193

Awowi Tsakanin Littattafai

ساعات بين الكتب

Nau'ikan

فلا يندر أن ترى بين الناقدين اليوم من يصرف فلسفة روسو كلها بكلمة واحدة، يأخذها على طرف كتاب، فمن هو روسو؟ هو حالم يقول بالرجعة إلى الطبيعة، ويزعم أن كل حكومة في الأرض إنما قامت بعقد بين الحاكمين والمحكومين، وهذه أحلام وتخمينات لا تليق بأبناء الزمن الحديث، فهل روسو الصحيح هو هذا «الروسو» الذي يتخيلون أم أن الحذلقة هي التي خلقته في الأوهام وهي التي قضت عليه ذلك القضاء؟ لا! إن روسو الصحيح يحلم، ولكن بتقويم المجتمع لا بتقويضه، ويقول بفكرة «العقد الاجتماعي» التي قال بها من قبله، ولكنه يهذبها أحسن تهذيب وصلت إليه هذه الفكرة في كل زمان، وهو أعظم في عمله الأدبي وعمله التشريعي من جميع معاصريه واللاحقين به، أعظم من منتسكيو؛ لأنه يستمد الشريعة من حياة الإنسان ومنتسكيو يستمدها من نصوص القوانين، وأعظم من فولتير؛ لأنه مبتكر مخلص وفولتير قليل الابتكار قليل الإخلاص، وأعظم من ديدرو؛ لأنه تجاوز عصره وديدرو لم يبرح مستغرقا فيه، ولعله لا يضارع بعض هؤلاء في سعة التفكير وملكة السخر، ولكنهم بلا مراء لا يضارعونه في نفاذ البصيرة، وصدق الإلهام، وقد أجمل تقديره الأستاذ كول مقدم مؤلفاته في اللغة الإنجليزية فقال: «لم يكن لكاتب آخر في زمانه مثل ما كان له من الأثر البعيد، فيصح أن يقال: إنه هو أبو الحركة الرومانية في الفن والأدب والحياة، وإنه كان عميق الأثر في المدرسة الألمانية الرومانية وجيتي في مقدمتها، وهو واضع التحليل النفسي الذي فشا بعد ذلك في آداب القرن التاسع عشر، وهو البادئ بنظريات التربية الحديثة، وهو فوق هذا جميعه يمثل الانتقال في عالم السياسة من المذهب العتيق المتأصل في القرون الوسطى إلى فلسفة الحكومة العصرية، وقد كان سلطانه على فلسفة «كانت» الخلقية، وعلى فلسفة الحق في مذهب هيجل جانبين من جوانب مشاركته الأساسية في الفكر الحديث، وهو في الواقع هو الرائد العظيم للمثاليين عند الألمان وعند الإنجليز.»

ولقد يضاف إلى ذلك أنه هو رائد المدرسة الروسية الحديثة في الرواية، وفي الغوص على دخائل النفس الإنسانية، وأنه هو سابق الطبيعيين المصارحين من الشعراء والأدباء الفرنسيين والألمان والإنجليز، فهو سابق شاتوبريان وجين بول ريختر وبيرون، وهو إلى اليوم ظاهر الملامح في الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وفي كل أدب تناولته رسالته في عالم الكتابة وعالم التشريع، وقد تناولت رسالته في هذين العالمين جميع الأقوام.

لم يكن روسو قريب الصلة بالجمهور؛ لأنه كان يكتب في النظريات السياسية من وجهتها الفلسفية التي يعنى بها المفكرون والعلماء، ولا يعنى بتوجيه الخطاب إلى سواد القراء، ولعل هذا الذي أغفل عنه أصحاب السلطان فأمنوا جانبه، ووادعوه وخولوه بعض الحرية في شرح نظرياته مع مداراة قليلة كان يلجأ إليها لإخفاء مقاصده التي يفزع منها المستبدون، ولكن المداراة لم تخف تلك المقاصد عن قرائه، ولم تحل بينه وبين إطلاق نفس الفرد فيما يحسه من علاقته بالحياة وعلاقته بالحكومة، فأطلقت اعترافاته وقصصه حرية الفرد في عالم الفكر والشعور، كما أطلقت مباحثه حرية الفرد في طلب الحقوق ودفع المظالم، وكان له فضل لا يدانيه فضل كاتب ولا خطيب في إنشاء الديمقراطية الحديثة ونقض أساس الحكم القديم.

