاني منها «أوموارو» على «إيزولو» وعائلته أكثر مما يتصور الناس، لكن أحدا لم يستطع في عائلة كبير الكهنة أن يسمح لنفسه بتلك المراوغات التي سمح الآخرون لنفسهم بها من أجل تناول اليام الجديدة، محلية كانت أم أجنبية؛ لأنهم كانوا ميسورين أكثر من معظم العائلات التي تملك مخزونا وفيرا من اليام القديمة، والتي ذبلت وتحولت إلى يام لا طعم لها.
أصبح عقل «إيزولو» مشغولا ومثقلا، وكان معتادا على الوحدة، ولكونه كبير الكهنة غالبا ما كان يمشي وحيدا أمام «أوموارو»، وكان باستطاعته دائما سماع الفلوت والأغنية الشهيرة التي كانت تهز الأرض بدون النظر إلى الخلف، كان عدد كبير من الناس يشدون بتلك الأغنية معا ونادرا ما كانوا ينقسمون، كما حدث ذات مرة في الأرض المتنازع عليها في «أوكبيري»، لكن انقسامهم لم يستمر فترة طويلة.
جاء عدد قليل من الناس إلى كوخه، وكان شغوفا لسماع ما تقوله «أوموارو»، لكنهم لم يقولوا شيئا، ولم يشأ «إيزولو» أن يظهر شغفه لسماعهم.
كان نوع من الهدوء الغريب يسود «أوموارو» في كل يوم جديد، ذلك النوع من الهدوء الذي يحرق الإنسان من الداخل، مثل حافة الموسى الزرقاء المتوهجة وهي تخترق جدار جوزة النخيل، وكان «إيزولو» يعاني من الألم المتواصل، فطلب الخروج من أرضه إلى ساحة سوق «كوا» لكي يصيح في «أوموارو».
لم يقترب أحد من «إيزولو» بما يكفي لمعرفة مدى عذابه وألمه، تخيلوا أنه جالس في كوخه يتأمل بسرور تلك المحنة التي تعاني منها «أوموارو»، لكنه كان أكثر من كل أتباعه معاناة. كان من الممكن أن يعتاد «إيزولو» ذلك الهدوء الذي يسود «أوموارو». غير أن ثمة أخبارا قليلة ومتناثرة كانت تصل إليه، وكانت لقلتها تبدو مثل حصاة ملقاة في كهف.
كان «أكيوبو» هو الرجل الوحيد بين أصدقاء «إيزولو» وأقربائه الذي لم ينقطع عن زيارته، لكنه دائما ما كان يلتزم الصمت أثناء الزيارة أو الحديث في أشياء لا أهمية لها؛ لكنه أراد اليوم أن يلقي بحصاته، فأشار إلى تطورات جديدة في الأزمة التي يعاني منها، ربما كان «أكيوبو» هو الرجل الوحيد في «أوموارو» الذي يعرف أن «إيزولو» لم يعمد إلى معاقبة «أوموارو»؛ فهو يعرف أن كبير الكهنة يعمل دون مساعدة أحد، فظل في كل زيارة حريصا على عدم تناول الأفكار القريبة من أذهانهما، لكنه اليوم لا يستطيع مواصلة الصمت أمام تحركات المسيحيين وهم يجنون حصاد «أوموارو».
قال «أكيوبو»: ما يحدث يسبب لنا قلقا شديدا؛ فهو يشبه صراع الإخوة حتى الموت، كما قال أسلافنا، وها هو شخص غريب يأتي ليرث أملاك الإخوة.
أشار «إيزولو» بكلتا كفيه المفتوحتين تجاه صديقه، وقال: ماذا تتوقع أن أفعل؟ إذا نسي أي رجل في «أوموارو» نفسه وأراد اللحاق بهم فدعه يفعل.
