فعلى الحكومة البريطانية أن لا تتوقع أن العراق قد بلغ شأنا بعيدا في الرأي، فإن الحكم الديمقراطي الذي أنشئ في العراق جاء سابقا لأوانه بالنظر إلى الأحوال المحلية، وعلى المرء أن لا يتوقع العظائم من أناس صغار ينوبون عن مناطق يغلب فيها الجهل، ولا يسعنا إلا الاعتراف بأن الموقف يوجب الحيرة حتى البريطانيين، وأصعب من ذلك العراقيين الذين نظامهم في الحياة مبني على الإيثار - الغيرة - وهو رائدهم في السياسة، فلماذا تظل إنكلترا في العراق وتنفق كل سنة ملايين الليرات على تلك البلاد، فالعراق لا ينوي أن يمنح طلاب الامتيازات الاقتصادية من البريطانيين شروطا أسهل من الشروط التي يعطيها لغيرهم من الأجانب، والمسائل السياسية الأسيوية أبعد من إدراكه؛ لأنه ما من عراقي يعتقد بأن بريطانيا تنوي الخروج من العراق، وكل ما قيل في هذا الشأن يحسبه محض إيهام لحمل المجلس التأسيسي والشعب على قبول المعاهدة. وقد أدى هذا الاعتقاد إلى إثارة الخواطر بقصد تعديل المعاهدة، حتى إن في بغداد بعض التجار يعضدون فكرة رفض المعاهدة؛ لأنهم يعتقدون أن البريطانيين يظلون في العراق على صورة دائمة إذا رفضت المعاهدة.
فلإزالة الشكوك يستحسن نشر بلاغ يبسط فيه ما تناله بريطانيا العظمى من بقائها في العراق، وما تنوي الحكومة البريطانية عمله إذا لم يبرم المجلس التأسيسي المعاهدة. أما العراقيون فإنهم يتصورون في الوقت الحاضر أن باستطاعتهم تهييج الخواطر على ما يشاءون، وليس حجة من الحجج التي يدلي بها أصدقاؤهم البريطانيون تقنعهم بأن ما يعتقدونه أضغاث أحلام، فليت شعري ماذا يتمكن خصوم المعاهدة من تقديمه بدلا منها وقد وقف للعراق بالمرصاد على حدوده ابن السعود والفرس ومصطفى كمال وفرنسة في سوريا وشرق الأردن، فإذا جلت بريطانيا العظمى عن العراق تسابق هؤلاء الجيران المكتشفون بالعراق والفوضى الداخلية لافتراس الفريسة، فتذهب أتعاب العشر سنوات ومشقاتها أدراج الرياح.
وقد انبرت جريدة «العالم العربي» للرد على «بغداد تيمس» بمقالات دافعت فيها عن الرأي العام العراقي وحقوق الشعب، حتى جريدة «العراق» التي كانت تؤيد المعاهدة وتدعو لإبرامها استنكرت موقف «بغداد تيمس » فيما كتبته ونقلته عن «لندن».
ثم أبرم المجلس التأسيسي هذه المعاهدة في إحدى الليالي بعد تأزم سياسي في البلد ومظاهرات وهزات الجماهير يقابلها عنف في إجراءات الحكومة، وطفق المجلس ينظر في مشروع الدستور العراقي، وعندما أنجزه أبرم بعده مشروع قانون الانتخاب لمجلس النواب.
ويلاحظ متتبع الحال في الصحافة العراقية أنها لم تبد اهتماما يذكر بمناقشة الدستور الذي شرعه المجلس التأسيسي شأنها في اهتمامها بالمعاهدة، ومرجع ذلك إلى أن الثقافة القانونية الدستورية كانت ضعيفة في العراق في ذلك الوقت، وليست الحال على هذا المنوال لما وضع «الدستور المصري»؛ فقد قابلته الصحافة المصرية بسيل من المقالات والدراسات؛ لأن الفقه الدستوري والثقافة القانونية راسخان في وادي النيل من عهد بعيد، كما أننا اعتدنا أن نشغل أنفسنا بالحس السياسي وتحريك العواطف الوطنية. أما الأسس والتعمق إلى الأغوار في أحوالنا وسياستنا، فنهملهما غالبا إبان اشتداد الحركة.
بعد انفضاض «المجلس التأسيسي» وقد أنجز المهام المودعة إليه، أخذت الدولة في السير لاستكمال وسائل الحكم والتشريع، فقامت وزارة قوية برئاسة عميد المعارضة في المجلس ياسين باشا الهاشمي، فاختار أعضاءها من شخصيات لها منزلتها وكفايتها، وصارت الوزارة تنجز الأعمال بسرعة، فنشر الدستور وقانون انتخاب النواب ووضعا موضع التنفيذ، ونشر قانون الجنسية العراقية وبدئ العمل بانتخاب المجلس النيابي الأول.
جريدة حزب الاستقلال في الموصل
في هذه المرحلة الخطيرة من حياة البلاد، وصلت إلى العراق «اللجنة الأممية» التي قررت «عصبة الأمم» إيفادها لتدقيق «قضية الموصل» والفصل في أي المطالبين أحق بأن تبقى له العراق أم تركية؟ فكانت أول بادرة للنشاط السياسي قيام جماعة من المشتغلين بالسياسة والمعنيين بالمصلحة الوطنية بتكوين حزب سياسي في الموصل دعوه «حزب الاستقلال». وقد نص منهج هذا الحزب في مواده الأولية على الاستقلال التام للقطر العراقي بحدوده الطبيعية، وتنشيط حركة الوحدة العربية في الخارج ...
ولهذا الحزب يد تذكر في الدفاع عن قضية الموصل عندما زارت اللجنة الأممية يرأسها المسيو دوفرسن الأسوجي تلك الأصقاع، ومما استعان به الحزب على النجاح في أعماله إصداره جريدة باسم «العهد»، وهو الاسم التاريخ المحبب عند العاملين في الكفاح الاستقلالي - جريدة يومية عربية - ظهرت في الموصل في 20 كانون (يناير) سنة 1925 على أن تنشر ثلاث مرات في الأسبوع مؤقتا. وقد حررها كاتب سوري من أحرار العرب «عثمان قاسم»، وكان طريد الحكم الفرنسي في الشام، وتوفر لفيف من الأدباء الموصليين، وبخاصة أعضاء الحزب على تغذية الجريدة بالأفكار والكتابات، بحيث تخرج على الجمهور قطعة متوهجة من إيمان وطني وعواطف صادقة وروح حي، ولم تسلم «العهد» من غضب الحكومة، فعطلتها، فأصدر الحزب بدلها جريدة «فتى العراق» حصل على امتيازها أولا متى سرسم، ثم انتقلت إلى عهدة المحامي سعد الدين زيادة ومنه إلى غيره.
جريدة حزب الشعب
Shafi da ba'a sani ba