قبل أن أعرض ما أريد عرضه، يحسن أن أضع بين يدي القارئ أمثلة قليلة تصور له السلبية المميتة، وما هو أشر من السلبية المميتة التي يريد لنا نفر من قادة الرأي أن نفهم إسلامنا على ضوئها.
أولا:
يجمل بنا أن نضع نصب أعيننا تلك الحقيقة المرة، وهي أن الرقعة الجغرافية المتصلة والممتدة من إندونيسيا شرقا إلى المغرب غربا مرورا بباكستان وأفغانستان وإيران والوطن العربي وأقطار من أفريقيا، هذه الرقعة الجغرافية بأسرها والتي هي الموطن الأساسي للشعوب الإسلامية، توشك أن تكون في مجموعها أقل بلاد الدنيا نصيبا من التقدم بأي مقياس نختاره لنقيس به من تقدم من الشعوب ومن تأخر، اللهم إلا إذا اخترنا «الإسلام» في ذاته على أنه هو نفسه «التقدم»، مهما يكن نصيب المسلمين بعد ذلك من التعليم، ومن الإنتاج الاقتصادي، ومن مستوى المعيشة، ومن الإبداع في الأدب والفن، ومن الإضافة الحقيقية إلى العلم وما يتفرع عنه ... فإذا رأينا أن تلك هي الحقيقة المرة، أفلا ينبغي لضمائرنا أن تتأرق لتدفعنا دفعا إلى جدية النظر وجدية التفكير وجدية العمل سائلين أنفسنا: لماذا؟ ثم ألا يجوز أن نجد بعض الجواب متضمنا في ذلك التعبير القوي، وهو أن المسلم لم يجعل من نفسه «مسجدا وساجدا» قبل المسجد وفي المسجد وبعد المسجد؟
ثانيا:
إنه بغير أدنى شك، لا بد للمسلم - شأنه في ذلك شأن أي مؤمن بأي عقيدة دينية أخرى - أن يكون «عابدا» بما تضعه له عقيدته من صور العبادة، وفي هذا الصدد نسأل - جادين ومخلصين - أفلا ينبغي للمسلم أن يتدبر في روية وفي عمق قول الله سبحانه:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؟ فما هو ذلك الجانب من حياة الإنسان الذي يظل قائما مع الإنسان، ما امتدت لذلك الإنسان حياة واعية؟ أيمكن أن يكون المقصود بالعبادة مقصورا على صور العبادة المعروفة من صلاة وصوم وغيرهما؟ نعم - إن هذه الصور المعروفة هي أركان الإسلام، لكنها موقوتة بأوقاتها، فماذا عسى أن تكون صورة العبادة قبل تلك الأوقات وبعدها؟ ماذا عسى أن تكون الصورة المقصودة بالعبادة، حين نعلم من القرآن الكريم أن الإنسان ما خلق إلا ليعبد؟ إن المسلم كاتب هذه السطور لا يرى - بكل التواضع الذي يستطيعه إنسان - لا يرى إلا أن تكون العبادة التي ما خلقنا إلا لأدائها إنما هي - إلى جانب الأركان المعروفة - اجتهاد في سبيل معرفة الإنسان لربه، عن طريق معرفته لمخلوقات ربه، فها هنا نستطيع أن نتصور صورة من الدأب الدءوب الذي لا يفتر لحظة على طول الحياة الواعية، محاولا أن «يعرف» ثم «يعرف مزيدا» ثم يعرف مزيدا من المزيد إلى آخر نفس يلفظه الإنسان المجتهد في تحصيل المعرفة إذا جاءه أمر ربه ... على أن هذه النقطة من نقاط حديثي هي التي سوف تكون إحدى ركيزتين أساسيتين سيكونان المحور الرئيس للموضوع كله.