هز «أكيوبو» رأسه بيأس، وفور مغادرته صاح «إيزولو» مناديا «أودوش»، وسأله عن حقيقة المقدسات التي يقدمها الناس لأولئك الذين يريدون الانتقام من «أولو»، فأجاب «أودوش» بأنه لم يفهم. - ألا تفهم؟ هل يقول أولئك الذين تنتمي إليهم عن «أوموارو» بأنه إذا قدم أي شخص قربانا إلى مزاركم فسوف يجني اليامات في أمان؟ هل تفهم الآن؟ - نعم، لقد قال لهم مدرسنا ذلك. - قال لهم ذلك! هل تكرر علي ما قاله؟ - لا. - لماذا؟
ساد صمت قال بعده «إيزولو»: قلت لك لماذا لا تكرر ما قاله؟
ظل الأب والابن فترة طويلة ينظران إلى بعضهما بحزم وكلاهما صامت، ثم بدأ «إيزولو» بالحديث مرة أخرى وكان صوته مشبعا بالحزن: هل تتذكر ما قلته لك يا «أودوش» عندما أرسلتك للالتحاق بأولئك الناس؟
حرك «أودوش» عينيه تجاه إصبع قدمه اليمنى الكبيرة الممددة قليلا إلى الأمام، وحينئذ استطرد «إيزولو»: بما أنك أصبحت أخرس دعني أذكرك، لقد استدعيتك كما يستدعي الأب ابنه، وقلت لك أن تكون عيني وأذني بين أولئك الناس، ولم أرسل «أوبيكا» ولا «إيدوجو»، كما لم أرسل شقيقك «وافو»، لقد اخترتك خصوصا لترى وتسمع من أجلي، لكنني لم أكن أعرف في ذلك الوقت أنني أقوم بإرسال جمجمة ماعز، اغرب عن وجهي وعد إلى كوخ أمك؛ فلا أريد الكلام الآن، وعندما أكون مستعدا للحديث سوف أخبرك بما أفكر فيه، اذهب بعيدا عني، وعليك أن تفرح لأن أباك لا يستطيع الآن مناقشتك، قلت بأن تذهب من هنا أيها السحلية التي تجلب الخراب لجنازة أمها.
خرج «أودوش» وقد أوشك على البكاء، ثم شعر «إيزولو» ببعض الراحة.
مع قدوم قمر جديد تناول «إيزولو» اليام الثانية عشرة، وفي الصباح التالي بعث إلى مساعديه ليعلنوا عن عيد اليام الجديد، وفي ذلك اليوم كانت الطبول تدق في بيت «أمالو» إيذانا بذكرى الميت في الغد، وصل صوت دقات الطبول إلى كل القرى في «أوموارو»، ولم يكونوا في حاجة إلى من يذكرهم في مثل ذلك الوقت العصيب.
في المساء حلم «إيزولو» حلما غريبا وغير عادي، وفي الصباح ومع ضوء النهار أدرك كل شيء، كان حلما مثل ذلك الحلم الذي جاءه في «أوكبيري». لقد حلم بأنه كان جالسا في كوخه، فسمع نواحا خلف بيته، فيما وراء الحوائط الطويلة الحمراء، فأصابه قلق كبير. وتساءل عن هوية أولئك الناس، ثم فكر بالخروج لملاقاتهم، إيمانا منه بما قاله القدماء عن ضرورة مواجهة من يسير خلف البيت وإلا فإنهم لن يتوقفوا، لكنه كان يفتقر إلى العزم فوقف حيث كان، فبدأت الأصوات ودقات الطبول وأنغام الفلوت تعلو شيئا فشيئا، وكانوا يغنون: «انظر! الثعبان المقدس.
انظر! الثعبان المقدس .
نعم، إنه يرقد عبر الطريق.»
كانت الأغنية تخترق الأسماع مثل هبات الريح وفي طليعة هؤلاء كان النائحون يغنون بالقرب من الجثة مع دقات الطبول.
زعق «إيزولو» لاستدعاء عائلته كي يلحقوا به في مواجهة أولئك الناس، لكن لا أحد كان موجودا، فتحولت حيرته إلى تحذير، وصل إلى كوخ «ماتيفي»، فلم يجد شيئا سوى رماد حريق، فاندفع خارجا إلى كوخ «أوجوي»، ونادى عليها وعلى أولادها، لكن كوخها كان منهارا، وثمة عشب أخضر قليل كان ينمو فوق سقف القش، وبينما كان يجري نحو كوخ «أوبيكا» توقف إثر سماعه أصواتا جديدة خلف البيت، وكانت مراسم الدفن قد انتهت، كان الألم اللذيذ للمغني الوحيد قد استقر في الرأس مثل الندى: «ولدت حين كانت السحالي فرادى وأزواجا.
