على أي حال أحببته تلك الليلة كما أحببته ليلة اقترح علي زيارة ملك.
أعترف بأنه يؤنس وحشتي، وأنه لولاه لجننت من طول ما أحدث نفسي، وقالوا فلنغامر وليكن لنا نصيب، وقصدنا تافرنا، تعشينا على أنغام المندلين، ولأول مرة أشرب قدحا من النبيذ، طارت بي نشوة لم أعهدها في حياتي من قبل، الخطوة الأولى المخاتلة الساحرة في حياتنا بادرتنا بالنشوة الهازجة، انطلق الضحك من حناجرنا بلا سبب بين يدي فرحة الحياة المتدفقة. أزعجنا من حولنا من السكيرة القارحين، ولأول مرة أيضا نقتحم الدرب إياه، ومضى كل مع امرأة مستوردة، تعرت بحركة روتينية قبل أن أغلق الباب ورائي، وقفت مذهولا وقد هرب قلبي في أعماقي. انغمست في برميل من الثلج، ورمت تجمدي بنظرة شرسة، وقالت: «لست ممرضة يا أنت.» ولما خرجت إلى الهواء الطلق المعبق بالبخور هاجت معدتي وماجت وقذفت بما فيها. وحدس أحدهم أن المرة الأولى لا تنجو من عواقب سيئة، ولكن الثانية لم تكن أفضل. قلت لا حظ مع الخمر ولا مع أولئك النسوة، أين النار التي تستعر في حضرة ملك؟ ويئس علي يوسف مني، فقال لي: معدتك إسلامية وكذلك غريزتك!
وآمنت بأنه لا أمل لي إلا في الحلال والزواج، حقا إنه أمل متواضع ولكن تحقيقه يسير، الوظيفة والزواج، أي طموح آخر سرعان ما يتلاشى، كالحلم الذي ينسى عقب الاستيقاظ. الأصدقاء يحلمون بعوالم أخرى؛ الزعامة أو القيادة أو التفوق في المهنة، منهم أيضا من ينتمون إلى الأحزاب ويجلسون إلى الزعماء. أما أنا فلم أجاوز أعتاب وظيفة توفر الرزق وزوجة صالحة وأبوة، وفي خضم العراك السياسي يقول لي أبي: نحن الموظفين موالي الحاكم.
فأنقل إليه ما يقرع أذني عن إخلاص زعماء وتهاون زعماء، فيقول: كلهم خنازير يتناطحون في سبيل الحكم، وإنه لمجنون الذي يخسر حياته أو مستقبله في معركة زائفة!
حديثه المفضل يدور دائما عن الوظيفة والموظفين والكادر، سواء في المقهى أم في البيت. وأنا أجتهد وأذاكر وأنجح ولكن دون إفراط، لا أعذب نفسي بالتفوق وبلوغ المراكز المتقدمة، وأقرأ وألعب وأحب. وكل صديق شهد لحبيبتي بالجمال والاستقامة، وحبها يزداد مع الأيام قوة وعمقا، أحوم حولها كالمجنون بحب راسخ ورغبة جنونية، وتقطب في بعض المواقف وتهمس: إذا تماديت فضحتنا!
فأهمس متشكيا: إني أتعذب حتى الموت.
فتقول برجاء: لا يعجبني اندفاعك أحيانا، الحب بطبعه مهذب، كن لي مثلما أنا لك.
أهدت إلي صورتها فاحتفظت بها فوق قلبي . عشت أسعد الأزمان في رحاب حبها، لكني عذبني فيض الشباب، وبخلاف علي يوسف فشلت في ترويضه. إنه أحب الأصدقاء إلي، نذاكر معا، في بيته مرة وفي بيتي مرة، أقصر مني في القامة وأجمل مني في الوجه، وأذكى فهو يشرح لي أحيانا ما يغمض علي، ويفوقني في الاطلاع، والانتماء السياسي. يقول بحرارة: سأعيش حتى أرى حياة جديدة لا الملك فيها ولا الإنجليز.
ويحدثني عن تيارات جديدة كالإخوان والماركسيين ومصر الفتاة ولكنه لم يتخل عن الوفد. وأحب بنتا يهودية فترة طويلة من العمر ولكنها اختفت في مطلع الحرب العظمى الثانية. ولم أعرف له قصة حب أخرى فتوهمت أنه يعيش بلا قلب. ودخلنا معا كلية الحقوق فواصلنا المذاكرة المشتركة، وأقول لملك: لم تبق إلا أعوام معدودة، ثم نلتفت إلى مستقبلنا.
هي الوحيدة الباقية مع أمها رغم أنها أجمل أخواتها. تقول: ليتني أكملت تعليمي! - الوظيفة تغريك أيضا؟ - لم لا؟ - ولكني أريدك ست بيت.
Shafi da ba'a sani ba