Awowi Tsakanin Littattafai
ساعات بين الكتب
Nau'ikan
ومع هذا نحن لا نعلم كيف التفت الفلاح القروي إلى التمثيل، ولا كيف اتفقت هذه المصادفة التي أهدت إلى العالم أكبر شعرائه أجمعين، وكل ما نعلمه أن أباه كان يحب التمثيل ويعضده في بلده، وأنه هو كان ممثلا ثم خطر له أن يؤلف للمسرح، فبدأ بمحاكاة بعض الشعراء المعاصرين ثم نبذ المحاكاة ورجع إلى سليقته فبلغ هذا الشأو الذي لم يبلغه سواه، أما كيف سيق إلى التمثيل فذلك سر مجهول لا ينكشف لنا من آثاره ولا كلام معاصريه، فقد قيل إنه اتهم في بلده بسرقة الغزلان وعاقبه على ذلك النبيل صاحب الحديقة التي سرق منها فهجاه ونجا بنفسه إلى لندن، ثم عمل هناك على أبواب المسارح يمسك الجياد للسادة والسيدات، ويعيش بين الممثلين ويتطلع إلى اليوم الذي يقف فيه على خشبة التمثيل، فإن كان هذا صحيحا فقد كان وشيكا أن يظل شكسبير سارق غزال وشاعر الناس أجمعين، فلم تكن سرقته بفعلة النذل الجبان يقعد به الكسل عن العمل الشريف فيستحل لنفسه متاع الآخرين، ولكنه اصطاد الغزال لأنه كان يحب الصيد، وينشط نشاط الفتوة في زمن كان الصيد فيه حراما على غير النبلاء، وأصحاب الضياع والآجام.
إن شكسبير لم يكن مفطورا على التمثيل، ولا كان المسرح له إلا معرضا للشخوص وكتابة الروايات، ولقد كان له نظر صائب في هذا الفن، وعلم بتقسيم الروايات كما كانوا يقسمونها في عصره، ولكنه لم يثق بتمثيله قط ولم تمنعه قدرته على اختيار الأدوار أن ينزل عن الدور الكبير في كل رواية لمن هو أقدر على الإجادة فيه. فكان وهو مالك المسرح ومؤلف «هاملت» وواضع ذلك الدور الذي يخيل إلى النقاد أنه كان أحب الأدوار إلى نفسه، يرضى أن يقوم في الرواية بدور «روسنكرانز»، ويدع تمثيل «هاملت» لبرباج ممثل المأساة المشهور في تلك الأيام، وذلك تواضع لا يدل إلا على إنصاف للنفس وللآخرين، أو على حكمة بصيرة بوجوه المصلحة والتدبير. أو على سأم من صناعة التمثيل، وكراهة لما كان يحيط بها من الهوان ويصيبه في جرائرها من عنت تأباه تلك النفس الكاملة وذلك الشعور الكريم.
ولا يعلم ناقد هل كان شكسبير يفضل الكتابة في المآسي، أو الكتابة في المهازل
2
وأشباهها من الروايات المحببة إلى الجماهير، ولكنك تقرأ قوله عن بولونيوس: «إنه لا يلذ إلا بحديث فجور أو مجون.» وشكواه من الجمهور الذي لا يفقه إلا الصراخ والجلبة ولا يعجب إلا بالتخايل والادعاء، ولا يحب إلا أن يضحك على السماع، فتفهم من هذه الشكوى التي أجراها على لسان هاملت أنه لم يكن يرضى عن الملاهي والمضحكات، ولم يكن ليكتب المهازل لولا رغبة النظارة في اللغط والترويح، ويرى الدكتور جونسون أن مهازل شكسبير تفوق مآسيه؛ لأنه يتهم شكسبير بالتهاون وقلة العناية، وهما بالهزل أنسب وإلى المواقف الخفيفة أقرب، ولكن جونسون أبعد الناس عن إنصاف الشاعر العظيم، وأدنى الناقدين إلى الخطأ في فهم ملكاته والفطنة إلى آياته، ومن الذي يقرأ قوله: «إن مهازله - مهازل شكسبير - تعجب بالفكرة واللغة ولكن مآسيه لا تعجب في أكثر الأحيان إلا بالحادثة والحركة. وإن مآسيه يلوح عليها الفطرة والإلهام» ثم لا يسرع إليه الريب في سداد هذا النظر الزائغ، وصحة هذا النقد الجزاف؟ فالحق أن مهازل شكسبير تدل على إجادة الرجل تمييز المضحكات، ومداعبة الطبائع الإنسانية، والعطف على ما فيها من مواطن الضعف والغرور، بل هي متحف لكثير من الشخوص العزيزة على القراء، المحببة إلى النظارة، الملطفة لقسوة الجد ومرارة الآثام، وكل هذه الشخوص لها نصيبها من الفطرة والإلهام كما يقول الدكتور جونسون، ولكنها لا تفوق في شيء من ذلك نصيب هاملت ولير وعطيل وياجو وريتشارد الثالث وأوفيليا وكليوبترة وجولييت وغيرهم وغيرهن من أبطال المآسي والتاريخيات، فإن البداهة التي ظهرت في تصوير هاته الشخوص الجدية لا تفاق في موقف آخر من مواقف شكسبير ، ولسنا نقول كما قال هازلت إن الأستاذية التي أظهرها شكسبير في مهازله لا تقل عن أستاذيته في المآسي والتاريخيات، فإن رعاية الجمهور في هذه الروايات قد جنت عليها أحيانا ما لم تجنه رعاية الجمهور على المآسي والتاريخيات، ولكنا نقول: إن في مهازل شكسبير مزية واحدة لا تكثر في مآسيه وتاريخياته، وهي قوة البطلات وبروزهن على الأبطال. فإذا استثنيا كليوبترة ولادي مكبث - ولا حيلة لشكسبير في هذا الاستثناء - فالنساء في الروايات الخفيفة أقوى وأقدر على الجملة من نساء «الجديات»، وهن كذلك محور تلك الروايات وذوات النصيب البارز من الأدوار، وتلك آية أخرى من آيات الإلهام في شاعر البداهة والنظر السليم؛ لأن نكبة المرأة الناعمة البريئة هي جوهر المأساة فلا بد من إظهار المرأة فيها على جانب من الخفض والرقة والعطف المرحوم لا يناسب القدرة والدهاء والادعاء، ولا حاجة إلى ذلك في الروايات الخفيفة أو المضحكة، بل ربما كان ظهور المرأة في هذه المواقف بالعلم والصلابة أدعى إلى التفكه والابتسام.
