بلاد الشام والعراق ومصر، وقد امتلأ هذا العصر في آخر القرن السابع وأول الثامن بهؤلاء الأعلام الحفاظ والمؤرخين النقاد والفقهاء الجهابذة، والقرّاء والمتخصصين والمشاركين في أنواع العلوم والفنون.
وقد لاحظ الباحثون في هذا العصر أن هذه النخبة من العلماء كانوا خاتمة الحفاظ، فلم يجتمع بعدهم مثلهم في أي عصر، حتى إن الحافظ ابن حجر أفردهم بكتاب الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة وجعله خاصًا بهم.
وقد عرفت هذه النخبة بسعة الاطّلاع والأصالة والابتكار في التأليف والإِنتاج والإِبداع، فقد خلفوا تراثًا ضخمًا شاركوا به في تدوين العلم ونشره، فهم لا يقلون عن نظرائهم من المتقدمين، فظهرت في عهدهم أمهات الكتب العلمية والدواوين في مختلف العلوم وأنواع الفنون، فألفت الجوامع وكتب الأطراف وكتب الشروح والتخريجات، وكتب التاريخ، واتسعت دائرة العلوم، وزخرت المكتبات بجميع الكتب، وجدد ما فقد وأتلف من التراث الإِسلامي في بغداد على أيدي التتار.
وعرف بعض هؤلاء بالتجديد والاجتهاد، وخرج بعضهم عن حد التقليد المحض إلى الأخذ بالكتاب والسنّة والتمسك بنصوصهما مع احترام مذاهب الأئمة الأعلام، والأخذ بها، والانتساب إليها بما وافق الدليل من أقوال الأئمة في ذلك، وعرفوا مخرج الأحاديث وعلل الأحكام وحاولوا رد الفروع إلى أصولها، وساروا على بينة من الأمر، فجمعوا بين الروايات والآثار، ورجحوا فيما بينها، وكانت لهم مواقف صلبة في بيان الحق وإظهاره والدلالة عليه رغم ما واجهتهم التحديات والصعوبات التي قابلتهم واعترضتهم.
وإلى جانب نشاطهم العلمي والثقافي والفكري كان لهم دور كبير في الجهاد والتضحية، فجمعوا بين العلم والجهاد فشاركوا وبذلوا جهدًا في خطين متوازيين، واستطاعوا أن يملكوا زمام الأمرين وسيرتهم خير شاهد على ذلك. فقد ساروا مع الحروب في المعارك، فلم يتأثر نشاطهم الفكري بذلك.
ولا ننسى أن نشير أنه انتشر أيضًا في هذا العصر وفي هذه الفترة علماء آخرون، كان جلّ اهتمامهم هو العكوف على كتب المتقدمين دراسة وشرحًا وتلخيصًا وزيادة وتوضيحًا بما وسعه جهدهم.
وقد كان عالمنا برهان الدين الجعبري قد أسهم في هذين الخطين المتوازيين، فهو من
1 / 31