تلك كانت حياتها الماضية، وهذا هو عين الحقيقة، بل كيف تغير كل هذا يا ترى؟ وكانا يسيران في طريقهما صامتين، وهو يخالسها النظر من وقت إلى آخر، يمتع عينه بذلك الوجه الجميل المحبوب الذي يستره برقع شفاف، فكان يخاطب نفسه قائلا: ترى كيف نسيت زوجتي وعلق قلبي بحب امرأة أخرى؟ نعم، إني عشت عدة سنوات بعيدا عن تلك التي كنت أعبدها، ثم إنه شعر بنار شوق تحرقه، وأراد أن يضمها إلى صدره مستغفرا إياها. أما هي، فكانت مضطربة قلقة (كريشة في مهب الريح) لا تعرف ماذا تفتكر وتقول، وعندما وصلا إلى باب الحديقة عادت إلى الوراء وقالت: يجب أن أذهب وحدي، أرجو أن تتركني وشأني. - لا.
فأطاعته ولم تخالف له أمرا، وسارا معا إلى أن وصلا إلى بقعة كثيرة الأشجار خالية، ثم ظهرت لهما عن بعد أرض مخصبة فيها أشجار عظيمة، غير أنها مجردة من أوراقها، وكان هذا المنظر مؤثرا جدا تحت جنح الظلام الحالك. وإذ تأكدت مرغريت أن لا ثالث بينهما ولا رقيب على حركاتهما، اطمأنت قليلا، وأمعنت النظر في وجه ألبير الذي إذ لحظ منها ذلك أطرق ولم ينبس ببنت شفة. - كيف وجدتني؟ أما ترين هيئتي متغيرة؟ - نعم. - هل تقدمت في السن؟ - لا شك في ذلك. - أرى أن الوقوف يتعبني، فلنجلس هنا يا مرغريت.
فاتجها نحو مقعد كان قريبا منهما وجلسا عليه، ثم شرعت مرغريت تحدق في ملامح ذلك الرجل الذي أحبته مدة طويلة؛ فرأته شاحب اللون، ضعيف الجسم، منحط القوى، وعند ذلك مالت إليه كل الميل وأحست بشفقة عظيمة عليه، حتى إن قلبها كاد يذوب حنانا، ولم يكن إلا القليل حتى تذكرت خداعه لها بعد موت ابنتها إيڤون الوحيدة. نعم، قد تمثلت لها تلك الخيانة الفظيعة التي تقشعر منها الأبدان، كيف لا وهي أنها عندما كانت تبكي وتنوح وفي حالة يرثى لها من الأحزان، رأت بين ذراعي زوجها امرأة أخرى هي من أعز صديقاتها، لعمري إنها لأفكار مؤلمة تأبى إلا أن تستقر في المخيلة لتعذب صاحبها تعذيبا، وتكوي فؤاده حينا بعد حين بتذكرات هي أحر من الجمر.
إذ رأى ألبير مرغريت صامتة أحس بما كان يدور في خلدها من الأفكار المزعجة والهواجس المؤلمة، فدنا منها بكل هدوء وأسند رأسه المكشوف إلى كتفها المرتجف، فنظرت إلى شعره الأسود الذي طالما سرحته بيديها، ثم حدقت في صدغيه حيث كانت تظهر عروق زرقاء نحيفة؛ فعند ذلك زاد اضطرابها وهاجت عواطفها، فلم يغب عن ألبير ما شعرت به؛ لأنه كان عارفا حق المعرفة بعظم حنوها وضعفها النسائي، فقال لها بلين: مرغريت، لا تخافي. نعم قد كنت زوجك في الماضي، وهأنذا لم أزل حتى الآن، بل وما دمت حيا أرزق. - لا، لا. - بل نعم، نعم. ثم وقف وأمسك يديها وقال: ذهبت اليوم إلى مدفن ابنتي إيڤون وأتيت بهذا الغصن الصغير من شجرة ورد أبيض بالقرب من ذلك المدفن، وها هو.
فتناولته مرغريت من يده وقبلته بحرقة مرارا، ولثمته تكرارا، ثم استأنف كلامه قائلا: نعم، إن إيڤون كانت تحبنا حبا شديدا لا زيادة بعده لمستزيد. أما مرغريت فلم تستطع أن تجيبه بشيء؛ لأن العبرات كانت تسيل بغزارة على وجنتيها، والزفرات كادت تخنقها، ثم تنفست الصعداء مرارا والعرق يتصبب من وجهها. - آه يا مرغريت، إني من حين فقدت أمي لم أجد أحدا يكلمني عن إيڤون عزيزتي، فهي ماثلة أمام عيني آناء الليل وأطراف النهار، ولا تبرح من بالي لحظة واحدة. - أين تركت صديقتك؟
قالت هذا وهي تضطرب اضطرابا من شدة التأثر. - إن تلك لا علم لي بمهب ريحها، نعم إنها صحبتني مدة سنة تقريبا عندما كنا نجوب البلاد سوية وننتقل من جهة إلى أخرى، ثم افترقنا وذهب كل لشأنه. - ترى أين ذهبت؟ - إني لا أعلم من أمرها شيئا؛ فإن بلاد الله واسعة أرجاؤها. وأما أنا فقد عزمت على أن لا أعود إلى باريس حيث أرى آثار سعادتي الماضية، وقد توفيت والدتي بعد أن استقدمتني إليها، على أني أشكر الله شكرا جزيلا يا مرغريت؛ لأنه قيض لي مرآك. - إني وحقك لم أجن ذنبا، ولم أقترف إثما، ولم أفكر قط في الخيانة، بل أراني لم أزل متسربلة بثوبي العفاف والأمانة. نعم، إني كنت أحبك وأحافظ غاية المحافظة على ذلك الحب؛ بيد أنك خنت وهدمت سعادتك بيدك.
فهز كتفيه وقال: كان يجب أن تسامحيني يا مرغريت ... لم لا تغفرين لي؟ لم لا تسدلين ذيل العفو وتعودين زوجة لي كالأول؟
فأطرقت مرغريت إلى الأرض صامتة لا تحير جوابا، وجرت دموعها على خدها، غير أن قلبها كان يخفق خفوق الغبطة، وبعد هنهية قالت: لقد سامحتك. - لكن سماحك هذا لا يجدي نفعا الآن، ومنذ قليل قلت عندما زرت مدفنها: يا بنيتي الصغيرة الراقدة تحت الثرى، أتصدقين أن أمك قد تركتني؟! فهأنذا أبكيك وحدي طالما بقيت حيا.
فتحركت الشفقة في قلبها ثانية وقالت: لا، بل ابكها معي. - نعم، الآن أبكيها معك، ولكن غدا مع من يجب أن أبكيها؟
أما مرغريت ففكرت بولدها الذي كان ينتظر رجوعها إلى البيت؛ فإذ ذاك كفكفت دموعها بمنديل ونهضت ناظرة إلى الساعة، ثم قالت: لا أرى شيئا.
Shafi da ba'a sani ba