وليست مهازل شكسبير بالمهازل التي تقوم على نقد العادات الطارئة والمظاهر الاجتماعية الزائلة، فإن بداهة هذا الرجل تأبى أن تتعلق بشيء يزول، أو يقف على حواشي النفوس. إنما هي مهازل الطبائع التي لا تتغير، والعيوب التي تشاهد في كل أمة وفي كل زمان، والنظرة التي ينظر بها الشاعر إلى تلك الطبائع والعيوب نظرة الفطرة الرءوم، والنحيزة الكريمة، والعاطفة الحنون، فسخريته كما قال هازلت سيد النقاد الإنجليز: «تنقصها لذعة النكاية، ويندر أن تجد فيها إثارة من الضغن والحفيظة، حتى فلستاف تتجلى لنا أضحوكته العظيمة من جانب المرح العابث لا من جانب السخف المطبق.» ولعل هازلت على صواب حين يقول: «إن النقص في موحية
muse
تلك الروايات أنها هي طيبة كريمة، وأنها تعلو على اللاعب من الشكول، ولكنها لا تجد سرورها الأكبر في إنزال الطبيعة الإنسانية بأقصى ما يستطاع من منازل الخسة والسخف والزراية، وهذا هو الموضع الذي يعرض منه الخلاف بينها وبين مهازل العصور التالية، التي يقال إنها أظرف وأكيس، فهذه المهازل «الكيسة» إن هي إلا مهازل أبناء الزي والجديلة والشمائل المصطنعة.» وشكسبير لم تكن تعنيه هذه المضحكات الزائفة؛ لأنه أكرم من أن يعبث بالعبث الذي لا يحتاج إلى من يضحك منه، وأكبر من أن يغمره عصر ضائع في غمار العصور.
شكسبير وهاملت (3)1
في شخصية «هاملت» دلالات كثيرة على شكسبير. بل لم يضع شكسبير على لسان أحد من أبطاله بقدر ما وضع من كلامه هو على لسان هاملت، فشكوى هاملت هي شكوى شكسبير نفسه من الناس والحياة ومن أبناء وطنه، ولهاملت في غضون بثه ونجواه كلام هو أخلق أن يجري على لسان الشاعر الممثل المتبرم، من أن يجري على لسان الأمير ولي عهد المملكة، فنجواه في مطلع الفصل الثالث إذ يقول: «نحيا أو نموت؟ تلك هي الحيرة. لا ندري أهو أنبل لنا وأكرم أن نحمل الضيم من دهر عسوف نصبر على رجومه وسهامه، أم نهيب بأنفسنا إلى الثورة على ذلك الخضم الموار بالمتاعب والآلام فنستريح منها؟ وما الموت؟ أهو نوم ولا زيادة؟ لئن كان الموت نوما يريحنا من أوجاع الفؤاد الضمين ومن ألف نزعة يبتلى بها هذا اللحم والدم لهو إذن ختام تتلهف عليه النفوس، ولقد يكون الموت نوما ويكون في النوم حلم يغشاه، وتلك هي العثرة! إذ من يعلم ما تلك الأحلام التي تطيف بالنائم في ضجعة الموت بعد أن ينفض عنه وعثاء حياته؟ هنا العقبة، وهذا السر الذي تطول فيه شقوة الحياة. إذ من الذي يطيق الصبر على سياط الزمان ولذعاته، وعلى ظلم الظالم، وصلف المتجبر، وآلام الحب المزدري، ومطال القضاء، وعجرفة المناصب، وسخرية العاجزين بالقادرين حين يكون في يديه أن يفصل في هذه القضية بطعنة واحدة من مدية وحية؟ لم هذا الضجر المرهق من أعباء الحياة الثقيلة لولا خوف ما بعد الموت وخشية تلك الدار التي لم يكتشفها رائد ولم يرجع منها قاصد؟ فهذا الذي يشل العزيمة ويخلد بنا إلى شر نعلمه مخافة شر لا نعلمه، وكذلك تفت الضمائر في أعضادنا ويغشي شحوب الحذر على سمات عزائمنا، فتصدف عما همت به من جليل الأمر، ويلتوي عليها سبيل الإنجاز.»
Shafi da ba'a sani ba