طفل إيديميلي .. قطرات الدموع الصعبة.
لبكاء السماء الأول.
مولد السماء .. مشيت في الأرض بقامة حقيقية،
وشاهدني النائحون أتكور في طريقهم.
ومن التأخير،
كان الجرس الغريب يرن بأغنية عن الحزن والوحشة: «اترك اليامات .. وتعال إلى المدرسة.»
وكان يجب أن أسارع،
عندما صاح الأطفال بمرح أو بجدية: انظر! المسيحي في الطريق .. ها ها ها ها ها ها ...»
انتشرت ضحكات المغني المفاجئة المهووسة في بيت «إيزولو»، وعندما استيقظ كان يتصبب بالعرق رغم البرد، وشعر بارتياح شديد لكونه مجرد حلم، لكن خوفا غامضا ظل ينتابه؛ لأن صوت الثعبان قد تلاشى مثل صوت أمه عندما أصابها الجنون، كانوا يدعونها في «أوموارو» «واني أوكبيري» وكانت مغنية عظيمة في شبابها، كانت تغني لقريتها بسهولة كما يتحدث بعض الناس، وكانوا يضعون قدمها في المقبض أيام القمر الجديد حين أصابها الجنون، وكانت تلك لحظات فزع كبير بالنسبة ل «إيزولو» الطفل.
في تلك الأيام ساعد ممر «أوجبا زولو بودو» في تنشئة «إيزولو»، الذي لم يعش طوال حياته مثل ذلك الليل المليء بالغضب والجنون، كانوا مثل فريق كبير من العدائين تغطيهم حبال الإيكيبلي ذات الخشخشة من رقابهم إلى رسغهم.
تعجب «إيزولو» لعدم القيام بتحيته عندما مروا بجوار بيته، أم أنهم قد فعلوا قبل أن يستيقظ.
حاول جاهدا أن ينام بعد ذلك الحلم والاضطراب الذي حدث في ممر «أوجبا زولو بود» غير أنه لم يستطع، بدءوا في إشعال قالب الطوب عند مكان «أمالو»، حسب «إيزولو» تسع دقات من دقات الطبول وكان النوم قد غادر جفنيه تماما، استيقظ وراح يتلمس مزلاج بابه بعد أن تناول منجله وزجاجة النشوق من جانب السرير، ثم تحسس طريقه إلى الحجرة الخارجية حيث شعر بقشعريرة جافة تسري في جسده، فسارع بتذكية النار التي كانت ما تزال حية في جذعي الشجرة الكبيرين حتى اشتعلتا قليلا.
كانت عائلة «أمالو» تحمل ضيقا شديدا تجاه «إيزولو» وعائلته، لكن «أنيتو» لم يجد مفرا من التوسل إلى «أوبيكا» الذي قال له: لا أريد أن أقول لك لا، رغم أن مثل هذا الشيء لا يستطيع الرجل عمله عندما يكون جسده كله ليس ملكا له، وأنا منذ البارحة أعاني من الحمى.
قال «أنيتو»: ما هذا؟! .. إن كل شخص هذه الأيام يبدو مثل إناء مكسور. - لماذا لم تسأل «ويك أوكباكا» أن يفعل نفس الشيء؟ - كنت أعرفه قبل مجيئي إليك، ولقد مررت ببيته.
نظر «أوبيكا» إلى الأمر بعين الاعتبار.
وقال «أنيتو»: كثير من الناس يستطيعون فعل ذلك.
فأجاب «أوبيكا»: حقا، كثير من الناس، ولكن بشيء من الجبن.
ثم قال «أوبيكا» لنفسه: إذا قلت لا فسوف يعتقدون أن «إيزولو» وعائلته يعمدون للمرة الثانية إلى تخريب قبر رجل قريتهم الذي لم يسبب لهم أي أذى.
لم يخبر زوجته بعزمه على الخروج تلك الليلة إلا بعد تناول وجبته المسائية، وقد كان «أوبيكا» دائما يدخل كوخ زوجته لتناول وجباته، حتى إن أصدقاءه كانوا يضايقونه قائلين بأن المرأة أفسدت عقله.