ثالثا:
وهذه نقطة متصلة بما أسلفته لتوي، أذكرها راجيا أن تتسع صدورنا لما يقوله بعضنا لبعضنا، فكلنا طلاب حقيقة نسعى إلى إدراكها وإلى العمل بمقتضاها، ولا ضير في أن يصحح أحدنا الآخر، بل لا بد أن يصحح أحدنا الآخر لتتحرك حياتنا الفكرية نحو ما هو أصح وأكمل، وإلا فمن ذا الذي يدعي لنفسه سعة من العلم لا تنتهي حدودها، وعصمة من الخطأ لا موضع فيها للزلل والخطأ؟ وإني إذ أقول ذلك، فإنما أقوله وفي ذهني أمثلة حية مما قرأته أو سمعته لعلماء منا لا أشك لحظة في فضلهم وفي إخلاصهم وسلامة طويتهم، لكنني في الوقت نفسه أشك كل الشك في سداد ما يكتبونه أحيانا وما يذيعونه في الناس، وذلك حين أشعر في قوة ووضوح أن مؤدى ما يقولونه في موضوع «العبادة» قد يفهمه الآخذون عنهم على أنها عبادة السكون والقعود والزهد والرضا بالقليل من دنيا «العلم» ومن دنيا «العمل»، وكان آخر ما سمعته في هذا الباب ما أذاعه أستاذ جليل عن «القدس» وكيف تكون سبيلنا إلى تحريرها من قبضة إسرائيل؛ إذ قال إن الوسيلة هي «العبادة»، والشرط الذي اشترطه فضيلته لتلك العبادة هو أن تعم الأمة الإسلامية كلها لا تقتصر على نفر منها دون الآخرين، ولو أن فضيلته قصد ب «العبادة» ذلك المعنى الواسع الذي سأجعله موضوعا لحديثي بعد قليل، لكان قوله صوابا، لكنه قال قوله ذاك في سياق لا يجعل للعبادة معنى في أذهان السامعين إلا ما هو معروف من «أركان» الإسلام الخمسة؛ أي أنه يكفي المسلمين أن يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة، ويصوموا رمضان ويحج منهم من هو قادر على الحج، وذلك كله بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيخرج الإسرائيليون من القدس. لقد سبق لكاتب هذه السطور أن ذكر سامعيه (في محاضرة عامة ألقاها في تونس)، كما ذكر قراءه (في مقالة له)، ذكر أولئك وهؤلاء بأن أركان البناء لا بد أن تقام قوية وراسخة، لكن في البناء إلى جانب «الأركان» غرفا وجدرانا، ومن تلك الغرف والجدران أن يكون المسلم عابدا بعلمه وباستخدامه لذلك العلم في السلم إذا كان السلم وفي الحرب إذا كانت الحرب، وبهذا الجانب من العبادة تخلو القدس من الغاصبين.
ربما كنت بتلك النقاط الثلاث، قد مهدت الطريق إلى ما أريد عرضه تعليقا وتوضيحا لتلك العبارة التي قالها ذلك المسلم من أبناء الهند، حين أجاب صاحبه الذي سأله إن كان راغبا في مرافقته إلى المسجد إذ أجاب قائلا: يا صديقي أنا المسجد وأنا الساجد معا، لله سبحانه وتعالى ... عند المسلم كتابان: القرآن الكريم، وهذا الكون العظيم الذي يحيط بنا ونسكن كوكبا من ملايين كواكبه وأنجمه، وذلك لا ينفي أن يكون الكتاب الثاني محكوما بالكتاب الأول؛ بمعنى أن «الكلمة» تسبق فعلها، و«كن» يتبعها أن «يكون»، ومن القرآن الكريم يستمد المسلم - بين ما يستمده - المبادئ والقواعد التي يقيم حياته السلوكية على أسسها، ومن كتاب الكون يستمد المسلم «وغير المسلم» قوانين «العلم» التي على أساسها وفي حدود