فأراد روجر أن يضحك ليسرها. وبعد تناول الطعام صعدا على سطح عال يكشف على الجهات الأربع، حيث تنجلي للناظر بهجة الطبيعة وجمالها البديع، فهتفت: انظر ما أبدع هذه البقعة! وما أجمل هذه المناظر!
وكانت تنظر إلى جميع المارين من الجنسين وتسر إذ تراهم سائرين أزواجا؛ إذ تعتقد أنهم أحباب، وتقرأ في عيني كل شخص ما يجول بخاطره من حب المال.
ثم دخلا محل اللعب الرحب بهذا المقدار، وجالا في جهاته الأربع ينظران إلى اللاعبين الكثيرين، وبعد ذلك جلست مرغريت ووضعت قطعة 5 فرنكات على 4 أعداد فربحت، وهكذا ظلت تلعب مدة ساعتين وروجر بالقرب منها لا يفارقها، فربحت ربحا وافرا دون خسارة فلس واحد، وقد سرت سرورا عظيما، ليس بالنظر إلى المال لأنها ذات غنى وافر، وهي لا تحب الحصول عليه بهذه الطريقة، بل لأنها قويت على البخت وغلبته. وبعد ذلك بمدة غير يسيرة قال لها: ألم تكتفي يا مرغريت؟ - نعم، قد اكتفيت، وها قد ربحت أيضا مقدارا أكثر من الأول، فخذ هذه الدراهم عني. قالت هذا وهي تفتخر بحظها ونصيبها، ثم حانت منها التفاتة على حين غفلة، فرأت صديقتها بلانش القديمة واقفة بالقرب منها ناظرة إليها وهي تبتسم، فذكرت مرغريت ذلك الشقاء الذي سببته هذه المرأة لها، وتأملت في ابتسامتها فإذا هي ابتسامة ازدراء، ثم مرت أمامها واضعة يدها على خصرها وهي تجر ذيول التيه والإعجاب، ولا تسل عن الروائح العطرية التي كانت تفوح منها؛ فإنها قد ملأت المكان على رحبه، وكان نظر مرغريت يتبعها مراقبا حركاتها وسكناتها وما هي عليه من التبرج المفرط. وإذ بلغت جهة مقابلة لمرغريت استوقفها أحد أصدقائها، وبعد أن تبادلا الكلام وقتا وجيزا التفت هذا الشخص صديقها إلى جهة مرغريت، ففهمت هذه بأن محور الحديث يدور عليها، وبأسرع من لمح البرق مسكت بيد روجر قائلة: اخرج بي حالا من هنا دون إبطاء! - الحمد لله على حسن النهاية فلنخرج. أما مرغريت فإنها استشاطت غيظا وغضبا، وامتقع لونها، ولم تقدر أن تملك كدرها، وحينما وصلا إلى خارج المحل سألت روجر هل رأى تلك المرأة. - وأي امرأة تعنين؟ إني لم أر امرأة، فدعينا من كل هذا وتعالي نذهب إلى ذلك البستان الأخضر الذي نراه في تلك الجهة، ونجلس تحت ظل أشجاره. - نعم، سر بي حالا إلى هناك، فإني أطوع لك من بنانك، فلا أقدر أن أبقى هنا ولا دقيقة واحدة؛ خوفا من أن أرى تلك الملعونة مرة ثانية. - كوني مطمئنة لن تريها بعد. وعندما انتهيا إلى البستان الذي يقصدانه جلسا حيث لا تراهما عين، ثم ما هي إلا هنيهة يسيرة حتى هطل الدمع من عينها بكثرة، وجعلت تبكي متذكرة حياتها المرة نادبة سوء حظها، وهي تتمثل عذاباتها وسائر آلامها أمام عينيها وعبراتها كسيل مدرار، وروجر لا ينبس ببنت شفة، بل لزم السكوت؛ لعلمه أن الكلام لا يجدي نفعا في مثل هذا الوقت. وبغضون ذلك كان يرى أن الحيل قد ضاقت به وعيل صبره، ولم يدع واسطة إلا استعملها اكتسابا لرضاها وجعلها سعيدة؛ وذلك لكي يعيشا عيشا هنيئا ذا صفاء وهناء.