واليوم يذكره الفرنسيون بانقضاء مائة وخمسين سنة على وفاته، والكتاب والمفكرون والساسة يعيدون النظر في الديمقراطية الحديثة ليسألوا: هل تصلح الديمقراطية لحكم الشعوب أم تراها فشلت بعد التجربة ، وآذنت بإخلاء المكان لنظام جديد؟ والناقدون قد يجدون للديمقراطية عيوبا تحتاج إلى إصلاح، فهذا غير غريب ولا منكور في عمل يأتي به الآدميون ولا سيما أعمال السياسة وتدبير الحكومات، ولكنهم يخطئون جد الخطأ إذا هم نقدوا الديمقراطية؛ لأنها لم تحقق للأم مرتبة الكمال المطلق في سياسة الشعوب، فإن الكمال المطلق لا يتاح لنظام ولا يدعيه أحد لما جربناه أو ما سنجربه من الأساليب المنظورة في المستقبل، وحسب الديمقراطية أن تقابل بالنظم الأخرى فترجحها في طول الزمن، ويثبت للناس أن جيدها خير من جيد الحكومات، وهذا ثابت إلى اليوم؛ أن القائلين بثبوته أضعاف أضعاف القائلين بثبوت سواه.

وما من قلق ينسب إلى الديمقراطية في هذا العصر إلا وهو مردود إلى بقايا الحكومة المطلقة وآثار الاستبداد القديم، فالقلق في إسبانيا علته الحكم المطلق لا الحكومة الديمقراطية؛ لأنها لم تكن قط ديمقراطية في تاريخها القديم والحديث، والقلق في إيطاليا علته كذلك حكم القرون الماضية، وحكم الفاتحين المستبدين لا الحكومة الدستورية التي لا عراقة لها في تلك البلاد، والأمتان العريقتان في حكم الدستور في القارة الأوربية هما الأمة الإنجليزية والأمة الفرنسية، وهما مثلان بارزان على فضل الحكم الدستوري ورجحانه على حكم الاستبداد، ولا خلاف في أمر إنجلترا، ولكنهم قد يختلفون في أمر فرنسا، وهي فيما نرى غير قابلة للخلاف، فقد كانت فرنسا كثيرة الثورات فبطلت فيها الثورات، وكانت عرضة للقحط والمجاعة فها هي الآن غنية تقابل ثورات الحرب وزلزال الأسواق بصدر رحيب، وكانت حروبها لا تنقطع وخصوماتها على حقوق العرش لا تنقضي، فها هي الآن لا حروب على العرش ولا خصوم، وكانت تفقد أملاكها في عهد الحكم المطلق، فها هي في عهد الدستور تضيف أملاكا إلى أملاك، فحاضرها خير من ماضيها، وحكمها على عهد الدستور خير من حكمهما على عهد أقدر الملوك المطلقين.

وليس من صحة النقد أن نحسب على الديمقراطية بعض القلق في إسبانيا وإيطاليا، ولا نحسب على الحكم المطلق ثورة الشيوعية الجائحة في البلاد الروسية، فلا مراء في أن الحكم المطلق مسئول عن ثورة الشيوعية وعن العيوب التي أثارتها، ولكن ما أكثر المراء في رد أسباب القلق في البلاد الأخرى إلى الحكومة الشعبية! وما أولاها أن تكون من نقص تلك الحكومة وحاجتها إلى التمكين والتكميل.

لم تفشل الديمقراطية في تجاربها، ولم تأت ذكرى روسو بعد موته بمائة وخمسين سنة في أوان لا يناسب مجد ذكراه، ولكن لعل هذه الغاشية العابرة ظلم جديد تعود هذا المظلوم الذي راح يرفع الظلم عن الناس!

فولتير الساخر1

روسو وفولتير اسمان لا يفترقان. كتبت لهما الصحبة في الممات، وفي الأثر، وفي الخلود، وفي التربة، وكانا في الحياة مفترقين يتراشقان بالتهم، ويتلامزان بالألقاب.

ماتا في سنة واحدة وتعاد ذكراهما اليوم معا بعد انقضاء مائة وخمسين سنة على وفاتهما في سنة 1778، ولما نفي نابليون إلى جزيرة إلبا نبش قبراهما ووضعت عظامهما معا في غرارة وألقي بها في الجير المتقد على قارعة الطريق، جزاء لهما على نقد رجال الدين، ونقد الملوك المستبدين! ولو شاءت تلك العظام أن تتكلم لما استطاعت أن تنال من رجال الدين وعصابة المستبدين بعض ما ناله هؤلاء من أنفسهم بتلك السخيمة البذيئة، ولو أعوز الحكيمين العظيمين برهان على صواب ما فعلاه في الحياة من تحطيم تلك الأصنام البالية، وتقويض تلك العروش الخاوية لتكفل رفاتهما المحترق بتكميل ذلك البرهان الناقص. إذ أي شيء أولى بالتحطيم والتقويض من آداب أناس لا تصان بينهم عظام الأموات في مقرها الأخير؟

Shafi da ba'a sani ba