255

Awowi Tsakanin Littattafai

ساعات بين الكتب

Nau'ikan

نقول: إننا لن نخالف الدكتور طه في هذا، ولكننا نذكر أن الناحية الفنية التي امتاز بها البيزنطيون ذلك الامتياز كانت هي الناحية التي تتصل بالترف وتنميق المعيشة، وما إليها من مظاهر الحضارة الحسية، ولم تكن الناحية التي تتصل بالبواعث النفسية والمطامح الفكرية التي هي قوام كل فن رفيع وكل معرفة صحيحة. وقد أخذ منهم العرب ما وجدوه، ولما وجد للعرب شيء يؤخذ عمد إليه البيزنطيون فنقلوه ومزجوه بما كان لهم من فن قديم، وبين يدي الساعة محاضرات الأستاذ «جوزيف سترز جفسكي» المتخصص الثقة في فلسفة البناء، يقرر فيها كيف نقل البيزنطيون قديما من فنون المزدية والشعوب الشرقية، ثم كيف نقلوا بعد ذلك من طرائق العرب في الزخرفة والتنميق، ثم أصبحت الكنائس المسيحية وفيها أثر من كل ذلك مفرق في تضاعيف البناء، لا يستدل على أصوله إلا الخبير.

والذي يعنينا هنا هو أن تبادل المعرفة بين العرب والبيزنطيين - أيا كانت ظروفه - لم يكن على أوسعه وأقواه إلا بعد التغالب بين الدولتين، وإن العرب لو هزموا البيزنطيين هزيمة تامة لأخذ منهم هؤلاء دينهم، كما أخذه الفرس المهزومون.

ولم يكن للعرب ثقافة جديدة في مبدأ الأمر غير ثقافة الدين، ولا يخفى أن حكم الدين في النقل غير حكم المعارف التي لا يقع فيها التعصب والعداء، فإن هذه المعارف تنقل دون صعوبة ولا ممانعة، وليس ينقل الدين في دولة كاملة بغير السيطرة من جانب الظافر والتسليم من جانب المهزوم. •••

وقد أردت في مقالي السابق أن أبين قرب الصلة بين الشعوب فذكرت تلك القصة اليابانية التي تشبه ما كنا نسمعه في أيام الطفولة من قصص الجدات والعمات في الصعيد، وقلت إنني أرجح أن القصة منقولة من أواسط آسيا حيث كان يعيش الترك على مقربة من الصين واليابان، فأشار الدكتور إلى ذلك فقال: «قد يكون هذا بعيدا، ولكني أكره للأستاذ أن يورط نفسه في تعليل ما يعرض له من هذا النوع من التشابه بين أساطير الشعوب، فإن هذا قد يضطره إلى ألوان من العناء والتكلف أضن عليها بوقت الأستاذ ومنطقه. ف «الفلكلور» يعطينا من هذه الأشياء عجائب لا تحصى، وليس إلى تعليلها الدقيق من سبيل إلا أن نردها إلى هذه العلة المعقولة وهي وحدة الطبيعة الإنسانية.»

ونحن نرى أن القول «بوحدة الطبيعة الإنسانية» لا يخالف ما ذهبنا إليه، بل هو أدل على تقارب الشعوب من صلة النقل الذي قصدنا به إلى إظهار هذا التقارب، وإنما رجحنا النقل على «توارد الخواطر» بين اليابانيين والمصريين؛ لأننا لم نقرأ في آداب الشعوب الأخرى قصة تشبه القصص المصرية مثل هذا الشبه؛ ففضلنا أن نرد هذا الشبه إلى النقل على أن نرده إلى وحدة الطبيعة الإنسانية، وساعدنا على هذا التفضيل أن دخول القصص التركية والآسيوية في ألف ليلة وما شاكلها ثابت ثبوتا لا ريب فيه، ولا حرج في الرجوع إلى الفلكلور لإظهار الصلة بين الشعوب؛ لأن الدكتور لا ينسى أن «الفلكلور المقارن» هو أقوى عماد لباحثي الآداب واللغات في درس أصول الشعوب، وتمحيص ما بينها من وشائج القرابات والجوار.

بقيت كلمة عن البحث العلمي والبحث الفلسفي اللذين عزا إليهما الدكتور ما بيننا من خلاف فقال: «ربما كان مصدر هذا الاختلاف أن الأستاذ العقاد ينظر إلى الأشياء الخاصة والظواهر العامة نظر الفيلسوف، وأنظر إليها أنا نظر المؤرخ، أو بعبارة أدق نظر المحقق الذي يتقيد بمناهج البحث العلمي، ولا يحلق في هذه السماء الجميلة المزدانة، سماء الفلسفة.»

والذي أعتقده أنا أن العلم لا يستطيع أن يستقل بالبحث في موضوعنا هذا؛ لأنه من مجال الرأي لا من مجال الوقائع العلمية التي يدرسها العلماء على أصول كأصول الدراسة الكيميائية والطبيعية وما إليها، فإذا تقدمنا في هذا الموضوع خطوة فلا بد لنا أن نتقدم فيه بمعونة الفلسفة والخيال معا؛ لأنه موضوع نفسيات في نطاق اجتماعي واسع شديد التباين كثير الملابسات، وعمل الخيال فيه هو عمله اللازم في تصور كل ما اختلف من الحالات، وتسهيل الخروج بالباحث من وضع واحد إلى جملة أوضاع. •••

وقد ختم الدكتور مقاله ببيان فضل الترجمة في تعرف الحياة والأحياء، وضرورتها لنا نحن المصريين على الخصوص؛ لأنها بالقياس إلينا «أداة للحياة لا للرقي» ثم تساءل: «لست أفهم كيف تعنى الحكومة بنشر التعليم على اختلاف درجاته، ولا تعنى بالشرط الأول ليصح هذا التعليم ويصلح، وهو الترجمة الصحيحة المنظمة التي لا تترك للمصادفة، وإنما تخضع لمنهج يلائم حاجات الناس في هذا العصر.»

وأقول: ليس الدكتور وحده هو الذي لا يفهم هذه الأعجوبة التي لا يعجبون لها في مصر إلا لأنها كلها بلاد أعاجيب، فهي شيء غير قابل للفهم إلا على سبيل التعليل لا التسويغ، وتعليلها «أن العقول الرسمية» لا تزال هي صاحبة الشأن في سياسة التعليم، ولن يرجى من هذه العقول خير، وإننا نتعلم لأن النظام والعرف يفرضان علينا ضريبة العلم، لا لأننا نشتهي العلم ونظمأ إليه.

انظر إلى من قال لا إلى ما قيل

Shafi da ba'a sani ba