كانت «أوكواتا» على وشك الانتهاء من تناول حسائها عندما تحدث «أوبيكا»، مسحت الطاسة بإصبعها، ثم تحسست به لسانها وقالت: هل تخرج وأنت مصاب بالحمى؟ يجب أن تشفق على نفسك، إن المأتم غدا، أفلا يستطيعون فعل شيء بدونك حتى الصباح؟ - لن أبقى طويلا، إن «أنيتو» من جيلي، ويجب أن أذهب لرؤية ما يقوم بإعداده.
حافظت «أوكواتا» على هدوئها المشبع بالحزن، واستطرد «أوبيكا»: اقفلي الباب جيدا ، ولن يخطفك أحد، كما أنني لن أبقى طويلا.
ارتفع الصوت مناديا: كوم - كوم - كوم .. كوم.
كان تحذيرا لأي شخص بالإسراع إلى السرير وإطفاء كل الأنوار، وبعد أن توقف الصوت ساد هدوء ممتزج بصوت الحشرات، تقدم «أوبيكا» والآخرون ممن يحملون جوقة روح «آياكا» نحو دقات طبلة الأوكولو الأكثر انخفاضا، وكانوا يثرثرون ويضحكون، ثم التحق بهم الرجل الذي كان يقرع على الأيك تاركا طبلته في منتصف ضوء الصباح.
عندما بدأت الأيك تصدر ضرباتها التحذيرية الثانية والأخيرة كان «أوبيكا» يتحدث مع الآخرين وكأن تلك الضربات لا تعنيه، بينما كان «أوزومبا» العجوز الذي احتفظ برداء أرواح الليل جالسا في مكانه بجوار ضارب الدف، حين رفع صوته المتقطع مناديا «أوجولي» عدة مرات، ثم سأل عما إذا كان «أوبيكا» موجودا أم لا، تطلع «أوبيكا» ناحيته فأبصره بصعوبة في خفوت الضوء، ثم نهض ببطء وروية متوجها إليه ووقف أمامه، انحنى «أوزومبا» رافعا حافة لباسه المصنوع من الحبال الشبكية والمرصع بالإيكيبلي الرائع، رفع «أوبيكا» كلتا ذراعيه فوق رأسه حتى استطاع «أوزومبا» أن يربط حافة اللباس حول خصره بسهولة، ثم حرك ذراعيه كالرجل الأعمى فارتطم بالعصي الحديدية، شد العصا من الأرض ووضعها في يد «أوبيكا» اليمنى، وكانت دقات الأيك تواصل ضرباتها في ضوء المصباح الخافت، قبض «أوبيكا» بيده على العصا وأطبق أسنانه، وأمهله «أوزومبا» وقتا قصيرا كي يعد نفسه، وعندئذ رفع القلادة ببطء شديد فتزايدت ضربات الأيك، تقدم «أوبيكا» برأسه للأمام فوضع «أوزومبا» القلادة في عنقه قائلا:
gen Tun gen - Tun - oso mgbada bu nugwu (سرعة الغزال يمكن رؤيتها في التل).
وفور انتهائه من تلك الكلمات تأرجح «أوجبا زولو بودو» وصرخ قائلا: أيو أوكو! أيو أكو! ألقى قارع الطبول بعصاه، وأطفأ الضوء بسرعة، وزرعت الروح العصا في الأرض وارتدت، سحبها مرة أخرى فتلاشت في الريح تاركة ثمة كلمات في الهواء.
إن الذبابة التي تتبختر زهوا فوق رابية من الروث تبدد وقتها؛ لأن الرابية ستظل دائما أكبر من الذبابة، والظلام العظيم يمد الكلاب بقرون، إن من يبني منزلا قبل الآخر يستطيع التباهي بمزيد من الأواني المكسورة ، والرجل الذي يسير في مقدمة أتباعه يكتشف الأرواح في الطريق، إن الخفاش يعرف وقاحته فيختار الطيران في الليل، وعندما يلوث الإنسان الهواء عند قمة شجرة النخيل يرتبك الطير، ويشرب الإنسان سيئ الحظ الماء فيلتصق بأسنانه.