وبعد أن تعبت من البكاء وخارت قواها وضعف عزمها، أسندت رأسها على ساعده وجعلت تمسح دموعها الكثيرة ، وهو ساكت كالأول.
الفصل الرابع عشر
إن مرغريت كانت تعتبر أن سكناها مع رجل، ووجودها تحت سقف بيته قبل أن يموت زوجها الأول؛ هو من أشد العار وأقبح الهوان عليها أمام بلانش، وهذا الفكر - أي أنها ذات زوجين - كثيرا ما كان يعذبها ويكدر صفاء عيشها إذا وجد لديها فيه صفاء وهناء، ويدع في قلبها جرحا بليغا، بل جروحا قتالة، وقد أدرك روجر حق الإدراك جميع ذلك، وجعل يراقب حركاتها وسكناتها ويقرأ أفكارها بسهولة، إلى أن قال في نفسه آخر الأمر: إن السكوت لا يصلح إلا في بعض أوقات، والصمت في غير وقته يكون ضررا محضا، وهذا لا جدال فيه، بل هو أمر لا يختلف فيه اثنان، وحيث ذلك كذلك لا بد لي من أن أحادثها بهذا الشأن. ففي مساء ذلك اليوم ابتدأ بالكلام في هذا الموضوع، وجعل يلعن بلانش وينسب إليها الخفة والطياشة، وأن مبادئها غير حسنة، إلى غير ذلك من الكلمات التي خففت عن مرغريت بعض التخفيف، إلى أن قالت: آه من هذه الشقية والخليقة الجهنمية، لعمري إن الناظر إليها يدرك على الفور بمجرد رؤية عينيها أنها عادمة كل حياء، فاقدة الشرف الذي هو حلية الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ولم يكفها هذا، بل إنها تكذب على الله والناس بشعرها المصبوغ وحمرتها الصناعية، فهي تريد أن تحسب في ريعان العمر على رغم سنيها الطويلة! - وحقك إني بغضتها منذ أول ساعة عرفتها بها، كيف لا وهي تخاطب الرجال بوقاحة هذا مقدارها، فضلا عن الألفاظ المخالفة الآداب التي تتفوه بها بجسارة كلية. نعم، إني سمعت شيئا عن قلة آدابها وعظم وقاحتها قبل أن أراها. - ومن أخبرك بأخلاقها السيئة ورداءة آدابها؟ - أطلعني على كل ذلك شخص يعرفها حق المعرفة. - أظن هذا الشخص هو ألبير نفسه، هو الذي أنبأني بكل شيء، وقد طالما حرضني على أن أكلفها بزيارتي، وكثيرا ما كان يطنب في حسن أخلاقها وخفة روحها، واصفا ما هي عليه من لطافة المعشر. - أما أنت يا مرغريت، فاجتهدي في أن تنسي تلك الأيام السوداء المحزنة. - وأنى يمكن ذلك وتذكرها ألزم لي من ظلي، فهو يتبعني في كل زمان ومكان؟ - أبعدي عنك هذا التذكر المضني، وهل لها من يد يا ترى في حياتك الحاضرة؟ - نعم، تقدر تتكلم علي، ولا شك أنها أخبرت بقصتي ذلك الرجل الذي استوقفها في محل المقامرة. - دعي عنك هذه الوساوس الجارحة، وكيف لا تقدرين على ذلك وأنت ذات إرادة حرة؟ فاستعمليها إذا لطرد ما يؤلمك. ثم تناول كل منهما جريدة، وبعد هنيهة قال: يلذ لي تدخين سيجارة في البستان قبل النوم، أما أنت فاتبعي مشورتي وأريحي أفكارك وارقدي بسلام.