ما يعلمه منها يصنع الغذاء ويصنع الدواء وينسج الثياب ويبني المساكن، ويقيم الجسور ويصوغ المعادن أدوات لعيشه وسلاحا لحربه إلى آخر ألوف الآلاف من صنائعه إن كان لتلك الصنائع أثر، وكلا الكتابين مقروء للناس بمقادير ودرجات تتفاوت بتفاوت أفراد الناس في قدرتهم على القراءة، ولكل من الكتابين لغته التي لا بد أن تدرس دراسة دقيقة وعميقة؛ حتى يتمكن الدارس من استخلاص ما ظهر من مضمونها وما بطن؛ ولذلك كان لكل من الكتابين علماؤه المتخصصون الذين يجب أن يكونوا مرجعا يلوذ به من أراد العلم من غير المتخصصين، إلا أنه من المألوف للناس أن تكون لغة القرآن الكريم هي اللغة العربية، لكنه ليس من المألوف عندهم أن يقال إن لظواهر الكون لغاتها، وهي اللغات التي يحتال على قراءتها العلماء الباحثون عن أسرار تلك الظواهر؛ أي إنهم باحثون عن قوانينها، غير أن لغات الظواهر الكونية أقرب إلى ما يسمونه ب «الشفرة» أو هي أقرب إلى الكتابة بمداد غير مرئي للعين إلا إذا عولج بمواد معينة فيظهر للعين بعد خفاء، واحتيال العلماء على ظواهر الكون حتى يكشفوا عن أسرارها هو نفسه الذي نطلق عليه اسم «المنهج العلمي» في البحث، وإلا فكيف قرأ علماء الضوء ما استكن في ظاهرة الضوء بحيث استطاعوا آخر الأمر أن يطوعوه لأغراضنا، فكان لنا تلك المصابيح التي نستضيء بضوئها، كما كان لنا أجهزة أخرى كثيرة كالتليفزيون وغيره، وكيف قرأ علماء «الصوت» وعلماء «الكهرباء» وعلماء «الجاذبية» وعلماء هذا وعلماء ذلك، كيف استطاع كل هؤلاء العلماء، أن يقرءوا تلك الكائنات جميعا ليستخرجوا ما كان مكنونا من سرها فطوعوها، وأصبحت حياة الناس كما نراها بوسائلها وأجهزتها، ولم يعد في مستطاع أحد أن يتصور لنفسه حياة بغيرها ...؟ ولقد كان هؤلاء العلماء في جهدهم وجهادهم يعبدون الله الذي خلق الكون، وأمر عباده أن يتفكروا في خلقه ذاك، حتى يكشفوا ما استطاعوا الكشف عن كنزه المستور.
قل لي - بالله - يا أخي أين هو المسلم الواحد الذي لا يفخر ويفاخر بآبائه المسلمين فيما قالوه وما فعلوه خلال القرون العشرة الأولى من تاريخ الإسلام، والقرون الأربعة الأولى منها على وجه الخصوص؟ وإذا كان هذا هكذا - فتعال معا نحلل العوامل الأساسية التي جعلت تلك القرون الأولى مختلفة عما تلاها إلى يومنا هذا، إن الأسبقية الزمنية وحدها لا تكفي للتعليل، ولا بد أن يكون الفرق كامنا فيما أداه أولئك وما يؤديه هؤلاء، وإذا أذنت لي بأن أدلي بين يديك برأي عاجل، ولكنه شامل، لقلت إن الفارق الرئيس بين الفترتين إنما هو أن الأولين عنوا بالكتابين معا: القرآن الكريم والكون العظيم، معترفا لك بأن القرآن الكريم قد ظفر منهم بالاهتمام الأكبر، مما كان ينبغي أن يؤدي بنا إلى نتيجة هامة لو كنا حريصين على أن نكون مع أسلافنا استمرارية تاريخية إيجابية وفعالة، وتلك النتيجة هي أن نعتمد إلى حد كبير على دراساتهم القرآنية لنجعل لدراسة «العلوم» الكونية فرصة أوسع.
Shafi da ba'a sani ba