273

Safwat Azal

صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر

Nau'ikan

إذا كان الله تعالى قد خص بعض الناس ببعض المواهب السامية، وميزهم بسجايا باهرة فقد خص هذا العالم الجليل والراعي الصالح الكريم بكل المواهب، وجمع فيه السجايا المحمودة إذ رأى فيه خلاصة الطهر ومعنى الزهد وتمام الإيمان وكمال الفضل، وإن الطائفة القبطية الأرثوذكسية بوجه عام وأقباط أبروشيته بوجه خاص لأسعد خلق الله حظا بوجود هذا الشهم العامل، والكاهن العالم بينهم، كيف لا ونيافته بلا شك ولا جدال من أذكى وأكفأ كبار رجال الكهنوت الأرثوذكسي علما، وأتقاهم ورعا وأحكمهم زهدا وأكملهم فضلا وأدبا، ثم أضف إلى كل هذه الصفات ما وهبته الطبيعة من رخامة الصوت، تلك الرخامة التي امتاز وتفرد بها حتى يخيل لسامعه، وهو قائم بخدمته اللاهوتية أنه يسمع نشيدا ملائكيا أو نغمات موسيقية من أشهر العازفين، وكم أشجى وأبكى العيون من تأثير صوته الشجي عندما يقف واعظا في الشعب، فإنه متى وعظ أثر في قلوب سامعيه، وجذب إليه الأفئدة الصخرية طائعة تحت تأثير كلماته الذهبية وحكمه وإرشاداته المنطقية.

نيافة الحبر الجليل والراعي الصالح الأنبا لوكاس مطران كرسي قنا وقوص والعضو المعين لمجلس الشيوخ.

ولكم دعي في أفراح سراة الأمة لإجراء عقد الأكاليل، فسر السامعين بفصاحة لسانه وقوة بيانه وسحر كلامه وشجي ألفاظه، ولا تسل عن مقدار تلهف سكان مصر القاهرة لرؤية شخصه الكريم، عندما تذيع الجرائد اليومية خبر تشريفه لقضاء بضعة أيام بها، فترى القوم يتساءلون في أي كنيسة سيخدم هذا العالم الجليل والحبر الكريم، حتى متى عرفوا مقرها ذهبوا أفواجا حتى تضيق بهم الكنيسة على سعتها؛ وذلك لسماع سحر بيانه ورقيق ألفاظه وجمال منطقه وشجي صوته العذب، وفي كل ذلك الدلالة الكافية على ما له من المكانة العالية والاحترام الكلي لشخصه الكريم.

مولده ونشأته

ولد هذا الشاب التقي ببندر دمنهور سنة 1873م من أبوين تقيين، فسمياه ميخائيل، وربياه على التقوى والصلاح، حتى إذا ما بلغ الثامنة من العمر أدخلاه المدرسة القبطية بها، ولم يمض طويل زمن حتى كان موضع إعجاب أساتذته لذكائه، وفرط نباهته ولتفوقه على زملائه الطلبة، وقد رأى وهو في الثانية عشرة من عمره دافعا غريبا وميلا كليا للرهبنة، وترك زخرف الدنيا فتوجه إلى دير قريب هناك، فلما علم أبواه بغيابه لحقا به وأثنياه عن عزمه، وأرجعاه مرغما وأدخلاه المدرسة، فظل بها حتى أتم دروسه، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، ولما أخرج من المدرسة شعر أنه لم يدرس من العلوم إلا قشورا فعول على مطالعة الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية، فأقبل عليها بشغف عظيم، وفي سنة 1892م تعين مدرسا بمدرسة منفلوط القبطية وعمره وقتئذ تسع عشرة سنة، ومكث بها سبع سنوات متواليات كان فيها مثال العفة والاستقامة والجد والإقدام، ولم يتركها إلا لكي ينفذ تلك الإرادة الإلهية، ويجيب دعوة من دعاه واختاره فدخل دير البرموس بوادي النطرون، وذلك في أول توت سنة 1616ق، وهو في السادسة والعشرين من العمر ودعي باسم ميخائيل البرموسي، وبعد خمسة شهور من تاريخ دخوله للدير كتب نيافة مطران الإسكندرية إلى رئيس الدير بأن يبعثه إلى الإسكندرية، وذلك لما بلغه عما عليه صاحب الترجمة من دلائل الزهد وليتحقق بنفسه مما سمعه عنه فرأى فيه علما وورعا وذكاء ونباهة، ففكر في عدم حرمانه من تتميم علومه اللاهوتية، فأرسله إلى مدرسة رسيدابرموث بأثينا، فعاد منها بعد أربعة شهور فرسمه قسا في أول فبراير سنة 1901، ثم وكيلا لمطرانية الإسكندرية وواعظا بها فكان فمه يقطر الآيات الذهبية، ثم رسمه قمصا في فبراير سنة 1903، ثم رسم أسقفا لكرسي قنا وقوص في 15 مارس سنة 1903، ثم عند رسامته انتقل إليه وفد من كبار الإسكندريين نيابة عن أقباط الثغر حاملا هديتين ثمينتين، وهما صليب من الذهب الخالص مكتوب على أحد وجهيه «رأس الحكمة مخافة الله»، وساعة ذهبية سلسلتها من ذهب أيضا مكتوب عليها ما هو مكتوب على الصليب، وذلك تقديرا لخدماته وعظيم إرشاداته وحكمته وصدق وطنيته ومكانته السامية في القلوب، ثم رسم مطرانا في 19 أغسطس سنة 1906م، ولم ير أمام عينه سوى ما يجب أن يعمله لأبنائه المخلصين، فشكل جمعية من كبار أسرهم وقاموا بتأسيس مدرسة بلغت نفقاتها ما ينوف عن الألف وخمسمائة جنيها، وأنشأ قصرا فخما للمطرانية، وهو أول من فكر في إنشاء قسم ثانوي بالصعيد حتى صار هذا القسم من عداد المدارس الأميرية، وله عدا ذلك مآثر كثيرة لا يحصى عددها، كما أنه جدد عدة كنائس وأصلح كثيرا من الكنائس القديمة؛ ولذا أجمعت رعيته إلى محبته حتى امتلك القلوب والمشاعر، حيث وجدوا في شخصه الجليل الراعي الصالح والأب التقي، الذي يمكنه أن يسوس شعبه بأصالة الرأي والحزم والكفاءة التامة مع التقوى والفضيلة.

تعيينه عضوا معينا لمجلس الشيوخ المصري

ولما ذاع فضله وفاح ورعه وتجلت كفاءته الشخصية عدا مواهبه الدينية والأدبية والعلمية، فقد وقع اختيار حكومتنا الدستورية في عهدها الجديد على تعيين نيافته عضوا بمجلس الشيوخ المصري، نظرا لسعة علمه وجمال صفاته وسمو أخلاقه، وعالي تربيته فصادف هذا الاختيار ارتياحا من جميع طبقات الشعب المصري عامة والأقباط خاصة؛ لأنه والحق يقال جدير لهذا الالتفات السامي وبكل رعاية.

صفاته وأخلاقه

ونيافته مشهور بدماثة الأخلاق وطلاقة الوجه وحلاوة الحديث والذكاء المفرط، وغزارة العلم والتواضع المتناهي، وسلامة القلب والورع والتقوى، فتجده مخلصا لشعبه غيورا على دينه، محافظا على الفروض الدينية كارها لنعيم الدنيا راغبا عنها.

أدام الله حياته ومتعه بدوام الصحة والسعادة، وأكثر من أمثاله بين رجال الأكليروس الأرثوذكسي، إنه كريم قدير.

Shafi da ba'a sani ba