كان الرجال الثمانية الذين يغنون في الكورس ما زالوا يتحدثون حيث تركهم «أوبيكا»، جاء «أوزومبا» وجلس معهم انتظارا لعودته، كانوا يتحدثون عن الثور الكبير الذي ابتاعه أولاد «أمالو» لجنازته عندما سمعوا الصوت يعود، زحف رجال الكورس على أقدامهم واستعدوا للغناء، وفور دخول «أوجبا زولو بودو» الكوخ اندهشوا جميعا لعودته، فقال «أوزومبا» بفخر: ليس «أوبيكا»، إنه شخص حاد الطباع، أعطني ولدا حاد الطباع حتى لو كسر الأوعية.
وعندئذ دخل «أوجبا زولو بودو»، وانتزع «أوزومبا» القلادة من رقبته معلنا عن اسمه، لكن «أوبيكا» لم يجب، أعلن عن اسمه مرة ثانية متحسسا صدره، غير أنه أيضا لم يجب.
صبوا بعض الماء البارد فوق وجهه وجسده، وما إن بدأت أغنية الأياكا حتى توقفت، وعندئذ وقفوا جميعا غير قادرين على الكلام.
قبل صياح الديك الأول كان «إيزولو» باقيا في كوخه، وكانت النار ما تزال متوهجة في الخشب الكبير، ولكن بدون لهب، هل هو وقع أقدام ذلك الذي يسمعه «إيزولو»؟ أرهف السمع، نعم، إن وقع الأقدام يقترب شيئا فشيئا، وكذلك كانت الأصوات ترتفع، اشتاق لمنجله، أي شيء يمكن أن يكون؟
صاح «إيزولو» قائلا: من؟
توقف وقع الأقدام، ولم تعد ثمة أصوات، وساد صمت بعض الوقت، كان الصمت ثقيلا مع وجود الغرباء بالخارج في الظلام.
قال أحدهم: أيها الناس. - من الذي ينادي؟ بندقيتي جاهزة. - «إيزولو»، إنني أنا «أوزومبا». - «أوزومبا»؟ - نعم. - ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟ - لقد استبد بنا مكروه، لقد أتت الماعز على أوراق النخيل.
تنحنح «إيزولو»، وراح يذكي النار ببطء، وقال: دعني أشعل النار لرؤية وجوهكم.
كانت إحدى عصي الخشب المستخدم في النار طويلة جدا، فكسرها فوق ركبته، ثم نفخ في النار مرات قليلة، فتولد اللهب، وقال: ادخلوا كي أسمع ما تقولون.
فور رؤيته جسد «أوبيكا» قفز على قدميه شاهرا منجله: ماذا حدث له؟ من فعل ذلك؟ أقول من؟!
بدأ «أوزومبا» في تفسير ما حدث، لكن «إيزولو» لم يسمع شيئا، وسقط المنجل من يده، وتهاوى فوق كلتا ركبتيه بجانب الجثة باكيا وهو يقول: ابني، أين كنت يا «أولو» عندما حدث ذلك لي؟
ثم دس وجهه في صدر «أوبيكا».
من أول شعاع من ضوء الصباح كانت كل الترتيبات قد تمت لإعلان خبر الوفاة، وكان قارعو طبول الموت مستندين على الحائط واضعين جانبا زجاجة البارود، تاه «إيزولو» وسط الناس المشغولين بمحاولة المساعدة، أبعد المكنسة الطويلة التي يستخدمونها في تنظيف الأرض فتناولها وراح يكنس، حتى سارع شخص ما وتناولها منه، ثم قاده من يده إلى كوخه.
قال بصوت خفيض: سرعان ما سيأتي الناس إلى هنا ولم يزل المكان في حاجة إلى النظافة. - لا تفكر في ذلك، سوف جد شخصا ما للقيام بذلك حالا.
كانت وفاة «أوبيكا» كالصاعقة بالنسبة لكل «أوموارو»؛ فقد كان رجلا نادرا، وبدا «إيزولو» وكأنه رجل ميت.
توقع بعض الناس أن يكون «إيزيديميلي» مبتهجا، لكنه ليس من ذلك النوع من الرجال، بالإضافة إلى معرفته الجيدة بخطر مثل ذلك الابتهاج، وكان كل ما قاله في هدوء: كان يجب أن يتعلم أن هناك حدودا لجرأته في المرة القادمة.
