وكنا نرى مديحة وسامية كثيرا لدى عودتهما من مدرسة سان جوزيف بالعباسية الشرقية، كما كنا نعرف أن عثمان يتعلم في مدرسة الفرير. ووجد في شلتنا من ينتقد سلوك الأسرة ومنهجها في الحياة: جمال بك أسد علينا ولكنه نعامة أمام زوجته، فيرافقها إلى السينما والمسرح.
ونختلف على المدارس الإفرنجية التي ألحق بها أبناءه؛ فمنا من رأى في ذلك نقصا في الوطنية، ومنا من أثنى على التعليم في تلك المدارس، وكنا جميعا نشعر بدرجات متفاوتة من الغيرة وننفس عليهم طلاقتهم في التحدث بالفرنسية.
باختصار كانت الأسرة موضع إعجابنا واستفزازنا؛ لذلك رحبنا بأن نسمع عنها ما يسيء. ولعل صديقنا عبد الخالق كان مصدر الهمس الأول بحكم جوار بيته لبيت آل إسماعيل، قال ونحن مجتمعون عند رأس الشارع حيث ملتقاه بشارع العباسية: مديحة بنت جمال بك إسماعيل هربت!
وحدقنا به ذاهلين، وفي غاية من الانفعال: غير معقول! - حصل، هربت مع محام شاب!
حلق بنا الخبر في جو الأساطير وألف ليلة، وواصل عبد الخالق: ولكنه تزوج منها! - ليس خبرا ولكنه لغز! - لا أزيد عما سمعت حرفا.
الأسرة هي هي لم يتغير لها حال، الأب يمضي في مهابته والأم في دلالها وعثمان في رشاقته وغرابته، ولكن الشارع يتلقى التفاصيل والأسرار. قيل إنه تقدم لطلب يد البنت كثيرون وإنهم قوبلوا جميعا بالرفض، لم يملأ أحد منهم عين جمال بك .. هذا فقير، وذاك شهادته دون المستوى، الثالث أهله على غير ما يرام، الرابع أخلاقه كيت وكيت .. حتى يئست الجميلة من ناحية أبيها، فما إن مال قلبها إلى المحامي الشاب حتى اتفقا على الهرب والزواج. لم تقم حفلة للخطبة ولا للدخلة، ولم تقدم شبكة أو هدايا، ولم يتفق على مهر، ولكن الشاب أثث شقة صغيرة وبنى عشه. وبدا أول الأمر أن مديحة قد انفصلت نهائيا عن أسرتها، ولكن القطيعة لم تدم طويلا، وتوسط أهل الخير فرجعت الأمور إلى مستقرها، وخفقت القلوب بالحب والرضا.
وبعد انقضاء حوالي عام ما ندري إلا وعبد الخالق يقول ضاحكا: سامية بنت جمال بك هربت مع ضابط جيش!
وشاركناه الضحك هذه المرة. - البك الغبي لا يريد أن يتعلم! - إنه ولا شك مجنون.
وكررت حكاية سامية حكاية مديحة. الهرب والزواج وبناء العش والقطيعة، ثم الرجوع إلى المستقر والرضا كأنما كانت الأسرة تخلق تقاليد جديدة للحب والزواج. غير أن شائعة غريبة تمطت في الشارع، دعمها عبد الخالق وعم فرج بياع الدندورمة والحلوى، وصادفت هوى شاملا لتصديقها؛ قيل إن حوادث الهروب لم تقع مصادفة، ولكنها جاءت نتيجة تدبير حكيم من جمال بك إسماعيل، ليزوج كريمته دون أن ينفق مليما، لا عن بخل، ولكن لأنه كان ينفق مرتبه كله على رفاهية أسرته والمظاهر الجذابة دون أن يعمل حسابا لغد. لم يستطع أن يدخر نقودا أو يقتني ملكا، فدأب على رفض الخطاب حتى اضطر مديحة وسامية إلى الهرب وتم له ما أراد. كلام قيل وصدق، ولا يعز على التصديق خبر رديء، ثم إنه لا دخان بلا نار. وعلى أي حال كنا نعيش في جو يقطر كذبا وادعاء؛ كل فرد يروي الأساطير عن أسرته وتاريخها، كل أسرة يتسلل أصلها من منبع عريق كان له شنة ورنة على عهد محمد علي أو المماليك أو عهد الرسول نفسه. أما أكاذيب النساء فحدث عنها ولا حرج، وهي تقبل دون مناقشة وإن انحشرت في الحلق كالشوكة؛ ولذلك ما إن تنفجر إشاعة مسيئة كإشاعة زواج مديحة وسامية حتى تقابل بالتصديق والارتياح الخفي. أما نحن - المراهقين أو شبه المراهقين - فكان الجانب الجنسي هو الذي يثير اهتمامنا. انتهاء الهروب إلى الزواج خيب آمالنا وفتر خيالنا وشتت أحلامنا. وددنا لو تقلد الحياة الفن ولو مرة وأن نشهد تمثيلية من تمثيليات يوسف وهبي في شارع الرضوان. ويجري الحوار المحموم بيننا: هل تظن أنه لم يحدث شيء قبل مجيء المأذون؟ - البنت القادرة على الهرب قادرة على كل شيء! - تخيلوا ذلك الجمال النادر عندما تجرد من ملابسه.
وماذا نتخيل إن لم نتخيل ذلك؟! لم ينج أحد منا من سحر مديحة أو سامية أو كلتيهما معا. وكان غيابهما من شارع الرضوان مثل كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهيهات أن يسلي عنه الخيال أو قراءة الأشعار الحزينة. لم يبق لنا من آل إسماعيل إلا كريمة هانم، وكان حجمها يخيفنا، وجمال بك الذي يتبادل معنا نفورا ثابتا، وأخيرا عثمان المثير لإعجابنا واستفزازنا وسخريتنا إذا وقفنا اللعب حتى يمر شكرنا قائلا: مرسي مسيو.
Shafi da ba'a sani ba