خرج روجر واضطجعت هي على سريرها راغبة في النوم، لكن عينيها كانتا تنفتحان على رغمها، فلم تجد - والحالة هذه - إلى النوم سبيلا، بل شرعت تفتكر في كل ما جرى لها كالسابق، ومن أنها ستعود قريبا إلى باريس. وأما ابتعادها عن ألبير فهو من أصعب الأمور عليها! بل كيف تتجلد عندما تراه شاحب اللون حزين النفس؟! وكيف لا تذوب شغفا عند سماع صوته الرخيم الحلو؟! ومن جهة أخرى كانت تتألم كثيرا لأن اقتران روجر بها لم يكن كنائسيا وبلانش تعرف هذا، فصعد الدم إلى رأسها عند هذا الفكر وقالت: ربما تظنني نظيرها. ثم عزمت على محادثة روجر بهذا راغبة في استدعاء أحد الكهنة ليبارك سر زواجهما في الكنيسة، ولم تتصور قط أن روجر يغضب من طلبها هذا، بل ظنت عكسه، وبعد نصف ساعة عاد من البستان ودنا من سريرها ناظرا في محياها، فتناومت، وبعد أن أطفأ النور ذهب إلى سريره، غير أنه لم يذق لذة النوم في تلك الليلة، وفكر في أن رجوعه إلى باريس صار ضروريا للغاية بعد غيبة هذا مقدارها، وأن مرغريت تعبت من مشقة السفر، فكفاها تبديل هواء ورؤية مناظر، وها هي الآن تتوق إلى الراحة البيتية. عرفت قلبها حق المعرفة وعلى أي شيء ينطوي، وزاد حبها لي أكثر من الماضي، وذا يكفي بالوقت الحاضر؛ إذ إن الود يزداد نموا مع الأيام، وليس بوسعي أن أمحو ذكر أيامها الماضية، ولو كان بإمكاني لفعلت من زمان طويل، أنا نفسي لم أعاملها بسوء قط، وما هو ذنبي يا ترى إن كانت الإساءة بدت من ألبير، والخيانة من بلانش؟! فليس من مقدرتي أن أنتقم منهما؛ فإذا ما هي الجريرة التي ارتكبتها والجناية التي اقترفتها يا ترى؟! وهل من العدل أن أعذب في تكفير الإثم عن غيري؟ لعمري إن في ذلك لعجبا! نعم، إن ذنبي الوحيد هو أني أعبدها وأقف حياتي لها وهي تبتعد عني، أتوق إليها ولا أمل من مشاهدتها ولو جالستها كل أيام عمري، أما هي فإن حضوري وغيابي لديها سيان، وأتيقن أنها تفضل غيابي وبعدي. أنا أسعى في أن أنسيها أحزانها وأجعلها سعيدة، وهي تقابلني بحرماني السعادة التي لم أذقها من دون كدر حتى الآن. (سمع في غضون ذلك تنهدها، فعلم أنها تفكر نظيره) ترى في أي شيء تفكر في هذا الليل الدامس؟ إني أقسم بالسماء وعلى الأرض أن أحفظها لي، ولو قاومني الكون بأسره.
بل سأعبدها عبادة ولو حاربتني نوائب الزمان، وسأوفر لها أسباب السرور ما دمت حيا وعيناي تنظران شمس النهار ونجوم الليل.
الفصل الخامس عشر
عاد الأمل إلى قلب ألبير رويدا رويدا بعد أن سحقه اليأس وقتله الملل، وقال إن مرغريت لا تقيم مدة طويلة خارج باريس؛ لأن ذلك لا يوافق مهنة روجر، فرجوعها قريب إذا، وبعد ذلك يشاهدها في حجرته المعدة لاستقبالها، المزينة برسمها وذكرها. وكان يخرج غالبا من بيته للنزهة، وحينما يصادف بعض أصدقائه القدماء يسلم على هذا، ويضغط على يد ذاك، ويبش في وجه الآخر، ويسر خصوصا بعشرة أولئك الذين عرفوا مرغريت عنده، ويتعجب عندما لا يذكرها واحد منهم.
Shafi da ba'a sani ba