لم تكن هناك مرة قادمة بالنسبة ل «إيزولو»، أية مرة قادمة يمكن أن تكون؟
قال لنفسه: أريد العودة سريعا إلى كوخي لأحرك الإناء وأكتشف الخطأ، قد يكون شخص ما في بيتي، وربما يكون طفلا قد انتهك حرمة محظوراتي! لا.
انهار «إيزولو» على الأرض في دهشة مطلقة؛ فلم تكن وفاة «أوبيكا» مجرد رياح بسيطة، كانت رياحا عاتية، دائما ما يتلقى الرجال رياحا قوية، والرياح هي التي تصنع الرجال، لكن الرجفة الهادئة للألم تحت جسد «إيزولو» كانت تنبئ عن معاناته.
كان «إيزولو» دائما منافسا لحزنه، ولم يستطع أي نوع من الألم أن ينال منه، لكنه الآن يسأل نفسه مرة أخرى: لماذا اختار «أولو» أن يتصرف هكذا معي؟ لماذا طرحني أرضا وأهال الطين على جسدي؟ ماذا كانت جريمتي ؟ ألم يتكهن بإرادة الإله ويطعها؟ من سمع أن قطعة من اليام حرقت طفلا وهي في كف أمه؟ ماذا يريد الرجل حين يرسل ابنه بالشقفة لإحضار النار من كوخ الجيران تاركا المطر ينهمر عليه؟ ومن يسوق ابنه إلى النخيل لجمع الجوز ثم يأخذ الفأس ويقطع الشجرة؟
مثل هذه الأشياء تحدث اليوم أمام أعين الجميع، فإلى أي شيء يشير ذلك؟ هل هو انهيار ودمار كل شيء؟ ها هنا يجد الإله نفسه عاجزا، وربما يركب طائرة وينظر نظرة أخيرة من الخلف، ويصرخ في عباده: إن الفأر لا يستطيع الفرار أسرع مما يجب، دعه يصنع طريقا للسلحفاة!
هكذا فكر «إيزولو»، لكنها كانت مجرد أفكار تركت شجا في رأسه؛ فقد كانت وفاة «أوبيكا» تؤكد رحمة الإله الذي جعل «إيزولو» في أيامه الأخيرة يعيش في بهاء وعجرفة وجعل منه كاهنا مهووسا.
عاد «وينتربوتوم» في تلك الأثناء من رحلته الشفائية في إنجلترا وقد تزوج الطبيبة، ولم يسمع ب «إيزولو» مرة أخرى.
كان «جون وديكا» خادم «وينتربوتوم» قد ترك خدمته للقيام ببعض الأعمال الصغيرة في تجارة الدخان، لكن الآلهة على ما يبدو وقسوة الأحداث الأخيرة جعلت «وينتربوتوم» يحتاج إليه مرة أخرى، فكان «وديكا» أول من نقل النبأ إلى الإدارة الحكومية.
عرف زعماء «أوموارو» وشعبها النتيجة النهائية التي كانت بدهية بالنسبة لهم؛ فلقد وقف الإله بجانبهم ضد الكاهن الطموح والعنيد. لقد وقف بجانب حكمة أسلافهم؛ فالرجل مهما كان عظيما لن يكون أعظم من شعبه، ولا أحد يستطيع أن يقف ضد عشيرته.
اختار «أولو» وقتا عصيبا لتأكيد تلك الحقيقة، وقد أحدث تدمير كاهنه نكبة لنفسه مثل السحلية في الخرافة التي خربت بيديها جنازة أمها، اختار الإله مثل ذلك الوقت لمعاقبة كاهنه أو التخلي عنه؛ لأنه كان الوقت الذي حث فيه «إيزولو» الناس لنيل حرياتهم حيث؛ كانت «أوموارو» متأهبة لذلك، استمر الحصاد المسيحي أياما قليلة بعد وفاة «أوبيكا»، وقد شهد الحصاد كثيرا من الناس أكثر مما كان يحلم «جود كنتري».
أرسل الناس أولادهم لتقديم اليام إلى الدين الجديد، وبعد ذلك أصبح حصاد اليام لدى أي من الرجال يتم باسم الابن.
Shafi da ba'a sani ba