242

Jagororin Juyin Juya Hali Na Zamani

رواد النهضة الحديثة

Nau'ikan

وراودته الصحافة فسار مشمرا، إلى القاهرة، حيث عرف الإمام الثائر السيد جمال الدين الأفغاني، فالتقت النار بالنار والتهمت الأخضر واليابس، فقاسى الرجلان ما قاسيا من نفي وتشريد. أنشأ أديب جريدته «مصر» فرحب بها محبو الإنشاء العالي، واندفع كاتبها هائجا كالبركان يرسل نورا ونارا؛ فحركت الهمم وأعادت عز دولة اليراع، فرأى الناس البلاغة تمشي في أسواقهم كأنها أهل الكهف. كانت لهجتها غريبة الوقع في النفوس، تدفع وتزجر، وتنهى وتأمر.

ثم أصدر مع صديقه النقاش جريدة «التجارة» يومية، وظلت «مصر» تظهر أسبوعية.

وغاص أديب في السياسة من قدميه إلى قرنيه؛ فاضطرته الأحداث السياسية إلى الفرار فهرول إلى باريس، وكأنه أبى أن تقف المعركة، ويضع أوزار النضال فأصدر في عاصمة الفرنسيين - كهف الأحرار ومعقلهم - جريدة «القاهرة» متوجا أولى نشراتها بهذه العبارة: «ما تغيرت الحقيقة بتغير الاسم، بل هي «مصر» خادمة مصر.»

وكتب مقالات بالفرنسية عن أحوال الشرق وما يعتلج في صدر الزمان من طبخات دولية، فأصغى إليه العالم الغربي، وهناك عرف كثيرين من كبار ساسة فرنسا وعلمائها وشعرائها. روي عن فيكتور هيغو أنه قال لمن كانوا في حضرته - على أثر انصراف أديب منها: «هذا نابغة الشرق.»

وحضر جلسات عديدة في مجلس النواب الفرنسي؛ فثقف السياسة وتفاقم هواه للخطابة وازداد إقداما فيها. ولكن برد باريس أثر فيه؛ فتمكنت منه علة الصدر فقفل إلي وطنه يتداوى بهواء بلاده وشمسها. وعاد يحرر جريدة «التقدم» في بيروت، فكانت بينه وبين الآباء اليسوعيين معركة «التعليم الإلزامي ومجانية التعليم»؛ فبث أفكارا وآراء تشبعت بها نفسه بباريس.

ولما تغيرت الأحوال في مصر دعي إليها، وعين مديرا لقلم الإنشاء والترجمة بوزارة المعارف، ورخص لجريدته «مصر» بالظهور، وقام بأعباء وظيفة أخرى مع وظيفته وهي كتابة سر مجلس النواب، ومنح الرتبة الثالثة، وسلمه عزيز مصر براءتها يدا بيد.

وكانت الثورة العرابية فعاد إلى بيروت، ثم رجع إلى الإسكندرية بعد احتلالها، فأعيدت البضاعة إلى مصدرها، بعد أن زار أديب السجن زيارة قصيرة وقال فيه شعرا. وفي بيروت طبع رواية «الباريسية الحسناء» التي عربها.

وأطبق داء السل كماشته على ذلك الصدر الجياش الواسع؛ فأشار الطب بمناخ مصر، فأذن له بالرجوع إليها، ولكن حلقة العمر كانت قد ضاقت، فانقلب على أعقابه إلى لبنان، ومات في مصيفه بحدث بيروت ولما يكمل تسعة وعشرين عاما.

وانتدب أهله كاهنا؛ ليصلي عليه فامتنع عن مرافقة جثمانه وإدخاله الكنيسة، ما لم يكتب والده، بخطه وتوقيعه: إن ولده عاش كاثوليكيا ومات كاثوليكيا. وتدبر العقلاء القضية بالتي هى أحسن ومشى الدليل أمام أديب إلى بيته الأخير، ورخص له بدخول عالم الأبدية ...

هكذا جمع الموت، أخيرا، بين أديب والشدياق في خراج قرية واحدة. عاشا مهاجرين أعرابيين، ثم ناما تحت السماء التي أوحت لهما ما أوحت من أدب وحرية فكر، وطلاقة لسان وطلاوة بيان. فر نسر لبنان الشدياق ينشد حريته في الآفاق، فكان يستقر أعواما حيث يحل، أما أديب فقضى عمره القصير شريدا طريدا. إن قصر عمر أديب لم يمكنه من الاستقرار فهو لم يتجاوز عمر القمر؛ فما اكتمل حتى امحق، ولكن البقية الضئيلة من تغاريد هذا الطائر الفذ تدلنا عليه دلالة لا لبس فيها ولا إشكال، كما قال في رثائه صديقه الأديب إسكندر العازار:

Shafi da ba'a sani ba