Sa'ad Zaghloul Shugaban Juyin Juya Hali
سعد زغلول زعيم الثورة
Nau'ikan
ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود، وهو تعويق القاطرات المسلحة والفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى لجمع السلاح، وتفتيش المنازل العسكرية في جمع السلاح من بداءة الحرب، حتى جمعت المدى الكبيرة والعصي الغليظة وكل ما يصلح للتسلح به في عراك أو مشاجرة، ثم لمحت بوادر الثورة بعد اعتقال الزعماء، فعادت إلى حملة أخرى من حملات التفتيش، وأوجس الناس من عواقب هذه الحملة شرا، فخطر لبعضهم أن يعوقوها بقطع المواصلات.
إلا أن الباعث الأكبر إلى التحطيم والتخريب كان اندفاعا جامحا بغير قصد مرسوم: اندفاع الساخط يحار فيما يصنع وهو ساخط، كأنما هو في هذه الفورة الجامحة صريع مكموم محبوس في بيت مغلق، يريد أن تسمعه الدنيا ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره. فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان؛ لأن هذه العوارض هي كل ما يستطاع في تلك الحالة. ولو كان باعث التحطيم العدوان على الملك والنفس، ولم يكن مجرد الاحتجاج وإبلاغ الصوت إلى العالم لاتجه الثائرون إلى نهب خزائن الحكومة وأموال الأغنياء والمصارف، وهو ما لم يحدث قط في بلد من البلدان.
وظل الإنجليز مضللين عن فهم شعور هذه الأمة، يفسرون أعمالها بأسباب المصالح، ولا ينظرون إلى بواعثها النفسية، كأنما البواعث النفسية عامل لا يحسب له حساب في حركات الجماهير. فظنوا أن أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية. وربما طاب لرؤسائهم أن يفهموا ذلك؛ لأنهم أبلغوا حكومتهم في لندن أن الأمة هادئة فاترة، وأنها ضعيفة لا يخاف منها انتفاض.
وأن أناسا كثيرين - ومنهم بعض المصريين - ليعجبون إذا عرفوا الآن أن هذه الثورة المفاجئة لم يقع فيها تنظيم ولم تكن فيها رئاسة مدبرة على الإطلاق، وأن مظاهرة الطلبة الأولى وقعت على غير علم سابق من الوفد، بل على خلاف النصيحة التي سمعها الطلبة من بعض أعضائه الذين بقوا في القاهرة بعد اعتقال سعد وأصحابه الثلاثة.
لكنها هي الحقيقة التي نؤكدها بعد استقرائها من مصادر عديدة. فإن الطلبة أصبحوا مضربين في مدارسهم يوم المظاهرة، وهم مختلفون في الخروج أو البقاء، ثم خطر لفريق منهم أن الخروج ربما خالف مشيئة الوفد، وأفسد عليه رأيا يفكر فيه أو خطة يتوخاها، فبعثوا إلى «بيت الأمة» أفرادا منهم يستفسرون، ويعودون إليهم بما يقر عليه رأي الأعضاء، وهناك التقوا بالأستاذ «عبد العزيز فهمي بك»، فأفضوا إليه بقصدهم، وأبلغوه هياج الطلبة وتحفزهم للخروج والتظاهر في أحياء العاصمة؛ فثار بهم الأستاذ وانتهرهم انتهارا شديدا وهو يقول لهم ما معناه: «إن المسألة ليست لعب أطفال ... دعونا نعمل في هدوء، ولا تزيدوا نار الغضب اشتعالا عند القوم.»
فتركوه وهموا بالانصراف متذمرين مغتمين، وإذا بالأستاذين محمود أبي النصر وعبد اللطيف المكباتي يلحقان بهم ليخففا عنهم أثر الكدر الذي خامرهم من تأنيب عبد العزيز بك، فتلطفا في التسرية عنهم والنصح لهم بالتزام السكون واجتناب المظاهرات، وانصرف رسل الطلبة على أن يبلغوا زملاءهم ما سمعوه وهم مترددون بين الإغضاء عنه أو الإصغاء إليه، ولكن زملاءهم كانوا قد استبطئوهم، وتهايجوا بما سمعوا من كلام خطبائهم واستثارة دعاتهم، فخرجوا قبل أن يعود إليهم رسلهم بنتيجة سؤالهم، وتمت المظاهرة الأولى على هذا المنوال.
أما حوادث الأقاليم، فقد تمت بغير إيحاء ولا تدبير؛ إذ لم يكن للوفد في ذلك الحين لجان يجوز أن يقال إنها اتفقت على تنفيذ خطة مرسومة في جميع الأقاليم، ولم يكن خبر السكة التي قطعت بين طنطا وتلا قد شاع في القطر حتى يقال إنه جاء في طليعة الحوادث بمثابة الإيحاء والقدرة على عمد أو على غير عمد. وإنما نجمت الثورة من بديهة الأمة كلها؛ لأنها كانت كلها على اتفاق في الغضب المكظوم والتأفف الذي بلغ مداه.
ولقد أخطأت السلطة العسكرية في كل تدبير؛ فكانت تستفز الناس بكل عمل تقصد به إلى البطش والإرهاب ، وتدفعهم إلى نقيض ما تريد من الخوف والطاعة، وتثير النفوس إلى التحدي والمعاندة بدلا من الإذعان والسكينة.
بالغت في قمع المظاهرات فزادت المظاهرات، وأنذرت كل من يقطع المواصلات «بالإعدام رميا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية»، فكان جواب هذا الإنذار إضراب عمال السكة الحديدية في اليوم التالي وخروجهم من مصانعهم متظاهرين، ثم اندفع الناس إلى قطع القضبان وأسلاك التلغراف والتليفون غير مكترثين للعاقبة، فانعزلت القاهرة والمدن الكبرى من جميع الجوانب، واضطرت السلطة إلى استخدام الجنود الإنجليز لتسيير القطر وتنظيم المواصلات. وبعد أن كانت تتوعد القرى التي تنقطع السكة على مقربة منها بالغرامة عادت إلى نشر إنذار تقول فيه: إن كل حادث جديد من حوادث التدمير «يعاقب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من سواها من مكان التدمير» ... واستدعى القائد العام بعض الوزراء والسروات في اليوم العشرين، وحذرهم من دفع السلطة إلى «تدمير العمائر وتخريب القصور»، وطلب إليهم أن يبذلوا جهدهم في النصح للشعب بالهدوء والإقلاع عن «المشاغبات».
كل ذلك والثورة تتفاقم، والجماهير تقدم وتقدم، ومنهم من أغاروا في بعض البلدان على مراكز الشرطة، فانتزعوا ما فيها من السلاح؛ فاستخدمت السلطة الطيارات والبواخر النيلية لإيصال المدد إلى الجهات المعزولة، وحدثت أثناء ذلك مناوشات قتل فيها خلق كثير.
Shafi da ba'a sani ba