وعندما كانت الإصلاحات التي ذكرناها سائرة في طريق تقدم البلاد، كانت روح الأشياء تتمشى في الجيش يوما بعد يوم؛ ذلك لأن معظم الترقي بين الضباط كان قاصرا على الأتراك والشراكسة، وقلما وجد وطني متقلدا إحدى الرتب والألقاب السامية، وكان الضباط المصريون يتوقعون أن ينال الجيش شيئا من الإصلاح العام، الذي دخل البلاد فلم يحظوا بأمنيتهم، فحقدوا على الحكومة وازداد سخطهم، حينما أصدر «عثمان رفقي باشا» الشركسي ناظر الحربية قانون القرعة القاضي بمنع الترقي من تحت السلاح، إذ جعلت فيه مدة الخدمة العسكرية في الجيش العامل أربع سنوات فقط، يذهب الجندي بعدها إلى بلده «رديفا» خمس سنوات، واحتياطيا ست سنوات والمدة الأولى غير كافية للحصول على معلومات عسكرية تؤهل الجندي للرقي. عند ذلك تضجر بعض الضباط المصريين بزعامة علي فهمي وأحمد عرابي وعبد العال حلمي من أمراء الآلايات، وقرروا الاحتجاج على ذلك بإرسال معروض إلى رياض باشا رئيس النظار يطلبون فيها:
أولا:
عزل «رفقي باشا» من وزارة الحربية.
ثانيا:
إجراء تحقيق في كفاءة من فازوا بالترقي حديثا بدون استحقاق.
أحمد عرابي باشا زعيم الثورة العرابية.
وكان المعروض شديد اللهجة، فأدى إلى سلوك الحكومة مسلكا جعل هذه الحادثة فاتحة «للثورة العرابية».
ولم يكن أحمد عرابي المحرك الأول لهذه الثورة، وإنما كان المحرك لها «علي فهمي بك»؛ لأنه أمير الألاي المعهود إليه حراسة القصر الخديوي، وكان قد أوقع به رفقي باشا عند الخديوي لأمر في نفسه، فحقد عليه علي فهمي وعمل على النكاية به، أما إطلاق لفظ «العرابية» على هذه الحوادث؛ فلأن أحمد عرابي هو الذي بعد انضمامه إلى أصحاب الحركة الأولين، ظهر عليهم حتى صار هو المحرك لكل شيء فيما بعد، والسبب في ظهوره على غيره أنه كان قبل الانضمام إلى الجيش يطلب العلم بالأزهر الشريف، فكانت له مقدرة متوسطة في الخطابة لم تكن عند غيره من الضباط، فضلا عن انتمائه للبيت النبوي الشريف يرشحه لأكبر زعامة إسلامية، فأصبح بكل هذا صاحب المقام الأكبر في الثورة، واعتقد الناس في إخلاصه؛ لأنهم لم يروا له غرضا خاصا مما كان في غيره من أصحاب هذه الحركة.
أما المعروض الآنف الذكر فقدمه إلى رياض باشا أحمد عرابي وعلي فهمي بأنفسهما في 13 صفر سنة 1298ه الموافق 15 يناير سنة 1881م، فألح عليهما أن يسترجعاه، وهو في نظير ذلك يبذل غاية وسعه في تلبية مطالبهما، فلما لم يذعن الضابطان وسمع الخديوي بالأمر استشاط غضبا وأمر بتأديب هؤلاء العصاة، وقمع روح الفتنة من الجيش. وفي يوم 28 صفر سنة 1298ه/30 يناير سنة 1881، عقد مجلس برئاسة الخديوي، وقرر القبض أولا على الضابطين المشار إليهما ومحاكمتهما أمام مجلس حربي، ثم النظر في مظالمهما.
وفي غرة ربيع الأول استدعي الضابطان إلى نظارة الحربية دون أن يخبرا بأن ذلك لمحاكمتهما. ولكن قرار مجلس النظار كان قد بلغهما سرا فاتفقا مع ضباط فرقهما ورجالهما على أن هؤلاء إن وجدوا أن رئيسيهما لم يعودا بعد ساعتين يذهبوا لإنقاذهما بالقوة. ولما بلغ الضابطان نظارة الحربية (قصر النيل) قبض عليهما، وأحيلا في الحال على مجلس عسكري لمحاكمتهما.
Shafi da ba'a sani ba