شر ما بنا الكرم
دونك هذه النادرة: كنت أملك حقا في شركة مياه بيروت، وكان هذا الحق يسح علي نزرا من المال كل سنة، وشاء سوء الطالع يوما أن تتمرد علي الشركة فتضرب عن دفع ما حق لي في ذمتها طوال ثماني سنوات، فهرولت إلى الشيخ «أمين» في مكتبه والغضب يجهم أسارير وجهي، وبعد أن عرضت له أمري مرسلا نفسي على استمطار ألوان التهديد على كل من يترني حقي أو تؤديه الجسارة إلى هضمه - وأنا إذ ذاك في الواحدة والعشرين، في نزق الحداثة وكبريائها - عملت له وكالة دفع أجرها من جيبه؛ لأن جيبي في تلك الآونة كان خاويا يصفر صفير العقل الطائش، وانكفأت عنه مطمئنا إلى القضية.
ومر أسبوع، فإذا نحن من عيد الفصح على ثلاثة أيام، وإذا المرض لا يزال ملازما جيبي، وقد دلاني ببلية أنقضت ظهري وأسقطتني في يدي، فهمت على نفسي أسأل الله الفرج، إلا أن الله في ذلك الحين أبى أن يردئني على ما بي، حتى كدت أقنط قنوط الكافر المنذور لحطب جهنم، لو لم تفتح الصدف في وجهي كوة سعيدة برز لي منها جيب الشيخ أمين. - أسعد الله صباح أستاذي الشيخ. - أهلا ... أهلا ...
ولما أحلني المكان وآذنتني الحاجة أن السيكارة في يدي تكاد تنتصف ولم أفتح منقاري بعد، تنحنحت، وقلت: جئت أراود محفظتك على نفسها.
فانتبذ الشيخ من دعوى كان يدرسها، وصغى إلي بوجهه وصدره، وقال مستفهما: ماذا تعني؟
قلت: جئت أسترفدك بعض ليرات قد أكون أحوج منك إليها.
فضحك ضحكة لم يقصد فيها، وقال لي: على الشركة أن تدفع لك، وليس علي!
فقلت: لقد حدث انقلاب في جيبي بوأك منزلها، فأصبحت الشركة أنت وأنت الشركة، ومحفظة الشيخ «أمين» لا تحتاج إلى حجة أدلى من هذه لترغي وتجفئ بزبدها، فما هي إلا خمس ثوان حتى رأيتها تمج من شفتيها ست عشرة ورقة سورية وليرة عثمانية، احتنكت ذريتها كما يحتنك الجراد الزرع، كأني حلفت ألا أبقي منها ما يخبر عنها، وكأني آليت على نفسي أن أغادر جيب الشاعر المحامي أعجف طاويا كما كان جيبي، وأن أعكس الآية عكسا، فبدل أن أدفع له أنا يدفع لي هو.
سمعته ليلة، وقد ظهر المنبر في الحفلة التذكارية للمرحوم «سليم سركيس»، يلقي قصيدة أطيب من العافية، فحبست نفسي عليه حتى أتمها .
بالله تراه وهو يلقي فقد تظنه وهو يترجح كالمبخرة أحد الشعراء في شيع الأولين. أشرب في قلبه البلاغة في الكلام، فإنك لترى على شعره صبغة العروبة الصافية، وإنك لترى أبيات قصيدته غرفا من فوقها غرف.
Shafi da ba'a sani ba