هناك تغيير آخر لم تلحظه إقبال، وإنما أحسه حسين، هذه العاطفة التي بدأت تشغل قلبه وفكره نحو إقبال ... إنه لم يستطع أن يسميها حبا.
وفي نهاية هذا الفصل تبدو هذه العاطفة غامضة غير واضحة، إن مظهرها الوحيد هو هذا الميل الطارئ في الركون إلى المنزل والحديث إلى إقبال، والهدايا الصغيرة التي بدأ يحملها إليها، ونستطيع نحن أن ندع حسين، وقد بدأ يعتمل في صدره هذا التغيير، وإقبال وقد بدأ يطرأ عليها تغيير آخر ... تغيير من الصعب علينا أن نتبينه؛ لأن مظاهره لم تخرج بعد إلى عالم الوجود ...
وفي هذا الجو ينزل الستار على الفصل الثاني، ويرفع عن الفصل الثالث ... إن أثاثه هو نفس أثاث حسين في الفصلين السابقين ... وسنلحظ أول ما نلحظ قطعة واحدة قد زادت في الأثاث هي التليفون ... وربما عاوننا على استساغة الحوار والحوادث في هذا الفصل الأخير أن نعلم أن حسينا قد أدخل التليفون تحقيقا لرغبة نفسه في أن يتصل بإقبال في ساعات عمله ليسمع صوتها ... إن صوتها أصبح ضروريا لتنتعش نفسه.
أما ملابس هذا الفصل فقد تغيرت فعلا؛ فإقبال أصبحت شيئا آخر بما طرأ على ملابسها من تغيير ... إن الصنبور الذي كان يصب الذهب في الحانات والسهرات قد انتقلت فوهته، وبدأ يصب الذهب في أماكن أخرى؛ عند حائكة ثياب إقبال، وعند صائغ الحلي الذي ملأ معصمها وجيدها بالحلي والجواهر ... إنك لن ترى هذا الصنبور بالطبع، ولكنك سترى إقبال نفسها غارقة في السيل الذي انهمر من فوهته ... وليس هذا هو كل ما طرأ على إقبال من تغير، لقد احتفلت منذ شهور بعيد ميلادها الثلاثين، وقدم لها حسين حلية ثمينة، ودفع لها ثمنا يزيد كثيرا على ما صرفه عليها في السنوات الأولى لحياتها معه، وأقام مأدبة لأصدقائها كلفته بضع عشرات من الجنيهات.
وفي هذه الحفلة أنكرت أنا إقبال كما أنكرت حسين ... أنكرت إقبال المتعالية الأنيقة التي كستها أناقتها جمالا، وأفاضت عليها أنوثة الثلاثين جاذبية وسحرا، وهي تنتقل بين المدعوين، وتوزع دعابتها عليهم، ليس دعابتها فقط ... وإنما نظراتها أيضا، وأنكرت حسين ... حسين الذي أضحى الآن على أبواب الخمسين ... الخمسين لرجل أفرط في الاستغراق في متعته ... أفرط في استهلاك حواسه وجسده، فطغى الكلال والجهد على كل شيء فيه ... حتى بدت الخمسون حين بلغها، وكأنها نهاية العمر لكهل فان.
ومضت الأيام على حفل عيد الميلاد حاملة في كل يوم حدثا جديدا من أحداث الفصل الأخير ... تلك الأحداث التي لم أعرفها للأسف ... إلا بعد أن نزل الستار على هذا الفصل.
ورأيت بعيني رأسي حسين قابعا في الدار يتسلى بتحريك أحجار النرد جاعلا من إحدى يديه لاعبا، ومن الأخرى اللاعب الآخر، مما يقطع الوقت انتظارا لإقبال، وربما - لسخرية القدر - كان موضعه نفس الموضع الذي كانت تقبع فيه إقبال منتظرة أوبته من إحدى مغامراته ...
إن أحداث هذا الفصل تروي لي صباح تلك الليلة التي رأيته فيها، وقد يهمك أن تعرف ما الذي دفعني إلى زيارته في وقت متأخر من الليل، إن إقبال هي السبب ...
كانت الساعة الحادية عشرة مساء، وكنت أشتري علبة سجائر حينما وقفت سيارة أعرفها أمام باب العمارة التي يقع فيها حانوت السجائر ... العمارة نفسها التي يقطن فيها حسين ... وأدرت رأسي أتأمل صديقي صاحب السيارة، ولكني وجدته مشغولا بفتح باب السيارة لسيدة، سيدة خرجت مسرعة، واتجهت نحو باب العمارة، ووصلت إليه في الوقت نفسه الذي وصلت أنا إليه متجها إلى أقصى الشارع، والتقى وجهي بالسيدة إقبال ... أما أنا فقد اضطربت ... وأما هي فقد ضحكت في ثبات ... ضحكت، ومدت يدها إلي في دلال طغت عليه صورة وجهها الخالي من الجمال ... الوجه الذي أعرفه منذ أكثر من خمسة عشر عاما، تلك الصورة التي لم تمحها كل مظاهر الأناقة والمساحيق والعطور التي تستعملها ... تلك الصورة العالقة في ذهني للزوجة الذليلة الشاحبة، الرقيق في أحدث نماذجه ... هذه الصورة هي التي ملأت رأسي، وهي تمد يدها إلي كما كانت تملؤها حتى في ليلة عيد ميلادها منذ شهور، ومددت يدي وحييت إقبال وفاجأني صوتها وهي تقول في عتاب: بجوار البيت يا أستاذ، وتمضي هكذا؟ هل نسيت الأصدقاء؟
وقلت مضطربا: أبدا ... إنما الوقت متأخر. - وهل بيوت الأصدقاء تغلق أبوابها في ساعة معينة؟! هيا ... تعال معي لنشرب كأسا مع حسين.
Shafi da ba'a sani ba